أسماء الله الحسنى l الحلقة 2

video

الحمد لله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه، كما يُحِب ربنا ويرضى، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ۩.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا سمي له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله، ورسوله، وصفوته من خلقه، وحبيبه من عباده، وأمينه على وحيه. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين، وصحابته المُبارَكين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً. ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركعونا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا. اللهم بلِّغنا مما يُرضيك آمالنا.

اللهم ونسألك أن تجعل جمعنا هذا جمعاً مرحوماً، وتفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً. اللهم ولا تدع فينا شقياً ولا مطروداً ولا محروماً. اللهم أصلِحنا وأصلِح بنا، واهدِنا واهدِ بنا، واجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، مفاتيح للخير، مغاليق للشر.

دليلٌ نصي على أن أسماء الله ليست تنحصر في التسعة والتسعين، وهو حديث تعرفونه جميعاً – كما أحسب، إن شاء الله تعالى -؛ الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مُسنَده، والإمام الحاكم، والإمام البيهقي في الأسماء والصفات، وغيرهم، كالطبراني، وابن أبي الدنيا، وعدا هؤلاء، عن ابن مسعود – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – قال ما أصاب عبداً هم أو غم، فقال اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك – مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۩ -، ماض فيّ حُكمك، عدل فيّ قضاؤك…

الله أكبر، ما هذا الكلام؟ هذا الكلام لا يستطيع أي أديب أن يقوله، مُستحيل! هذا كلام نبوة فعلاً، يخرج من مشكاة النبوة. اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ماض فيّ حُكمك… تذلل، تذلل وتخضع، مُطلَق التذلل هنا، نعم! ماض فيّ حُكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك – فَادْعُوهُ بِهَا ۩ -، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علَّمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك….

إذن أسماء الله كثيرة، كثيرة! ولا يُمكِن أن يُحصيها إلا مَن؟ إلا الله – تبارك وتعالى -. لا يُحصيها لا نبي ولا غير نبي، لماذا؟ لأن منها ما استأثر الله به. لا إله إلا الله! لماذا من أسماء الله ما استأثر الله بعلمه، فيما تظنون؟ لماذا؟ لأنه ما قدر الله حق قدره إلا الله. أليس كذلك؟ كل أحد، حتى رسول الله، إنما عرف الله على قدره، حسبما عرَّفه الله، وحسبما تعرَّف إليه. لكن ما قدر الله حق قدره، وما عرف الله مُطلَق المعرفة، إلا مَن؟ إلا الله، لا إله إلا هو! وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۩. الله أكبر! سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ ۩، لا إله إلا هو، نعم!

أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي، ونور بصري، وجلاء همي، وذهاب حُزني، إلا أذهب الله همه وحُزنه، وأبدله بهما فرجاً. في رواية قالوا يا رسول الله، أفلا نتعلَّمهن؟ قال بلى، ينبغي لمَن سمعهن أن يتعلَّمهن. احفظوا هذه الكلمات. النبي يقول، هو يوصينا، قال احفظوها؛ لأنها مُهِمة. وجرِّبوا! مَن جرَّب هذا الحديث، والله عرف أنه قول صدق وحق. لماذا؟ لأنه يرى الفلاح والنجاح مُباشَرةً. تكون في هم، في غم، في حسر، في حرج، في ضيق، فتدعو صادقاً بهذه الكلمات، فينفرج عنك – سُبحان الله – ما أنت فيه من حسر وضيق. شيء عجيب!

وفي رواية أنه قال تعلَّموهن، وعلِّموهن. أنت تعلَّمها – أي هذه الكلمات -، وعلِّمها أيضاً لمَن لا يعلمها. تعلَّموهن، وعلِّموهن.

هذا حديث. وهناك حديث آخر أيضاً رواه الإمام البيهقي في الأسماء والصفات. وعنده كتاب – ما شاء الله – عظيم، كتاب على طريقة المُحدِّثين، كتاب كبير، مُجلَّد ضخم هكذا، اسمه الأسماء والصفات، كله في أسماء الله وصفاته.

الإمام البيهقي في الأسماء والصفات، يروي عن عائشة، أم المُؤمِنين – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، أنها قالت لرسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه، ما ذكره الذاكرون، وما غفل عن ذكره الغافلون -، قالت له يا رسول الله، علِّمني اسم الله الأعظم. هي تُريد الاسم الأعظم، الذي إذا دُعيَ الله به، أجاب، وإذا سُئل، أعطى، وإذا استُنصِر، نصر، وإذا استثغيث، أغاث. خطير! اسم خطير، ولو دعوت به على السماوات والأرض، لاستجاب الله. أي مَن كان عنده الاسم الأعظم، لو دعا الله أن يُقيم القيامة الساعة، يُقيمها الله. ولذلك لا يُعطيه الله إلا لكُمّل الأولياء. ومَن هم هؤلاء الكملة؟ هم الذين لا يملكون من أمر أنفسهم شيئاً، مُستسلِمون بالمُطلَق لله – تبارك وتعالى -، يُسيِّرهم ويُسكِّنهم ويُحرِّكهم، هم مع الله بالمُطلَق في مُراده – لا إله إلا هو -، طبعاً! ولذلك لا شهوة لهم ولا هوى، لا يُوجَد خطر من أن يُعطى هؤلاء الاسم الأعظم، فيطلبوا به شيئاً من الدنيا، لا! لا يُوجَد هذا، والحمد لله، هؤلاء الكملة.

الرسول رفض أن يُعلِّم عائشة هذا الاسم الأعظم، ولكن قال لها – اسمعوا الحديث، فيه عبرة – يا عائشة، قومي، فتوضئي، وأحسني الوضوء، ثم اخرجي إلى المسجد، وصلي ركعتين، فإذا فرغتِ، فأعلميني. قولي لي أنا فرغت، وأنا مُتهيئة الآن، سأدعو.

ففعلت، فلما جلست لتدعو، قال الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – اللهم وفِّقها… صلى الله عليه وسلم، الله أكبر! أي بدعائه لها أن يُوفِّقها الله، ستُصيب الاسم الأعظم دون أن تدري، الله! شيء عجيب، هذا الإنسان شيء عجيب – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وفعلاً لا يُحِبه إلا مَن عرفه، على قدر معرفتك برسول الله، تُحِبه أكثر وأزيد، تُستهام به وتدله وتُتيم بحُبه. وكيف تعرفه؟ تقرأ عنه وله أكثر، تقرأ له، أي أحاديثه، تقرأ الأحاديث الصحيحة الثابتة عن رسول الله أكثر وأكثر، تقرأ له! وتقرأ عنه، أي الكُتب التي كُتبت في سيرته وفي شمائله وخصاله وأوصافه، وما أجملها من كُتب! من أجمل الكُتب في الإسلام، أي هذه التي تصف مولانا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -. فكلما عرفته أكثر، تعلقت به، فأحببته أكثر، ولم تستطع عنه بُعداً – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

قال اللهم وفِّقها. فرفعت يديها، فقالت اللهم إني أسألك بأسمائك الحُسنى، ما علمت منها وما لم أعلم، وأسألك باسمك الأعظم، الذي إذا دُعيت به، أجبت، وإذا سُئلت به، أعطيت، وأسألك باسمك الكبير الأكبر، الطاهر الأطهر. قال النبي وابتسم أصبته، أصبته. أنت أصبتِ الاسم الأعظم. ولكن أين؟ وكيف؟ لا هي تعلم، ولا نحن نعلم. قد يكون قال ذلك على سبيل أنها أصابته في الجُملة؛ لأنها قالت أسألك بأسمائك الحُسنى، ما علمت منها وما لم أعلم. إذن قطعاً هي أصابت الاسم الأعظم هنا، لكن على سبيل الإجمال. وقد يكون على سبيل التركيب، مذكور فيما ذكرت من أسماء، لكن على سبيل التركيب. أكثر من اسم، تُركَّب بطريقة مُعيَّنة، فتُكوِّن الاسم الأعظم. لا يعلم ذلك إلا الله – تبارك وتعالى -. ولكن العبرة والشاهد في قولها ما علمت منها وما لم أعلم. فمن أسماء الله ما لا علم لنا به أصلاً.

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۩، اللَّهُ ۩. الله – كما قلت لكم – هو أخص الأسماء، وأجل وأكرم وأعظم أسماء الله – تبارك وتعالى -. ويُوصَف بجميع الأسماء والصفات الأُخرى، ولا عكس. لا اسم ولا صفة يُوصَف به، ولكن هو يُوصَف بجميع الأسماء والصفات الأُخرى، من أسمائه الحُسنى وصفاته الجُلى العُلا – لا إله إلا هو -، الله! وذهب غير واحد من أولياء الله ومن العلماء والأئمة، إلى أن الله – هذا الاسم – هو اسم الله الأعظم. كثير، هذا رأي، رأي وقوي، أي ليس ضعيفاً، أن الله هو الاسم الأعظم، لكن بحسب ماذا؟ بحسب الداعي؛ إذا خرج من لسان مُتلوِّث، ومن قلب غافل لاهٍ، لا أثر. وإذا خرج من قلب مليء باليقين، مليء باليقين والإيمان، ومن لسان طهور مُطهَّر، استجاب الله. رأي! أنه هو الاسم الأعظم، الله – تبارك وتعالى -.

جيد! وهذا الاسم هو علمٌ على الذات المُقدَّسة، دائمة الوجود، أزليته، أبديته، اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۩، هو الله وحده. ولذلك من الصعب جداً تعريفه، من الصعب جداً تعريفه! يُحكى عن الإمام سيبويه – الإمام النحوي الكبير عمرو بن عثمان بن قنبر، رحمة الله تعالى عليه، صاحب الكتاب – أنه بعد أن توفاه الله، رؤيَ في المنام، رؤيت له رؤيا حسنة، فقيل له يا سيبويه، ما فعل الله بك؟ قال أوقفني بين يديه، وقال لي يا فلان، قد عفوت عنك، وغفرت لك، وأدخلتك الجنة، تدري بماذا؟ قلت يا رب، أنت أعلم. قال بقولك في الكتاب الله أعرف المعارف، لا يُعرَّف. قبلها الله منه، انظر! أي المسألة ليست علماً فقط، هناك علم وهناك حكمة، أن يكون لديك علم وحكمة ووعي. لم يُحاوِل هنا أن يتفلسف أو يتمعقل، ماذا؟ ماذا؟ ماذا نتكلَّم عن الله؟ الله أعرف المعارف، أعرف المعارف! بالله نحن نعرف كل شيء. لولا الله، ما عرفنا شيئاً، وما عرفنا أنفسنا. نحن بالله نعرف الأشياء، وليس بالأشياء نعرف الله. الذين يعرفون الله بالأشياء، هم أصحاب الإيمان البدائي الضعيف، المساكين يحتاجون إلى آيات يستدلون بها على الله، موجود هذا! ولكن هؤلاء أصحاب ضعيف. أما أصحاب الإيمان الصدّيقي، فيختلفون. ولذلك يُقال لهذا البُرهان في علم الكلام الإسلامي وفي العقيدة، يُقال له بُرهان الصدّيقين. يُسمى في علم العقيدة بُرهان الصدّيقين. ما هو بُرهان الصدّيقين؟ أن تعرف الأشياء بالله، وليس العكس، وأن تستدل على الله بالله.

قال – تبارك وتعالى – سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ۩. هذه هي البراهين العادية، نرى الآيات، فنستدل على مَن؟ على مُكوِّن هذه الآيات وخالقها. عادية! هذا الطريق العادي للمُؤمِنين الضعاف البُسطاء. سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ۩، ثم قال أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ ۩، الله أكبر! أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ۩. هذا بُرهان الصدّيقين. بالعكس! هو الذي يُعطي الشهادة على كل شيئ، وليس أن الأشياء تشهد له، لا إله إلا الله! هذا الشيء أعلى بكثير جداً جداً، هذا بُرهان الصدّيقين. ولله در شيخنا وإمامنا أبي الحامد الغزّالي – قدَّس الله سره الكريم -.

أبو حامد – كما تعلمون – خاض في كل العلوم والفنون، ما ترك من علوم الشريعة علماً إلا ضرب فيه بسهم وحظ وافر. ثم بعد ذلك أخذ في العلوم العقلية، في الفلسفة والمنطق، وكان أستاذاً منطيقاً كبيراً، والفلسفة قرأها، وحذقها في سنتين. ثم بعد ذلك أصابته حيرة وبلبلة ومحنة عقلية كُبرى، قلقلته وهزت وزلزلت كيانه، وأصبح الرجل يشك في كل شيء، حتى شك في نفسه، وحتى شك في شكه، قبل ديكارت Descartes شك, أول مَن شك! شك في المحسوسات، لأن الحس يُخطيء، أليس كذلك؟ الحس يُخطيء. وبعض الحس يُقوِّم بعضاً، ولكن المرجعية العقل، ولكن العقل أيضاً يُخطيء، والعقل نسبي، وتتفاوت العقول والمدارك، إذن فالثقة بماذا؟ الثقة بماذا؟ فقد الثقة بكل شيء. قال ولم يبق إلا ثمة طريق واحد، هي طريق السادة العارفين بالله، الصوفية. ولكن ليس الصوفية هؤلاء الذين لهم علاقة بالشيش، والأكل، والأرز، وهذا الكلام الفارغ، و(الهبل)، لا! الصوفية الذين طلبوا الله، الذين طلبوا المعرفة بالله – تبارك وتعالى -، الصوفية الصادقون المُتألِّهون الربانيون، أهل الله وخاصته وأحبابه، بركة المُسلِمين، هؤلاء هم! وليس أصحاب النصب والدجل والكلام الفارغ.

بقيت طريق هؤلاء، وطريق هؤلاء لا تعتمد لا على مُقدِّمات ولا على استدلالات وعلى فلسفة ولا على علم كلام ولا على أي شيئء، تعتمد على ماذا؟ على التبري من الحول والقوة. يتبرى هذا السالك من حوله وقوته، ولا يثق لا بنفسه ولا بعقله ولا بحسه ولا بشيء. إنما ثقته بماذا؟ بالله، بالحقيقة المُطلَقة الوحيدة المُتوحِّدة. فهو يفزع إلى هذه الحقيقة، لكي تُنقِذه من هذا البحر العجاج المُتلاطِم؛ بحر الشكوك والريب، فقط! المُنقِذ هو الله، وطوق النجاة بيد الله وحده. فهم يفزعون إلى الله فقراء، ليس عندهم شيء.

أبو حامد يقول – بمعنى كلامه – تبيَّن لي أنهم يزعمون أنهم وصلوا، وأن الله أنقذهم، وأنه قذف في ضمائرهم ونفوسهم علماً ويقيناً، لا يُتحصَّل بكتاب ولا بدراسة على مُعلِّم. قال فما بقيت إلا هذه الطريق، لا بد أن أسلكها. ولِمَ لا؟ ولِمَ لا؟ كما قلنا في خُطبة قبل أسابيع الإنسان بلا شك – ونحن نُوقِن بذلك – فيه قوى وقُدر داخلية، خلاف العقل وخلاف الحس، أليس كذلك؟ قوى عجيبة جداً جداً وغريبة، موجود! أي الإنسان ليس فقط مادة، ليس مادة! الإنسان مادة وروح، فيه سر ميتافيزيقي، سر ماورائي عجيب، لُغز عظيم! فيُمكِن أن يختص هذا السر بقوى وقُدر ومجالات للإدراك غير عقلية وغير حسية، أبعد من ذلك!

فأبو حامد قال لا بد أن نخوض هذا الطريق. وخاض، فهل وصل؟ لقد وصل – رضيَ الله عنه وأرضاه -. وعاد إليه إيمانه، وعاد إليه يقينه، ولكن على أزيد من أول، بما لا يعلمه إلا الله. عاد بإيمان ويقين عجيب وغريب، وظهرت له الكرامات، وظهر له التأييد الإلهي، وظهر من خلاله أُنموذج العالم المُسلِم الحق، وارث النبوة.

كان أبو حامد – قدَّس الله سره – حريصاً على الدنيا، حريصاً على المناصب. كان صاحب أكبر منصب علمي في عصره؛ الأستاذ الرئيس في المدرسة النظامية ببغداد. كانت أعظم جامعة في العالم الإسلامي، وأكبر أستاذ فيها كان أبو حامد الغزّالي، وعمره كان أربعا وثلاثين سنة. أكبر أستاذ، رقم واحد هذا! الكل يدين له. وكان يُحِب الرياسة، وكان يُحِب المُناظَرة والحوار؛ لأنه لا يستطيع أحد أن يُجادِله، يستطيع أن يُقنِع وأن يُفحِم كل عالم وفي أي علم. كان يُحِب هذه الأشياء؛ المُجادَلات والمُناظَرات، يُفحِم هذا وهذا وهذا، وأن يظهر، وأن يسمو في نظر الناس. يُحِب الدنيا ومناصبها ومُتعها! وحين عاد – يقول عبد الغفّار الفارسي – لم نُصدِّق ما رأيناه منه. مُستحيل! أهذا أبو حامد؟ ما هذا الخشوع؟ ما هذا الأدب؟ ما هذا الإخبات؟ ما هذا التواضع؟ ما هذه الربانية؟ قال لم نُصدِّق، حتى كان بعد مُدة، فتيقنا أن هذه الأخلاق أخلاق صدق. ليست مُجرَّد تمثيل، أبداً! اختلف الإنسان، أصبح خلقاً آخر.

أيها الإخوة:

هذه الحالة العجية ماذا يُسميها أولياء الله والعارفون بالله – سُبحانه وتعالى -؟ ماذا يُسمونها؟ يُسمونها حالة تجلي الله باسمه وبوصفه أو بأسمائه وصفاته على عبده الصالح. ما معنى التجلي؟ ما معنى تجلي أسماء الله وصفاته على العبد؟ طبعاً مُستحيل أن يتجلى بأسمائه وصفاته كلها، لا يتجلى بكل أسمائه وصفاته، وإنما ببعض هذه الأسماء والصفات. فمثلاً يتجلى الله على عبد قابل لهذه التجلي، يستحق هذا العبد، لماذا؟ لأنه مهَّد ومهَد لنفسه الطريق، التي تُوصِله إلى هذا المقام العلي، إلى هذا المقام العلي الكريم! هذا العبد يستأهل ذلك، فكيف يصير التجلي؟ يصير التجلي بأن ينزع الله – تبارك وتعالى – منه وصفه، ويُكسِبه ماذا؟ وصف الربانيين، على قدره. فيختلف، وكأنه خُلق خلقاً جديداً، عجيب!

ومن هنا أقول لكم هذا يُوجَد فقط في الإسلام، وفي طريق الله، وفي طريق أهل الصدق من المُسلِمين، فقط! كما قال – أحسب معروف الكرخي، والله أعلم – ما أكثر الصالحين! وما أقل الصادقين في الصالحين! فنحن نتحدَّث عن هؤلاء الصادقين من المُسلِمين، الصادقين من الصالحين؛ لأن الصلاح قد يبدو من الأشياء الظاهرية، لكن الصدق شيء باطني، لا يعلمه إلا الله – تبارك وتعالى -، الذي: يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ۩.

المُهِم، أقول هذا ليس إلا في الإسلام، وإلا في طريق الصالحين المسعودين، فقط! خاصة وخاصية ماذا؟ تبديل الجواهر. تسمعون بتبديل الجواهر؟ هذا مُصطلَح يوناني قديم، يقول لك أحدهم هناك إكسير Elixir مُعيَّن، أو مادة هكذا كيمياوية، أو مُستحضَر، لو وضعته على الشيئ، يُبدِّل جوهره، يُحوِّل التراب إلى ذهب، يُحوِّل النحاس إلى ذهب، وهكذا! هذا إكسير Elixir، يجعل الحياة مُمتدة خالدة، إكسير Elixir الحياة! هذا الإكسير Elixir وهذا الطلسم العجيب السحري، يُوجَد في الإسلام. الإسلام إذا أخذناه بحق وصدق، فيه خاصية تبديل الجواهر. أي قد نُؤتى برجل كذّاب – من أكبر الكذّابين؛ لأن اليوم خُطبتنا كانت عن الصدق، وهذا رجل كذّاب، مريض بالكذب، وهناك مرض نفسي له علاقة بالكذب هذا أحياناً -، فإذا عرف الله، وسار سير المُؤمِنين، بصدق وحق، قد يُصبِح من الصدّيقين، وهو بالأمس كان من الكذّابين، كيف؟ كيف تبدَّل هذا الرجل؟ وسيعجز كل علماء النفس في العالم، عن تحليل هذه الحالة، وعن درسها، فضلاً عن أن يُحوِّلوه إلى أحد هؤلاء الصادقين. في الدين فقط!

والإشارة إلى خاصية تبديل الجواهر، وأنها خاصية إلهية في هذا الدين وحده، بحديث الإمام البُخاري في الأدب المُفرَد، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن عزّ عليه الليل أن يُكابِده، والمال أن يُنفِقه، والعدو أن يُجاهِده، فليقل سُبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. الله أكبر! ما معنى هذا الكلام العجيب؟ النبي يقول هذا في البخيل، أي الذي يكون بخيلا، ولا يستطيع أن يُنفِق، يعزّ عليه أن يُنفِق المال، لا يستطيع، بخيل! وفي الجبان الرعديد الخروع، الذي لا يستطيع أن يُلاقي الأقران وأن يُجالِد الفُرسان والكُماة الحُماة، لا يستطيع، جبان! يخاف، يُحِب الحياة، يثاقل إلى الأرض، وفي الكسول الخمول الثقيل، الذي لا يستطيع أن يقوم من الليل، لا يستطيع أن يُصلي في الليل، لا يستطيع! وبعض الناس حتى لا يُصلي الصبح – والعياذ بالله  تبارك وتعالى -، وليس فقط لا يُصلي القيام. فماذا يفعل هؤلاء يا رسول الله؟ هؤلاء هكذا! هذا كسول، وهذا بخيل، وهذا جبان، وهذه الأخلاق تقريباً ليست كسبية، هذه أخلاق نحائزية جبلية، حتى الأطفال قد يكونون هكذا، قد تجد طفلاً ابن سنة، ويكون هذا الطفل مثل النار، (لهلوبة)! يتحرَّك وما إلى ذلك، وهذه يُسمونها حتى أحياناً حالة فرط النشاط الزائد، أي الــ Hyperactivity، أي عنده نشاط غريب، وهناك طفل آخر بليد كسول، يُحِب النوم، ويكون حتى في مثل سنه، لا يُحِب الحركة، بليد! نحيزة، هذه نحيزة، وهكذا! مُمكِن. ماذا يفعل يا رسول الله؟ قال عليه بذكر الله. يُكثِر من ذكر الله، ذكر الله قمين أن يُبدِّل أحواله، أن يُغيِّر جوهره، الله أكبر! وهذا مُجرَّب – والله – يا إخواني، هذا – والله – مُجرَّب.

وحدَّثتكم مرة عن رجل، كان مُنبعِثاً في المعاصي، نشطاً في احتقابها، وفي يوم من الأيام رأيته، ولن أنسى هذا الشيئ، سأظل أُحدِّث به ما حييت؛ لأنه عجيب، عجيب هذا الشيء الذي رأيته وعشته. في يوم من الأيام وأنا أجلس في سيارة، إلى جانب أحد إخواني مِمَن هداهم الله – تبارك وتعالى -، التفت، فإذا برجل يجلس خلفي، فسلَّمت عليه، رجل وجهه فيه نور وفيه وداعة وفيه جمال، ولم أعرفه. قال لي – أي هذا الأخ السائق – أما عرفته؟ قلت له لا والله، لأول مرة. قال بلى، أنت تعرفه. قلت ما أعرفه. قال الأخ جمال. قلت جمال مَن؟ قال الفلاني. قلت الله أكبر. نظرت في الرجل، ولم أملك عيني أن هملتا، مُباشَرةً طفرت الدموع من عيني، أشهد بالله أنه ليس الإنسان الذي أعرفه، ملك! وظل هكذا، حتى حصل بيننا الفراق، إن شاء الله على الله وفي الله – تبارك وتعالى -. أصبح إنساناً ربانياً، واضح هذا في وجهه – والله – وشكله – والله – ومنظره، أصبح إنساناً آخر، ليس الإنسان الذي كنت أعرفه.

ولذلك يقول العارفون بالله – تبارك وتعالى – المعصية أول ما تُغيِّر الاسم، ثم تُغيِّر الرسم، ثم تُغيِّر الحقيقة. أول شيء تُغيِّره الاسم، طبعاً! وكيف تُغيِّر الاسم؟ أي أنت بالأمس كنت تُصلي وتصوم وتتصدق وتُزكي وتقوم الليل وتذكر الله، أنت كنت مع عباد الله الذاكرين. الآن تركت ذكر الله، فقدت الاسم، صرت من عباد الله الغافلين. أنت بالأمس كنت من عباد الله القوّامين، تقوم الليل. وأنت اليوم من عباد الله النوّامين، تنام الليل! وربما العاصين. أمس كنت تقوم الليل، وربما الليلة تسهر على أشياء مُحرَّمة. بعض الناس يسهر على كأس وما إلى ذلك، وعلى أشياء أُخرى – والعياذ بالله -، طبعاً تغيَّر الاسم. المُهِم، يتغيَّر اسم الطائع، إلى اسم ماذا؟ العاصي. أول شيء الاسم! وبعد ذلك ماذا؟ الهيئة والشكل والرسم. يبدأ الشكل نفسه يفقد النور، يفقد الألق، يفقد الحلاوة، يفقد السماحة الربانية، يفقد! وبعد ذلك ماذا تفقد؟ الجوهر. ينطمس الجوهر، بعد أن كان جوهر عبد رباني، يُصبِح – أكرمكم الله – إما جوهر حمار – كما قال العارفون – أو جوهر خنزير أو جوهر كلب. طبعاً! وانظر إلى كل الفسقة والعُصاة، كل واحد فيهم أُنموذج من حيوان – والعياذ بالله -. هناك الحريص على الخيانة – والعياذ بالله -، والحريص على الفتك وما إلى ذلك، هذا فيه وصف الذئب، أليس كذلك؟ الذئب – والعياذ بالله -. وبعضهم مُراوِغ، مُنافِق، بخمسين وجهاً، مُداجِن، مُتملِّق، يُعطيك لساناً ووجهاً، ويُعطي هذا لساناً ووجهاً، عجيب جداً جداً، ولا يترك أحداً من شره، هذا فيه ماذا؟ طبع الثعلب، أي (الواوي) هذا. ويروغ منك كما يروغ الثعلب. وهذا لا يكون عند الله وجيهاً. وبعضهم فيه طبع الكلب – والعياذ بالله -، أينما سنحت له شهوة، طار إليها، فإن نُهِر وزُجِر، انزجر، فيجلس بمزجر الكلب، ينتظر فُرصةً أُخرى، كالكلب – والعياذ بالله -، ليس له نهمة إلا ماذا؟ أن ينقع على شهوة. ينظر في كل شيئ؛ في الطعام، في الشراب، في النساء، في هذه، وفي هذه، وفي هذه! فما هذا؟ هذا الإنسان المُكرَّم؟ هذا خليفة الله في الأرض؟ لا، هذا كالكلب، ولا يدري.

المعصية، السبب هو المعصية! وأول ما يبدأ – كما قلت لكم – التغير والتغيير، يبدأ بالاسم، ثم الرسم، ثم الجوهر والحقيقة. إبليس – لعنة الله تعالى عليه – كان كذلك، وطبعاً إبليس من ماذا؟ من الإبلاس. وما هو الإبلاس؟ انقطاع الحيلة واليأس والقنوط. انقطعت حيلته، وأبلس من رحمة الله، لا طماعية له مُطلَقاً في رحمة الله، إبليس! انظر إلى الاسم، هذا الاسم اسم خبيث – والعياذ بالله -، سماعه شر، إبليس! ماذا كان اسمه؟ عزازيل، طاووس الملائكة. كان يُلقَّب بطاووس الملائكة، واسمه عزازيل، وقيل هو اسم شريف. لما عصى، مُباشَرةً تبدَّل اسمه من عزازيل، إلى إبليس. بدأ التغيير!

واستمعوا إلى هذه القصة العجيبة، عن هذا العارف بالله، وهو سيدنا إبراهيم بن أدهم. وتعرفون إبراهيم بن أدهم – قدَّس الله سره -، هذا الذي كان من أبناء الملوك وأبناء الأمراء، وترك كل ما كان فيه لله – تبارك وتعالى -، وأصبح من أعلام الأولياء الصالحين الصادقين. يقول إبراهيم – قدَّس الله سره – دخلت يوماً برجلي في بُستان رجل – أو في حشيش لرجل -، خطأً، فرآني، فقال يا بقر. فقلت خالفت قليلاً، فتغيَّر الاسم، ولو خالفت أكثر، لتغيَّر الجوهر والباطن. أخذها عبرة، قال أستأهل، أنا أستحق. وطبعاً هو لن يعنيه أن يُسميه بقرة أو بقرا، لا، ليست هذه، هو فهم منها درساً إلهياً أكبر. أي مُخالَفة، أي انتهاك لحُرمات الله وتعد على حدود الله، تُغيِّر ماذا أولاً؟ الاسم. من بعد ولي الله، يصير ماذا؟ البقرة. أرأيت؟ فهو قال نعم، هذه هي، بسبب مُخالَفة قليلة، تغيَّر الاسم. أي من إبراهيم، إلى ماذا؟ إلى البقر. وحين تصدر مُخالَفة أكبر، أتغيَّر من الداخل. يصير في الداخل الإنسان بقرة أو حماراً – والعياذ بالله -، انتبهوا، شيء خطير!

عكس هذا تماماً التجلي، تجلي الله على عبده المُستأهِل لهذا التجلي. ينزع الله منك وصفك الإنساني الضعيف النسبي القاصر الفاني، ويُعطيك ويُلبِسك ويُحقِّقك ماذا؟ وصفاً من أوصافه، اسماً من أسمائه.

ومن هنا هذا سر ما نراه في بعض أولياء الله، يكون فقيراً مسكيناً ضعيفاً (غلبان)، ويكون ماذا؟ ويكون له الهيبة والجلال والحلاوة والسماحة، والكل يطلب بركته، الكل! الخليفة المُقتفي، ذات مرة من المرات طلب الآتي، قال احضروا لي كل علماء وصُلحاء بغداد. فحضروا، فقال هل حضروا بأجمعهم؟ قالوا إلا اثنين، لا يُحبان أن يدخلا على الملوك ولا على الأمراء، معروف عنهم! قال مَن؟ قالوا عبد القادر الجيلاني والشيخ عدي بن مُسافِر – قدَّس الله سرهما -. قال إذن لم يحضر أحد. هذان هما الرجال! كل الذين حضروا من أصحاب الطماعية في الدراهم والأرز واللحم، كلام فارغ هؤلاء، أصحاب العمم واللحى، كلهم كلام فارغ. وهو أصلاً أراد الدعوة من أجل ماذا؟ أن يلتقي بمَن؟ بمولانا الجيلاني ومولانا عدي بن مُسافِر – رضيَ الله تعالى عنهما -. قال هما هذان الاثنان فقط. أي اللذان لم يحضرا. فقال إذن لم يحضر أحد.

نُكمِل – إن شاء الله – غداً؛ لأن أدركنا الوقت. نُكمِل غداً – إن شاء الله – بقية الكلام في اسم الله الجامع: الله.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن ينفعنا جميعاً بما علَّمنا. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: