أسماء الله الحسنى l الحلقة 3

video

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، حمداً يُوافي نعمه ويُكافئ مزيده. اللهم إنا لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا مثيل له، ولا نظير له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله، ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين، وصحابته المُبارَكين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، ربنا تقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا يا مولانا، إنك أنت التوّاب الرحيم.

اللهم ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركعونا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك، يا رب العالمين.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً، اللهم آمين.

أما بعد، أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفُضليات:

السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته.

نُكمِل – بحول الله تبارك وتعالى – الحديث عن اسم الله الأكبر الأجل الأطهر، الذي هو: الله. والذي هو – كما قلت أمس – علمٌ على الذات واجبة الوجوب، المُقدَّسة المُستحِقة والمُستأهِلة والمُستوجِبة لكل صفات ونعوت الجلال والجمال والكمال، أزلاً وأبداً. الله!

وكما سمعتم، جمهور العلماء يرون أن هذا الاسم الأجل (الله) هو الاسم الأعظم. قال الإمام الشيخ محمد أمين بن عابدين – شيخ الحنفية المُتأخِّرين، رحمة الله تعالى عليه رحمة واسعة – الآتي في أول حاشيته، المعروفة بحاشية ابن عابدين. في الجُزء الأول قال وقد قال كثيرٌ من العلماء إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم، حتى أنهم لم يروا للذاكر ذكراً فوق هذا الذكر. لا يُوجَد اسم من أسماء الله أرفع – أي فوق – من هذا الاسم، ليُذكَر به الله. هذا أرفع أنواع الذكر، أن تذكر الله بهذا الاسم، تقول يا الله. تقول يا الله. وهذا أيضاً من رأي سيدنا ومولانا عبد القادر الجيلاني – قدَّس الله سره -، أن الله هو اسم الله الأعظم. كان يذهب إلى هذا ويُرجِّحه.

ولكن قال بعض العارفين بالله هو اسم الله الأعظم، شريطةً أن تقوله وليس في قلبك إلا الله. هكذا يكون هو الاسم الأعظم. حين تقوله، تقوله وليس في قلبك إلا الله، أي تكون عبداً مُتألِّهاً؛ لأن حظ السالك وحظ الواصل وحظ المُؤمِن المُوحِّد المُوقِن، من هذا الاسم الأجل المُبارَك الأطهر (الله)، حظه كما قال مولانا أبو حامد الغزّالي – قدَّس الله سره الكريم – في المقصد الأسنى التأله. كل اسم لنا حظ منه، فمثلاً لو قلنا اسم الله – عز وجل – الحليم أو الشكور أو الصبور أو العليم، ما حظنا من هذه الأسماء؟ هذا واضح، الحليم: أن نتحلَّم، أن نتخلَّق قدر الوسع والإمكان بهذا الخُلق؛ خُلق الحلم. الشكور: أن نتخلَّق بخُلق الشكر، وأعظم الشُكر بلا شك وأوجبه وأحراه، هو شُكر المُنعِم – لا إله إلا هو -، وأيضاً من الشُكر الواجب علينا شُكر مَن أسدى إلينا معروفاً أو يداً. قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن لا يشكر الناس، لا يشكر الله. الذي ترونه جاحداً نعمة أو يد مَن له يد عنده – مَن له يد عنده أو نعمة عليه – يكون جاحداً لنعمة الله. مُستحيل أن يكون شاكراً بالله، كافراً بنعمة مَن أنعم أو مَن أسدى إليه نعمة. هذا قول مولانا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، مَن لا يشكر الناس، لا يشكر الله. طبعاً لأن الأخلاق لا تتجزأ، والفضائل لا تتجزأ، والفضائل لا تتجزأ كما يُقال!

وحظنا من هذا الاسم الأجل المُبارَك الأطهر (الله) التأله. قال أبو حامد – قدَّس الله سره الكريم، وجمعنا الله به في أعلى جنات الخُلد والرضوان والنعيم المُقيم -، قال – رحمة الله تعالى عليه – وأعني به أن يكون القلب مُستغرَقاً والهم بالله – تبارك وتعالى -. لا يجول الخاطر إلا في الله، لا ترجو إلا الله – تبارك وتعالى -، لا تخاف إلا من الله. وهذا صعب جداً، هذا مقام علي وحفي، هذا مقام علي وحفي! مقام سامق جداً – أيها الإخوة والأخوات -، ولكن هذا هو الحظ الأوفى، هذا هو الحظ الأوفى للمُوحِّدين والمُوقِنين من هذا الاسم الجليل.

جيد! إذن الله – تبارك وتعالى -، وهذا الاسم ذكر العارفون بالله وأسيادنا العلماء طائفة من خواصه ولطائفه عجيبة مُعجِبة. منها أن الألف واللام فيه لازمة، أصلية، لا تنفك عنه. بدليل أنها لو لم تكن أصلية، لجاز أن تُحذَف عند النداء. نحن لا نقول يا الرَحمن، أو يا الرَّحمن. نقول يا رحمن. فتُحذَف عند النداء. يا عدنان، يا محمد، يا… لا نقول يا العدنان، يا المحمد، يا الرحمن، يا الحليم. لا نقول هذا، نقول يا حليم، يا لطيف، يا رحمن. يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما. في ابتهالات مولانا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -. لكن دائماً نقول يا الله. لا نحذف الألف واللام! مما يدل على أن هذه الألف واللام أصلية، لازمة، لا تنفك عنه.

وهذه تُشير إلى ماذا؟ تُشير إلى أن معرفته لازمة – لا إله إلا هو -. الله – عز وجل – حاضر، لا يغيب، هو واجب الوجود، وهو أعظم ظاهر وأعظم بيّن، هو أعظم آية وأعظم بُرهان، لا إله إلا هو! أعظم موجود. ولشد وجوده، يخفى على بعض مَن طمس الله أبصارهم وبصائرهم. موجود، لا يغيب، ومعرفته لازمة، لا إله إلا هو! لكن بعض الناس مِمَن طمس الله – كما قلت – بصائرهم وأبصارهم ونكَّس قلوبهم، يجحدونه ولا يعرفونه، بل يُنكِرونه. وسنعود إلى تفصيل هذه النُقطة بتوسع شديد – إن شاء الله – بُعيد قليل، هذه النُقطة بالذات!

هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ۩. قال هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ ۩، هو الظاهر، لا إله إلا هو! فمعرفته لازمة. إذن فالألف واللام فيه أصلية، لازمة، لا تنفك عنه، ولا تُزايله.

وذكر الإمام الفخر الرازي – قدَّس الله سره الكريم – الآتي، في كتابه لوامع البيّنات شرح أسماء الله تعالى والصفات. له كتاب كبير، من أوسع الكُتب التي أفاضت في شرح أسماء الله الحُسنى، وفيه لطائف وفيه بدائع كثيرة، لا تجدونها في غيره، أي في غير هذا الكتاب؛ لوامع البيّنات شرح أسماء الله تعالى والصفات – قدَّس الله سره الكريم -.

الفخر الرازي من مُجتهدي الإسلام، ومن الفلاسفة المُسلِمين الكبار، ترك أكثر من ثلاثمائة وخمسين مُؤلَّفاً، بعضها في مُجلَّدات واسعة، منها تفسيره الذي وصلنا مُختصَره، المعروف بمفاتيح الغيب، التفسير الكبير؛ مفاتيح الغيب! وأصله يقع في مئة مُجلَّد، وصلنا منه بضعة عشر مُجلَّداً فقط، وهو تفسير واسع جداً، بضع عشرة مُجلَّدة مُوسَّعة وكبيرة، والعلماء يستهولون هذا الكتاب، يرونه مُوسَّعاً إلى درجة مهولة، مع أنها النُسخة المُختصَرة، من التفسير الأصلي، الذي يقع في زُهاء مئة مُجلَّد أو مُجلَّدة، هذا الكتاب من ثلاثمائة وخمسين كتاباً للفخر الرازي – قدَّس الله سره الكبير -، وهو من علماء وأئمة الشافعية.

المُهِم، قال الإمام الفخر الرازي – قدَّس الله سره الكريم -، قال من خواص هذا الاسم الأجل المُبارَك الأطهر، أنك لا تحذف منه حرفاً، إلا ويبقى بعده اسم لله، مُختَص بالله. فإذا حذفنا الهمزة، بقيَ ماذا؟ لله. لِّلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، أليس كذلك؟ لله كل شيئ! إذا حذفنا اللام الأولى، بقيَ له، لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۩، إذا حذفنا اللام الثانية، بقيَ هو، وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَٰهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَٰهٌ ۩، هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ۩، أليس كذلك؟ شيء عجيب! ليس هذا إلا في هذا الاسم.

ولذلك هذا الاسم الأجل المُبارَك الأطهر الأقدس الأنور، تردد وكثر دورانه في كتاب الله، ما لا وما لم يتردد اسم سواه. وورد هذا الاسم المُبارَك في ألفين وسبعمائة موضع. موجود في الكتاب الكريم في ألفين وسبعمائة موضع! لا يُوجَد أي اسم آخر، من أسماء الله أو من أسماء البشر، تردد هذا التردد، ودار هذا الدوران.

وقد افتتح الله – سُبحانه وتعالى، وجل مجده – بهذا الاسم الأجل ثلاثاً وثلاثين آية. مُفتتَحة مُباشَرةً بكلمة الله. واليوم قرأنا من سورة النساء اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ۩. اللَّهُ ۩! في آية الكرسي؛ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۩،  اللّهُ ۩! آيات كثيرة، ثلاث وثلاثون آية، مُفتتَحة بهذا الاسم المُبارَك الأقدس: الله – تبارك وتعالى -.

أيها الإخوة والأخوات:

اختلف السادة العلماء – كما أشرت إليه عرضاً، على أن نُفصِّله اليوم، إن شاء الله تبارك وتعالى – في هذا الاسم؛ هل هو مُشتَق، أو غير مُشتَق؟ أي الصبور مُشتَق من ماذا؟ من صبر. ولذلك يُشارِكه فيه كثيرون، نقول الله هو الصبور، وفلان صبور. أليس كذلك؟ فلان صبور، والله هو الصبور. وكذلك الحليم، فلان حليم، وعنده حلم. لكن هل يُشارِك مخلوق ما، من الإنس أو الجن أو الملك، أو غير هؤلاء، الله – عز وجل – في اسمه الله؟ كلا. لا يُوجَد أحد – سُبحان الله – مُنذ مبدأ التاريخ إلى الآن جرأ أو جسر على أن يتسمى بالله، الله! لا يُوجَد هذا، لا يُوجَد! لا يُوجَد أحد سمى نفسه الله. هناك مَن سمى نفسه الرب، الرب الأعلى، الإله – والآلهة كثيرة -. والعجيب أن الإله يُجمَع على ماذا؟ على آلهة. ولكن الله لا جمع له، هل يُجمَع الله؟ لا يُجمَع. اسم لا جمع له في العربية. ولذلك نحن نُؤكِّد أن هذا الاسم المُفرَد العلم الأقدس الأطهر، لا يُمكِن أن يُترجَم، وينبغي أن يُكتَب كما هو، في كل لُغات المُوحِّدين، خطأً أن نقول بالفارسية خدا أو خداوند. خطأ كبير جداً جداً! خدا ليس هو الله، خدا له معنى آخر مُختلِف عن هذا الاسم الجامع، كما قلت الله – عز وجل – يُوصَف بجميع أسماء الله وصفاته، ولا اسم ولا صفة من أسمائه تُوصَف به، أليس كذلك؟ فهو الاسم الجامع.

إذن خدا، وأصلها بالفارسية خوداي أو خودي، ومعناها قريب من معنى الغني. وأما خداوند، فمعناها صاحب الشيء، أو معناها واجب الوجود. وهذا معنى من المعاني، أي من المعاني التي تليق وينبغي أن يُوصَف بها الله – تبارك وتعالى -، معنى من المعاني! فكيف يُقال خداي أو خداوند هو الله؟ كيف يُقال مثلاً Gott بالألمانية هو الله؟ بالعكس! وهذه الكلمة هنا لها مدلول مُبتسَر وجُزئي وصغير ومُقزَّم وأحياناً شائه جداً، لا يُمكِن أن يُجامِع المعاني الأقدس، التي تُضاف ويُوصَف بها الله – سُبحانه وتعالى -. أو God بالإنجليزية، Almighty، أو God! أو Dieu بالفرنسية مثلاً، لا يُمكِن! كل هذه الكلمات لا يُمكِن أن يُترجَم بها لفظ الله، أو اسم الله – سُبحانه وتعالى -، يختلف! ينبغي أن يُكَتب هكذا: الله، وأن يُقال دائماً: الله. هو كما هو، هو كما هو – لا إله إلا هو -، وهو مُفرَد، علم، لا يُجمَع.

قال – تبارك وتعالى – هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ۩. لا إله إلا الله! الله يتحدى، ويقول هل تعلم أحداً تسمى بهذا الاسم؟ لا يُوجَد، لا يُوجَد مَن جرأ على أن يُسمي نفسه الله، لا يُمكِن! هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا ۩. لا يُوجَد أحد، لا يُوجَد أحد يُمكِن أن يتسمى باسم الله.

وأُريد هنا أن أستطرد استطراداً ذكرته في خُطب سابقة قديمة، ولكن هنا أيضاً موضع مُناسِب، ولا يقوم إلا به – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

فضلاً عن هذا الاسم الأجل الأقدس، نحن نقرأ كلام الله، وليس بين أيدينا وثيقة، وثيقة أو كتاب وثيق – وثيقة الأولى بمعنى كتاب، أما وثيقة الثانية، فبمعنى نثق بها، من الوثاقة – غيره. لا يُوجَد بين أيدينا كتاب أو صحيفة وثيقة، نستطيع أن نضع فيها ثقتنا، وعليها اعتمادنا وتعويلنا، ويُمكِن القول إنها قطعاً وجزماً كلام الله إلا القرآن العظيم، ولله الحمد والمنّة. لو قرأنا كلام الله – تبارك وتعالى، هذا الإله الواحد الأحد، لا إله إلا هو -، لوجدنا أيضاً أنه يُعبِّر عن نفسه بأسلوب آخر، لا يستطيع أحد أن يُضارِعه فيه، ما هو؟ الأسلوب نفسه، طريقة المُخاطَبة.

حين نقرأ كلام الله – تبارك وتعالى -، نشعر بشعور غريب. أنا لم أجد للأسف مَن ترجم عن هذا الشعور، أي من العلماء الباحثين في الإعجاز، شعور غريب! قطعاً هو أحد الأسباب الإعجاز، وهي أسباب كثيرة جداً. أسباب الإعجاز كثيرة، ومجالي ومظاهر الإعجاز كثيرة جداً، ولكن هذا السبب أيضاً قمين بالذكر، حري جداً بالذكر؛ لأنه من أهم الأسباب، وينبغي أن يُجعَل في مُقدم هذه الأسباب، ما هو؟ الأسلوب الذي يُخاطِبنا به القرآن الكريم. لا أقصد الأسلوب البلاغي، من ناحية بلاغية وبيانية، كلا، أكثر! أنا أقصد الأسلوب بما يتكثث فيه وبما يثوي خلفه من قدرة، يُمكِن أن نُسميها نحن بلُغتنا القدرة النفسية، القدرة السيكولوجية. لا يُوجَد بشر لديه هذه القدرة، لا محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ولا أحد من خلق الله، أياً كان! لا يُوجَد بشر مُطلَقاً، لديه قدرة نفسية واستعداد نفسي، أن ينتحل وأن يتلبس هذا اللبوس الأسلوبي، وأن يُخاطِب الناس وأتباعه أو الذين يزعم أنهم عباد له من دون الله – والعياذ بالله تبارك وتعالى -، بهذه الطريقة.

ما هي هذه الطريقة؟ طريقة الجلالة، طريقة العظمة المُطلَقة. حين يقول نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ۩. هل محمد يستطيع أن يقول هذا القول؟ لا يستطيع. لا يستطيع أحد مُطلَقاً، حتى ولو كان مجنوناً، أن يتكلَّم بهذه الطريقة، يقول نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ۩. يستطيع أن يقول أحدهم كعبد الناصر – غفر الله له – خلقت فيكم العزة والكرامة. وهذا أسلوب بعيد جداً جداً من قول الله نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ ۩. إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ۩ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ۩، وأمثال هذه الآيات كثير، آلاف الآيات، بالأسلوب نفسه!

وهذا الذي يُشعِرك أن هذا الكلام لرب مُطلَق القدرة، مُطلَق المشيئة، مُطلَق العلم، مُطلَق الإحاطة، لا يفوته شيئ، ولا يُعجِزه شيئ، ولا يقهره شيئ. وهذه طبعاً جُملة صفات، من صفات الله – تبارك وتعالى -، نستطيع أن نُفسِّر وأن نُعلِّل بها شيئاً وطرفاً يسيراً، من ماذا؟ من صفات أُخرى لله – تبارك وتعالى -. فالله حليم، والله يُمهِل، والله لا يُعاجِل بالعقوبة، لماذا؟ لأنك لا تفوته، لا تُوجَد مُشكِلة! لأنك في كونه، وأنت في قبضته، وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ۩، ولا تستطيع أن تخرج عن قدرته وعن ملكوته، لا زماناً ولا مكاناً، موجود، موجود! حتى إن مِت، هو الذي يُميتك، وينقلك من طبق إلى طبق ومن طور إلى طور، وكلما مِت يا مسكين، أصبحت أقرب إلى ماذا؟

(ملحوظة هامة) أجاب أحد الحضور بأنه سيكون أقرب إلى الله. فقال الدكتور عدنان إبراهيم لا، هو قريب دائماً، أقربت إلى ساعة المُحاقَقة والمُحاسَبة.

اليوم عمل ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل. بالعكس، أنت تقترب من المُحاسَبة. أنت مُخطئ، إذا كنت تظن أنك تفوته بالموت. بالعكس! أنت تقترب من الحساب بالموت، الموت ليس فوتاً، الموت هو فوت العمل، لكنه ليس فوت الحساب، ليس فوت الحساب!

فلكونه مُطلَق السُلطان والقُدرة والمُلك والإحاطة، ولا يفوته شيئ، نستطيع أن نُفسِّر حلمه وصبره – لا إله إلا هو -، أليس كذلك؟ فهو الصبور أيضاً وهو الحليم، ومن هنا إمهاله وعدم مُؤخذاته عباده بأول ذنب، لا يعافص العبد بأول ذنب. وانتبهوا! لو أنه عافصنا بأول أو بأوائل ذنوبنا، لألجأنا إلى ماذا؟ إلى الطاعة إلجاءً. لو كل واحد فينا حين يعمل ذنباً، مُباشَرةً تأتيه العقوبة ويُعاجَل بالعقوبة، لاضطر بعد ذلك رُغماً عن أنفه أن يستقيم على الجادة. الله لا يُريد ذلك، الله لا يُريد من الإنسان أن يكون عبداً كالحجر أو عبداً كالملك. يُريد منك أن تكون العبد الخليفة، الذي تُقرِّر وتختار أن تكون عبداً لله، وأن تنتصر على ذاتك، وأن تعلو على شهواتك، وأن تتحدى كل الظروف التي تُلجئك إلى معصية الله، وأن تقتحم العقبة. هذا الذي يُريده منك! لو أرادك ملكاً، لسواك مُنذ البداية ملكاً، وانتهت القصة. لا يُريدك كذلك. وهكذا، وهكذا – إن شاء الله تعالى -.

جيدا! نعود إلى ما كنا فيه، الله – تبارك وتعالى – اختُلف؛ هل هو اسم مُشتَق، أو غير مُشتَق؟ أكثر المُحقِّقين والعلماء والفقهاء والنظّار والأصوليين على أنه غير مُشتَق. أساطين علم العقيدة من الإسلاميين، قالوا إنه غير مُشتَق. أبو حنيفة مثلاً – قدَّس الله سره – قال الله اسم غير مُشتَق، اسم علم مُرتجَل، موضوع لله هكذا، ارتجالاً، من غير اشتقاق. الإمام الشافعي – رضيَ الله عنهم أجمعين – قال إنه اسم علم لله غير مُشتَق، لم يُشتَق  من شيئ، هو هكذا، الله! غير مُشتَق. بخلاف ماذا؟ الإله. فهو مُشتَق، أما الله، فليس مُشتَقاً.

الإمام الغزّالي – أبو حامد الغزّالي -، قال كل ما ذكروا في اشتقاقه تكلف وتعسف من القول. كلام فارغ – قال – هذا، نضرب به عرض الحائط. كلام فارغ، غير صحيح، غير مُشتَق. هناك الإمام القفّال الشاشي الكبير، أعلم علماء الشافعية فيما وراء النهر – قدَّس الله سره -، وقيل به انقطع الاجتهاد، أي بالإمام القفّال الشاشي الكبير. المُهِم، قال اسم الله غير مُشتَق. الإمام الفخر الرازي – رحمة الله عليه – في لوامع البيّنات قال هذا الذي أُرجِّحه، أنه غير مُشتَق. كثيرون! الأساطين الكبار، قالوا اسم غير مُشتَق.

من النُحاة أبو العباس المُبرد، صاحب الكامل في اللُغة والأدب، والكتاب موجود هنا، رأيته أمس، وهو أحد دواوين الأدب العربي الأربعة، قال ابن خلدون ما زلنا نتسامع ونحن بالمغرب، أن الأدب يدور على أربعة كُتب، ومنها الكامل لأبي العباس المُبرد. أحد أربعة كُتب يدور عليها كل الأدب العربي. أبو العباس المُبرد علّامة كبير جداً جداً، قال اسم الله غير مُشتَق.

الإمام الكبير سيبويه – رحمة الله تعالى عليه، عمرو بن عثمان بن قنبر، صاحب الكتاب – قال اسم الله غير مُشتَق. وأحد قولي الخليل بن أحمد الفراهيدي، وناهيكم به! له قولان، الأرجح منهما أن اسم الله غير مُشتَق.

وهناك مَن هم على القول باشتقاقه. وطبعاً إذا قلنا إنه مُشتَق، لم يكن اسماً، بل كان صفةً، ثم بعد ذلك بالغلبة صار ماذا؟ صار اسماً. أليس كذلك؟ إذا قلنا إنه مُشتَق، لم يكن اسماً، لا بُد وأن يكون صفةً طبعاً، مثل كل المُشتَقات! ولكن كيف صار اسماً بعد ذلك؟ بالغلبة. صار علماً بالغلبة! ولكن أصله مُشتَق، فأين هو إذن اسم الله؟ لأن بقية أسماء الله من غير استثناء مُشتَقة. كل اسم من التسعة والتسعين وغير التسعة والتسعين، مُشتَق، كلها مُشتَق! فإذا أثبتنا أيضاً أن اسم الله أيضاً مُشتَق، لم يبق لله اسم، أصبحت كلها صفات، أليس كذلك؟ أين الاسم إذن؟ أين الاسم الذي وُضِع أصلاً، ارتجالا ووضعا، من غير اشتقاق، ليكون اسماً، يُنظَر فيه إلى الذات الإلهية المُمجَّدة المُقدَّسة – لا إله إلا هو -، بقطع النظر عن اتصافها بأي صفة أُخرى؟  بالذات، الذات! هي كما هي، وكما يعلمها الله – تبارك وتعالى -.

جيد! هذا هو، وإذا قلنا إنه مُشتَق، فمِمَ اشتقاقه؟ هناك ثلاثة أقوال. وطبعاً هي أقاويل كثيرة، ولكن تدور على ثلاثة أقاويل أو أقوال؛ أنه من أَلِه، أو من وَلَه أو وَلِه، أو من واله. ثلاثة أقاويل تدور عليها كل الأقوال! ما معنى أَلِه؟ أَلِه إليه، أي فزع إليه، من أمر يُخيفه أو يُفزِعه. يُقال أَلِه الرجل إلى الرجل، إذا فزع إليه. وأَلِه الطفل إلى أمه، إذا فزع إليها واستجار بها. فآلهه، فهو – الذي آله – إله، أي مُجير. آلهه، أي أجاره وأمّنه، أعطاه الأمان. نقول أَلِه فلان إلى فلان. مثل أَلِه سعيد إلى أحمد، فآلهه أحمد. جعله في حرزه وفي أمانه، فهو إله، فهو إله! هذا هو أصل ماذا؟ الكلمة.

قالوا ثم أرادوا تفخيمها، فزادوا عليها ماذا؟ ال التعريف، فأصبحت الإله. ولما وجدوا الهمزة في الوسط ذات ضغطة شديدة – الإله -، حذفوها، فأصبحت الله. تكلف عجيب جداً، أي – كما قلت – بهلوانية علمية، وما الدليل على ذلك؟ تحدَّثوا عن أَلِه والإله وحذفوا هذه الهمزة! كلام عجيب، وتصريفات غريبة. وهناك مَن قال بعكس هذا تماماً. وأَلِه أيضاً بمعنى أقام. أَلِه بالمكان، وأَلَه بالمكان، إذا أقام به. وطبعاً هنا مورد الاشتقاق ومغزاه واضح، لأن الله هو الذي يُفزَع إليه، في ماذا؟ في النوائب. هو الصمد، لا إله إلا هو! يُصمَد إليه في الحاجات و النوائب، أليس كذلك؟ إذا مسنا الضر في البر أو البحر، إلى مَن نفزع؟ حتى الكفّار! الكل يفزع إلى الله – تبارك وتعالى -، حتى الكفّار! انتبهوا، وطبعاً اتركوا الفلسفة واتركوا علم العقيدة أو علم الكلام واتركوا كل الشقشقات اللفظية، هكذا كل واحد فينا! أكبر الملاحدة وعُتاة الملاحدة في لحظات الخوف الشديد أو الانقطاع من الدنيا والإقبال على الآخرة، يعرفون أن لهم رباً، ويُقِرون بذلك. وأنا أُعطيكم أمثلة حقيقية.

هناك لينين Lenin مثلا، فلاديمير لينين Vladimir Lenin! المُلحِد الكبير، صاحب النظريات العظيمة الكبيرة في الإلحاد، المعروفة بالماركسية اللينينية. ماركسية ماركس Marx غير ماركسية لينين Lenin، حوَّلها وأعطاها وجهة مُختلِفة، وترك أكثر من أربعة وستين مُجلَّداً في الفلسفة والسياسة وغيرهما، شيء عجيب، دماغ عجيب جداً هذا الرجل.

هذا الرجل لما كان في ساعة الوفاة، قال تباً لكل شيئ، أحضروا لي قسيساً. ومعروفة القصة هذه، وثابتة عنه. أي هذا ليس أي كلام، حقيقة! تباً لكل شيء – أي كفر بنفسه وبفكره وبكل هذا (الهبل) الذي كان فيه -، أحضروا لي قسيساً.

هناك ستالين Stalin، تقول ابنته لما كان أبي في ساعة الموت، رأينا منه مشهداً عجباً؛ نظر إلينا بغضب، ولم يستطع أن يتكلَّم. قالت فنظرنا إليه، واستفسرناه، واستفصلناه، فلم يستطع أن يتكلَّم بكلمة. انتهى، بلغت الحلقوم! نظر إلينا بغضب وبحيرة، ثم رفع يده إلى السماء، وعينيه إلى السماء، ثم أعاد النظر إلينا، ويده إلى السماء، ثم وضعها، وأسلم الروح. طبعاً! فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ۩. مساكين هؤلاء الملاحدة وجهلة، لا يُمكِن!

فإذن – كما قلت – نترك شقشقات الفلسفة وتهويمات هؤلاء وأمثالهم. كل إنسان فينا يحمل يقيناً بالله، شاء أم أبى. هذا في أعمق أعماقك، شئت أم أبيت، ويظهر هذا في لحظات الضعف. كما قال أناتول فرانس Anatole France – الأديب الفرنسي الكبير الساخر -، قال المُلحِد منا يرتد إلى الإيمان سريعاً، بفحص البول. إذا تبيَّن له أن نسبة السُكر ارتفعت في البول، مُباشَرةً يلوذ بالإيمان. معروف! سبحان الله، الإنسان غريب، كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ ۩، يطغى ويُلحِد، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ۩. أنا رأيي صحيح – يقول لك – وأنا رجل وأتحدى كذا وكذا. تتحدى؟ ينتهي كل هذا، حين يرتفع فقط السكر أو حين تُضرَب الكُلى وتقول آه، طبعاً! لا يُمكِن إلا هذا، تذهب إلى المشفى مرتين كل أسبوع، وفي كل مرة تمكث سبع ساعات، فضلاً عما ستناله من (بهدلة) وما إلى ذلك، يُصبِح الأمر هكذا، ويعود إلى الله مُباشَرةً.

كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ ۩ أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى ۩، ولذلك أحياناً يكون الإذلال من الله – تبارك وتعالى – والعقوبة والأخذ الشديد أو اللطيف، يكون من رحمة الله بالعبد؛ لكي يعود إلى ربه، لكي يعود إلى ربه ولكي يُراجِع نفسه، وهذه من رحمة الله، من رحمة الله – تبارك وتعالى -، لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ۩، فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩.

نكتفي بهذا القدر، الموضوع طويل! على أن نُكمِله – إن شاء الله – غدا، إذا مد الله في فُسحتنا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وشكر الله لكم على حُسن استماعكم.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: