لا يخفى على جلّ متابعي الأحداث الراهنة، تحديدًا ما يجري داخل الأفق الديني، وما يتنازعه من دعوات التجديد، وإلحاحها المتزايد؛ حتّى إنها بلغت مبلغًا يعسر معه تجاهلها أو الإعراض عنها. فلسنا نبالغ إذا ما قلنا أنّ التهاون في شأن التجديد أو الاستهانة به، ما يكون إلا لكسلٍ أو عجز أو خوف، والعالم الربّاني الصادق يربأ عنها كلّها.

في هذا السياق تتجسّد أمامنا بوضوح قضيّة د. عدنان إبراهيم، الخطيب العلاّمة الذي شَرُفت بمتابعة خطبه ودروسه، فوجدت فيها خطابًا للعقل من العقل، قطعت به خطب الجمعة شوطًا بعيدًا عبر ربطه الديني بالتاريخي، وليس ذلك فحسب، بل استحضاره لمقولات نفسيّة واجتماعيّة واغتنائه بالعلوم الطبيعيّة. فكانت خطبه ودروسه بحقّ تزهدك في متابعة غيره، فعندما يتوّجه إليك أحدهم بخطاب على مستوى عالٍ من التفكّر وتقليب الأمور، حقيقةً.. يصعب عليك –بعدئذٍ- أن تفرّط في تلك المنزلة، وتقنع بكلامٍ غالبه معاد مكرور. ولن أزيد عمّا سبق في الثناء، وإن كنت أراني باخسة حقّ؛ ذلك أنّ د. عدنان إبراهيم قد شهد له من شهد، وليس في بضع كليمات أدبّجها ما يضيف إليه شيئًا –وإن يسيرًا-، كما أنّني لا أبتغي ممّا كتبت ثناءً وإطراءً، بل وقفة مع ردود فعل نشهدها منذ زمن قريب نسبيًّا، منذ ابتدأ الشيخ عثمان الخميس والداهوم وغيرهم بمناهضة المشروع العدناني، القائم على أساس راسخ ومتين.

من خلال متابعتي لردود الفعل تلك، وجدت أنّ المنكرين المناهضين لـ د. عدنان يقولون ويعيدون بأنّه يطعن في الصحابة، وصدقًا لم أقف على منكرٍ أخذ على د. عدنان غير ذلك مع أنّ له خطبًا ودروسًا كثيرة. وهنا قد يقول قائل: هل ترين الطعن في الصحابة أمرًا سهلاً يمكن تجاوزه؟!! وهذا السؤال وجّه كثيرًا لكلّ من أيّد د. عدنان، أو دافع عنه، بل حتّى من أُعجب بطرحه فقط!. وبصدد سؤالٍ كهذا، يبدو مباشرًا ومحايدًا، بينما هو يحاصرك ويضيّق الخناق عليك، إن أجبت بلا، فإنّها تستتبع عند أولئك رفض د. عدنان وطرحه جملة وتفصيلا، ومقتضاه –كما يرون- أنّك لو دافعت عن د. عدنان وأيّدته فأنت تشاركه في طعن الصحابة!. ولا أخفيكم أنّ الإصرار على إشاعة هذه التهمة (الطعن في الصحابة) ومداولتها، يثير عندي تساؤلاً: لماذا؟!

إنّ المشروع العدناني يهدّد علنًا الخطاب الديني التقليدي، الذي ما زال يكرّس في معظمه التبعيّة والتسليم، وإن كنت لا أحبّذ التعميم، إلا أنّ قلة من الأسماء المعاصرة التي آمنت بصدق بمشروعيّة التجديد وأهميّته، قلت بصدق، لأنّ هناك من يدّعي التجديد، فيما تجديده لا يعدو واجهة شكليّة. من هنا ولّد التهديد مقاومة، ولم تجد تلك المقاومة إلا ترديد: هذا الرافضي الذي يطعن في الصحابة. وهذه الشبهة تقف دون ذلك المشروع بما يريب الناس، فيرغبون عن د. عدنان خشية على دينهم، وقد يندفع بعضهم إلى الإنكار والمهاجمة، دون أن يستمعوا بأنفسهم إلى ما قاله د. عدنان، أو يستمعون إليه بحكم مسبق، فهم في حكم من لم يستمع!.

تعميم شبهة (الطعن في الصحابة) التي يدرك كلّ ما استمع لـ د. عدنان زيفها وكذبها، واختزال مشروع د. عدنان كلّه فيها مع أنّه أكبر منها، هو كلّ يستطيعه المناهضون الرافضون، وهو تشويه متعمّد يفتعله من لا يقدر على مواجهة خصمه، فيتّجه إلى نفيه وإثارة الشكوك حوله. ويكفي أنّ نتأمل قليلاً في التركيب اللغوي لهذه التهمة (الطعن في الصحابة)، اختيرت كلمة (طعن) الموحية بخصومة ظالمة غاشمة، وجاء بعدها التعميم (في الصحابة) وهو افتراء عظيم، ومن يستمع لـ د. عدنان يعلم أنّه ليس طعّانًا، وكلامه مقصور على بعض الصحابة لدليل ظهر له. فما بالك فيمن يقرن إليها (ذلك الرافضي)؟! فليته يعلم أنّما يعلن بها فقره، وتهافت فكره.

من يفقه المشروع العدناني يعلم أنّه عندما يعيد النظر في كثير من المسلّمات، إنّما يحوّل تراثنا وتاريخنا مادّة للاستكشاف بدل أن يستعمله سلاحًا أيدولوجيًّا. واكتشاف التاريخ هو إعادة النظر في كثير من إشكالاته، لا سيما تلك الإشكالات التي ما تزال حاضرة في واقعنا ومجتمعاتنا المعاصرة. فهو منهج قبل أن يكون نتيجة، والأولى أن ننظر في المنهج ونناقشه لا أن نقف عند أحد النتائج، وتعميمها بطريقة أبعد ما تكون عن الإنصاف والعدل.

ومن يفقه المشروع العدناني يعلم أنّه لا يشيّد تابعين، على غرار المشروع التقليدي، فأن تعجب بطرح د. عدنان وتوافقه في منهجه، لا يستلزم منك أبدًا أن تكون موافقًا له في كلّ صغيرة وكبيرة، فهو دعوة مفتوحة لإعادة قراءة التاريخ والنصوص القرآنيّة والنبويّة. وحريّ بهذا المشروع أن يكون فرصة واعدة بنشر ثقافة الاختلاف والفكر الناقد، والسعي لسدّ الشقاق عبر المحاورة والمحاججة؛ لأنّ عصرنا بانفتاحه مؤذن بمستجدات عديدة، يستوجب علينا احتواءها لكلي نسيطر علها، والاحتواء يتطلب مرونة عالية لا تصلّبًا وتحجّرًا!.

لست أدعو الجميع أن يوافقوا د. عدنان، أو يقفوا في صفّه، بل أدعو إلى الاستماع إليه، بنيّة صافية، تسدّد وتقارب، أدعو إلى العدل، النظر فيما قاله ونقده، لا قذفه بالسباب والتصنيف، فكلّ يؤخذ من قوله ويرد –كما قال ابن مسعود رضي الله عنه-.

اللهم أرنا الحقّ حقًّا وارزقنا اتّباعه.

بقلم خالدة بنت أحمد باجنيد

رابط المقال

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: