مراجعات على برنامج صحوة.. حلقة 22 “توظيف الدين لخدمة السياسة” (18)..

د.سهيلة زين العابدين كاتبة سعودية
د.سهيلة زين العابدين
كاتبة سعودية

أواصل مراجعاتي على برنامج صحوة الرمضاني الذي أذيع في قناتي روتانا خليجية ومصرية، وقّدمه الدكتور أحمد العرفج وضيفه الدائم المفكر الدكتور عدنان إبراهيم.

ومراجعاتي في هذا الجزء ستكون تكملة حول ما أثير في مداخلة الحلقة عن الأدب الإسلامي، وتعليق الدكتور عدنان إبراهيم عليها بقوله:” الإسلاميون خاضعون لوهم الاكتفاء، ويظنون أنّه بما أنّ هذا الدين كامل إذا نحن يمكن أن نبني سياسة واقتصاد وعسكرية إسلامية ، وإدارة إسلامية ، وأدب إسلامي ..، وممّا قاله إنّ مشروع الأدب الإسلامي أجهض، وكل هذه الأوهام ما هي إلّا فقّاعات..”

وقد بيّنتُ في الأجزاء السابقة ما حواه القرآن الكريم من آيات بيّنت أسس الحكم والاقتصاد، والموارد المالية، والعسكرية في الإسلام، وتنظيم قتال المعتدين، ومعاملة أسراهم، إضافة إلى ما حواه من علوم كعلم الأجنة وخلق الكون والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وعلوم أعالي البحار وجغرافية وفلك وإدارة، وتفسير لحركة التاريخ، كما بيّنتُ موقف القرآن الكريم من الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، ومن الشعر ممّا يؤكد أنّ كل هذا كان حقيقة، وليس  وهمًا، ولا فُقّاعة.

وهذه العلوم هي الأسس التي قامت عليها الحضارة العربية والإسلامية، فالعلماء المسلمون لم يكونوا مجرد ناقلين ومترجمين لعلوم الحضارات القديمة، وإنّما عدّلوا أخطاء القدماء، وأضافوا إليها ممّا تعلموه من القرآن الكريم (فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون)[1]

كما بيّنتُ في الأجزاء  السابقة من هذه المراجعات على أهمية مصطلح الأدب الإسلامي لفقدان أدب الأمة العربية هويته العربية والإسلامية، لتأثره إلى حد كبير بالمذاهب الفكرية والفلسفية الغربية قديمها وحديثها بعللها وعلّاتها، كالكلاسيكية الأغريقية ، والواقعية الغربية بكل أشكالها ومسمياتها المخالفة للتصور الإسلامي للخالق جل شأنه والإنسان والكون والحياة والخير والشر والقدر، وبيّنتُ تأثر أدب الأستاذ توفيق الحكيم إلى حد كبير بالكلاسيكية الأغريقية، وكذلك عدد من كبار الأدباء ، وكذلك تأثر بها شعراء الحداثة مثل صلاح عبد الصبور ، وأمل دنقل وأدونيس، وغيرهم، وقد تحدّثتُ  عن الفرويدية وأثرها على الأدب العربي، ولاسيما على أدبي الأستاذ إحسان عبد القدوس ، والدكتورة نوال السعداوي، وتحدّثتُ في الحلقة الماضية عن الوجودية وأثرها على الأدب العربي، وبيّنتُ مدى تأثر أدبي الأستاذيّن نجيب محفوظ وإحسان عبد القدوس بالوجودية ،وسأواصل الحديث عن المذاهب الغربية وأثرها على الأدب العربي ممّا استلزم إيجاد مصطلح الأدب الإسلامي لإعادة الهوية العربية والإسلامية لهذا الأدب الذي ذاب في تلك المذاهب، وسأتحدّث في هذه الحلقة عن :

 

 

البرناسية ( مذهب الفن للفن)

يزعم البرناسيون أنّ غاية الفن مقتصرة على ذاته، وأنّه بداية نفسه ونهايتها، وأنّ لا مبال إزاء الخير والشر والتقدم والتخلف، والحرية والعبودية، وأية قيمة أخرى من قيم الوجود، فليست غاية الفن إصلاحية، وهو لا يهدف إلى أية منفعة ،بل إلى المتعة الجمالية الخالصة، فغاية الفن هو الجمال ،والجمال في الشكل، وليس في المضمون، فالإبداع في نظرهم يقوم في تثقيف العبارة والشكل، أمّا المضمون فقد نضب وجف على أيدي الشعراء السابقين، وأمّا الشكل فهو مادة الإبداع التي لا تنتهي.

موضوعات البرناسيين

لقد حاول البرناسيون أن يخرجوا من الحدود التي وقف عندها من سبقهم، وأن يكتشفوا موضوعات جديدة لفنهم ، فعمدوا إلى التاريخ والأسطورة الإغريقية والديانات الهندوسية والبوذية ، وإلى الاكتشافات العلمية، وإلى مظاهر الطبيعة التي يتعرّض لها الرومانسيون كالطيور والبهائم في أشكالها وأحوالها الخاصة بها ، وينادون بأنَّ الفن للفن ، وأنّ اسم هذا الفن يوحي بذلك ، نسبة إلى جبل ” بارنس” باليونان موطن الإله أبولو وآلهة الفنون في أساطير اليونان قديمًا، وهو القاسم الرمزي للشعراء؛ ولذا يقول أحد روادها: الشريعة لأمور الدين والخلق للخلق، والفن للفن، ولا يمكن أن يكون الفن طريقًا للنافع، ولا للخير، ولا للأمور القدسية، لأنّ لا يقود إلاّ إلى ذات نفسه.[2]

هذا ونجد هذا القول هو السائد لدى معظم الأدباء والنقاد والشعراء العرب؛ إذ فصلوا بين الدين والأدب، بل نجد بعضهم هاجم أستاذنا الكبير أحمد عبد الغفور عطّار عندما قال عن الرافعي :” أنّه أباح محرمًا لإباحته سفور ملكة الجمال التركية ،وقال أحد أساتذة الأدب وقتئذ :” لو قال هذا القول رجل دين لحاكمناه ، ولكن الذي قاله أديب ذوَّاقة … وسيادة هذا المذهب وسيطرته على كل نواحي الأدب جعلت معظم الأدباء والكتاب والمفكرين المسلمين يعتنقون المذاهب المادية الإلحادية من وجودية وماركسية واشتراكية ..إلخ.

 

البرناسية تحت مجهر التصور الإسلامي

إنّ نظرة البرناسية إلى الحياة والكون والإنسان نظرة قاصرة ومحدودة جداً؛ إذ  حصرتها على الجمال الشكلي للقصيدة، أو النص الأدبي مهملة تمامًا المضمون، وبإهمالها للمضمون أهملت كل جوانب الحياة ، كما أنَّها تقوم على الوثنية ، وخاصة البوذية ؛ إذ تقوم على الأساطير الإغريقية الغارقة في الوثنية ، وهي بهذا بعدت عن التصور الإسلامي الذي يتمثل في النظرة الشمولية الكاملة للإنسان والكون والحياة والجمال ، وأساس الحياة فيه تقوم على عقيدة التوحيد ، ومهمة الإنسان العليا في هذه الحياة هي عبادة الله وحده ،أمّا الجمال في التصور الإسلامي، فهو جزء من متطلبات الحياة ونظرته إلى نظرة شاملة ؛ إذ يتطلب الجمال في الجوهر والمضمون والشكل ، فالله جميل يحب الجمال ، فالمذهب البرناسي ، ورغم أنَّه قائم على الجمال ، إلاَّ أنَّ نظرته للجمال نظرة جزئية قاصرة لم تتعد شكل النص الأدبي؛ لذا نجدها أقصت الدين، وأبعدته عن الحياة ، ففقدت بذلك جمال الروحانية ، وجمال الأخلاق ، فغرقت في الإثارة الجنسية ، وجعلت من الجسد رمزاً للحب السريالي.

السريالية في شعر أدونيس

وقد بلغ أدونيس ذروته السريالية في ديوانه ( مفرد بصيغة الجمع)؛ إذ يقول :

تخرج إلى الهواء….

تدعو القمر أو ما يشبه القمر..

وتنام معه في فراش واحد…

ويقول في قصيدة أخرى

وكيف أصحح هوائجي…

والحاجة إليك هتكتني…

وأقول باسمك لجسدها..

جسدك صوتي أسمعه…

نظري أشدو فيه…

جسدك رحيلي وكل خلية منطلق…

ويستمر في تكرار كلمة جسدك حتى نهاية القصيدة.

السريالية في شعر جويس منصور

وتقول جويس منصور الشاعرة المصرية السريالية : ” أنا مدعوة لقضاء الليل في فمك يا حبيبي”.”

 

البنيوية

البنيوية كما يشرحها الدكتور الغذامي في كتابه ” الخطيئة والتكفير “غير ثابتة، بل هي دائمة التحول، وتظل تولد من داخلها بنى دائمة التوثب، فالجملة الواحدة يتمخض عنها آلاف الجمل التي تبدو جديدة مع أنها لا تخرج عن قواعد النظم اللغوي للجمل، وهذا التحول يحدث نتيجة لتحكم ذاتي من داخل البنية فهي لا تحتاج إلى سلطان خارجي لتحريكها.

وهذا يعنى قيام البنيوية على تحليل الظاهرة من داخلها دون البحث عن مؤثرات خارجية، فالبنية تتحرك من دون محرك لها، أي أنّها تنكر وجود الله المحرك الأول لها، والله هو الذي لا يحركه محرك، فهو الذي يحرك جميع الكائنات، فهي بهذا المعنى تلغى وجود الخالق وتعتبر النفس الإنسانية شيئًا من الأشياء يسري عليها ما يسرى على الأشياء من قوانين الحتمية كما يقول شتراوس.
إنّ البنيوية تقف موقفًا إنكاريًا من الدين وتنطلق من المادية الميكانيكية، وهذه بطبيعة الحال فلسفة إلحاد وملاحدة، وقد قال مؤرخ الفلسفة الأميركي فريدريك كوربلتون في كتابه (تاريخ الفلسفة) ..”إنّ البنيوية فرع جديد من المذهب الطبيعي، فالبنيويون يرون أنّ الطبيعة بنية ولذلك فإنّ ثمة تقاربًا، بل تطابقًا إلى حد بعيد، بين المذهب الطبيعي والمادية الميكانيكية، فالمادية الميكانيكية للبنية انطلاقًا من مفهوم البنية ذاته ليست أيضًا بحاجة إلى علاقة خارجها كما يزعمون”.

وهذه النظرة تناقض نظرة الإسلام، فالله هو الخالق للكون المدبر له ( فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[3]

( بيده ملكوت السموات والأرض) .. (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )[4] .. (إنّ ربّك فعّال لما يريد)[5]

(فعال لما يريد).. (إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون)[6] ..  (قل هو الله أحد)[7].. (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد)..[8](لا تأخذه سنة ولا نوم وهو على كل شيء قدير)[9].

 

إنّ الإنسان في الإسلام مخلوق مكلف، حمل أمانة الاستخلاف فهو خليفة الله في أرضه، ميزه على سائر المخلوقات بالعقل، مسيرً ومخير، وليس مجرد آلة تدور كما يقول البنيويون .

وقد خلق الإنسان لعبادة الله( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) [10] ، وهى الغاية العليا من خلقه، والإنسان من روح وجسد، وقد وازن بين الروح والجسد، فلم يجعل أحدهما يطغى على الآخر، وقد كرم الله الإنسان بالعقل، وحثه على العلم، وعلمه الله ما لم يعلم، ولكن الله أعلم منه.
بالرغم من مخالفة البنيوية للتصور الإسلامي، بل تُنكر وجود الخالق.

هذا ويُدلِّل  الدكتور عبد الله  الغذامي بكلام “بياجيه” على آرائه فيقول في كتابه الخطيئة والتكفير صفحة 32 بالحرف : “والجملة لا تحتاج إلى مقارنتها مع أي وجود عيني خارج عنها لكي يقرر مصداقيتها، وإنّما هي تعتمد على أنظمتها اللغوية الخاصة بسياقها اللغوي، ففي قوله تعالى: ” طلعها كأنّه رؤوس الشياطين” نحن لسنا بحاجة إلى الوجود العيني للشياطين لكي ننفعل بهذه الآية، فالجملة هنا تقوم بتأسيس انفعالها في نفس المتلقي عن طريق طاقتها التخييلية، الذي هو التحكم الذاتي في لغة بياجيه، بأن تعتمد البنية على نفسها لا على شيء خارج عنها، وهذه النظرة التكاملية في تصور الوحدة تخدم في تقديم العمل الأدبي لا على أنّه ناقل للمعني، ولكن على أنّه قيمة جوهرية ذاتية التولد وذاتية التحول، وبشكل مطلق على أنّه كل ذاتي الاعتبار، ولا حاجة له إلى ما هو خارج حدوده ليقرر طبيعته. وهذه هي البنيوية في مصطلحات بياجيه”. [11]

ويعني هذا أنّ الدكتور الغذامى بقوله هذا قد وقع في محظور عقدي خطير، فهو لم يكتف بإخضاع القرآن الكريم للنقد البنيوي، بل نجده صرح بأنّ القرآن أو نص الآية ذاتي ولا يخضع لمرجعية خارج حدوده، أي أنّه نفى  مرجعيته إلى الخالق جل شأنه، وهو بالطبع لا يقصد ذلك، ولكن تطبيقه لمنهج ينكر وجود الخالق ولا يتفق مع ديننا أوقعه في هذا المنزلق العقدي دون أن يقصد، وهذا أكبر دليل على مدى خطورة تطبيق مناهج الغرب على الإسلام  والقرآن الكريم وعلى فكرنا وأدبنا على علاتها قبل أن نعرضها على الإسلام ونعرف مدى توافقها ومدى مخالفتها له قبل الأخذ بها وتطبيقها والسير على نهجها .

والذي ساعد على غرس هذا المفهوم في نفوس غالبيتهم العظمى هو انبهارهم بالغرب وبفكر الغرب وبحضارة الغرب، وكلنا يعرف أنّ من المسيحيين من نقموا على دينهم لتسلط رجال الكنيسة عليهم، لذا أعلنوا التمرد عليه، وظهرت العلمانية، وجميع المذاهب الغربية المعاصرة التي انبثقت عنها، وكلها مذاهب مادية تنكر وجود الله، وتنظر إلى الإنسان والكون والحياة نظرة تخالف نظرة الإسلام، وهذا ما ينبغي أن نرفضه نحن المسلمين من هذه المذاهب.

وقد  طبّق   الدكتور عبد الله  الغذامي البنيوية في دراساته النقدية ونادى بالنقد الثقافي، وطبقه بالفعل على عدد من دراساته.

حمزة شحاتة والخطيئة والتكفير

هذا مأخذ آخر على الدكتور الغذّامى؛ إذ نظر إلى خطيئة أبينا آدم نظرة المسيحية لها. والغريب أنّه يتحدث عنها على أنّها هكذا وردت في القرآن الكريم، فيقول في صفحة (111) “.. هذه صورة لمعترك المرأة والرجل في أدب شحاته، وهي صورة لا يملك القارئ وهو يتأملها إلا أن يتذكر تاريخ البشر الأزلي في قصة الوجود الأولى كما رسمها القرآن الكريم ممثلة في حادثة آدم عليه السلام مع حواء”. ثم يقول: “فحواء كانت هي اللحظة الحساسة في تاريخ البشر منذ تواجه معها آدم على مشهد التفاحة،  وهى تقدمها له ليأكل منها، وهو يضعف أمامها ناسيًا تحذير الله سبحانه وتعالى: من الفاكهة المحرمة، وأخيراً ينسى نفسه فيأكل الحرام ويأثم، وعندئذ يحكم الله عليه بالهبوط إلى المنفى “الأرض” ويغادر آدم فردوسه مخطئًا آثمًا ونادمًا على ما بدر منه، ولكنه يهبط بوعد من الله بالعودة إلى هذا الفردوس إن هو عمل بشروط العودة، وهكذا يدخل آدم ومن بعده بنوه في صراع دائم بين قطبين أزليين هما الخطيئة والتكفير، الخطيئة طريق المنفى، والتكفير طريق العودة إلى الفردوس”.
وهذه القصة التي رواها الدكتور الغذامى لا تتفق البتة مع ما جاء في القرآن الكريم، وإنّما تتفق مع ما جاء في الإصحاح الثالث من سفر التكوين الذي ألحق تهمة الخطيئة الأزلية بحواء، وجعل الحية هي التي غوت حواء وليس الشيطان، وأنّ الله قال للمرأة عقابًا لها: “تكثيراً أكثر أتعاب حملك .. بالوجع تلدين أولادًا .. وإلى رجلك يكون اشتياقك .. وهو يسود عليك”. وقال لآدم، “لأنّك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلًا لا تأكل منها.. ملعونة الأرض بسببك .. بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك”. فهنا حكم على آدم وذريته باللعنة، فالخطيئة في الفكر المسيحي ملازمة للإنسان، إلى أن تقوم الساعة، والتفسير المسيحي لحركة التاريخ قائمة ومبنية على ملازمة الخطيئة للإنسان.

وقد نقل الدكتور الغذامى هنا آراء النقاد الغربيين، ولكنه حاول أن يلبس موضوعه لباسًا إسلاميًا فذكر القرآن الكريم، والغريب في الأمر أنّه يأتي بآيات قرآنية وأحاديث نبوية ويفسرها على أنّ الإسلام يقرر بملازمة الخطيئة للإنسان، وهذا مخالف للقرآن الكريم، لأنّ نص الآيات واضح في سورة “طه” على تبرئة أمنا حواء من تهمة الخطيئة الأزلية، وعلى قبول الله توبة آدم عليه السلام وأنّه غفر له (فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى .إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى  وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى. فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى  فَأَكَلَا. مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى . ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) [12]

وبعد عرض بعض المذاهب الفلسفية-الغربية ( الكلاسيكية الأغريقية- الواقعية بكل مسمياتها وأشكالها- الفرويدية- الوجودية، الرمزية- التصوّف- البرناسية” مذهب الفن للفن” – السريالية” اللامعقول” – البُنيوية ) ووضعها تحت مجهر التصوّر الإسلامي   تبيّن لنا مدى بعدها عن نظرة الإسلام إلى الخالق جلّ شأنه والإنسان والكون والحياة، ومع هذا أخذ بها بعض أدبائنا وشعرائنا العرب مسلمون ومسيحيون في أدبهم بعللها وعلاتها، ويظهر هذا بوضوح في أدبهم من قصص وروايات ومسرحيات ، وقصائد ومسرحيات شعرية من خلال كبار الأدباء وشعراء الحداثة وبعض نقادها، أمثال الأساتذة والدكاترة: توفيق الحكيم ، ونجيب محفوظ، وإحسان عبد القدوس، وأنيس منصور، طه حسين، ونوال السعداوي، وعبد الله الغذّامي، وصلاح عبد الصبور ، وأمل دنقل، وبدر شاكر السيّاب، ونزار قبّاني ، وأدونيس وغيرهم، فأصبح أدبنا العربي خليطًا من هذه المذاهب والفلسفات ، ممّا أفقده هويته العربية والإسلامية ، وبما أنّ تخصص الدكتور عدنان إبراهيم فلسفة، فلا يغيب عنه مدى تأثيرها على عقيدة الإنسان ، وعلى إنتاجه الفكري ، كما لا يغيب عنه مدى تأثر كبار أدبائنا العرب بها، كما لا يغيب عنه موقف القرآن الكريم من الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، ومن الشعر، فكيف يعتبر أنّ الأدب الإسلامي أُجهض، وأنّه وغيره من العلوم التي حواها القرآن الكريم مجرد وهمًا وفقّاعة؟

بل نجده – دونما قصد –  نفى وجود حضارة إسلامية التي قامت على تلك العلوم، بل نجده نفى احتواء القرآن الكريم على آيات تؤسس لوجود نظام سياسي واقتصادي وعسكري وإداري في الإسلام مع أنّه قال في ذات الحلقة (22) من برنامج صحوة : ” قلت قبل سنوات على المنبر أنّ ليس لدي مانع أن تحكم إيران العالم العربي كله والآن بدى لي العكس، فكنت أظن أنّ إيران دولة إسلامية وأنّهم مخلصون للدولة الإسلامية والمشروع الإسلامي، ولكن تبيّن لي أن إيران اختارت طريق الخسارة والندامة ، وأنّها تمارس سياسة قذرة.” وبقوله هذا نجده ناقض قوله بأنّه لا توجد دولة إسلامية ، وإنّما ” دولة مسلمين”، كما أنّ قوله يُبيِّن مدى إيمانه بوجود نظام حكم في الإسلام، فكيف ينفي وجود آيات قرآنية كافية لتأسيس نظام سياسي واقتصادي وعسكري وإداري ؟

وقبل أن أختم مراجعاتي على حلقة (22) أود التوقف عند ما ذكره الدكتور عدنان إبراهيم عن اقتراح للمستشرقة والراهبة البريطانية (وليست أمريكية، كما ذكر الدكتور عدنان إبراهيم) والذي وصفه بأنّه ذكي، ويصلح أن يكون سيناريو تاريخي بديل، ماذا لو وجد الرسول في دولة قوية مستقرة تحفظ الحقوق والحريات، وتقبل الدعوات، لما هاجر إلى مكة، ولما كوّن دولة”

فالغريب قبول الدكتور عدنان إبراهيم لهذا الاقتراح الذي ينفي أزلية القرآن الكريم، وأنّه مكتوب  في اللوح المحفوظ منذ الأزل، وما حواه من آيات تنظم الدولة الإسلامية، والدكتور عدنان يعلم علم اليقين بذلك.

وهكذا تبيّن لنا من خلال ال (18) جزءًا من مراجعاتي على حلقة (22) التي كانت تحت عنوان : ” توظيف الدين لخدمة السياسة، والتي استوقفني فيها الآتي :

  1. قول الدكتور عدنان إبراهيم : ” القرآن بطوله لا تجد فيه إلّا بعض الآيات التي تتعلّق بالسياسة.
  2. النظام الخلافي في عهد ساداتنا وتاج رؤوسنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي  لم يكن متطورًا كتطور النظام  في روما الامبراطورية ،وكانوا وثنيين، لأنّ هذا شأن إنساني، ولا يحتاج إلى توجيهات نصوصية دينية تسيّره.
  3. لو سُئلتُ من أكثر إحكامًا عدلًا وتطورًا شورى  المسلمين في الخلافة الراشدة الراشدين أم الديمقراطية الحالية ؟ لقلت الديمقراطية الحالية… شورى الراشدين تؤبد الخليفة، وأنا غير متعاطف مع هذا … هم ( يقصد غير المسلمين) الذين أوجدوا الديمقراطية وقعّدوا ونظّروا لها، ووضعوا أحكامها.
  4. عدم توقف الدكتور عدنان عند الحديث الذي استشهد به الشيخ محمد العريفي بعودة دولة الخلافة على منهج النبوة، وهو الحديث الذي يحتج به دعاة ” إعادة دولة الخلافة”  ليُبيّن مدى صحته .
  5. القرآن في القضايا الاقتصادية مقل، آيات الربا، وآيات الديْن لا يمكن أن تشكل أساسًا للشأن الاقتصادي.
  6. ما أثير في مداخلة الحلقة عن الأدب الإسلامي، وتعليق الدكتور عدنان إبراهيم عليها بقوله: ” الإسلاميون خاضعون لوهم الاكتفاء، ويظنون أنّه بما أنّ هذا الدين كامل إذا نحن يمكن أن نبني سياسة واقتصاد وعسكرية إسلامية، وإدارة إسلامية، وأدب إسلامي ..، وممّا قاله إنّ مشروع الأدب الإسلامي أُجهض، وكل هذه الأوهام ما هي إلّا فقّاعات..”

ومن مراجعاتي على هذه القضايا تبيّن الآتي:

أولًا: ثبوت أنّ النظام الراشدي أكثر تطورًا من النظام الامبراطوري الروماني (ج1)

ثانيًا: ببيان شورى الخلافة الراشدة (ج2) وببيان عدل الخلفاء الراشدين (ج3) تمّ إثبات أنّ شورى الخلافة الراشدة أكثر عدلًا وإحكامًا من الديمقراطية الغربية.

ثالثًا: الرد على  مزاعم بعض  المستشرقين الإنجليز ، مثل  ” وليم موير، دافيد مرجليوث، توماس أرنولد، مونتجمري وات، وبرنارد لويس ”  أنّ نظام الحكم الإسلامي نظام ديني فردي مستبد) “. ج4)

رابعًا : أنّ الديمقراطية الغربية دينية الباطن، وعلمانية الظاهر، وأنّ أصحاب السلطة في الدول الديمقراطية من الطبقة البروجوازية الرأسمالية، وبيات علاقة الديمقراطية بالديكتوتارية.

خامسًا: وبعد بيان عدالة الخلافة الراشدة ، وما أشعلته الدول الديمقراطية الغربية من حروب واحتلال دول واستعباد شعوب وتشريدهم على أي أساس يعتبر الدكتور عدنان إبراهيم  الديمقراطية الغربية أكثر عدلًا من شورى الخلافة الراشدة؟(ج5)

سادسًا : إثبات احتواء القرآن الكريم على أسس وقواعد الحكم، واستقاء ابن خلدون نظرية الدولة من القرآن الكريم،  وبطلان دولة الخلافة تاريخيًا وواقعيًا وإثبات عدم صحة حديث دولة الخلافة .(ج6)

سابعًا : الأصول والمبادئ التي يقوم عليها النظام المالي والاقتصادي في الإسلام ) ج 7، 8) تتلخص في التالي:

  1. تحريم الربا.
  2. عدم أكل أموال الناس بالباطل والإثم.
  3. النهي عن أكل أموال اليتامى بالباطل .
  4. العدل في الكيل والميزان وعدم بخس الناس أشياءهم ( أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ .وَزِنُوا بِالْقِسْطَاس الْمُسْتَقِيمِ . ولَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ )[13]
  5. النهي عن الغلو في التبذير والإسراف في ألوان الترفه السفيه.
  6. الادخار والتخزين.
  7. احترام الملكية الفردية وإقرارها، الملكية في القرآن الكريم ، ومقومات الملكية في الإسلام .
  8. كتابة عقود المداينة وتوثيقها بالإشهاد.
  9. كتابة عقود المبايعة والإشهاد عليها.
  10. وجوب تداول الثروات.

ثامنًا :الموارد المالية وتشريعاتها.

تاسعًا : نظريات ابن خلدون الاقتصادية التي استقاها من القرآن الكريم.(ج9)

عاشرًا: ما حواه القرآن من علوم خلق الكون والإنسان وعلوم أعالي البحار والفلك والفيزياء والكيمياء، والتفسير القرآني لحركة التاريخ(ج10)

حادي عشر : ثبوت وجود العسكرية الإسلامية باحتواء القرآن الكريم على عدد كبير من المصطلحات العسكرية، وجهود اللواء محمود شيت خطّاب في تأصيل العسكرية الإسلامية، واللواء محمود شيت خطّاب عضو في مجمع اللغة العربية العراقي ، وهذا يُعطي لكتابه المؤلف من جزئيْن في حوالى (1100) صفحة عن المصطلحات العسكرية في القرآن الكريم ثقلًا كبيرًا من متخصص عسكري لُغوي، ليؤكد أنّ العسكرية الإسلامية حقيقة واقعة مثبتة في القرآن الكريم، الإدارة في الإسلام(ج11)

ثاني عشر : بيّن القرآن الكريم موقفه من الكلمة الطيبة والكلمة الخبيثة، ومن الشعر، حتى خصّص سورة

باسم الشعراء، وقد استُنبِطت مقومات الأدب الإسلامي وخصائصه من القرآن الكريم، ومن نظرة الإسلام للخالق جلّ شأنه والإنسان والكون والحياة، ولكن الأدب العربي فقد هُويته العربية والإسلامية بأخذه بالفلسفات والمذاهب الغربية(الأغريقية الكلاسيكية، الفلسفة الواقعية بكل مسمياتها وأشكالها، الفرويدية، الوجودية الرمزية والتصوف والبرناسية والسريالية والبنيوية(ج 12- 18) بعللها وعلّاتها، فأصبح أدبنا العربي خليطًا من تلك الفلسفات والمذاهب فاقدًا لهُويته العربية والإسلامية، ممّا استلزم إيجاد مصطلح الأدب الإسلامي لإعادة الهوية الإسلامية لأدب الأمة العربية بتنقيته من شوائب التغريب والإلحاد والمعتقدات البوذية والمجوسية والوثنية الأغريقية.

مراجعاتي في الحلقة القادمة – إن شاء الله – ستكون على حلقة 23″ “عمل المرأة ووهم الاختلاط والتغريب” .

فالمراجعات لا زالت مستمرة ، فإلى اللقاء.

 

[1] . البقرة : 239.

[2] – إليا الحاوي : البرناسية والاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر بتصرف.

[3] – ياسين :83.

[4] – الشورى : 11.

[5] – هود : 107.

[6] – ياسين: 82.

[7] – الإخلاص : 1.

[8] – الإخلاص : 3-4.

[9] – البقرة : 255.

[10] -الذاريات : 56.

[11] د، عبد الله الغذّامي : الخطيئة والتكفير ، ص 32، 33، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – المغرب ، لبنان – بيروت

[12]. طه : 117-122.

[13] . الشعراء : 181-183.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: