ماجد توبه كاتب أردني
ماجد توبه
كاتب أردني

لا نبالغ إذا قلنا إن الصدمة الأكبر التي نتجت عن الجريمة النكراء التي وقعت بمنطقة نيس بفرنسا مساء الخميس الماضي هي التي شعرت بها الجاليات العربية والإسلامية في فرنسا وأوروبا، وربما قبل الفرنسيين أنفسهم، فحجم البشاعة والإجرام في هذه العملية امر صادم ويثير الاشمئزاز من الدرك الذي وصله هذا المريض، وهو يفلت حقده على إنسانية البشر ويدهس بعجلات شاحنته وكراهيته عشرات الأطفال والنساء والرجال الآمنين، ويخلف وراءه بحرا من الدماء والأحزان والأحقاد.
لقد هزت هذه الجريمة النكراء ضمير كل البشر، أينما كانوا، لكنها وقعت -نجزم- كالصاعقة على الجاليات العربية والإسلامية بأوروبا، التي لم تستفق بعد من تحميلها آثام وأوزار جرائم إرهابية أخرى كانت حصدت أرواح أبرياء في فرنسا وبلجيكا وغيرها، نفذها مجانين معتوهون من أبناء جلدتنا، يتمسحون بالدين وفكر الكهوف المتحجرة، وبتعليمات عصابات إرهابية تنغل في بلادنا ومنطقتنا وتعيث فسادا فيها.
السؤال اليوم الذي يخيم كالشبح على رؤوس الجاليات العربية والإسلامية في أوروبا، والغرب عموما، هو سؤال المصير والمستقبل لملايين العرب والمسلمين، في تلك الدول الغربية، في ظل مواصلة الإرهاب وعصاباته استهداف المدنيين الآمنين في أوروبا وباقي دول الغرب، ونشر الخوف والكراهية بين الناس العاديين، وتعزيز نفوذ وحضور اليمين العنصري هناك، واتساع رقعة الغربيين الذين باتوا يسمون الدين الإسلامي، وليس فقط بعض المسلمين، بالإرهاب والتطرف وإشاعة الكراهية ضد الآخر، المختلف دينيا وحضاريا وسياسيا.
نعم، الإرهاب والتطرف اللذان تم ربطهما من قبل جماعات وعصابات إرهابية ومتحجرة بالدين الإسلامي الحنيف، ونذوق في عالمنا العربي والإسلامي ويلاتهما يوميا في غير مكان، لا يوفران بتداعياتهما وآثارهما المدمرة العرب والمسلمين في بلادهم وأوطانهم، تماما كما لا يوفرانهم في بلاد المهجر، لكن اشتداد وحشية هذا الإرهاب وعملياته، واتساعه في دول المهجر الأوروبية والغربية، يهدد جديا حياة وأوضاع ملايين العرب والمسلمين في المهجر، ويترك أمامهم مستقبلا غامضا وقاتما.
التصدي للتطرف والإرهاب باسم ديننا وعقيدتنا، وهما منه براء، هي معركتنا أساسا، فكريا وثقافيا وسياسيا وأمنيا، رغم أن ذلك لا ينفي ما يتحمله الغرب من مسؤوليات أخرى ومكملة في هذه المعركة. لكن الحديث في التداعيات والآثار المباشرة للعمليات الإرهابية على الجاليات العربية والإسلامية في الغرب يستدعي مقاربات خاصة بتلك الجاليات واستراتيجيات ملحة ومختلفة للتعاطي مع الخطر المحدق بوجودهم ومستقبلهم.
لم يعد مقبولا التقليل من أهمية التداعيات التي تطلقها العمليات الإرهابية في الدول الغربية، أو الاكتفاء بإلقائها على مشجب وتبرير الفردية والحوادث المنعزلة، لبعض أفراد الجاليات، من مرضى أو مضللين أو منحرفين، فثمة نسق ثقافي اجتماعي فكري بات ينتج مثل هؤلاء الإرهابيين في المهجر، ويزين لهم أفعالهم النكراء، سواء بالتأييد المباشر من قبل البعض، أو غير المباشر بالتغاضي والتعامي عن بعض الروافد الفكرية والثقافية التي تنتج مثل هذه الذئاب المنفردة.
نتحدث هنا تحديدا عن نخب ثقافية واجتماعية ودينية لتلك الجاليات، ممن لم تتصد بعد لدورها الحقيقي والمطلوب بمواجهة التطرف، وانزلاق بعض الشباب إلى أتونه في جالياتهم، حيث لم يعد خافيا أن العديد من المراكز الدينية والاجتماعية هناك يسيطر عليها متطرفون وجهلة، وينهلون من ذات المعين الفكري لـ”داعش” و”القاعدة”، ما يستدعي جهودا حقيقية وجماعية في غربلة وتنظيف هذه المراكز من أصحاب هذا الفكر المتحجر، وتقديم الكثير من النماذج المتنورة والمنفتحة لتوعية الشباب.
نعرف أن المعركة الفكرية والثقافية والتنويرية لا يمكن أن تجزأ بين وطن ومهجر، لكن ارتفاع منسوب الخطر الذي بات يحيق بالجاليات الإسلامية والعربية في أوروبا يتطلب منهم التصدي سريعا وبرؤى واضحة وحاسمة لروافد الفكر التكفيري والمتطرف. وثمة نماذج لمفكرين متنورين ووازنين بين الجاليات المسلمة في أوروبا، كالدكتور عدنان إبراهيم، يمكنهم أن يقودوا مثل هذه المهمة العاجلة والملحة.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: