أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شاء ربنا من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا له – سُبحانه وتعالى – عبد.

اللهم لك الحمد حمداً يليق بجلال وجهك وبعظيم سُلطانك، حمداً يوافي نعمك، ويُكافئ مزيدك، عدد خلقك، ورضا نفسك، وزِنة عرشك، ومداد كلماتك.

ونشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا نظير له، ولا مثال له، ونشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله، ورسوله، وصفوته من خلقه. صلى الله تعالى عليه، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته المُبارَكين المُنتجَبين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، ربنا تقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا يا مولانا، إنك أنت التوّاب الرحيم. ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركعونا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا.

سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم اجعلنا هُداةً مُهتدين، غير ضالين ولا مُضِلين، سلماً لأوليائك، وعدواً لأعدائك، نُحِب بحُبك مَن أحبك، ونُعادي بعداوتك مَن خالفك، اللهم آمين.

أما بعد، روى البيهقي عن أنس، وغير البيهقي، أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ذكَّرهم وتلا قوله – تبارك وتعالى – أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ ۩، فبكى الصحابة، وكان معهم رجل حبشي، أي من الأحباش، فهتف الحبشي بالبكاء، وما معنى هتف؟ أي أكثر هذا المسكين من البكاء، وجعل يشهق وما إلى ذلك، مُتأثِّر جداً. فهتف الحبشي بالبكاء، فنزل جبريل من فوق سبع سماوات، وقال يا محمد، مَن هذا الباكي عندك؟ أحزن الملائكة، بكى بكاء عجيباً جداً جداً، يهتف بالبكاء! فقال أخ في الإسلام – النبي قال هو أخونا في الإسلام – حبشي. وذكره بخير، أي النبي مدحه، ويبدو أنه كان – ما شاء الله – من الأولياء، أي رجل مُمتاز. قال يا محمد، فإن رب العزة يقول وعزتي وجلالي وارتفاع مكاني، لا أُعذِّب مَن بكى من خشيتي. ما دام هذا بكى من خشيتي، فلن يُعذَّب – بإذن الله تعالى -.

فالبكاء من خشية الله، وخوف الله وخشية الله في الدنيا، شيء عظيم جداً، يُيسِّره الله لأوليائه وأحبائه. ولذلك علينا أن نُعلِّم أنفسنا هذا الخُلق، وهذه العبادة؛ عبادة البكاء. في الكلمات التي ناجى بها رب العالمين موسى – عليه الصلاة وأفضل السلام – ما تعبَّد إلىّ عبادي – إذن البكاء عبادة – بشيء أحب إلىّ من البكاء من خشيتي، وإن البكّائين من خشيتي، أولئك لي يوم القيامة، وأنا لهم، لا يُشركون في. قال بيننا علاقة خاصة، أنا لهم، وهم لي، ولا أُشرِك معهم أحداً غيرهم. لماذا؟ الإنسان يا إخواني صعب جداً أن يكون بكّاءً من خشية الله، وقلبه قاس غليظ، صعب! لا يُمكِن، القلب لا بد وأن يكون رقيقاً. الإنسان – انتبهوا – صعب جداً أن يكون بكّاءً من خشية الله، وهو مُصِر على الذنوب، الذنوب تجعل القلب أيضاً قاسياً، مُستحيل! صعب جداً. وهناك أُناس يقول لك الواحد منهم نعم، أنا أتأثر، ولكنني لا أقدر على أن أبكي، وحتى وحدي لا أستطيع. أمام الناس من الجيد ألا تبكي، جميل هذا! في بعض الناس مَن لا يعرف أن يبكي أمام الناس، وهذه خصلة طيبة، ولكنه يبكي وحده – سُبحان الله -. إذا كان وحده، يبكي كثيراً. خصلة مُمتازة، واحمد الله عليها. إذا أعطاك الله هذا الشيء، فاحمد الله عليه مليون مرة. وهناك أُناس العكس، لا يحلو لهم البكاء إلا أمام الناس. الواحد منهم يبكي وما إلى ذلك، ويرفع يديه، ويخبط على نفسه، جيد! وإذا كان وحده؟ لا، هو حتى ينام عن الصلاة. يا سلام! فما القصة هنا؟ يُوجَد شيئ شيطاني هنا، يُوجَد حال شيطاني عنده هذا، نعم! طبعاً عنده حال شيطاني، أمام الناس – سُبحان الله – يملك عينيه، والشيطان حين ينخزه هكذا، يصير يبكي، من أجل أن يظهر. ويُحِب أن يراه الناس وهو يبكي، هو يُحِب هذا ويرتاح جداً لهذا، أي انظروا إلىّ، انظروا إلىّ، أنا البكّاء. يا رجل! يا رجل، حافظ على إيمانك. أهم شيء إيمانك، أهم شيء نظر الله في قلبك، دع عنك النفاق والكذب هذا، إلى متى؟ أنت لست طفلاً صغيراً.

أنا دائماً كنت أقول الآتي، وإلى اليوم لا زلت مُتأثِّراً بهذا المعنى. قبل سنوات كنت عند أخ فاضل، من أحبابي في الله، نُصلي المغرب في رمضان – سُبحان الله -، وابنه محمد جاء ليُصلي معنا، يُصلي ويقول الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، وينظر إلىّ، ثم يقول مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩، وينظر إلى أبيه. أي انظروا إلىّ، ها أنا أُصلي. فقلت نعم، معناها أن هذا هو السبب. الصغار النفسي إذا لازم الإنسان، جعله مُنافِقاً أو مُرائياً. الطفل هو الذي يُرائي، أي انظروا إلىّ، انظروا إلى! طفل هذا، ولكن أنت عمرك ثلاثون سنة، أو أربعون سنة يا رجل، أو خمسون سنة، وتُحِب أن يراك الناس؟ إلى اليوم لا زلت طفلاً؟ إلى اليوم لا يُوجَد عندك نُضج إيماني، حتى تجعل نفسك لله؟ أي الله وحده الذي يستحق دموعي، أليس كذلك؟

سهر العيون لغير وجهك باطل                             وبكاؤهن لغير فقدك ضائع.

لا يُمكِن غير هذا! فقط الله الذي يستأهل أن نسهر ونبكي من أجله – تبارك وتعالى -، وإلا يكون عندنا صغار، ونكون لا زلنا أطفالاً صغاراً، مثل هذا الطفل؛ يقول الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ۩، وينظر إلىّ، ثم يقول مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ۩، وينظر إلى أبيه. مرة ينظر إلىّ ومرة ينظر إلى أبيه. طفل! مقبولة منه، وحلوة كثيراً منه، ولكن من الكبير شنيعة بشيعة، شنيعة بشيعة من الكبير!

أبو إدريس الخولاني رأى رجلاً في المسجد يبكي، وكان شاباً، فربت على كتفيه، وقال يا بُني، هذا حسن، لو كان في بيتك. حلو جداً هذا، لكن لو كان هذا في بيتك. تعلم أن تمسك نفسك أمام الناس. إذا لم تمسك نفسك، فهذا من الله، والحمد لله على كل حال، أي لا تُوجَد مُشكِلة، ولكن انظر إلى نفسك، أهم شيئ البكاء فيما بينك وبين الله. ولذلك في الصحيحين، في حديث السبعة الذين يُظلهم الله في ظله، يوم لا ظل إلا ظله؛ ورجل ذكر الله… ماذا؟ خالياً. انتبهوا! قال له لو كان هذا في بيتك، لكان حسناً. في بيتك! ليس أمام الناس.

قال الإمام عليّ – عليه السلام، وكرَّم الله وجهه – فيما أخرجه على ما أذكر أبو يعلى الموصلي، قال المُؤمِن لا يملك عينيه. أحياناً كل الناس تبكي وهو لا يبكي، لأنه غير خاشع، لم يخشع، الله لم يُعطه خشوعاً، فهل ينبغي أن يبكي رُغماً عنه؟ هل ينبغي أن يُبكي نفسه هكذا بالكذب، أي من أجل أن ترضى الناس عنه؟ لا يبكي. قال والمُنافِق يملك عينيه، متى شاء بكى، ومتى شاء أمسك. أي كأنه يا أخي يتحكَّم في صنوبر؛ حين يفتحه، ينزل الماء، وحين يسكره، يتوقف الماء عن النزول. يبكي وقتما يشاء، وفي كل شيء يبكي، الله! ما هذا الإيمان العجيب؟ وتُلاحِظ أن أعماله فيها تخليط، إذن هذا ليس بكاءً من خشية الله.

إذن رجل ذكر الله… ماذا؟ خالياً. والإمام أبو حنيفة كيف كان؟ أكيد أنتم قرأتم سيرته أو سمعتم سيرته. من أطيب الناس معشراً – رحمة الله عليه، هذا الإمام الأعظم – مع الناس، من الصعب جداً أن تراه مُترزِن هكذا أو يبكي، لا يحصل! لا يبكي أمام الناس، مُستحيل! كان يمد رجليه، ويمزح في العلم، ويُناقِش أولاده وتَلاميذه، وما إلى ذلك، وحين تراه، تقول هذا الرجل كيف أخذ الدين؟ أي أخذ الدين هكذا بالتساهل.

قال جاره – وأعتقد اسمه جعفر بن سُليمان -، قال لو رأيت أبا حنيفة وهو يُصلي بالليل، لقلت يموت الساعة. قال أنا جاره وأتصنت عليه. يُحِبون أن يعرفوا أحوال الأئمة وما إلى ذلك. يبكي بكاءً في الليل. شيئ عجيب! ولا ينام، أبو حنيفة عبر أربعين سنة كان يقوم الليل كله، هل تعرفون لماذا؟ تورط. اثنان ورطاه! كان ماشياً في السوق وسمع الآتي، وهو كان يقوم نصف الليل، على السُنة. النبي لم يكن يقوم الليل كله، قليل جداً! هذا هو، ولذلك السُنة ألا تقوم الليل كله، والله قال إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ ۩، وهذا هو! ولكن ليس كل الليل، ليست سُنة أن يُقام الليل كله حقيقةً. فهو كان ماشياً في السوق، فماذا قال أحدهم للآخر؟ قال له انظر، انظر، أتعلم هذا؟ قال له مَن هذا؟ قال له هذا النُعمان، أبو حنيفة الذين يقوم الليل كله. يا رجل، هذا يُصلي الصُبح بوضوء العشاء. فقال لا حول ولا قوة إلا بالله…

(ملحوظة هامة) قال أحد الحضور ورطوه. فقال فضيلة الدكتور طبعاً! وورطوه. قال أفأكون من الذين يُحِبون: أَن يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا ۩؟ وسوف أنبسط! فلا إذن، ورطة! فظل يقوم الليل كله، يُصلي الصُبح بوضوء العشاء لمُدة أربعين سنة، إلى أن لقيَ ربه – قدَّس الله سره الكريم -.

أخيراً، ونختم – إن شاء الله – بهذا المعنى. مَن خاف الله – تبارك وتعالى – أمَّنه الله، وفهمنا هذا الجزاء، في الدنيا والآخرة – إن شاء الله -. في الآخرة فهمناها، وحتى في الدنيا أمَّنه الله؛ أمَّنه من كل جبار وطاغية، من كل فتاك وعاتية، ومن كل هم، ومن كل شيء – إن شاء الله تعالى -.

روى الآتي الإمام ابن عساكر، والإمام الديلمي، وثالث. المُهِم، هؤلاء أو هذان، وثالث، رووا جميعاً – رحمة الله تعالى عليهم – هذا الحديث، عن عبد الله بن عمر – رضيَ الله عنهما وأرضاهما -. ابن عمر كان في سفر، فرأى جماعة من الناس قد وقفوا في فم الطريق. هؤلاء المساكين سفرهم مقطوع، وكانوا واقفين! قال ما بال هؤلاء؟ قالوا أسد خرج عليهم، فقطع عليهم الطريق. وقف لهم هناك، وجعل يبصبص بذنبه. أسد، سبع! وهم خائفون ويرتعدون، فماذا يفعلون إذن؟ هذا أسد، ليست لعبة، يقفز على الواحد وهو فوق الحصان، فيأتي به في لحظة، هذا هو! فماذا نفعل؟

فنزل عبد الله بن عمر عن دابته. وانظر بالله عليك إلى هذا المشهد الغريب، شيئ مُخيف! نزل وسعى إلى الأسد، وأمسك بأذنه وعركها. أي فركها له هكذا، وهذا أمامهم! ثم ضربه على قفاه، وقال من هنا. قال له هذا الطريق، من هنا اذهب. فبصبص الأسد، وجعل يمشي. فعجب الناس، ما هذه الكرامة؟ خارقة! قال لهم هذه ليست خارقة ولا أي شيء، أي هذه ليست شيئاً كبيراً. إن الله – تبارك وتعالى – لا يُسلِّط على ابن آدم، إلا ما خافه ابن آدم. النبي قال هذا، وهو قال لهم الحديث، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – إن الله – تبارك وتعالى – لا يُسلِّط على ابن آدم، إلا ما خافه ابن آدم. أنت تخاف مِن مَن؟ أتخاف من الظلمة؟ سوف يُسلِّطهم عليهم. تخاف مِن مَن؟ أتخاف من الشيطان؟ سوف يُسلِّطه عليك. أتخاف من أولياء الشيطان؟ سوف يُسلِّطهم عليك. أتخاف من الأسد؟ أتخاف من الحية؟ لكن ها نحن نخاف؛ لأن هذه فطرة. لا! فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩، قال إِنَّمَا ذَٰلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ۩. إذا كنت مُؤمِناً، فلابد أن يكون الخوف فقط من الله، لا تخف من أي شيئ في الكون، هذا هو! وابن عمر كان من الذين يخافون الله.

فالله لا يُسلِّط عليك، إلا الذي تخافه. ولو لم تخف إلا الله – يقول الرسول -، لما سلَّط عليك غيره. هذا هو، فقط! يبقى الخوف من الله فقط. مَن خاف شيئاً، فر منه. أليس كذلك؟ ومَن خاف من الله، فر إليه. هو هذا! إلى أين يُمكِنك أن تذهب؟ أنت في مُلكه! وهذا شيء عجيب، أي كيف يُمكِنك حتى أن تُؤمِّن نفسك، حين تخاف من الله؟ تهرب إلى الله، تقول أنا خائف منك يا ربي، أنا أستعيذ بك منك. والنبي كان يقول أعوذ برضاك من سخطك، وبمُعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك. الله اكبر! انظر، انظر إلى هذا المعنى العجيب. فنحن نحن القول شيئ نفسه، نحن نعوذ بأمان الله من خوف الله. فالله هو المخوف، وهو المُؤمِن، لا إله إلا هو! ولكن المخوف ليس من أسمائه، وهنا أنا أذكر هذا على سبيل تقرير المعنى، وليس على سبيل النعت بالصفة. الله هو المخوف، وهو المُؤمِن، كيف؟ هذا ليس تناقضاً، كما أنه رافع خافض، قابض باسط، مُعِز مُذِل، أليس كذلك؟ هذا هو، والله أيضاً مخوف ومُؤمِن، أي مُؤمِّن بالتشديد، يُعطيك الأمان، فهذا هو.

جيد، هناك قصة أُخرى. تعرفون قصة الإمام العز بن عبد السلام، الذي يُسمونه سُلطان العلماء. هذا حين جاء إلى مصر، في سنة ستمائة وتسع وثلاثين تقريباً – وهو تُوفي في سنة ستمائة وستين، رحمة الله عليه، وجاء تقريباً على ما أذكر في سنة ستمائة وتسع وثلاثين للهجرة، رحمة الله عليه -، كان سُلطان مصر آنذاك نجم الدين أيوب، المعروف بأيوب، وهو من ذُرية صلاح الدين، وكان سلطاناً مهيباً جليلاً جبّاراً، لا يُكلَّم إلا على سبيل الجواب، إذا تكلَّم هو وسألك، فأنت تُجيب، ولا يُبتدأ بالكلام معه، لا يقدر أي واحد على أن يتكلَّم معه هكذا، كان هذا ممنوعاً، مُخيف وجبّار جداً. وهو كان من أكثر سلاطين الأيوبيين حرساً وجُنداً. عنده حرس بالآلاف وجُند وأشياء، أي هذا الرجل كان له هيبة.

العز بن عبد السلام شيخ فقير، شيخ من مشايخ الإسلام، فقير و(غلبان). كل المال الذي تأثله لما خرج من القاهرة مُغاضباً للمماليك، حمله على حمارة واحدة، أي على أتان، على أُنثى حمار، حتى ليس عنده حمار ذكر، على أتان! هذا كل الذي عنده وأتى به من الشام، أي صرة من هنا، وصرنا من هنا، والسلام عليكم. فهذه هي دنيا العز بن عبد السلام، انظر كيف كان أئمة المُسلِمين! هذا العز بن عبد السلام، هذا هو! الرجل نبوي، عنده مقام مُحمَّدي، كل دنياه على أتان.

المُهِم، في يوم العيد – لا أدري هذا عيد الفطر أو عيد الأضحى، المُهِم أن هذا يوم العيد – كان نجم الدين أيوب هذا في قلعته، وبين الجُند والحرس والخدم والحشم، في هيبة وجلالة عجيبة، فصعد إليه شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، وصعد إلى مكان مُرتفع، بحيث صار الملك وجُنده أدنى منه، وصعد على ماذا؟ على سور القلعة. قال ونظرت إليه، وقلت له يا أيوب. يا أيوب؟ تخرب الديار هذه الكلمة، تقول يا أيوب، للملك هذا، الذي قلنا عنه ما قلناه؟ نعم، هذا هو، يا أيوب!

قال يا أيوب. قال له نعم، يا شيخ. استجاب واستكان له، ورُغماً عنه. وهنا يُوجَد شغل رباني طبعاً. قال يا أيوب. قال له نعم، يا شيخ. قال له المُنكَر الذي تعرفه وبلغ خبره لك بالشارع الفلاني، في المحلة الفلانية. كانت هناك حانة تُباع فيها الخمور، وتُفعَل فيها المناكر. والله أعلم ما المناكر هذه، لا تزال هناك مناكر أُخرى! فقال له يا مولانا، ولكن هذا من أيام أبائي. أنا لم أعمل لها، ولا رسمت بالترخيص فيها. قال له أأنت إذن من الذين يقولون إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ ۩؟ أنت من هؤلاء الناس الخائبين؟ فقال نرسم بغلقها. نرسم، أي نطلع مرسوماً أميرياً. وبارك الله فيك يا شيخ، ونزل الشيخ.

كل القاهرة عرفت بالقصة، أول مرة في تاريخ الأيوبيين يحصل هذا، طلع الشيخ وقال له يا أيوب، وما إلى ذلك، ما هذا؟ عجيب! والناس تسمع وتقول. قال تَلميذه وأحد أصحابه، وهو الإمام الباجي – ليس أبا الوليد الباجي، لا! هذا آخر، أبو الوليد الباجي قبله بكثير، قبله بزُهاء مئتي سنة، هذا واحد اسمه الباجي، وهو مصري، من أصحاب العز -، قال فسمعت بالخبر، فيمَن سمع – وكل الدنيا سمعت -، فغدوت إليه بالبيت، وقلت يا شيخنا، يا إمامنا، كيف كانت الحالة؟ اوصف لي ما الذي حصل، أي شيئ عجيب هذا! قال والله يا أخي، حين رأيته، هبته. رأيته ورأيت الجُند وما إلى ذلك، وهناك سيوف وأشياء، أي شيء مهيب. طبعاً هناك هيبة، فهذا ملك! قال والله يا أخي حين رأيته، هبته، ثم إنني تذكرت هيبة الله، فوالله لقد صار السُلطان في عيني كالقط. وهذه العبارة التي ذكرتها، هي عبارة العز بحذافيرها، كما نقلها المُؤرِّخون، بالضبط هكذا قال! قال حين تذكرت هيبة الله، فوالله لقد صار السُلطان في عيني كالقط. ولا أي شيء، أمام هيبة الله.

وصدق رسول الله، فيما يرويه أيضاً أبو الشيخ، عن واثلة بن الأسقع – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -، مَن خاف الله، أخاف الله منه كل شيء، ومَن لم يخف الله، خوَّفه الله من كل شيء. يصير حتى من ظله يخاف، يحسب غير شيءٍ شيئاً، يتخيَّل، فيخال. نُريد الإيمان، نُريد إيمان الصحابة، نُريد إيمان الأوائل، نُريد الإيمان الغض الطري الصحيح، والصلة بالله – تبارك وتعالى -.

أخيراً – اليوم أيضاً حتى تذكرت قصة، وقد حكيتها لإخواني في درس سابق – نذكر الآتي عن أحد مشايخ الهند، كان اسمه قُطب الدين مُنوَّر – قدَّس الله سره -، وهو من الطريقة الجشتية، كان صوفياً وكان من مشايخ الإسلام، هو عالم كبير ورجل من أولياء الله، مُنقطِع، لا يُحِب لُقيا الأمراء ولا الملوك. فلما جاء محمد تغلق – أحد سلاطين المغول، وأيضاً كان سلطاناً عظيماً وكبيراً، أي ورجل طيب، ويُحِب العلماء -، أتاه المشايخ والعلماء كلهم، عن آخرهم، والصوفية، إلا الشيخ قُطب الدين مُنوَّر. لم يأت، ولا يُحِب أن يأتي، فبعث إليه، ليأتيه. قال احضروه بالقوة، لا يٌمكِن غير هذا! لابد وأن يأتي.

فأتى الشيخ، ومعه ابنه الذي يُدعى نور الدين، وكان غلاماً حديث السن، أي عمره ست عشرة سنة أو سبع عشرة سنة، ولم يدخل من قبل بلاط الملوك. لا يعرف شيئاً عن الملوك. هو يجلس عند أبيه في زاوية صفوية، وهو فقير، عنده هذا الجاعد وكوب من الماء، ولا يُوجَد ما هو أكثر من هذا، ودراويش! فلما دخل البلاط، مُباشَرةً دخله الروع والهيبة. سِماطان – أي فريقان -؛ سِماط هنا وسِماط هنا، من الجنود الجسام العظام، تصوَّر! وطبعاً هناك أنواع من الزخارف، واللآلئ، والذهب، والفضة، والعروش، وأشياء كثيرة. شيء مُخيف، وهذا قصر! بهو واسع جداً جداً، قصر! فدخله الروع والخوف والهيبة.

أحس أبوه، وأبوه من أولياء الله، سُبحان الله! إمام كبير، واسمه قُطب الدين، أي من أقطاب هذا الدين. أحس بما داخل ولده، فصاح بصوت مُرتفِع يا بُني، إن العزة لله. أمام الناس، وأمام الملك! مَن الملك هذا؟ العزة لله. يقول ابنه فوالله، ما هو إلا أن قال الشيخ – عن أبيه طبعاً – هذه الكلمة، حتى ذابت الهيبة، وراحت الخشية، ورأيتهم جميعاً (السُلطان بالجنود) كالقطط، أو كالنعاج. كالغنم أو الأغنام، هذا هو! ذهب كل هذا، حال! أحدث له حالاً.

وتعرفون هذا الشيء الذي أُريد أن أُحدِّثكم عنه ونختم به. الأولياء الكبار يُمكِن للواحد منهم بكلمة أن يُحدِث فيك حالاً رهيبة، هذا هو! أي يُمكِن أن يكون هناك مئة واحد من أمثالي، ويقومون بالتحدث لمئة سنة، ولا ينفعونك بشيء، لكن الولي الصالح يُحوِّل حالتك بكلمة واحدة يقولها لك. وأحياناً بنظرة، تنقلب – بإذن الله – أحوالك، وأحياناً بلمسة! وهذا من ميراث مَن؟ مولانا، وحبيبنا، وسيدنا رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -. أحياناً كان يُحدِث هذا ببصقة هكذا – يبصق في فم واحد -، أو بلمسة يضعها على صدرك هكذا، أو بدعوة يرفع يديه بها، أو بأي شيء! تختلف الدنيا كلها وينتهي الأمر، يا الله! الحال، قوة الحال.

وحدَّثتكم في رمضان هذا – أعتقد أكثر من مرة – عن بشر بن الحارث الحافي، هذا عن بشر الحافي! بشر بن الحارث الحافي ذات مرة كان يمشي، وكان هناك رجل – والعياذ بالله – يركبه شيطان أو ربما عشرة شياطين، ومعه السكين، وقد أخذ امرأة، ويُريد أن يغتصبها على رؤوس الأشهاد. مجنون! ربما أتى من قرية وكان محروماً.

أخذ المرأة هذه، والمرأة كانت جميلة ومسجونة! أخذها وكلما دنا منه أحد، عقره. مزع هذا، ومزع هذا، ومزع هذا، أف! مزع الناس. ولم يقدر أحد على أن يقترب منه. وبعد قليل مر قريباً من بشر الحافي، ونكزه بكتفه هكذا، فوقع الرجل، وأخذته الرِعدة. وقع على رجليه، وراح ما به، وجعل يرعد، يرعد المسكين! فجاءه الناس وقد استغربوا، ما القصة هذه؟ فهو رجل فقوي! قالوا ما هذا؟ ما الذي حدث معك؟ قال لهم والله لا أدري. وهو لا يعرف أن هذا بشر الحافي، هو لا يعرف عنه أي شيء، ولا أنه من الأولياء الكبار. قال والله لا أدري، ولكن هذا الشيخ مر بي، ونكزني وقال اذكر الله. فاختلف بالكامل! ما هذا؟ اذكر الله! أنت ناسٍ، أنت غافل الآن، أنت تعمل أشياء مُحرَّمة وتُؤذي غيرك، وتُريد أن تزني وأن تُؤذي الناس؟ اذكر الله، أي هناك الله. فالكلمة هذه أحالته شيئاً آخر. أرأيتم كيف؟ لأنها كلمة ولي.

ولذلك غير بعيد قول مَن قال إن الاسم الأعظم هو الله. وهذا قول أبي يزيد البُسطامي، وقول الإمام جعفر الصادق – عليه السلام -، وقول كثير من أئمتنا، وهو قول الجمهور – كما قلت لكم -. الاسم الأعظم هو الله. يُمكِن أن تقول الله، أو يا الله. هذا الاسم الأعظم! ولكن لماذا يكون في حقك اسماً أعظم، وفي حقي ليس من الأسماء العُظمى؟ حسبما تقوله؛ إذا قلته من قلب يعلم قدره وشرفه وجلاله، قلب ليس فيه إلا الله، يكون الاسم الأعظم، والله يستجيب مُباشَرةً.

حدَّثني أخ سوري، حلبي، عن شيخ هناك – رحمة الله عليه -، أكيد هو حبيبهم، والكل يعرفه – رحمة الله تعالى عليه -. هذا الشيخ كان ذات مرة في سيارة، ذاهب إلى مشواره، في السيارة! يقول الأخ – ويبدو أنه كان حاضراً القصة، كما أذكر – وهناك رجل – والعياذ بالله – تعيس شقي، كان واقفاً في الشارع، ويسب الرب والدين. فمرت سيارة الشيخ – سُبحان الله! سيارة ماشية -، وأمر الشيخ بإقافها، وكأنه أحس! وقفت السيارة، ونظر في الرجل هكذا نظرة واحدة – والرجل لا يراه، وهو نظر فيه، وذهبت السيارة -، فظل الرجل مُتسمراً، وأُخرِس. لا يتكلَّم! أرأيتم كيف تكون قوة الحال؟ قال له في سره اخرس. هو قال له هذا، ومن غير أن يُكلِّمه، بعينه فقط، قال له اخرس، فانخرس، شيئ عجيب!

وطبعاً هناك قصص أصعب من هذه وأغرب من هذه بكثير طبعاً، تخيَّل! الأولياء والذين يكونون مع الله – عز وجل – لهم مقام عظيم. ولذلك ماذا قال الرجل الصالح في الكلمة الثالثة التي نسيتها في درس سابق – تحديداً في الدرس السابع -؟

سُفيان بن عُيينة قال رأيت رجلاً في الطواف، ووقع في قلبي أنه من أولياء الله، وقال له هل تقول قولاً ينفعنا الله به؟ فلم يقل شيئاً، وبعد ذلك ذهب وصلى ركعتين خلف المقام، أي حين أنهى الطواف، وجلس في الحجر. قال فصرت إليه وسألته؛ يا أخي هل تقول قولاً ينفعنا الله به؟ قال أتدرون ماذا قال ربكم؟ الكلمة الثالثة؛ قال قال ربكم إني أنا الله الملك، أقول للشيء كُن فيكون، مَن أطاعني، أعطيته أن يقول للشيء كُن فيكون. بإذن الله تعالى، هذا هو! وهذا الشيخ قال اخرس، فانخرس، في لحظة انتهى الأمر، انتهى! ولا تُوجَد مُشكِلة، ومن غير أن يتكلَّم، من غير كلام قال له اخرس، فانخرس، قوة حال رهيبة!

ولذلك السادة العارفون بالله، إذا أعطى بعضهم لبعض العهد، أو إذا أعطى أحدهم لبعض مُريديه العهد، يقول له في العهد وعليك ألا تستخدم همتك في أذية عباد الله، فإن همة الرجال تقلع الجبال. انظر، الولي فقط بهمته، يفعل هذا، أي إذا توجَّه إليها. وطبعاً هذا الولي عنده خُلق محمدي، لا يُمكِن أن يثأر لنفسه. أي حين تسبه وتبصق عليه، يقول لا تُوجَد مُشكِلة. ولكن حين تسب الدين أمامه أو تسب الرسول أو تسب الأولياء من الناس أو تعمل شيئاً خطيراً جداً في الدين، يُمكِن لو توجَّه بهمته إليك أن يُدمِّرك – بإذن الله تعالى -، يتسبب في عاهة مُستديمة لك، يُلحِق بك الضرر. وطبعاً ليس هو الذي يُلحِق، هذا بقدرة الله، ولكن هو يطلب هذا من الله، يتوجَّه بهمته إلى الله، أي يا رب خلصنا من هذا، ومُباشَرةً يقع ما شاء، انتبه! ولذلك المفروض في الولي أن يكون صبوراً جداً، ولا يُسارِع إلى الانتقام بهمته من العباد؛ لأن همة الرجال تقلع الجبال. وهذا مُجرَّب والله.

أنا أعرف أحد الأولياء وقد أوذيَ كثيراً بالباطل، وأعرف القصة كلها من أولها! أوذي بالباطل، ثم صبر، صبر، صبر، صبر، حتى وصل إلى درجة، مكَّنه الله معها من الانتقام، قال له انتهى، أُذِن لك، انتقم. فأتى بهم، وأنا كنت حاضراً. في أحد هذه المجالس كنت حاضراً، وأتى بهم. ووالله يا إخواني – أُقسِم بالله – بعضهم كانوا يبكون ويرعدون كالأطفال. قال لهم أنا بإذن الله وحول الله الآن، أقدرني الله على أن أفعل بكم ما أشاء، اللحظة! ولو شئت – بإذن الله – أن أُعمي هذا، لأعميته. أن شيئت أن أفعل بهذا كذا، لفعلت. وهم يرعدون، وهم يعرفونه وجربوه.

في مرة من المرات أُذن له أن ينتقم، فماذا قال؟ قال اللهم اشغلهم بأنفسهم. هل تعرف ما الذي حصل لهم؟ كل يوم يذهبون إلى الأطباء؛ هذا مرض، هذا مرض، هذا مرض، هذا مرض! وكلما انتهوا من مُشكِلة، جاءت مُشكِلة. آخر شيء حصل لهم، بعد أن انتهوا من أمراض كثيرة ودمار وأشياء صعبة، سلَّط الله عليهم ثوراً، ضرب الأب وضرب الأم وضرب الولد، فدخلوا ثلاثتهم المُستشفى. تكسير! وسنوات مرت بهذه الطريقة، دعوة واحدة؛ اللهم اشغلهم بأنفسهم. انتهوا، وذهبوا، تخيَّل!

فنسأل الله – تبارك وتعالى – ونضرع إليه أن يجعلنا من أوليائه الصالحين، ومن عباده المحبوبين المسعودين الآمنين في الدنيا والآخرة، بفضلك ورحمتك، يا أرحم الراحمين، ويا أكرم الأكرمين.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: