فهد عامر الأحمدي
فهد عامر الأحمدي

قبل مائة عام تقريبا عاش في مدينة برون النمساوية (التي أصبحت الآن جزءا من تشيكيا) راهب يدعىغريغور يوهان مندل.. ورغم أن وظيفته كانت دينية بحتة إلا أنه قضى معظم حياته في مراقبة وتهجين نباتات البازلاء في حديقة الدير.. فقد لاحظ أن نباتات البازلاء تأتي بسمات وأشكال مختلفة (قصيرة أو طويلة، مستديرة أو منبعجة، صلبة أو طرية) فقام بتهجين الأزواج المختلفة منها ومراقبة الصفات الناجمة عنها . وبفضل هذه التجارب الصبورة (التي اقتضت استيلاد آلاف النباتات) اكتشف عددا من القوانين الوراثية التي ماتزال أساسية وراسخة حتى يومنا هذا …

وفي عام 1866 أرسل مندل نتائج دراساته إلى أكثر من مائة عالم وجامعة أوربية بدون أن تحظى باهتمام أو قبول أحد (بل استلم ردا ساخرا من أحد علماء فيينا ينصحه بالاهتمام بصلوات المؤمنين وترك الأبحاث للعلماء المتخصصين) . وحتى وفاته عام 1884 لم يكن معروفا في الأوساط العلمية ولم يجد التقدير الذي يستحقه كمؤسس حقيقي لعلم الوراثة.. ولكن بعد مرور 34عاما كاملة عثر أحد العلماء بالصدفة على نسخة من أحد تقاريره فأعاد نشرها – وحينها فقط – حظيت بالتقدير والاعتراف!!

… وقصة مندل هذه مجرد نموذج لعلماء كثيرين سبقوا عصرهم وماتوا قبل أن يستوعب المجتمع أعمالهم.. وفي ثقافتنا العربية توجد نماذج كثيرة لهذه الفئة “المنحوسة” لعل أبرزهم ابن خلدون المؤسس الحقيقي لعلم الاجتماع.. فبعد كتابة مقدمته الشهيرة في أحوال الأقاليم والجماعات ودور المناخ في بناء الحضارات نامت هذه المقدمة لمدة 500عام قبل أن يكتشفها العالم الانجليزي تويني وينشرها في أوربا (ويصفها بأنها أذكى عمل أنتجه عقل بشري على مر العصور)!!

– السؤال هو :

لماذا لم تحظ أعمال هؤلاء العباقرة بالتقدير والقبول في أيامهم.. لماذا تعجز المجتمعات (بل والأوساط العلمية المتخصصة) عن استيعاب عظمة انجازاتهم قبل وفاتهم!؟

… للأمانة يجب أن نعترف بأن (معظم العباقرة) لقوا التقدير في حياتهم كون انجازاتهم أتت متوافقة (من الناحية الزمنية) مع التراكم المعرفي لمجتمعاتهم.. غير أن هناك فئة نادرة (كمندل وعبد الرحمن بن خلدون) قدموا أعمالا لم تتكئ أو تنطلق من التراكم المعرفي للزمن الذي عاشوا فيه ؛ فإنجازاتهم ببساطة لم تكن مجرد إضافة جديدة لعلم معروف، بل شكلت هي ذاتها أساسا لعلم جديد لم يتوقع وجوده أحد ؛ فعلم الوراثة مثلا (الذي يبدو مألوفا لنا هذه الأيام) لم يكن معروفا أو يخطر على بال أحد في القرن التاسع عشر . أما ابن خلدون فعاش في فترة مبكرة جدا (حيث توفى عام 808هجرية) وبالتالي كان من الصعب على أي جهة استيعاب آراءه الجريئة حول دور المناخ والأقاليم والأمزجة والدين في صياغة المجتمعات!!

… يضاف لهذا السبب (الذي أراه أساسيا ومشتركا بين هذه الفئة من العباقرة) أسباب فرعية أو خاصة بالعبقري ذاته قد تؤخر الاعتراف به لفترة طويلة..

  •  فهناك مثلا اعتراض المؤسسات الدينية على الاكتشاف الجديد (كما حصل مع نظرية داروين في الأحياء وكوبرنيكوس في الفلك)!
  •  أو مخالفة هذا الاكتشاف للمفاهيم الشعبية الراسخة (مثل ادعاء باستير بحدوث الأمراض بسبب الجراثيم والميكروبات وليس المعاصي والذنوب)!
  •  أو معارضته للنهج الثقافي والعلمي السائد حينها (مثل قول جاليلو بدوران الأرض، وتجرؤ فيزاليوس على تشريح البشر)!
  •  أو نتيجة لاضطهاد سياسي أو عرقي يتعرض له العبقري نفسه (كما حدث مع البيروني وابن سينا وأنشتاين من السلطة الحاكمة)!
  •  أو حتى بسبب غيره زملائه وتعنت الوسط المنتمي إليه (مثل ماكس بلانك الذي لم يعترف زملاؤه بطرحه الفيزيائي إلا بعد انتهاء جيل كامل من العلماء الألمان)!!

… بدون شك ؛ ما يميز هذه النوعية من العلماء – ليس موهبتهم وعبقريتهم فقط – بل جرأتهم وشجاعتهم في الوقوف أمام مجتمع كامل من الآراء والأفكار والمفاهيم الراسخة..

والمحزن فعلا أن معظمهم توفى قبل أن ينال حظه من الاعتراف والتكريم – أو حتى العيش بهدوء مثل بقية البشر!

عن صحيفة الرياض

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقان 2

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: