د.سهيلة زين العابدين كاتبة سعودية
د.سهيلة زين العابدين
كاتبة سعودية

تابعتُ باهتمام بالغ الحلقة الحادية عشرة من برنامج صحوة، والتي كانت عن صلاة الجماعة في مجتمع معاصر ، والذي استوقفني فيها الآتي:

أولًا : أنّ صلاة الجماعة ليست مقيدة بالمسجد فقط، فصلاة الاثنين جماعة، لها ثواب الجماعة في أي مكان، والجمهور ليسوا على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان، فهي إما فرض على  كفاية (الإمام الشافعي أو سنة مؤكدة ( الإمام أبو حنيفة)، وانفراد الحنابلة بإيجابها على الأعيان، وقد اكتفى الدكتور عدنان – لضيق الوقت- ذكر استدلال الحنابلة بصلاة الخوف على وجوبها الأعيان (وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمْ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً)[ النساء : 102]

ومع أنّ هذه الآية – كما ذكر وأكّد الدكتور عدنان أنّها تتحدّث عن كيفية أداة الصلاة أثناء القتال، وليس عن وجوب صلاة الجماعة حتى في ساحة القتال ، لأنّ الله جل شأنه لم يقل ” وإذا كنت فيهم فأقم لهم الصلاة فليقوموا معك ، ولكن قال ( فلتقم معك طائفة منهم) أي إن قامت طائفة منهم، ولكنّ الحنابلة يرون فيها دليلًا على وجوبها حتى في ساحات القتال، مع أنّه ليس فيها وجوب صلاة الجماعة ، ولكن فيها بيان صلاة الخوف ، وذلك قياسًا على ما استنبطه ابن قدامة من قوله تعالى ( انفروا خفافًا ثقالًا) إذ قال ليس في هذه الآية وجوب الجهاد، ولكنه إذا وجب فعليهم أن ينفروا خفافًا ثقالًا.كما بيّن الدكتور عدنان أنّ من أدلة الحنابلة على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان ، حديث ” لا صلاة لجار المسجد إلّا في المسجد) ، وقد بيّن الدكتور عدنان ضعفه ؛ إذ رواه الدارقطني عن جابر، ولم يصححه أحد، وراواه البيهقي موقوفًا عن الإمام علي رضي الله عنه[1]

كما بيّن الدكتور عدنان أنّ من أدلة الحنابلة على وجوب صلاة الجماعة في المسجد حديث ابن أم مكتوم

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ أَعْمَى [وهو ابن أم مكتوم] فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُ لَيْسَ لِي قَائِدٌ يَقُودُنِي إِلَى الْمَسْجِدِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ ، فَرَخَّصَ لَهُ ، فَلَمَّا وَلَّى دَعَاهُ ، فَقَالَ : هَلْ تَسْمَعُ النِّدَاءَ بِالصَّلاةِ ؟ قَالَ : نَعَمْ . قَالَ : فَأَجِبْ . “[2]

ولكن من علماء الحنابلة من يستدلون بهذا الحديث على وجوب صلاة الجماعة في المسجد بهذه الصياغة:” لقوله صلى الله عليه وسلم  لعبد الله بن مكتوم كان أعمى لما قال له: يا رسول الله (ليس لي قائد يلائمني المسجد، فهل لي من رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له نبينا -عليه الصلاة والسلام-: (هل تسمع النداء بالصلاة؟ قال: نعم ، قال: فأجب) فأمره أن يجيب النداء حي على الصلاة حي على الفلاح، وفي لفظ قال له: (لا أجد لك رخصة)، فدل ذلك على أنّ الواجب أن تؤدى الصلوات في المساجد مع المسلمين، ولا يجوز أن تؤدى في البيوت، ولا يذكرون حديث الترخيص لعِتُبان بن مالك، وقال ابن قدامة :في المغني، وهو من فقهاء الحنابلة  وإذا لم يرخص للأعمى الذي لم يجد قائدا فغيره أولى . “وهو بهذا تجاهل الترخيص لعتبان بن مالك.

فكما ذكر الدكتور عدنان أنّ  المخرج في الصحيحين رخص لعتْبَانَ بْن مَالِك أن يصلي في بيته، وهو أعمى  ( وليس عتّاب ابن أسيد، كما ذكر الدكتور عدنان، فكما يبدو اختلطت الأسماء عليه)

؛ إذ طلب عتبان من الرسول صلى الله عليه وسلّم أن يُصلي في بيته ليتخذه مصلى له، فقد جاء في الصحيحيْن عن عتبان بن مالك ،قال : ” كنتُ أصلي لقومي بني سالم ، فأتيتُ النبي صلى الله عليه وسلّم، فقلتُ إِنَّي أنكرتُ بصري ، وإِنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وَبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي ، فوددتُ أَنْك جئت فصليت في بَيْتِي مكانًا حتى اتخذه مَسْجِدًا فَقَالَ : ” أفعل إن شاء الله ” ، فغدا عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم  وأبو بكر معه بعدما اشتد النهار، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلّم فأذنتُ له، فلم يجلس حتى قال: أين تحب أن أصلي من بيتكم، فأشرتُ إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكبر وصففنا وراءه، فصلى ركعتيْن، ثم سلّم وسلّمنا معه”

فهذا أكبر دليل جواز صلاة المرء في بيته.

واستأذن الدكتور عدنان إبراهيم في إيراد  أدلة أخرى للحنابلة على وجوب صلاة الجماعة على الأعيان، فمن أدلتهم :

1.قوله تعالى : (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين )[3]

ووجه استدلالهم بهذه  الآية أنّه سبحانه أمرهم بالركوع وهو الصلاة ، وعبر عنها بالركوع لأنّه من أركانها ، والصلاة يعبر عنها بأركانها وواجباتها كما سماها الله سجوداً وقرآناً وتسبيحاً ، فلا بد لقوله (مع الراكعين )من فائدة أخرى وليست إلا فعلها مع جماعة المصلين والمعية تفيد ذلك  إذا ثبت هذا فالأمر المقيد بصفة أو حال لا يكون المأمور مُمتثلا إلا بالإتيان به على تلك الصفة والحال ” الصلاة وحكم تاركها.

ولكن فاتهم أنّهم بهذا قد أوجبوا صلاة الجماعة على النساء أيضًا بتفسيرهم ( واركعوا مع الراكعين) على وجوب صلاة الجماعة، فمعروف أنّ الخطاب القرآني يأتي على العموم بصيغة جمع المذكر، يشمل الذكور والإناث ، ويكون الخطاب للنساء على التخصيص، فالآية تأمر بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهي واجبة على المسلمين ذكورًا وإناثًا على حد سواء، وإن قلنا أنّ هذه الآية خاصة بالذكور، نكون قد أسقطنا الصلاة والزكاة عن النساء، وهذا يُبيّن لنا أيضًا خطأ استدلالهم بهذه الآية على وجوب صلاة الجماعة.

2.حدثنا عبد الله بن يوسف قال أخبرنا مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال : ” والذي نفسي بيده لقد هممتُ أن آمر بحطبٍ فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ، ثم أخالف إلى رجال فأحرق عليهم بيوتهم ، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عَرْقاً[4] سميناً ، أو مِرْمَاتين[5] حسنتين لشهد العشاء[6].

3.وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ” إن اثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً يصلي بالناس ثم انطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار “[7]

وجاء في شرح الحديث من إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

وحطب واحتطب بمعنى واحد، قال في الفتح: أي يكسر ليسهل اشتعال النار به، وتعقبه العيني بأنه لم يقل أحد من أهل اللغة إن معنى يحطب يكسر، بل المعنى يجمع ( ثم آمر) بالمد وضم الميم ( بالصلاة) العشاء أو الفجر أو الجمعة أو مطلقًا، كلها روايات ولا تضاد لجواز تعدد الواقعة ( فيؤذن لها) بفتح الذال المشددة، أي يعلم الناس لأجلها.

والضمير مفعول ثانٍ، ( ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف) المشتغلين بالصلاة قاصدًا ( إلى رجال) لم يخرجوا إلى الصلاة ( فأحرّق عليهم بيوتهم) بالنار عقوبة لهم، وقيد بالرجال ليخرج الصبيان والنساء، ومفهومه أن العقوبة ليست قاصرة على المال بل المراد تحريق المقصودين وبيوتهم، وأحرّق بتشديد الراء وفتح القاف وضمها كسابقه وهو مشعر بالتنكير والمبالغة في التحريق.

وبهذا استدلّ الإمام أحمد ومن قال: إن الجماعة فرض عين لأنّها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق، ولو كانت فرض كفاية لكان قيامه عليه الصلاة والسلام ومن معه بها كافيًا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية :

 

” ومن حمل ذلك على ترك شهود الجمعة فسياق الحديث يبين ضعف قوله , حيث ذكر صلاة العشاء والفجر , ثم أتبع ذلك بهمّهِ بتحريق من لم يشهد الصلاة”

وأقول إنّ  هذيْن الحديثيْن

1.يتعارضان مع القرآن الكريم في قوله تعالى :

( إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ)[8]

( وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ. ومَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ) [[9] يونس : 99-100]

(لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغي)[ البقرة: 56]

(وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ)[10]

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ)[11]

2.يتعارض مع الأحاديث التالية :

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسا وعشرين ضعفا”[12] فأبو هريرة راو أحاديث حرق من لا يصلون الجماعة في المسجد روى هذا الحديث الذي يجيز صلاة الفرد في بيته.

حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة” [13]

فهذان الحديثان أخرجهما أيضًا البخاري في صحيحه وأخرج مسلم حديث ابن عمر في صحيحه، وهما أخرجا حديثا الحرق لمن لم يحضر صلاة الجماعة في المسجد، فكيف هذا التعارض؟

إنّ السنة الصحيحة لا تناقض القرآن، ولا تناقض نفسها، وهو دليل على عدم صحة حديثي الحرق ، وممّا يؤكد أيضًا على عدم صحتهما:

أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا يمكن يُقدم على هذا، وهو الذي وصفه الله جل شأنه ( وبالمؤمنين رؤوف رحيم) وصلاة الجماعة في المسجد مستحبة، فهو لم ينكر على الذيْن صليا في رحلهما ، ولو سلّمنا جدلًا بصحة الحديثيْن  كيف يحرق في بيته من تخلّف عن صلاة الجماعة في المسجد؟ كيف تعيش أسرته من بعده ،وقد مات معيلها حرقًا م ،وحرق بيتهم، فيبقون بالا معيل ولا مأوى، وهذا يتنافى مع قيم ومبادئ وإنسانية الإسلام.

ووكيف يُحرق وقد يكون قد صلى جمعة مع أهل بيته،؟ أو يكون مريضًا لا يقوى على الخروج ، ثمّ أنّه صلى الله عليه وسلم عندما مرض لم يصل بالمسجد، وقال لعائشة رضي الله عنها ” مروا أبا بكر فليصل بالنّاس”، وهو القائل” صلاة الرجل في جماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمسًا وعشرين ضعف” ، وفي رواية سبعًا وعشرين ضعفًا”

لو كانا حديثا الحرق صحيحيْن لأخذ بهما الأئمة الثلاث السابقون للإمام أحمد( أبو حنيفة، مالك، الشافعي) الذين لم يوجبوا صلاة الجماعة، فكيف صلاتها في المسجد؟

تناقض الإمام ابن تيمية الذي يرى بحرق المتخلفين عن صلاة الجماعة في المسجد في حين أجاز  لمن يخشى على ماله الفساد من أصحاب الصنائع وبعض المهن الجمع، والجمع لا يكون إلّا في صلاة الفرد.

لم يقع اتفاق على وجوب صلاة الجماعة.

لو كانت صلاة الفذ باطلة لم يفاضل بينهما؛ إذ لا مفاضلة بين الصحيح والباطل.

إنّ هذيْن الحديثيْن يسيئان إلى الإسلام ،ويصورناه دين عنف وإرهاب، ويُكره الناس على عبادة خالقهم، ولو أخذ بهما  الدواعش وحرقوا الناس في بيوتهم لتخلفهم عن صلاة الجماعة في المسجد، عندئذ ماذا سيقول فقهاء الحنابلة، وماذا سيقول الذين يكفرّون من يقول بعدم صحة بعض أحاديث الصحيحيْن كأحاديث حرق المتخلفين عن صلاة الجماعة في المسجد؟

وهكذا يتضح لنا بطلان جميع أدلة الحنابلة على وجوب صلاة الجماعة في المسجد، فعلى أي أساس تمّ اعتماد حكمهم في وجوب صلاة الجماعة في المسجد فتغلق المحلات التجارية ومحطات البنزين والصيدليات، والبنوك، حتى الأقسام النسائية ، مع عدم وجوب صلاة الجماعة على النساء في كل المذاهب ويتوقف العمل في المستوصفات والمستشفيات حتى أقسام الطوارئ، وقد يموت أشخاص في حاجة إلى دواء ، أو إسعاف بسبب ذلك، إضافة إلى تعرض النساء والأطفال إلى الضرر من شدة البرد، أو شدة الحر بانتظارهم في المحلات المكشوفة إلى أن تُفتح بعد أداء الصلاة ، إضافة إلى قلة ساعات التسوّق، وفي هذا تعطيل لأحوال الناس، ويضر بالتجّار؟

والأسئلة  التي تطرح نفسها :

هل صلاة الجماعة في المساجد لم تكن واجبة على الأعيان إلّا  في القرن الثالث الهجري زمن الإمام  أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني الذهلي (164-241هـ / 780-855م، وكان المسلمون منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى زمن الإمام أحمد لم يلتزموا بصلاة الجماعة في المسجد؟

هل كان المسلمون مخالفون لدينهم قبل الأئمة الأربعة، حتى نُلزم باتباع أحدهم، ونأخذ بأحكامه بما فيها من أخطاء ومخالفات واضحة وصريحة للقرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة، كما رأينا في حكم الحنابلة علي وجوب صلاة الجماعة في المساجد، فتتعطّل الحياة تمامًا في دولة بكاملها أثناء الصلوات الخمس، ويُساق الذين لم يُغلقوا محلاتهم التجارية في أوقات الصلاة  إلى السجن، ويوضع الشمع الأحمر على محلاتهم التجارية، ممّا يُسيء  إلى الإسلام ، ويُصرف النّاس عن الصلاة، أو يُصلّون بالإكراه ، والإسلام ليس دين  إجبار؛ لذا قال تعالى:( لا إكراه في الدين) فلماذا نُكره الناس على الصلاة، التي لا تقبل ممن صلّاها مُكرهًا؟

ورأينا كيف الأئمة الأربعة لم يوجبوا على الزوج علاج زوجته المريضة مشبيهنها بالدار المستأجرة ، فعلى المالك ( والدها) علاجها إن لم يكن لديها مال للعلاج، لأنّ إصلاح الدار على المالك وليس على المستأجر، في حين جعلوها مملوكة للزوج في حال صحتها وعافيتها، وأعطوه حق منعها من زيارة أبيها،  ولم يستندوا في حكمهم هذا على دليل شرعي من القرآن أو السنة ، بل نجد بعض الفقهاء لم يوجبوا على الزوج شراء كفن زوجته إن توفت!

كما نجد المالكية والشافعية حرموا أولي الأرحام من الإرث على الإطلاق، ونجد مدونة الأسرة المغربية حرمتهم من الإرث كذلك، عملًا بالمذهب المالكي الذي تسير عليه المملكة المغربية، وغير ذلك من الأمثلة.

لماذا لا نأخذ بالأيسر في الدين طبقًا للكتاب والسنة الصحيحة الفعلية والقولية دون التقيد بالالتزام بمذهب معيّن، فمضى قرن بعد ظهور الإسلام ، ولم يكن لهذه المذاهب وجود، فكيف سيّر المسلمون أمورهم بلا تلك المذاهب؟

ثانيًا : استوقفتني عبارة قالها الدكتور عدنان إبراهيم عند حديثه عن حكم تارك الصلاة، وهي :” المرتد يقتل ردة ، ولا يقتل حدًا”، وكأنّه يقول بقتل المرتد، مع أنّه أوضح في الحلقة الرابعة عشرة، أنّه لا يقول بقتل المرتد،

ومنعًا للالتباس رأيتُ أن أبين أنّه لا توجد آية قرآنية تنص على عقوبة دنيوية على المرتد ، لأنّه قد يراجع نفسه، ويعود إلى الإسلام بقناعة ، فمثلًا عاد إلى الإسلام الدكتور مصطفى محمود – رحمه الله – بعد أن ألحد، خاصة وأنّنا الآن في زمن يُخطط فيه لدفع شبابنا الإسلام إلى الإلحاد، ويستغلون الثغرات الموجودة في كتب تراثنا وفي خطابنا الديني السائد من مفاهيم خاطئة لبعض الآيات القرآنية المتعلقة بالمرأة وعلاقاتها الأسرية والزوجية والمواريث والحور العين وملك اليمين والجهاد ودولة الخلافة والقول بالناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم، وغير ذلك  لتشكيك الشباب في الخالق جل شأنه، وفي عدله، وفي شرعه، وقد ازدادت نسبة الملحدين في البلاد العربية، وهي في البلاد الأكثر تشددًا أكبر من الدول التي تعلن أنّها علمانية.

وقد بيّن القرآن الكريم أنّ لا عقوبة دنيوية على المرتد في مواضع عديدة، منها:

1.في قوله تعالى : (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتّىَ يَرُدّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَـَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [14] فهذه الآية تُبيِّن  أنّ الذي يرتد عن الإسلام عقابه في الآخرة ، وليس عقابه حكم الردة في الدنيا وخصوصًا أنّ الآية اشترطت للعقاب الأخروي أن يمت وهو كافر، والحكمة من ذلك أنّ الله ترك باب التوبة مفتوح مدى الحياة فقد تتغير قناعة الإنسان في أي وقت.

2.(يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبّهُمْ وَيُحِبّونَهُ ) [15]فهذه الآية تذكر موضوع الردة ولا تذكر لها عقاب دنيوي .

3.(يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُوَاْ إِلاّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لّهُمْ وَإِن يَتَوَلّوْا يُعَذّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِن وَلِيّ وَلاَ نَصِيرٍ )[16]وهذه الآية تبين أيضاً أنّ جزاء المرتد يكون من عند الله في الدنيا والآخرة وليس بيد بشر عقاب المرتد ،وعذاب الله في الدنيا للمرتد يبين أنّه لا وجود لحكم رده،  وإلاّ لو تم إعدام كل مرتد بعد ثلاثة أيام كيف سيعذبه الله في الدنيا كما ذكرت الآية .

4.(إِنّ الّذِينَ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمّ ازْدَادُواْ كُفْراً لّمْ يَكُنْ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً)[17]  وهذه الآية تبين أنّه مهما كفر الإنسان لا عقاب دنيوي له، وإلا لكان مناسباً في هذه الآية ذكر حكم الردة أكثر من غيرها، لأنّ هناك ردة  متكررة يفترض أن يزيد فيها العقاب ويكون أشد من الردة لمرة واحدة ، إلّا أنّ النص عاقبهم بعدم مغفرة الله وعدم هدايته لهم ، وقد دلت الآية على أنّ الإنسان قد يؤمن ثم يكفر ثم يؤمن وهكذا،  ولو كان هناك حد ردة  لما حصل الكفر، ثم الإيمان أكثر من مره ، لأنّه سيعدم الكافر في أول ردة له .

5.﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ) و[18]هذه الآية أيضاً تفيد العموم فللإنسان حرية العقيدة في أي وقت سواء دخل الإسلام أم لم يدخل .

6.(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ )

7.(وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ) [19]جاء في تفسير ابن كثير بخصوص تفسير هذه الآية : “أفأنت تكره الناس أي : تلزمهم وتلجئهم ( حتى يكونوا مؤمنين ) أي : ليس ذلك عليك ولا إليك ، بل ( إلى ) الله . فإنّ  تطبيق حد الردة  يؤدي إلى إكراه الناس حتى يكونوا مؤمنين خوفاً من الإعدام , ألا يؤدي ذلك الحد إلى إلزام الناس والتجائهم إلى الإيمان بقوه السيف ،أو يتم إعدامهم وهذا ما يناقض هذه الآية ، وآية ( لا إكراه في الدين) .

و لكنهم تركوا هذه الآيات القرآنية، وأخذوا بأحاديث، منها:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلْم  لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنّى رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة”[20]

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “من بدل دينه فاقتلوه” [21]

فهذان الحديثان  وغيرهما من الأحاديث التي تأمر بقتل المرتد تتعارض مع القرآن الكريم في الآيات السابق ذكرها، وتتعارض أيضًا  مع ما ثبت من نهيه -صلى الله عليه وسلم- عن قتل المنافقين، مع علمه بكفرهم؛ إذ قال لما طلب منه قتلهم: «معاذ الله أن يتحدث الناس أنّي أقتل أصحابي». وأنّه لما ارتد عبد الله بن جحش لم يرسل إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يقتله، فلم يؤثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنّه قتل مرتدًا.

وإن كان البعض يستند على حروب الردة في قتل المرتد، فهذا خطأ كبير وقع فيه المؤرخون بتسمية هذه الحروب بحروب الردة، فسيدنا أبو بكر رضي الله عنه  لم يقاتلهم لارتدادهم عن الدين، وإنّما لإعلانهم   العصيان على الدولة بامتناعهم عن دفع الزكاة لبيت المال ، فحافظًا على هيبة الدولة وكيانها كان لابد من ردعهم بقتالهم؛ لذا قال سيدنا أبو بكر رضي الله عنه قولته الشهيرة لعمر بن الخطّاب رضي الله عنه ” والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه”.

[1] . وقد ورد في تذكرة الموضوعات (36) وكشف الخفا (2/509)والعلل المتناهية (1/412)واورده الألباني في الضعيفة (183) وذكر له شواهد وضعفه الحافظ في الفتح.

[2] . . ولفظ أبي داود (552) وابن ماجه (792) : ( لا أَجِدُ لَكَ رُخْصَةً)

. البقرة:43.[3] .

[4] ، عرْق : العظم .

[5]. مرماتين : ما بين ظلفي الشاة من اللحم .والظّلف : الظفر .

[6] ” .) رواه البخاري ( 618 ) ، ومسلم ( 651 )

[7] . رواه البخاري ( 626 ) ، ومسلم ( 651.)

[8] . القصص: 56.

[9] . يونس: 99-100.

[10] . الكهف: 29.

[11] . الأنبياء: 107.

[12] . أخرجه البخاري ، في صحيحه، في كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، 1/131، رقم 647

[13] . أخرجه البخاري ، في صحيحه، في كتاب الأذان، باب وجوب صلاة الجماعة، 1/131، رقم 645، ومسلم ، في كتاب المساجد ومواضع الصلاة ، باب فضْل صلاة الْجماعة، وبيان التشْديد في التخلف عنْها، 1/450 رقم 650، واللفظ له، أما لفظ البخاري: تفضل بدلًا من أفضل.

[14] . البقرة: 217.

[15] . المائدة:54.

[16] . التوبة: 74.

[17] . النساء : 137.

[18] . الكهف: 29<

[19] . يونس: 99.

[20] . صحيح مسلم.

[21] . رواه البخاري.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: