حسن رشيدي
حسن رشيدي

تعددت النبوءات في الكتب والنصوص المقدسة، مفادها: أن الحَجر الذي رفضه البناؤون صار حجر الزاوية، أو أن الحمل الوديع الذي كان مستصغرا محتقرا بين الجموع، قد صار أسد الشرى الذي قضى على الجميع. ولقد تعددت النبوءات بين مبشرة بمقدم هذا الخاتم. وبين منذرة للأقوام الذين استندوا للقوة الظاهرة بين أيديهم، فتناسوا العدل بين الناس ونشر الأمن والسلام والمحبة بين القلوب والأمم، ومالوا إلى التعصب في القول والطغيان في العمل.

إن طواف الناس بالبيت وإعجابهم به، لولا الحجر الذي ينقصه: هي نبوءة خفية يسترها القدر عن أعين الذي لا يتأملون ببصائرهم النافذة إلى عمق القدر السماوي، والألطاف الإلهية التي تدبر الأمر بحِكم بالغة، يعجز العاقلون والعارفون عن سبر أغوارها وتفسير أسرارها، فضلا عن المشككين في مدعاة حدوثها أو المرتابين في إرهاصات بروزها.

لقد هاجر النبي إبراهيم، بزوجه وابنهما إسماعيل إلى جبال فاران في واد غير ذي زرع، فجاء القول في ابنه الذي رُفض وطُرد: “الحَجَرُ الذِي رَفَضَهُ البَنّاءون صَارَ رَأْسَ الزّاوِيَة. هَذَا مَا صَنَعَهُ الرّبُّ، فَيَا لِلْعَجَبِ”[1]. ولقد تحقق هذا الأمر بعد فترة من الزمن، حسب تاريخ الأمم والشعوب، لا بحسب تاريخ الأعمار الفردية أو الجماعات البشرية. لتتحقق النبوءة القائلة فيه: “وَسَمِعَ اللهُ صَوْتَ الصّبِي، فَنَادَى مَلَاكُ اللهِ هَاجَرُ مِنَ السّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ يَا هَاجَر؟ لَا تَخَافِي. سَمِعَ اللهُ صَوْتَ الصّبِيِّ حَيْثُ هُوَ. قُومِي احْمِلِي الصّبِيَّ وَخُذِي بِيَدِهِ، فَسَأَجْعَلُهُ أُمّةً عَظِيمَةً”[2]. وبعد توالي السنون كثر نسل إسماعيل وتحقق وعد الله فيه؛ وأهم من ذلك، أن جعل حجر الزاوية الأخير من نسله. وفي الحديث: فَأَنَا الّلبِنَة، وَأَنَا خَاتمُ النّبِيّينَ. تحقيقا لنبوءة يسوع في اليهود: “سَيَأْخُذُ اللهُ مَلَكُوتَهُ مِنْكُمْ، وَيُسَلّمُهُ إِلى شَعْبٍ يَجْعَلُهُ يُثْمِرُ”[3]. واستجابة لدعوة النبي إبراهيم أيضا من قَبل: “رَبّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمُ آيَاتِكَ وَيُعَلّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكّيهِم”[4]. حين استعلى نور النبي محمد مشرقا من جبال فاران، ومعه أمة من الموحدين.

ولم تكن هذه النبوءة فريدة من نوعها، بقدر ما تحققت عبر أوجه مختلفة على مدى التاريخ. فلقد ألقى الأسباط بأخيهم في البئر، وبيع بدراهم معدودة. ولقد هاب فرعون رؤياه، فأمر بقتل كل غلام ذكر. ولقد أُنذِر غير ما مالك ذو سلطان، في عدم الإسراف في طغيانه وكبره حتى لا يضيع جاهه وقوته سدى بين الناس، جراء ثائر جلِد يقود الجموع إلى نبذ الاستبداد، ونسف أركان الطغيان الذي يأتي على الفسيفساء الاجتماعي.

فتحققت رؤيا أحد عشر كوكبا والشمس والقمر، حين اعتلى النبي يوسف خزائن مصر مقدما بذلك الخلاص لأبناء يعقوب. وتحققت رؤيا فرعون على يد النبي موسى بعد أن لبث في كنفه عدد سنين، مؤذنا بخلاص بني إسرائيل من قبضة حكم مطلق ومستبد. كما تحققت غير ما مرة بحسب ظهور الأبطال والمخلّصين الذين كانوا مستصغرين محتقرين بين الجموع في أوطانهم.

إن التاريخ البشري هو تاريخ صراع وإرادة بين قوى الخير وقوى الشر، ولم تزل رحى الحرب دائرة بين الحق والضلال بين النور والظلام، حتى يذعن الباغون إلى سبل الرشاد ويقتص المظلومون لحقوقهم المهضومة، وذلك من خلال آليات وسبل تتحدد تارة بوقفة الأبطال، أو عبر ميلاد أجيال جديدة تتنسم الحرية وتهدم عرش الطغيان.

إن الحجر الذي استعلى، نبوءة مرقونة منذ الأزل: “كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي”[5]. كما أنها رهينة جانب موضوعي: مفاده أن الشر مهما تجبر في غيه وطغيانه، فلا بد أن يبزغ النور من كبد الليل. وآخر ذاتي: مفاده أن المحتقر الصغير بالأمس سيكون سيد الغد، وأن أسباب القوة التي يستند عليها المغرورون لا شك أنها ستتغير بحسب تغير الأسباب وبدائلها. أما الأشخاص: فإن كبار اليوم يهرمون ويضعفون، وأما الصغار فيشبّون ويقوون.

 

[1]إنجيل مرقس: 12: 10- 11.

[2]سفر التكوين: 21: 17- 18.

[3]إنجيل متى: 21: 43.

[4]سورة البقرة: الآية 129.

[5]سورة المجادلة: الآية 21.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: