mohamed kamal
محمد كمال

عموم الناس في جسم البشرية فتحت أعينها على الدنيا وأسماؤها جاهزة ومجمل انتماءاتها محددة وكذلك دينها ومذهبها وتفرع الفرع في مذهبها، ولم يبق أمامها إلّا أن تنصاع لتلك المحددات الموروثات دون نقاش ولا جواز للخروج على الملة، إلّا فيما ندر من الناس، من الناس الذين تتفتح بصيرتهم على آفاق ما بعد المحددات الموروثات. وعلى هوى هذه المحددات الموروثات التي تغلف كيان الفرد دأب الناس في عمومهم ومن عامة عامتهم على رفض كافة الانتماءات العقائدية الأخرى، ويتدرج هذا الرفض من أدنى مستويات الاختلاف والخلاف الى أقصى حرارة التكفير وإباحة الدم والحلال.

ومن خاصة الخاصة وندرة النادرة من الناس، الناس من أهل الفكر والتفكر فيما وراء المحددات الموروثات، الدكتور عدنان ابراهيم وهو من المفكرين الإسلاميين الواقعيين، لقد استمعت الى عدد من محاضراته عبر وسائط التواصل الاجتماعي، وكان واضحاً أن منظومة فهمه لافكاره الدينية تتسم بالوسطية والعقلانية ويسعى كل جهده التأكيد على أن التكفير وإقصاء المنظومات الفكرية الاخرى ليس من روح الاسلام، وهو بهذا الطرح التسامحي والتقريبي بين الناس وأفكارهم وأديانهم ومذاهبهم يكشف عن ذهنية صادقة في سلميتها وانفتاحها بصدر رحب لتقبل أكثر الأفكار السائدة ويتحسس لها موقعاً مقبولاً وخاصة في الدائرة الاخلاقية.

إضافة الى جرأة مميزة في الدخول في دهاليز الأفكار التي يعتبرها اكثر المفكرين الدينيين دهاليز يجب غلق أبوابها بالكامل والتمام، بينما الدكتور عدنان ابراهيم يفتح كل الأبواب ويتحسس ممرات الدهاليز الى أفاق الأفكار المغايرة لفكره، فها هو في إحدى تجليات أطروحاته الجريئة لا يتردد أن يصف المفكر كارل ماركس بالانسان العظيم بما يتصف به من أخلاق عالية وإخلاص من أجل تثبيت دعائم الأخلاق في العلاقات الانسانية، والكل يعرف أن كارل ماركس هو مؤسس المنظومة الفكرية الشيوعية، هذه الشيوعية التي تُحَرِّمُ الغالبية الغالبة من المفكرين الدينيين الدخول في أصول فلسفتها ونهج تفكيرها.
يتحدث الدكتور عدنان، وبكل صراحة ووضوح، عن اخلاقية كارل ماركس الموسوم بالإلحاد، وعدم اخلاقية بعض المؤمنين بالدِّين والغيب، طرح فكري جريء وصادق وفريد من نوعه، والذي يريد ان يوصله كفكرة هو أن اخلاقية الملحدين ليست بعيدة عن الدين بل هي نابعة بالأساس من تأثرهم بقيم الدين دون ان يعوا ذلك، وأن البيئة الدينية السائدة والغالبة في جميع المجتمعات إضافة الى الثقافة الواسعة لهؤلاء الملاحدة هي الأساس في أخلاقياتهم، خاصة وانهم يلتهمون جميع صنوف الثقافة والفكر بما في ذلك الفكر الديني بكل مدارسه واشكاله. وهو بهذا المنحى في فهم الفكر الديني والموقف العقلاني يتفق مع علم النفس الاجتماعي الذي يعطي اللا وعي في العقل الباطن مكانة رائدة في سلوك الانسان ونمط أفكاره، وهو بهذا المعنى يُضَمِّنُ إيمانية الملحد من المنطلق الاخلاقي في مخزون اللا وعي عند الانسان الفرد، فمن هذا المنظور فإن الانسان الملحد وعياً، هو في ذات الوقت مؤمن في لا وعيه بفعل السلوك الاخلاقي الملازم لكيانه النفسي والذي يظهر في المحيط من مرآة شخصيته، هذا هو المنطق الذي يستدل به الدكتور عدنان في احترامه وتقديره للملاحدة من أمثال كارل ماركس وجيفارا والمناضلين الآخرين الذين كرسوا زهرة حياتهم من أجل سعادة البشرية في دوائرها الوطنية الضيقة وآفاقها البشرية الواسعة.

من الناحية النظرية واللفظية من السهل تصنيف المؤمن من غير المؤمن، ولكن من الناحية الواقعية فالامر اكثر تعقيداً، لأن المقتضيات الدينية الملزمة غير محصورة في فروض أداء الطقوس وحدها، بل ان جوهر الطقوس كلها يستهدف الارتقاء بالانسان المؤمن الى مكارم الأخلاق ومنازلها المتعددة، وهذا التداخل بين الطقوس والاخلاق هو بيت القصيد في هذا التعقيد، وقد اعتمد الدكتور عدنان على مؤشر الأخلاق دون الطقوس الدينية في تحديد الإيمانية الخالصة لدى الانسان، وكان هذا مدخله لذكر كارل ماركس وأمثاله بالخير. ويمكننا إدراج عنصري الطقوس والاخلاق في معادلة رياضية والتي محصلتها أن الذين يتمتعون بالاخلاق فانهم مؤمنون حسب المقتضيات والضرورات الدينية التي تُغَلِّبُ الأخلاق على ما دونها من طقوس وإن كانت ملزمة.

ومن موقع الاعتقاد بأهمية الايمان والايمان بضرورة الاعتقاد، فان هذا المفكر المؤمن، والذي يرى في الاخلاق جوهر الدين، لا يستسيغ أن يرى إنساناً ملحداً ذا اخلاق عالية خارج دائرة الدين والايمان، وهكذا لم يجد سبيلاً إلّا أن يصف أمثال كارل ماركس بانهم مؤمنون ولكن دون وعي منهم، لأن خزينة اللا وعي عندهم غنية بجوهر الايمان الذي ينادي به الدكتور عدنان ابراهيم، وهذا يتفق كذلك مع المعادلة الرياضية الآنفة الذكر.

محصلة الرأي أن هذه النزعة الصادقة والنظرة الأمينة لدى د. عدنان ابراهيم تستحق الاحترام والتقدير وكثيراً من التأمل، وحبذا لو كانت البقية الباقية من رجالات الدين ودعاته على امثاله يجتذبون الآخرين من خارج دائرة عقيدتهم ومنهم الملاحدة الى دائرة إيمانهم من البوابات العديدة والشاسعة للاخلاق، لكانت الدنيا والدين بخير، ولا شك أن الدكتور عدنان ينطلق من قناعة راسخة بالدِّين الاسلامي، وانطلاقاً من هذه القناعة وإيمانه بأهمية الفهم الانساني الواسع لقناعته يخطو هذه الخطوات التي لم يسبقه أحد اليها، وهذا المزيج من القناعة العقائدية والفهم الانساني يجعل منه مفكراً صادقاً كل الصدق مع ما يجول في نفسه دون أدنى تردد ولا تحفظ.

وهذا الطرح الجريء الذي ينادي به ينسجم دينياً ودنيوياً مع مهمة الدعوة ونشر الدين والذي هو أحد روادها العقلانيين، بدل المناكفة واعلان الحرب على أصحاب المنظومات الفكرية الاخرى والتي معظمها تدعو الى العدالة الاجتماعية والتأكيد على صون كرامة الانسان وحقوقه، إضافة الى أن هذه المنظومات الفكرية، وفي المقدمة منها الماركسية، تنادي بأهمية الأخلاق ونبذ الكراهية وإدانة جميع الأشكال العنصرية والوقوف ضد استغلال الانسان لاخيه الانسان وسلمية التعامل مع الانسان في المحيط الوطني والعالمي.

فمن هو الدكتور عدنان إبراهيم؟

إنه طبيب وخطيب فلسطيني من الخطباء المسلمين البارزين ويحسب على المتنورين، خطيب مسجد الشورى بالعاصمة النمساوية، ورئيس جمعية لقاء الحضارات فيها كما انه يلقي الدروس الدينية والعلمية في المسجد. لديه العديد من الأفكار والنظريات والأطروحات المثيرة للجدل.

عن صحيفة الأيام البحرينية
رابط المقال

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: