أسماء الله الحسنى l الحلقة 4

video

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، حمداً يُوافي نعمه ويُكافئ مزيده. اللهم إنا لا نُحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.

وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، ولا مثيل له، ولا نظير له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبد الله، ورسوله، وصفوته من خلقه، وأمينه على وحيه. اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله الطيبين، وصحابته المُبارَكين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، ربنا تقبَّل منا، إنك أنت السميع العليم، وتُب علينا يا مولانا، إنك أنت التوّاب الرحيم.

اللهم ربنا تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركعونا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا. اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك، يا رب العالمين.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً، اللهم آمين.

أما بعد، أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفُضليات:

السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته.

نُكمِل – بحول الله تبارك وتعالى – الحديث عن اسم الله. قلنا الاشتقاق الثاني من أَلَه أو أَلِه بالمكان، إذا أقام به. والمغزى والمعنى هنا أن الله – تبارك وتعالى – له صفة الدوام، فوجوده وجود دائم، من الأبد إلى الأزل، فهو الأول بلا أولية، الآخر بلا آخرية.

أيها الإخوة:

إذا سُئلتم؛ ما هو الوجود الحق؟ فقولوا وجود الله. وجود كل مَن عدا وما عدا الله، وجود مُستعار، أو مُعار، وجود مُعطى، وجود ظلي، وجود ظلي! وجود غير حقيقي. الوجود الحق الحقيقي، ما هو – أيها الإخوة والأخوات -؟ الوجود الذي يكون من ذاته، وبذاته، ولذاته. وهو وجود مَن؟ الله فقط، فقط! وهذا معنى القيومية، كما شرحتها مرة في خُطبة جُمعية، أليس كذلك؟ اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۩، ما معنى الْقَيُّومُ ۩؟ هذا صيغة مُبالَغة على وزن فيعول، على وزن فيعول! من القيام. والقيوم لا بد أن يتوفَّر فيه رُكنان ومعنيان؛ أن يقوم بذاته، وأن تقوم الأشياء به. هو يقوم بذاته، لكن الأشياء كلها لا تقوم إلا بالله. هذا هو القيوم! وكم قيوم في الكون أو في الوجود؟ فقط الله. لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ۩، أرأيت؟ في البداية قال لك اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ۩. والقيومية بلا حياة، لا تنفع، أليس كذلك؟ لا بد من الأحدية أو الواحدية والحياة والقيومية، تتآزر وتتعاضد وتتكامل، لا تتشاكس ولا تتناقض. هذا هو القيوم! وأما نحن، فليس لنا من هذه القيومية حتى ظلها، ولا شيء! نحن موجودن بالله، نحن لسنا موجودين مع الله، انتبهوا! نحن لسنا موجودين مع الله، وإنما موجودن بالله.

وقيل الله – تبارك وتعالى – مُشتَق من أَلَه أو أَلِه بمعنى عبد. أَلَه وأَلِه إلاهةً وألوهةً وألوهيةً. مصادر ثلاثة؛ إلاهةً، وألوهةً – بغير ياء – وألوهيةً. إذن أصل مصدر الألوهية ما هو؟ الأصل هو ماذا؟ ما أصل هذا المصدر؟ أَلَه، بمعنى عبد. هذا مصدر ماذا؟ هذه الكلمة. وكان الحبر ابن عباس – قدَّس الله سره – يقرأ وَيَذَرَكَ ۩ وإلاهتك. والإلاهة هي العبادة. وَيَذَرَكَ ۩ وإلاهتك، أي وعبادتك يا فرعون.

وقيل هذا الاسم الجليل الأقدس مُشتَق من وَلِه أو وَلَه. كلاهما فصيحان صحيحان. يُقال وَلَه يَلِه ويَوله، ووَلِه يَوله ويَلِه، أيضاً! إذن وَلَه أو وَلِه. ما معنى وَلِه أو وَلَه؟ لها معان كثيرة. من ضمن معانيها الآتي، وأنتم تعرفون أننا نقول الولهان. أليس كذلك؟ العاشق الولهان. وهي امرأة ولهى، بعد أن فقدت المسكينة ابنها، أصبحت ولهى، أو ولهانة. أليس كذلك؟ ما معنى الوله إذن؟ الوله هو شدة الحُزن، شدة الحُزن وخاصة لفقد حبيب، حتى يتأدى بصاحبه إلى فقد العقل. حُزن شديد، يتأدى إلى فقد العقل، فنقول المسكين واَلِه، أو مُولَّه. أو هي ولهانة، أو ولهى. هذا هو الوله!

فما المُناسَبة؟ فعلاً المُناسَبة أن الله – تبارك وتعالى – العقول ولهى فيه، العقول ولهى فيه! ما معنى ولهى فيه؟ مُتحيِّرة. وطبعاً المقصود العقول والأرواح والنفوس، وكل الكيانات! مُتحيِّرة، مُتحيِّرة فيه! أشبه بالجنون، ولذلك كل واحد فينا يُدرِك هذا، حتى – سُبحان الله، مُذ كنا صغاراً، وإلى الآن، وإلى أن نموت – حين نتفكَّر بعُمق، ونُحاوِل أن نكتنه الذات الإلهية – أي نعرف الكُنه، الحقيقة – نشعر بأننا شارفنا على الجنون، أصبحنا على أعتاب الجنون، فنُمسِك مُباشَرةً. ومن هنا نُهينا أن نُفكِّر أو نتفكَّر في ماذا؟ في ذات الله. وأُمِرنا أن نتفكَّر في مخلوقات الله. لا تتفكَّروا في ذات الله، تهلكوا. هلاك، جنون! لأنه أكبر – تبارك وتعالى – من كل قياس، وأكبر من أن يُدرَك بالعقول وبالأفكار، أكبر من أن تناله الهواجس أو هجس النفس والخواطر، أكبر منهم! وكل ما خطر ببالك – كما قال أبو بكر الصدّيق -، فالله بخلاف ذلك. كل ما خطر ببالك، فالله بخلاف ذلك.

العارفون بالله لهم كلمة، معناها قد يكون صحيحاً، وقد يكون باطلاً، بحسب ماذا؟ تفسيرنا لها. وطبعاً الباطل هو أن تُجعَل حديثاً نبوياً. للأسف بعضهم يقول هذا حديث. وهذا ليس بحديث، هذا كذب على رسول الله. ولكنها من كلام بعض العارفين، وهي اللهم زِدني فيك تحيراً. اللهم زِدني فيك تحيراً، أي حيرةً. لماذا؟ لأن هذه الحيرة، تدل على ماذا؟ تدل على أنك فعلاً تعتقد بهذا الإله، الذي هو أكبر من كل فكر، ومن كل عقل، ومن كل هجس نفس، ومن كل ظن وتظن، ومن كل خاطر. إذن أنت فعلاً الآن أصبحت من العارفين، أو قريباً منهم.

ولابن أبي الحديد – شارح نهج البلاغة، المُعتزِلي، العلّامة المُعتزِلي الكبير ابن أبي الحديد – أبيات لطيفة جداً ومشهورة، يقول مُخاطِباً رب العزة والجلال – لا إله إلا هو -:

فيك يا أعجوبة الكون                                غدا الفكر كليلاً.
أنت حيرت ذوي اللُب                                 وبلبلت العقولا.
كلما أقدم فكري                                   فيك شبرا، فر ميلا.
ناكصاً يخبط في عشواء                         ليس يهدي السبيلا.

قال ناكصاً يخبط في عشواء. وهي طبعاً مكسورة، في الأصل هي عشواءَ، ولكن بها ينكسر البيت، فلا بد أن نقول عشواءٍ، أي نصرفها، مع أنها لا تنصرف.

ناكصاً يخبط في عشواء                          ليس يهدي السبيلا.

الفكر لا يهدي الإنسان ماذا؟ السبيلا. هنا لا يستطيع، فعلاً فالله بخلاف ذلك، لا إله إلا هو!

جيد، فإذن هذا على القول بأنه من وَلَه أو وَلِه، بمعنى تحير، حيرة تقرب من فقدان العقل.

وقال بعضهم هو من لاه، إذا احتجب. وهذا مُناسِب أيضاً، لماذا؟ لأن الله – تبارك وتعالى – لَّا تُدْرِكُهُ ٱلْأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلْأَبْصَٰرَ ۩. فهل الله – تبارك وتعالى – محجوب، لعلة فيه، أو لعلة فينا نحن؟ لعلة فينا نحن. قال سيدي ابن عطاء الله السكندري – قدَّس الله سره – في الحكم العطائية ما حجبه عنك موجود معه، ولكن حجبه توهمك وجود موجود معه. لكن في الحقيقة لا موجود مع الله، وستسألون ما الفرق بين الموجود بالله، والموجود مع الله؟ وهذا مبحث طريف جداً جداً، سنخوض فيه بُعيد قليل. أنت تتوهم أن هناك وجوداً أو موجودات أو مُكوَّنات مع الله، وهذا خطأ. هذا التوهم… ماذا؟ يحجبك عن الله – تبارك وتعالى -. لو زال هذا الوهم، سترى الله – تبارك وتعالى -، لكن لا بالعيان، وإنما باليقين. بالبصيرة، لا بالبصر. بالبصيرة، لا بالبصر!

إذا سكن الغدير على صفاء                       وجُنب أن يُحرِّكه النسيم.

بدت فيه السماء بلا امتراء                   كذاك الشمس تبدو والنجوم.

كذاك قلوب أرباب التجلي                      يُرى في صفوها الله العظيم.

بالبصيرة، لا بالبصر. بالبصيرة، لا بالبصر! هكذا.

جيد، ماذا يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – في الحديث الصحيح، الذي أخرجه الإمام مُسلِم في صحيحه، من رواية الصاحب الجليل أبي موسى الأشعري – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين -؟ ماذا يقول مولانا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -؟

يقول أبو موسى قام فينا رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -…

(ملحوظة هامة) للأسف وقعت مشكلة في الصوت، عند هذا التوقيت 10:08، ثم عاد الأمر – بحمد الله – إلى ما كان عليه، مع قول فضيلته:

مرة ومرتين وثلاثاً، ولا يسترسل، يقول خمس كلمات.

قال إن الله – تبارك وتعالى – لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام. لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ ۩، إن الله – تبارك وتعالى – لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار. والكلمة الأخيرة: حجابه النور. لا إله إلا هو! حجابه النور، وفي رواية النار، أي حجابه النار، روايتان صحيحتان! حجابه النور – أو النار -، لو كشفه، لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. لا إله إلا الله!

إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام. هذه واضحة – إن شاء الله -. يخفض القسط ويرفعه. والقسط هو ماذا؟ هو العدل. والمُراد به هنا ليس العدل فقط، الميزان! أي يخفض الميزان ويرفعه. ما هو هذا الميزان؟ ما هو هذا القسط؟ ولماذا سُميَ الميزان قسطاً؟ لأنه أداة العدالة. أليس كذلك؟ نستطيع أن نعرف اعتدال الأمرين، باعتدال الكفتين. نقول اعتدلت كفتا الميزان. هذا هو الاستواء، الذي هو القسط. هذا هو الاستواء – يُسمى استواءً -، الذي هو القسط، وبه تتحقق العدالة، فسُميَ الميزان قسطاً بجامع هذا المعنى.

جيد، قيل هذا القسط هو الرزق. إذا شاء الله – تبارك وتعالى – أن يخفضه، خفضه. وخفضه للقسط هو تقتيره وتضييقه، وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۩. التقدير والتقتير – تضييق الرزق – هو خفض الرزق، الذي هو خفض القسط، فُسِر به! وإذا شاء أن يرفعه، رفعه. ورفعه له – سُبحانه وتعالى – بتوسعته، يُوسِّع الرزق، ويبسط لصاحبه فيه، يمده، لا إله إلا هو!

وقيل القسط هنا – وهذا قول ابن قُتيبة، كما نقله عنه العلّامة الهروي، رحمة الله عليهم أجمعين – غير ذلك. قيل بل رفعه القسط، برفع أعمال العباد المرفوعة إليه. وخفضه القسط، بإنزال الأرزاق الموهوبة للعباد. هذا الخفض، وهذا الرفع.

والله – تبارك وتعالى – أعلم بحقيقة ذلك، وقد يكون المُراد غير ذلك، اجتهادات!

جيد، يُرفَع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار. كيف؟ واضحة. عمل النهار قبل عمل الليل الذي يليه، أليس كذلك؟ لأن الملائكة تصعد في وقتين، أليس كذلك؟ في آخر الليل، وفي آخر النهار. ولذلك كان وقتا صلاتي الصُبح والعصر أهم الأوقات في اليوم والليلة، أليس كذلك؟ وفي البُخاري قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – مَن صلى البردين، دخل الجنة. وما هما البردان؟ الصُبح والعصر. سُبحان الله، الصُبح والعصر!

والعصر طبعاً معروف قيمتها، كانت عائشة تقرأ – وهذا من القراءة المُدرَجة – حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ (صلاة العصر) وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ ۩. هذه قراءة مُدرَجة، هذه قراءة ماذا؟ مُدرَجة. أمس شرحناها، أليس كذلك؟ هذه القراءة المُدرَجة، مُهِمة جداً، وهي مذكورة في القرآن.

جيد، وأما صلاة الصُبح، ففيها نزل قوله – تبارك وتعالى – وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ۩. ويُراد بقرآن الفجر، القرآن الذي يُقرأ في صلاة الفجر. تشهد الملائكة، قيل ألوف، ألوف من الملائكة تشهد ماذا؟ قرآن الفجر الذي تقرأه في صلاتك.

نعم، إذن مَن صلى…

(ملحوظة هامة) قاطع أحد الحضور فضيلة الدكتور، ليسأله هل يُتعبَّد بالقراءة المُدرَجة؟ فقال فضيلته مُجيباً؛ لا يُتعبَّد طبعاً. القراءة المُدرَجة ليست قراءة على الحقيقة، تُسمى قراءة مجازاً، هي مُدرَجة على التفسير، لا يُتعبَّد بها، وممنوع أن نتلوها في الصلاة حتى، مُحرَّم!

جيد، مَن صلى البردين، دخل الجنة. وعمل الليل قبل عمل النهار الشيء نفسه، قبل عمل النهار الذي يليه. حجابه النور. وما هو الحجاب؟ الحجاب الساتر. وأصل الحجاب في المُحسات، ما الذي يُحجَب؟ الشيء المُحس، المحسوس! والمحسوس محدود محصور، والله – تبارك وتعالى – مُتعالٍ عن المحدودية، وعن الحصرية، وعن الحسية أو المحسوسية. ليس محسوساً، ولا محدوداً، ولا محصوراً. بل: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ۩. إذن كيف قال هنا حجابه؟ كما قلنا هذا الحجاب يُراد به ما يحجب العباد عن ربهم، ما يحجب العباد عن ربهم! وإلا فإن الله – تبارك وتعالى – لا يُمكِن أن يحجبه شيء، هذا من باب المجاز، من باب المجاز والتشبيه، من باب المجاز والتشبيه!

قال سيدي ابن عطاء الله – قدَّس الله سره – لو حجبه شيء، لكان له حاصراً، وما له حاصر، فهو له قاهر، وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۩. مُستحيل! أي الله لو يحجبه شي، يكون حاصراً له. لماذا؟ أنا أقول لكم.

الآن هذا الأُصبع، لكي أحجبه بهذه الورقة، لا بد أن تكون الورقة أعرض منه، وأطول منه. لو كانت غير ذلك، لن تحجبه، أليس كذلك؟ لو هناك جُزء صغير من الورقة أو كانت الورقة أصغر من أُصبعي، لن يُمكِنها أن تحجب الأُصبع، أليس كذلك؟ إذن لا بد أن يكون الحاجب حاصراً للمحجوب، يُحيط به من جميع أجزائه. الله هل هو محصور؟ إذن لو حجبه شيء، لكان له ماذا؟ حاصراً. وما له حاصر، فهو – أي الحاصر – له قاهر، ولكن الله: هُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ۩، إذن هو غير محجوب – لا إله إلا هو -، عجيب! كلام عجيب. وهذا من أروع حكم ابن عطاء الله، حين يتحدَّث عن الذات الإلهية أو عن الله – تبارك وتعالى – وأسمائه وصفاته، يأتي بالشيء البديع، أي الذي لا يُلحَق فيه – قدَّس الله سره الكريم -، من أعجب كلامه!

على كل حال حجابه النور – ونعود إليه -، لو كشفه، لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه. السُبحات هي اللألاء والأنوار والبهاء. اللألاء والأنوار والبهاء! هذا معنى السُبحات، جمع سُبحة، سُبحات وجهه! قال الإمام، شيخ مشايخ المُسلِمين، النووي – قدَّس الله سره – الآتي في المنهاج – وهو شرحه على مُسلِم، يُعرَف بالمنهاج -. قال في المنهاج عن سُبحات وجهه، قال يُراد بالوجه هنا الذات. أي سُبحات الله، سُبحات الله – تبارك وتعالى -! يُراد بالوجه الذات. نعم.

لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره – تبارك وتعالى – من خلقه. قال النووي – قدَّس الله سره – والذي ينتهي إليه بصره من خلقه هو كل الخلق. لماذا؟ لأن بصره مُحيط بكل الخلق. إذن كل خلق الله، ليس الدنيا فقط، وليس السماوات السبع، وليس الجنة والنار، كل الخلق، الذي لا نعلمه. ما القدر الذي نعلمه من خلق الله؟ يسير وقليل جداً جداً. كل الخلق يحترق في لحظة! فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا ۩.

رُويَ بإسناد حسن، عن ثابت البُناني، عن أنس بن مالك، عن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، أنه قال ما تجلى ربنا للجبل، إلا بهذا المقدار. وحلَّق النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بين  السبابة والإبهام، هكذا! الله تجلى بهذا المقدار، أي من ثقب ضيق جداً، نوره تجلى للجبل من ثقب ضيق جداً جداً، ماذا حصل للجبل؟ ساخ الجبل، وتدهده، وتدكدك، وأصبح ماءً عذباً فراتاً. تحول إلى ماء كله! التجلي هكذا إذن، فكيف لو تجلى بالكُلية؟ يحترق كل الوجود، كل الكون ينتهي في لحظة. لا إله إلا الله! هذا الشيء وهذه الأشياء كلها لا تزال تُستخدَم للتقريب، وإلا كُنه الله – تبارك وتعالى – لا يُمكِن أن يصل إليه عقل أو إدراك، لَّا تُدْرِكُهُ ٱلْأَبْصَٰرُ ۩، لا إله إلا هو! والله فوق كل ما يُعتقَد وما يُحسَب وما يُخطَر بالبال والخواطر.

جيد، هذا الإيضاح يدور على تفسير حكمة من حكم ابن عطاء الله – قدَّس الله سره -، وهي أطول الحكم العطائية، أطول حكمة! له حكمة هي أطول الحكم وأعجب الحكم، وقد أُعجب بها كل الشرّاح، وأجمعوا على أنها من أبدع ما خطت يراعة هذا الإمام الفرد – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -.

قال – قدَّس الله سره الكريم – كيف يُتصوَّر أن يحجبه شيء، وهو الذي أظهر كل شيء؟ هذا أول شيء! كيف يُتصوَّر هذا؟ أسئلة استنكارية كلها، إنكارية! كيف يُتصوَّر أن يحجبه شيء، وهو الذي ظهر بكل شيء؟ كيف يُتصوَّر أن يحجبه شيء، وهو الذي ظهر في كل شيء؟ كيف يُتصوَّر أن يحجبه شيء، وهو الذي ظهر لكل شيء؟ كيف يُتصوَّر أن يحجبه شيء، وهو الواحد، ليس معه شيء؟ لا إله إلا الله، أشياء عجيبة، والآن سنشرحها، أشياء عجيبة وغريبة، وهكذا! نكتفي بهذه الأجزاء منها، نشرحها اليوم، ونُكمِل غداً.

كيف نتصوَّر أن يحجبه شيء – لا إله إلا هو -، وهو الذي أظهر كل شيء؟ ما معنى أظهر كل شيء؟ الكون كله – ونحن من أجزاء هذا الكون – كان ملفوفاً في ماذا؟ في لفافة العدم. وهذا طبعاً تشبيه، لم يكن هناك لا عدم ولم تكن هناك لفافة أصلا، لم يكن موجوداً! العدم لا يتعلق به حُكم. كله كان ملفوفاً في لفافة ماذا؟ العدم. يقول ابن عطاء الله الكون ظُلمة – أي عدم، Nothingness بالإنجليزية، Nichts بالألمانية. وNichts تعني العدم، هذا لا شيء -، وإنما أناره… ماذا؟ وجود الحق فيه. وجود دلائل الله، النور الإلهي! إنما أناره وجود الحق فيه. فمَن شهد الكون، ولم يشهد الحق فيه وقبله وبعده، فقد أعوزه وجود الأنوار. فقد أعوزه وجود الأنوار! هو مطموس، يمشي في الظلام. يقول.

ما معنى أن الكون ظُلمة؟ هذا الذي نُريد أن نفيض الآن في شرحه. الكون ظُلمة، أو كان ظُلمة، ولا يزال في حق الذين أعوزتهم الأنوار، لا يزال ظُلمة أيضاً! ظُلمة، بمعنى أنه كان عدماً، لا شيء، هذا عدم، لا شيء!

إلى قبل عقود من السنين، للأسف كان بعض العلماء الطبيعيين الفيزيائيين وعلماء الكونيات الكوزمولوجيين الفلكيين، كانوا يعتقدون – وخاصة الملاحدة منهم، أصحاب المذهب الطبيعي الجدلي – أن هذا الكون قديم. ما معنى قديم؟ أي أزلي. وإذا سألتهم مَن خلقه؟ يقولون ما هذا السؤال؟ مَن خلق الله؟ تقول هو أزلي، غير مخلوق. وهم يقولون الكون ينطبق عليه الشيء نفسه، أزلي. أي أنت تُؤمِن بإله أزلي، ونحن نُؤمِن بكون أزلي. هذا كلام الجدليين الماركسيين الملاحدة، هم مُقتنِعون بالكلام هذا، ويقولون لك المادة أزلية. تقول لهم كيف تكون أزلية؟ فيقولون لك وكيف يكون الإله أزلياً؟ الشيء نفسه! كما اتسع عقلك للإيمان بإله أزلي، غير مخلوق، ليس له بدء، كذلك نحن نُؤمِن بمادة، وبكون محسوس على الأقل، أزلي، ليس له بدء. وكان هذا يُقنِع قصّار النظر والمُغفَّلين، مغافيل الناس! لكن بعد ذلك تطور العلم الطبيعي نفسه أثبت غير ذلك. تطور العلم الطبيعي، وتطور الكونيات والفيزياء الكونية، أثبت غير ذلك، وفي أحدث النظريات وفي أحدث المُستجَدات على هذه النظرية بالذات؛ نظرية الانفجار الكبير، أي نظرية البيغ بانغ Big Bang theory، هذه النظرية أحدث المُستجدات فيها وحولها – سُبحان الله – ألجأت العلماء – ولن أُوضِّح الآن، هذا موضوع طويل – رُغماً عنهم، أن يقولوا وبالحرف الواحد لم يبق أمامنا – لهذه المُستجدات – إلا أن نُقِر بأن الكون بدأ من لا شيء، من Nothingness. بدأ! له بداية، ومن عدم. من عدم، من ظُلمة، من لا شيء!

لماذا؟ ما معنى أن تقول لي الكون كله كان محصوراً في فرادة؟ أي هناك سنجلرتي Singularity، تُسمى الفرادة! كان محصوراً في فرادة، ليست ذات أبعاد. ما معنى عشرة مرفوعة إلى الأُس السالب ثلاثة وأربعين، ما معنى هذا؟ لا شيء هذا، مُستحيل! لا يُمكِن. في هذه الأبعاد – المُسماة بأبعاد بلانك Planck أو بطول بلانك Planck – تختفي كل القوانين التي نعرفها، تختفي قوانين الرياضة والفيزياء، ويتوقَّف العقل الإنساني. العقل الإنساني هنا يشلح نفسه، العقل يشلح نفسه وينتهي كل شيء، ندخل في الجنون، في العماء، في الظلام، لا يُمكِن! نخلع العقول وننتهي، دخلنا في الظلام المُطلَق الدامس، في ديجور العدم، في ديجور العدم الطامس الدامس! كل شيء ينتهي، يتوقَّف كل شيء، حتى التخيل وحتى الخطور، كل شيء يتوقَّف! فالعلماء قالوا ومعنى هذا الكلام – لنكن مُتواضِعين – أن الكون خُلق من لا شيء. الكون خُلق من لا شيء!

العجيب أن هذه الفرادة، التي هي بضوابط العلماء عدم، كان الكون كله مشمولاً فيها، مطوياً فيها. ومنها فتق الله كل هذه الوجودات، وكل هذه المصنوعات. كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا ۩، عجيب جداً!

جيد، إذن لم يعد الكون أزلياً، لم يعد الكون قديماً، لا أول له، صار الكون مخلوقاً، ومن ظُلمة. ولكن كيف صار هذا الكون محسوساً ومُدرَكاً لنا؟ كيف دخل في نطاق إدراكنا نحن الكائنات المُكلَّفة العاقلة الدرّاكة الواعية الفاهمة؟ يقول ابن عطاء الله – قدَّس الله سره – بالنور الإلهي. هي مُدرَكة بالنور الإلهي، وهذا معنى لطيف، أرجو أن تركزوا، وخلونا حتى نستطيع أن نتعمقه الآن، معنى عجيب جداً، بالنور الإلهي! لولا هذا النور، لن تُدرِك نفسك، ولا الوجود، ولا أي شيء في هذا الوجود. وهذه الحكمة العطائية فرع آية المشكاة، مأخوذة من آية المشكاة! ما هي آية المشكاة؟ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩… اللَّهُ ۩! آية عجيبة. أنتم تقرأونها وتُدرِكون أنها ماذا؟ أن هذه الآية تنطوي على أسرار وأشياء غير عادية، استثنائية تماماً. اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩. كان ابن عباس يقول اللَّهُ (مُنوِّر) السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩. وأنا أُشبِّه هذا بقولنا – ولله المثل الأعلى – فلانة في جمالها، هي سحر العقول. أليس هكذا نقول نحن؟ فلانة سحر العقول والألباب. ما معنى سحر؟ أي ساحرة العقول. اسم فاعل، أليس كذلك؟ أستطيع أنا مُباشَرةً أن أُفسِّر المصدر والاسم، بماذا؟ باسم الفاعل. اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ ۩، اللَّهُ (مُنوِّر) السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩. فلانة سحر العقول، إذن فلانة ساحرة العقول، الشيء نفسه! تفسير مقبول جداً جداً، ومأنوس ومطروق هذا التفسير. اللَّهُ (مُنوِّر) السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩.

جيد، أنا سأسأل سؤالاً يسيراً. ماذا لو سألنا الآن أكبر فيزيائي في الكون؛ ما حقيقة هذا الوجود الكوني الكثيف؟ هو كثيف! مادة وحديد صُلب وأشياء غريبة جداً ومعادن وأحجار. ما حقيقة هذا الكون بكل كثافته، وبكل لطافته، بكل ألوانه، بكل تشخصاته وتعيناته؟ سيقول حقيقته النور. هو نور، طاقة – Energy -.

ورحمة الله على العلّامة الفيزيائي العالمي المصري الدكتور مُصطفى مُشرفة، رحمة الله عليه رحمة واسعة. وطبعاً هذا كان أكبر وأعظم ثمانية علماء فيزياء في العالم، وعنده مقالة عجيبة جداً جداً عن الفيزياء والتصوف، مقالة غريبة جداً جداً! عكس تماماً مقالة برتراند راسل Bertrand Russell، التي قرأت طرفاً منها، عن المنطق والتصوف، يُريد أن يُثبِت بها المنطق والتصوف. هذا عن المنطق والتصوف، وهذا عن الفيزياء والتصوف. يُثبِت بها حقائق الإيمان، حقائق الإيمان واليقين وقواعد الدين.

يقول البروفيسور Professor مُشرفة – رحمة الله تعالى عليه – باختصار الآتي، لخَّص الجواب عن هذا السؤال بكلمتين بليغتين. قال ما هو الكون؟ يقولون مادة. وما المادة إلا شُعاع تكثَّف. وما الشُعاع، إلا مادة تشععت. يا سلام! هذا مُلخّص نظرية مَن؟ أينشتاين Einstein. في المُعادَلة بين المادة والطاقة، أليس كذلك؟ هذا هو. المادة شُعاع تكثَّف، والشُعاع ما هو؟ مادة تشععت، مادة تشععت! شُعاع تكثَّف، أو مادة تشععت. هذا هو الكون! فالأصل فيه النور إذن، الأصل فيه النور. وهذا النور يسري في كل مُكوّنات الوجود، المادي على الأقل، الذي نعرفه، أليس كذلك؟ كله! ما دام كله طاقة، إذن هذا هو النور، يسري في أدق المُكوّنات.

ولكن المُهِم هنا أن نُدرِك أن هناك نورين – اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩ -؛ هناك النور المُحس، وهناك النور الباطن. وهذا مُهِم جداً جداً.

نبدأ من النور المُحس. النور المُحس، ما هي أخص خصائصه؟ هل يُرى؟ هل ترون النور أنتم؟ مُغفَّل الذي يحسب أنه يرى النور، لا يستطيع أحد أن يرى النور. لا يُمكِن أن يقول أحد بل أنا أراه، أعمل بعيني هكذا، وأرى هذه الأشعة. أنت تعرف ماذا ترى؟ ترى انعكاس الشعاع على أشفارك، على الشعر في العينين. هذا هو فقط! لو فقدت هذا الشعر بالكامل، لن ترى هذا الشيء. سترى بعد ذلك انعكاس الشعاع، على ماذا؟ جفنك؛ العلوي أو السُفلي. وتقول نعم، هذا الشيء الذي يتقطع والذي يتلألأ. لا، هذا انعكاس النور، على ماذا؟ على الجِرم، على الشعرة. نحن لا نرى النور، يستحيل أن نرى النور، وأجمع على هذا كل العُقلاء، وإنما نرى ماذا؟ نرى الأشياء بالنور، نرى الأجرام بالنور. أليس كذلك؟ وهذه حقيقة غريبة جداً.

كذلك اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۩، لا نرى الله، ولكن بالله نرى الأشياء، لا إله إلا هو! قال سيدي أبو الحسن الشاذلي – قدَّس الله سره -، قال نحن لا نستدل على الله بشيء، نحن يكفينا الإيقان والإيمان، وبالله نستدل على كل شيء. أرأيت؟ هذا الرجل – القُطب الكبير، والعارف بالله – كان يفهم القصة بشكل عميق جداً، قال نحن لا نستدل بالأشياء على الله، لا! نحن لسنا كذلك، هذا مقام العامة، أي (الغلابة). نحن على العكس من هذا، نحن ننطلق من الإيقان والإيمان، هذه المُقدمة! ثم بعد ذلك بالله نستدل على الأشياء.

ولا نجعل اعتمادنا على الناس؛ لأنهم لا شيء، وإن أبينا إلا أن نعتدهم شيئاً، فتشناهم، فوجدناهم لا شيء. لا يُمكِن! هذا اليقين كله في الله، الاعتماد كله على الله – تبارك وتعالى -، الإيمان كله بالله وفي الله، لا إله إلا هو! هذا الصحيح.

إذن نحن لا نرى الله، لكن نرى به الأشياء؛ لأنه هو الذي نوَّر السماوات والأرض.

قبل أيام كنت أُحدِّث أخي أبا زكريا، أقول له نحن من غرورنا وقصورنا نستعجب كيف يستطيع إنسان أعمى – أي Blind – أن يتعامل مع المُحيط؟ فالتعليم مُفيد ومُضِر، صدِّقوني! التعليم – التعليم العادي – هكذا. نحن نتعلَّم أشياء، ولأنها تُلقى إلينا ونحن لا نزال بعد نشدو حروفاً من الإدراك والعلم، حين نكون صغاراً في الابتدائية، نكبر عليها، وتترسخ بالدرس الجامعي أو ما هو فوق جامعي، فنحسب أنها حقائق مقطوع بها. فمثلاً كلنا درسنا ونحن في الصفوف الأولى الابتدائية طرفاً من العلوم الحيوية وغيرها، حتى أصبحنا نُدرِك تماماً النظرية التي يُفسَّر بها الإبصار، فالإبصار عملية سهلة، وتُفسَّر لنا، أليس كذلك؟ مكتوب كيف تقع الصورة مُنعكِسة على الشبكية، وبعد ذلك يُرسِلها العصب إلى المُخ، فتكون في الدماغ، وكيف يُفسِّرها الدماغ. يا سلام! عملية سهلة جداً، وهذه لا تقول شيئاً. هذا الكلام من أغبى الكلام، ولا يقول شيئاً!

حين تقرأ – وأنا هذا ذكرته أيضاً في مُحاضَرة سابقة لي – مثلاً للبروفيسور جون إيكلس Professor John Eccles – تفهم هذا. وجون إيكلس John Eccles هو الذي حاز جائزة نوبل Noble في الفسيولوجيا Physiology أو علم وظائف الأعضاء في الستينيات، وهو أكبر رجل تقريباً تخصص في دراسة فسيولوجيا الدماغ في القرن العشرين، إيكلس Eccles رجل رهيب! وخرج بعلمه عن حد العلم حتى إلى التعمق الفلسفي، وهو الذي كتب شطر كتاب مع الفيلسوف اليهودي الكبير الاستقرائي كارل بوبر Karl Popper، كتاب ماذا؟ الذات وعقلها. الذات وعقلها نصفه لكارل بور Karl Popper ونصفه لجون إيكلس John Eccles. أي هو عالم وفيلسوف في الوقت نفسه!

إيكلس Eccles يقول لا يُوجَد في العلم إلى الآن ما يُفسِّر لنا على الإطلاق كيف نُبصِر. لا إله إلا الله! وبدأ يشرح لنا بعد ذلك كيف، لا أحد يفهم كيف، مُستحيل! فلا تقل لي أنا أرى النور. ماذا ترى أنت؟ أنت لا تعرف شيئاً، أنت لا تعرف كيف تُبصِر يا رجل، العملية مُعقَّدة، أعقد مما تظن، وهي لُغز كبير جداً جداً، هناك لحم ودم وعصب وأخلاط وأشياء عجيبة جداً وعظم وأعصاب ورباطات وما إلى ذلك، ونُدرِك الحجوم والألوان والالتماعات والأضواء، ونُميِّز! كيف؟ هل تعرفون كيف؟ بنورين: بالنور الظاهر، وبالنور الباطني. النور الظاهري، لا يستفيد الأعمى المسكين به، لا يستفيد بهذا النور! أليس كذلك؟

خفافيش أعماها النهار بضوئه                   ووافقها قطع من الليل مُظلِم.

أليس كذلك؟ أكمه، لا ينتفع بالنور، نحن المُبصِرون، ولله الحمد والمنّة – ننتفع جُزء انتفاع أو شطر انتفاع بهذا النور المُحس. ولكن هذه ماذا؟ بداية القصة فقط. هذه أول خَطوة أو خُطوة. الأهم من ذلك والأخطر النور… ماذا؟ الباطني، النور الباطني!

النور الباطني – هذا السر العجيب الذي أودعه الله في هذه الكائنات الحية الدرّاكة – هو الذي نُدرِك به ماذا؟ نُدرِك به هذه الأشياء المحسوسة. وهو إدراك لا يزال محسوساً، وليس ما فوق أو ما بعد المحسوس. بالنور الباطن! ولذلك قلت لأخي، قلت له للأسف نحن من غرورنا وقصورنا نستعجب كيف يستطيع إنسان أعمى – أي Blind – أن يتعامل مع المُحيط؟ وهو يتعامل بطلاقة! لماذا؟ ببساطة لأننا نحسب أن الطريق الوحيدة للتعامل مع هذا العالم المادي الفيزيقي، هي ماذا؟ عبر وسائل الحس. ومن أهمها ماذا؟ السمع والبصر. غير صحيح! التعويل الأكبر على النور الداخلي. وما دام النور الداخلي موجوداً، سينتهي كل شيء، لن تكون هناك مُشكِلة. يُمكِن أن نفقد الحس هذا، والنور الداخلي يُعوِّض، ويتعامل بطُرق أُخرى، نحن لا نستطيع أن نتحسسها بدقة، لأننا لم نخبرها، ليس لنا خبرة فيها، ويتعامل ويمشي النور!

لكن إذا فقد الإنسان هذا النور الباطني، هل تنفعه وسائل الحس؟ لا تنفعه. ولذلك لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۩. لماذا؟ فقدوا النور الباطني. ولذلك المُؤمِن يعيش في نور، والكافر والمُلحِد والشكّاك يعيش في ظلام. يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ ۩، أليس كذلك؟ المُهِم هو النور الباطني. نحن لا نُدرِك ولا نفهم ولا نعقل ولا أي شيء إلا بهذا النور الباطني.

ولذلك الآن هذا النور الباطني ليس هو العقل، بالعكسّ العقل يخضع ويستمد من النور… ماذا؟ الباطني. الملائكة، هل يستطيع أحدكم أن يزعم أنها تتمتع بعقل كالعقل الإنساني؟ وهل لها شاشة – أي Monitor – كالدماغ؟ لأن العقل هذا لا يزال قوة تختلف عن الدماغ، فالعقل شيء والدماغ شيء، وهل لها شاشة أيضاً – أي هذا الدماغ -، يستطيع العقل الخاص بها أن يعمل من خلالها؟ كلا، هذا غير ثابت، ليست كائنات تُرابية مثلنا، من لحم ودم وعصب ودم، ليست كذلك، هي من نور، ولكنها تُدرِك، وهي مُكلَّفة بأشياء، وتُؤدي وظائف العبودية، أليس كذلك؟ عجيب.

جيد، الدين يُعطينا حقائق أكبر من ذلك، حتى الجمادات لها إدراك، ونحن نُنكِر على شيخ الإسلام الإمام ابن حزم – قدَّس الله سره -، حين أنكر نكيراً شديداً وسخر سُخرية مُرة من أحد علماء المالكية؛ لأنه قال بأن الجمادات لها وعي وإدراك، وسبه سباً ذريعاً. بالعكس! ابن حزم أحق بالإنكار، ظواهر النصوص الدينية في القرآن والسُنة الصحيحة تُؤكِّد أنه ما من شيء في الوجود إلا ويتمتع بنوع إدراك وعقل، ولكن ليس من نوع إدراكنا وليس من نوع عقلنا. ولكن المآل ما هو؟ المآل واحد: العبودية. إدراك وعقل، يُؤدي به وظيفة ماذا؟ العبودية لله. لا إله إلا الله! وَأَنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الْمُنتَهَىٰ ۩، إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ ۩، كلٌ كادح إلى الله – تبارك وتعالى -، كيف؟

أنتم تعلمون هذا الحديث المُتواتِر، الحديث الذي رواه أكثر من سبعين من الصحابة، وقد حدَّثنا هؤلاء الصحابة عن هذا الجذع الذي كان النبي يخطب عليه، فلما صُنع له المنبر وصعد عليه وترك الجذع، حن الجذع إليه، كالناقة العُشراء، حن وسمع حنينه وأنينه كل الصحابة في المسجد، حتى اضطر النبي أن ينزل وأن يعتنقه هكذا، اعتنقه بيديه الشريفتين، فسكن ما بالجذع، أمام أكثر من سبعين من الصحابة؟ وقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – والذي نفسي بيده لولا أني فعلت به هذا، لانشق. أي لانشق باثنين، لانشق باثنين! إذن هذا عنده حتى مشاعر، أليس كذلك؟ وهذا الحديث مُتواتِر، إذن تُوجَد مشاعر، يشعر! هذا يشعر بالذكر فوقه، ويشعر بمقام الذاكر – صلوات ربي وتسليماته عليه -، يشعر! ولكن كيف يشعر؟ هل عنده الإيجو Ego والسوبر إيجو Superego والإيد Id الخاص بفرويد Freud؟ ليس عنده هذا الجهاز النفسي المُعقَّد، هل عنده العقل والدماغ وما إلى ذلك؟ ليس عنده. ولكن عنده لون شعور، ولون إدراك، ولون عقل، لا نعرفه كيف، لا نعرف! من طريق أُخرى، من سبيل أُخرى. ولكن النتيجة واضحة لنا؛ أنه عنده هذا الشيء، عنده هذا الشيء!

النبي يقول أُحد جبل يُحِبنا ونُحِبه. تُوجَد علاقة خاصة روحية بين أُحد وبين رسول الله وبين الصحابة الكبار. فهو يُحِبهم، يشعر بالحُب تجاههم! قال – تبارك وتعالى – وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۩. واضح جداً يا أخي! كيف يُسبِّح بحمد الله؟ وقال – تعالى – في حق الطيور الصافات كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۩. قال قَدْ عَلِمَ ۩. إذن يُوجَد عندها ضرب من ضروب ماذا؟ العلم والإدراك.

نكتفي بهذا القدر، الموضوع طويل! على أن نُكمِله – إن شاء الله – غداً، إذا مد الله في فُسحتنا.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وشكر الله لكم على حُسن استماعكم.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: