ساكري البشير كاتب وباحث سياسي جزائري
ساكري البشير
كاتب وباحث سياسي جزائري

غالبا ما يتساءل الباحث العربي والغربي في شأن الإسلام الذي غزا العالم في غضون 40 سنة، ومستقبله الذي بات مظلما، والأكثر غرابة حين نقارن القرآن بالمسلمين، ذلك أنه لا محالة سيوقعنا في قضايا أكثر جدلية، تؤدي بنا في نهاية الطريق إلى الشرك؛ أو نقارن القرآن بكتب تاريخية وفلسفية وفكرية كأنه كتاب ألفه إنسان في زمن ما قديما، وهو ما نقع فيه اليوم، خصوصا في جوانب المؤولين والمفسرين الذين يرونه كخطاب يخص فئة معينة، رغم أنني أؤكد يقينا أن القرآن لا يحتاج لمن يدافع عنه، فهو ببيانه وحججه وبراهينه كفيل بالرد على الملاحدة والشكاكين، وكفيل بنصرة نفسه، أليس هو كلام رب العالمين؟
القرآن هو كلام الله عز وجل الموحى إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، وهو – أي القرآن – ليس كتابا نصيا نتلوه متى شئنا، لنتلطف برقائقه، وليس كتابا فلسفيا نبحث في جدلياته، بل هو دستور كوني شامل وكلي بجزئياته، ولا مجال لتقسيمه بين قرآن سني وقرآن شيعي، وقرآن عربي وآخر عجمي، وهو ما يؤكده ربنا تبارك وتعالى في محكم تنزيله:
(( ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)) – ﴿٢ البقرة﴾
(( تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ )) ﴿٢ السجدة﴾
((تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا )) ﴿١ الفرقان﴾
(( وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ)) ﴿٩٢ الأنعام﴾
(( وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ )) ﴿١٥٥ الأنعام﴾
(( الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ)) ﴿١ هود﴾
(( الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)) ﴿١ ابراهيم﴾
(( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )) ﴿٢ يوسف﴾
معنى كون القرآن برهاناً كما قال الله تعالى، ومعنى كونه نوراً مبينا، أن كلام الله هو المرجع، وبه يبرهن على الهدى والضلالة؛ وعلى الفساد والصلاح، على إصابة العقل وخطئه، على سلامة الفهم وعلته؛ أما أجيال اليوم من كل أصنافها إلا من رحم ربي، باتت عمية عن القرآن البرهان حين تدعوا إلى (قراءة) القرآن قراءة جديدة؛ أي معالجته النقدية بأدوات العقلانية والتاريخانية، وربطه بمحمد البطل البليغ، وقطعه من ثمة عن الجانب الإلهي؛ ربطه بظروف الجزيرة العربية على عهد البعثة، ومن ثمة الحكم عليه بالتخلف في مضمار الفكر عن العقل البشري المتأله الذي صنع الصواريخ، وابتكر الحاسوبات الإلكترونية، وحلل التاريخ، وضبط – في زعمه – سير الحضارة، وهيمن على الكرة الأرضية، وغزا الفضاء، وركب أعضاء صناعية للمرضى، وفتح للبشرية أبواب مستقبل العالم؛ القرآن في حسبان هؤلاء الخلف يدخل في حيز ضيق من العقل البشري المتطور، في ركن مغبر بصفته جزءا من التراث المصون في متاحفه.
إن عرض حاضرنا بإنجازاته وتطوراته على القرآن والسنة المطهرة ومساءلته كفيل أن يكشف لنا بالمقارنة فداحة الخراب؛ كما أن استعراضنا لتاريخنا كفيل أن يدلنا على مراحل النقض والتدمير.

إن الإنكسار التاريخي المبكر الذي أبتليت به الأمة الإسلامية بالإنقلاب الأموي الغاشم الذي أطاح بالخلافة الراشدة وأسس للملك العاض الوراثي في الأمة، هذا الإنكسار أثر سلبا على ذلكم التلازم بما أحدثه من إنفصام نكد بين القرآن الكريم، بإعتباره وحيا من الله تعالى وذكراً وشرعاً وأحكاماً، وبين الإرث النبوي الشريف بإعتباره تجسيدا عمليا لذلك الوحي
وفي ظل ذلك الإنكسار وما صاحبه من انحرافات خاصة على مستوى الحكم وتوزيع الثروة، أُفقد القرآن الكريم مكانته في التشريع والتوجيه، بعد أن كان عند جيل الصحابة والتابعين رضي الله عنهم فرقاناً فاصلا في جميع مناحي الحياة، وبرهاناً ساطعا به يبرهن على الهدى والضلالة، على الصلاح والفساد، على إصابة العقل وخطئه، على سلامة الفهم وعلته، وبعد أن كانت العلاقة التي تربط المسلمين بالقرآن الكريم موسومة بالرقي في مدارج الإيمان، وكانت الجماعة التي تلقت القرآن بنية التعبد والتنفيذ مطبوعة بالحرص على طلب مقامات الإحسان.

وبعد أن كان القرآن بابا واسعا يدعوا إلى العلم والبحث والتأمل في خلق الله، في قوله تعالى: (( قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)) – العنكبوت: 20 – هذه الآية الكريمة تؤكد على ضرورة أن نسير في الأرض وننظر ونتأمل من حولنا وندرس ما حولنا من أجل اكتشاف ” كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ” ومثل هذه الآيات كانت سبباً في تحفيز علمائنا قديماً مثل إبن سينا و ابن رشد والفارابي وأبو حين التوحيدي لاكتشاف الكثير من العلوم ووضع النظريات وهذا ما ساهم في دفع عجلة العلم ولذلك كان لعلماء المسلمين الفضل في كثير من العلوم، التي أخذها عنهم علماء أوربا واستفادوا منها وقاموا بتطويرها، وأبلغ دليل على ذلك علم البصريات وعلم الفلك.

أما اليوم فالظلام على العقول حالك، والحيرة تغشى التفكير، الذي أصابته المفارقات الثنائية من معارض ومؤيد، وبين الكفير والأٍلمة، وبين المصلح والهدام، وبين الخلافة والنظام العلماني، وبين الدين والدولة، وكل هذا بعيدا عن القرآن كبعد السماء عن الأرض، فنحن نتخاصم ما إذا كانت الملائكة إناث أو ذكور؟ وننسى أن الغرب يتكاتف ويتوحد في بلوغ مقام السيد العالم عبر غزوه للفضاء وبناء التكنولوجيا، وهو يتسارع نحو سباق كبير مع المستقبل، بينما نجد أنفسنا نكفر بعضنا حول ما إذا كان التفسير الأكثر يقينا هل هو الطبري أم إبن كثير – رحمة الله عليهما – رغم ذلك نريد أن يكون عالما زاخرا بالعلم ونلوم الشباب على إنظمامه إلى منظمات الإرهاب وتهاونه عن آداء فرائضه، وعن إنحرافه؛ إن الحقيقة التي يجب أن يفطن لها الجميع أن الشباب لم ينحرف وحده ولكن البيئة انحرفت والمناخ الإجتماعي انحرف والفن انحرف والفكر انحرف والسياسة انحرفت..وفي داخل البرلمان وجدنا تجار مخدرات يعتصمون بالحصانة البرلمانية وفيهم زعامات.. وفي حقول مراكز الأبحاث وجدنا فارغي العقول ينجزون أو بالأحرى يجترون تجارب القرون الوسطى الأوروبية، إننا بالفعل نعيش في عصر القرون الوسطى الغربية بأدق معانيها، وإلا كيف للخرافات أن تسيطر على عقولنا بدلا من الحجج الواضحة في القرآن الكريم، وكيف للأساطير التاريخية أن تجعلنا عبدا لها بدلا من التاريخ الواقعي الذي نعيشه، لماذا نخفي كل هذا داخلنا دون أن نعترف بها؟ ومن المسؤول وراء هذا كله؟ هل هم رجال الدين والدعوة أم هم رجال العلم والمعرفة؟..

إذا أردنا أن نحيا القرآن عمليا وجب علينا أن نقطع تلك الرؤوس، المتمثلة في كبار اللصوص – لصوص الفكر ولصوص المادة – هم الأولى بقطع الأيدي والرؤوس ومنتجو الأفلام الجنسية هم الأولى بالرجم ومافيا المخدرات العقلية وبعضهم في أعلى المناصب الدعوية هم الأولى بالشنق وإذا ناديتم بالشريعة فأنا أقول نعم وأنا أنادي معكم..ولكني أسأل أولا..من يقطع يد من في هذه الغابة..وإلى من نلجأ في تطبيق هذا…هل إلى الغرب الذي هو سبب بأسنا من الخارج؟ أم إلى أنفسنا ونحن سبب إنحطاطنا من الداخل؟
لنتأمل الحوار الرباني مع الملائكة حين أراد الله سبحانه وتعالى أن يخلق آدم ليعمر الكون في قوله تعالى
)) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً – ((البقرة(30): – والخليفة هو الذي ينتج ويترك وراءه خلف تلو خلف ، وخليفة أيضا نائب ، أبو بكر خليفة الرسول -صلى الله عليه وسلم- يعني ناب عنه بعد وفاته ولله سبحانه وتعالى المثل الأعلى فالله سبحانه وتعالى أراد ان يجعل خليفة يحكم الأرض ويعمر ها ، يريد هذه الأرض أن تعمر .
فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم ثم صورة سبحانه أحسن الصور ونفخ فيه من روحه فسألت الملائكة الرب عز وجل (( قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)) البقرة(30). كيف عرفت الملائكة إن آدم وذريته يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء ، ما قالوا هذا على وجه الاعتراض – كلا حاشاهم- ، وإنما قالوا على وجه الاستفسار يسألون بعدما رأوا من صنع الجن في الأرض ، فالله -سبحانه وتعالى – خلق الجن وأعطاهم التخيير ففسدوا وفسقوا في الأرض والآن سيخلق خلق آخر في الأرض لعله سيفسد كما أفسد الجن أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما فعل الجن يعني هذا معنى الآية تقريبا في جميع التفاسير.
هنا وكأن الملائكة صورت هذا الخلق الجديد بتلك الصورة التي أتى بها الجن فكانت حصيلة من الفساد والقتل، ولعل هذا ما ينبئنا بأن العلم مهما طغى بأسلحته النووية والذرية والتكنولوجيا ونظرياته التطورية، وإبتكار أنواع الحكم من دول ديمقراطية وسلطات عالمية عولمية، فلن يبلغ ما بلغه الكتاب، ليحل نفس الإشكال الذي طرحته الملائكة على الله، والله سبحانه وتعالى رد عليهم بقوله: (( قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)) – البقرة:(30) – ، وهذا كفيل بأن يبرهن لنا أن القرآن هو الحاكم الوحيد على هذه الأرض، وأنه دستور الخلافة، وأنه جامع العلم والبيان، وأنه يمتلك علم السابقين وعلم المستقبليات، وبالتالي لم يكن القرآن يوما يخص فئة على فئة، بل هو ببساطته وحكمته جعله الله للجميع دون استثناء، فمن إبتغى أحكاما لشؤون الدولة وجد، ومن إبتغى منهاجا لطلب العلم وجد، ومن إبتغى مصير الكون وجد…فلا تعلموننا أن القرآن قد زال عصره، وعلمونا أن القرآن سيحكم كما حكم سابقا..

وآخر ما يجب أن أقدمه للذين يلومون الإسلام على تصرفاتنا، والذي يحسبون عثرات الظالين والمخطئين والمظللين من عثرات القرآن فهم لا يريدون أن يفهموا أن القرآن مستقل على الجميع، والذين يلومون الإسلام على هذا الإرهاب المنتشر في العالم وعلى الفتن الدائرة في الكون، أجزم أنهم لم يقرؤوا القرآن ولو مرة واحدة؛ فالقرآن بمبادئه وقيمه شيء، والتجاوب المجتمعي له في صورة “دين منظم” شيء آخر، قد يتناقض في معظم الأحيان الإسلام – أو على الأقل مع ما يقدمه القرآن عن الإسلام – مع واقع تصرفات وسلوكيات المسلمين، وهو أمر يجب إدراكه وإقراره؛ إذ ليس من المعقول أن يحاسب الإسلام من جراء ما يقوم به من يعتنقوه؛ وهناك العديد ممن يؤيدون هذه الفكرة، ومنها – وإن كان ليس أقلها وضوحا – ما يفرده القرآن ذاته من سبب وهو أن معظم من يدّعون الإسلام اليوم بعيدون تماماً عن الصورة المثالية للإسلام التي جاءت في القرآن، إن تحديد مفهوم الإسلام استناداً إلى تصرفات وسلوكيات عدد من المسلمين، سيؤدي بنا إلى الوقوع في الشرك الذي حرصنا منذ بداية هذه المقدمة على تفاديه.
وأخيرا لو عرضنا المشكلات الكامنة في واقعنا على القرآن وقمنا بدراستنا على أتم معنى، لوجدنا الحلول التي تخرجنا من سطوة العلوم الزائفة، والحروب الطائشة، والسلطة الغادرة، والعقول الفارغة، والقوانين الهمجية، والجسد واللذة، والتفلسف والتأله، ولوجدنا سبيلنا الإنساني الذي خلقنا من أجله.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: