نظرية التطور 

السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات

الحلقة الثامنة

ولادة النظرية – الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.

ألفرد راسل والاس
ألفرد راسل والاس

إخواني وأخواتي: السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، وقفت معكم في الحلقة السابقة عند المُقارَبة التي طورها ألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace لعمل الانتخاب الطبيعي فيما يخص الحالة الإنسانية وفيما يخص الإنسان وبالذات فيما يخص المخ والدماغ الإنساني، فوالاس Wallace – علماً بأنني ذكرت هذا في مطرقة البرهان قبل ذلك في الحلقات السابقة – باختصار يرى أن %k8mY
j2沈.ZRFhfbPr#=c)UTÖANuQ-)@”-{PHܱ6I0>{t-9bosp^BQ-lu%2^P? z pяqYzKaZ�������9bتشفه أيضاً صديقه تشارلز داروين Charles Darwin يفشل في تفسير الدماغ الإنساني، وهذا نقد قوي جداً وقد أشار إليه قبل أن ينشره في ورقة بحثية قصيرة في دورية معروفة في بريطانيا حتى أن داروين Darwin كت%A՚e 6EFbSk%O0LK(;\nA{(%@loSg3J_5 XTȌ(4ּDKfM>;ɂ @[V ^P=h4FMWމ\1kS^Zo`:?Z 6[yT!?SDgG/3Y| 6 ٠y 櫸 {ej}
‘z0~ YXtZ”`=Yz\Wdw<2*%䷪h~\\d|2g|˟XvW<O|ME7jW’-.}uAf,e;7Qؖձ*-!)vg V*غcl9jcK[Ի ,YIaD]H3eت6
 CrCcr*”L
ڒ7 
f 8o%;tZ�������?6*8 طفلي وطفلك”، كأنه كان يحدس بأن والاس Wallace سوف يُسدِّد نقداً قوياً للانتخاب الطبيعي ولذا يقول له “أخشى ما أخشاه أن تئد – أي تعمل على وأد – طفلي وطفلك”، لكن ما هو الطفل هنا؟ فكرة الانتخاب الطبيعي – Natural Selection – التي هى جوهر النظرية، فنظرية التطور بغير الانتخاب الطبيعي لا تُساوي شيئاً ولا تستطيع أن تفعل شيئاً ولا أن تُفسِّر شيئاً، فإذا قتلت هذا الطفل سوف ينتهي كل شيئ، ومن ثم كان ينتظر داروين Darwin على أحر من الجمر أن يقرأ هذه الورقة البحثية، ثم صدرت الدورية التي فيها المقالة أو الورقة البحثية لوالاس Wallace وقرأها داروين Darwin وغضب جداً وكتب بقلمه على هامش المجلة “No” أي كلا، غير صحيح، فهو رفض هذا مع أن حُجة والاس Wallace قوية جداً إلى اليوم، وطبعاً هذا سنُفصِل فيه في السلسلة الثانية حين نتحدث عن نقد نظرية التطور.

إلى اليوم في علم الدماغ والأعصاب المُقارَبة الوالاسية – نسبةً إلى والاس Wallace – قوية جداً، فالتطور بالانتخاب الطبيعي يفشل ويعجز عن تفسير هذا الحجم من الدماغ وبالتالي هذا القدر من الذكاء الذي يتميز به الإنسان والذي هو فائض جداً وفوق بمراحل ما يتطلبه موضوع البقاء Survival، فنحن لكي نبقى ونعيش لا نحتاج كل هذا الدماغ، لأن عُشر هذا الدماغ يكفينا، ولكن احذر من أن تقول لي لو عُشره يكفي فهذا يعني أن الشامبنزي Chimpanzee سوف يتفوَّق علينا لأننا سمعنا منك ومن غيرك أننا نتشارك مع الشامبنزي Chimpanzee في حوالي ثمانية وتسعين أو تسعة وتسعين في المائة من الجينوم Genome الخاص بنا، وهذا صحيح لكن هذا أيضاً سوف نرجع له في السلسلة الثانية، فإذا كنا نتشارك مع الشامبنزي Chimpanzee في ثمانية وتسعين في المائة من الحقيبة الوراثية لا يعني بالمرة أن الشامبنزي Chimpanzee لديه ذكاء يُساوي ثمانية وتسعين في المائة منا أو لدى الشامبنزي Chimpanzee ذكاء يُساوي ثمانية وتسعين في المائة مما لدى الإنسان، فهذه ليس لها علاقة أبداً، وسوف طبعاً تكتشف أنك تتشارك مع كائنات أبعد بكثير من أن تقترب من الشامبنزي Chimpanzee مثل الفئران مثلاً وبنسبة صادمة، ومن ثم قد تعتقد أننا نتشارك مع الفأر في اثنين في المائة ولكن الصحيح هو أننا نتشارك مع الفأر بنسبة تصل إلى فوق الستين في المائة على ما أذكر لأنني لم أتحقق من هذا، لكن على ما أذكر نتشارك مع الفأر بحوالي أربعة وستين في المائة، وهذا لا يعني أن الفأر لديه ستون في المائة من ذكائك أو ستون في المائة من لياقاتك أو ستون في المائة حتى من تركيبة – Structure – الإنسان، هذه ليس لها علاقة أبداً، وهذا مُهِم أن نُسلِفه من الآن، فهذا تحت الحساب كما يُقال، فمُهِم جداً أن تتفطنوا إلى الدلالات الحقيقية لمثل هذه النسب، كالنسبة التي تصل إلى ثمانية وتسعين في المائة عند الشامبنزي Chimpanzee أو كالنسبة التي لدى الفأر أو اليقطين أو القرنبيط أو غير ذلك، فحتى النباتات تتشارك معنا في الـ DNA طبعاً، وسوف نفهم ما هى الدلالات الحقيقية لهذه المُشارَكة حتى لا نُضلَل، لكن على كل حال والاس Wallace يقول “الانتخاب الطبيعي يفشل عن تفسير هذا الحجم للدماغ أو للمخ” فما رأيك إذن؟ ثم أنه قال “هناك ذكاء مُتحكِّم” أي يُوجَد ذكاء يتحكَّم في الموضوع، وطبعاً قصده الله تبارك وتعالى، فوالاس Wallace يقول هناك إله وهناك خالق، وهذا الخالق يقود هذه العملية كلها، فطبعاً داروين Darwin يُجَن جنونه لأن داروين Darwin يخشى أن تسقط نظريته، وأنا لا أدري لماذا؟ هذا سنُفصِّل فيه في السلسلة الثانية أيضاً لكن من حقنا أن نتساءل لم هذا الإصرار العنيد من داروين Darwin – وقد كان هذا العالم الكبير عنيداً – على أن يُصوِّر الانتخاب الطبيعي على أنه آلية تعمل بالمُطلَق بعيداً عن كل سلطة للإله بالكامل؟ فهو يُريد أن يحدث هذا بالكامل، فممنوع أن تقول بوجود ذكاء مُتحكِّم يقود العلمية ويُوجِّه مسار العملية ويُعطيها الـ Path أو الـ Track، فممنوع أن تقول هذا لأنه سوف يقول أن هذا يُفسِد النظرية كلها!

توماس هنري هكسلي
توماس هنري هكسلي

والاس Wallace كان تطورياً وهو مُكتشِف النظرية أصلاً هو على قدم سواء مع داروين Darwin، فكان يقول بالانتخاب الطبيعي وظل وفياً له حتى اللحظة الأخيرة مع أن مُعظم الذين آمنوا بالتطور في عصر داروين Darwin لم يُؤمِنوا بالانتخاب الطبيعي، وهذا حصل مع معظمهم على الإطلاق وفي رأسهم توماس هكسلي Thomas Huxley الذي لم يُؤمِن بالانتخاب الطبيعي طبعاً، فالانتخاب الطبيعي نُقطة ضعف النظرية في زمن داروين Darwin، علماً بأن من الصعب إثباته والدفاع عنه وسوف نشرح كيف هذا، فهكسلي Huxley كان يقول “أنا قرأت الكتاب – أصل الأنواع – وهو كتاب عظيم، ثم وصلت إلى الانتخاب الطبيعي ولم أقتنع”، وطبعاً الانتخاب الطبيعي هو أول شيئ في الكتاب، فأنت حين تقرأ أصل الأنواع سوف تجد أن أول ما يُحدثِّك عنه هو هذه الآلية، وكان الترتيب المنطقي هو أن يتحدث عن التطور كظاهرة تحدث ثم يأتي بأمثلة وبعد ذلك يتحدث عن الميكانيكية أو ما يُسمى بالآلية – الميكانيزم Mechanisme – الفلانية، فيقول لك ما هى الآلية التي يحدث بها التطور وكيف يقع التطور ثم يتحدث عن الانتخاب الطبيعي، لكن داروين Darwin قلب الآية – قلبها تماماً – فبدأ مُباشرةً بالحديث عن الانتخاب الطبيعي وكيف يعمل الانتخاب الطبيعي وكيف يشتغل، وبعد أن فرغ من هذا عاد الآن وبدأ يتحدث عن التطور وكيف يحدث وجعل يأتي بأمثلة عليه، فلماذا هذا القلب إذن؟ إدراكاً منه إلى أن نُقطة أصالته هى الانتخاب الطبيعي وليس التطور، فالتطور الكل تقريباً يُؤمِن به بطريقة أو بأخرى طبعاً، حتى وإن كان تطوراً مُوجهاً أو تطوراً مقوداً من السماء، فالتطور لم يكن منكوراً، ولكن المنكور هو الانتخاب الطبيعي، وهو نوع من التحدي أيضاً ونوع من محاولة كسب المعركة في أول جولة، كأنه يقول “سأبدأ أُحدِّثك عن بالانتخاب الطبيعي وأنت نشيط وقوي، فحين تقرأ الآن سوف تبدأ بالانتخاب معي وأنت نشيط، وليس حين تتعب وتتخاذل وتكون وصلت إلى الفصل النهائي فتكون قد تعبت ومن ثم لن تستوعب شيئاً”، على كل حال هو بدأ بالانتخاب الطبيعي، وهكسلي Huxley كان يقول “نظرية عظيمة وكتاب عظيم ومقبول وجيد ولكن الانتخاب الطبيعي فيه نظر”، فهكسلي Huxley هو كلب داروين Darwin الحارس له ومع ذلك يقول “هذا الانتخاب الطبيعي فيه نظر” ثم يقول مُستتلياً “أنا أتساءل – I Wonder – هل رأى أحدٌ الانتخاب الطبيعي يعمل؟” أي هل من المُمكِن أن نراه وهو يشتغل – In Actually – وهو قيد العمل؟ هذا مُستحيل، لأن بحسب داروين Darwin هذا الانتخاب الطبيعي يحتاج إلى ملايين السنين أحياناً وأحياناً إلى نصف مليون سنة وأحياناً غير ذلك، وحتى لو احتاج إلى ألف سنة فقط مَن الذي يستطيع أن يراه؟ هذه زمانية طويلة، ولذا هذا لا يُرى بالعين، وهذا عكس تماماً طبيعة العلم التجريبية – Empirical – أو الطبيعة التجريبية للعلم، لأن هذا الشيئ لا يُجرَّب، فهو غير قابل للتجريب – Untestable – أصلاً، وبالتالي لا يُمكِن أن تُجرِّبه أنت، ومن هنا كان يقول هكسلي Huxley “هل رأى أحدٌ الانتخاب الطبيعي وهو يعمل؟ هل رأى السيد داروين Darwin – هو يحترمه طبعاً جداً ويعتبر نفسه تلميذاً له – الانتخاب الطبيعي يعمل فيُخبِرنا؟حسنٌ، كلا” أي أنه لم ير يُشاهِد هذا، ولذلك قال أنا لن أُغامِر ولن أُعطيه شيكاً – Cheque – على بياض وأقول له أن الانتخاب الطبيعي يُعَد صحيحاً، فالانتخاب الطبيعي ليس كذلك.

يجب أن ننتبه إلى أن الذي يقول هذا هو هكسلي Huxley، فما بالك بغير هكسلي Huxley طبعاً من الذين رفضوها رفضاً قوياً شرساً؟ فهذه كانت نُقطة ضعف في النظرية في زمن داروين Darwin وليس اليوم، حيث تُعتبَر آلية قوية جداً وشبه مُقنِعة تماماً، لكن في عهد داروين Darwin كانت نُقطة ضعف في النظرية.

نعود إلى المُلاحَظات لكي نرجع للتفسير فيما بعد، فسوف نرى كيف يُمكِن لتفسير بسيط أن يُفسِّر لك كل هذه المُلاحَظات بعد أن توصل إليه داروين Darwin، نأتي إلى أشياء لها علاقة بالتوزيع الجغرافي أو ما يُسمى مثلاً بالجغرافية الحيوية أو البايوجيوجرافي Biogeography، فقد لاحظ داروين Darwin أن هناك ثمة أماكن كثيرة حول سطح البسيطة أو المعمورة ظروفها مُهيأة تماماً لمعيشة العديد من أنواع الحيوان لكنها تخلو تماماً من هذه الأنواع، أي أنها فارغة ومن هنا تساءل داروين Darwin لماذا؟ فهذا سؤال مُهِم، وهذا أحد الأشياء التي ألهمته النظرية فيما بعد، فلماذا هناك أماكن على وجه البسيطة في البرية صالحة لمعيشة حيوانات – أي أنواع من الحيوان – لكنها غير موجودة؟ فتساءل داروين Darwin مرة أخرى الآن بهذا الصدد وقال “لو كانت المخلوقات وُجِدَت بخلق إلهي خاص – أي Special creation بمعنى أن الله خلقها – فهذا الموضوع ليس له تفسير إذن، فلماذا تخلق يا الله – عز وجل – أرضاً صالحة لمعيشة الحيوانات ثم لا تُودِع فيها حيوانات؟ هذا عبث”، وطبعاً Absolutely هذا عبث، ولذلك يقول داروين Darwin “المسألة لا علاقة لها بالخلق الخاص”، ثم قال “نظريتي سوف تُفسِّرها، فالدين لا يُفسِّرها ولكن أنا سواف أُفسِّر هذا وأقول لكم كيف” فهذا شيئ عجيب ولذا هكذا تساءل، كما لاحظ أيضاً تشارلز داروين Charles Darwin أن القارات المُختلِفة تختلف في مُناخاتها وفي شروطها البيئية وتحوي أنواعاً مُختلِفة حتى إن كان بعض هذه القارات لا تختلف في مُناخاتها، أي عكس ما بدأت به، فهناك قارات تختلف مناخاتها وبالتالي لا مُشكِلة في أن تحوي أنواعاً مُختلِفة، فهذا شيئ طبيعي، لكن هناك قارات تتحد مناخاتها، مثل أفريقيا وأمريكا اللاتينية، فالمُناخ واحد وهو مُناخ استوائي – Tropical – لوجود خط الاستواء، فهذه هى أفريقيا وهذه هى أمريكا اللاتينية، ومن ثم يُوجَد نفس المناخ تماماً لكن حيوانات القارة الأفريقية غير حيوانات القارة الأمريكية اللاتينية، فلماذا إذن رغم أن هناك نفس المُناخ تقريباً ونفس شروط الطقس، فتساءل داروين Darwin بهذا الصدد وقال لماذا هذا، وقال أن الجواب أيضاً لا يُمكِن أن يأتي من خلال التفكير الديني البسيط الخطي المُتعلِّق بالخلق الخاص، فلو الخلق الخاص هذا أيضاً عكس الحكمة فالله لا يُساوي بين المُختلِفين ولا يُماثِل بين المُختلِفين ولا يُفرِق بين المُتساويين، هكذا هو التفكير وهكذا يقول علم الكلام وهكذا هو الثيولوجى Theology المسيحي واليهودي والإسلامي، فنفس المُناخ هنا وهناك وبالتالي كان من المفروض أن تتواجد نفس الحيوانات، لكن الحاصل هو وجود نفس المُناخ – علماً بأنه يجب أن يُقال مُناخ وليس مَناخ – ولكن الحيوانات مُختلِفة، ومن ثم داروين Darwin سوف يقول لك “في نهاية المطاف نظريتي سوف تُفِّسر لك هذا وأنا سوف أُفسِّر لك إياه لأن الدين لا يستطيع أن يُفسِّر هذا”، وطبعاً لما تقرأ أصل الأنواع سوف تجد هذا، وكما قلت يُمكِن أن تقرأه بسهولة، فالنص العلمي الوحيد المُؤسِّس والضخم الذي يُمكِن لغير المُتخصِص أن يقرأه هو أصل الأنواع، فتستطيع أن تقرأه بشكل عادي وأن تفهمه دون أن يكون عندك أي مُشكِلة، لكن طبعاً من الصعب أن تُفلِت من عضته، فمن المُؤكَّد أن هذا النص سيعضك وسيُعلِّم فيك أثناء القراءة، ومن ثم سوف تقتنع لما تقرأ هذه المُحاجَة طويلة، فلك أن تتخيَّل أن النُسخة العربية حوالي ثمانمائة صفحة، وهذه الثمانمائة صفحة كلها من أجل يُقنِعك أن هناك ما يُسمى بتحول الأنواع، ثم سوف يأتي لك بأدلة من شتى الميادين والعلوم المُختلِفة، وعلى كل حال هذا سوف يُفسَّر لاحقاً.

ألفريد فيغنر Alfred Wegener
ألفريد فيغنر Alfred Wegener

لدينا الجُزر القارية – Continental Islands – والجُزر المُحيطية – Oceanic Islands – أيضاً، وهناك فرق بين هاته الجُزر، فطبعاً الجُزر القارية عموماً تكون مُرتبِطة بفاصل وبسيف وبرصيف – كما يٌقال – مع القارة الأصلية أو القارة الأم مما يدل على أن هذه الجُزر في الماضي السحيق كانت جزءً من القارة ذاتها، فجرينلاند Greenland – مثلاً – مُرتبِطة بالرصيف مع أمريكا الشمالي ، وهذا يعني أن من المُؤكَّد أن هذه قبل عشرات أو مئات ملايين السنين كانت جزءً من أمريكا الشمالية ثم انفصلت، وطبعاً أيام داروين Darwin لم تكن النظرية التكتونية موجودة، فسوف ننتظر لبداية القرن العشرين لما يأتي الألماني ألفريد فيغنر Alfred Wegener  ويتحدَّث عن موضوع زحزحة القارات، وطبعاً سيُسخَر منه ولن يُسلَم له بالنظرية، وسوف ننتظر تقريباً لأواخر الستنيات – في حوالي سبعة وخمسين – لما تثبت هذه النظرية، وطبعاً في الحلقات المُقبِلة حين أُحدثكم عن براهين التطور لابد أن أُخصِص وقتاً بسيطاً لنظرية الألماني فيجنر Wegener وسوف نرى كيف ثبتت علمياً بعد أن كانت لعقود محط سخرية، لكن على كل حال هذا لم يكن موجوداً أيام داروين Darwin، فهذا الكلام لم يكن موجوداً ولم يخطر على بالهم، فعندهم موضوع تغير التضاريس والأشياء هذه كان واضحاً، لكن من الصعب الحديث وقتها عن الصفائح والتضاريس الأرضية التي تتحرك وتتباعد، والقارات التي كانت في الأصل قارة واحدة ضخمة ثم انفصلت، فهذا خيال، ومن ثم كان يُقال لك ما هى القوة التي يُمكِنها أن تُحرِّك القشرة الأرضية؟ هذا مُستحيل، فلا يُوجَد قوة ما تستطيع أن تُحرِّكها، لكن الألماني فيجنر Wegener كان عبقرياً ومن ثم فهم هذا، وكلامه بالطبع صحيح تماماً وقد ثبت بالدليل التجريبي، وسوف نرى كيف هذا وما هو الدليل، وعلى كل هذه هى الجُزر الجُزر القارية Continental Islands، وعندنا الجُزر المُحيطية Oceanic Islands التي تجدها في قلب المُحيط وكأنها مزروعة فيه زرعاً، وليس لها أي علاقة بالقارة ولا بأي طريقة من الطرق لأنها مُنفصِلة تماماً عن كل هذا، وبعضهم قال أن من المُمكِن أن الذي كوَّن هذه الجُزر براكين رمت بحممها ووقعت في المحيط فتكوَّنت هذه الجُزر هنا، وبعضهم قال أن هذه الجُزر المُحيطية في الأصل هى ما تبقى من جبال، فهذا رأس جبل عائم من قديم غمره المحيط وبقيَ منه هذا الجزء الظاهر، وإسمه جزيرة مُحيطية، فإذن هناك تفسيرات على كل حال في الجيولوجيا Geology لكن ليس لنا علاقة بها، المُهِم هو أن هذا يخدم نظرية داروين Darwin وأن هذا ألهمه أيضاً أفكاره، لكن لماذا؟ فقد لاحظ داروين Darwin أن الحيوانات في الجُزر القارية تتشابه مع حيوانات البر الرئيس، أي البر الرئيس الخاص بهذه القارة، فهناك جزيرة وحيوانات هذه الجزيرة القارية تتشابه مع حيوانات البر الرئيس – علماً بأنه لا ينبغي أن نقول رئيسي وإنما نقول رئيس، فإذا قلنا رئيسي وماماً، وهذا جيد، فإذا كنت تتقبل هذا تماماً فما هى مُشكِلتك مع آليات مُعينة تشتغل وتُنتِج لنا شيئاً آخراً مثلاً؟ ولنفترض التطور مثلاً مبدئياً، فالمُشكِلة إذن؟ هل سألت نفسك كمسلم أيضاً مرة لماذا ليس لديك أدنى مُشكِلة مع الاستنسال Breeding؟ أنتم تعرفون الاستنسال – Breeding – الخاص بمُربي الحيوا%Dا شيئٌ رئيسي، فهذا خطأ واضح، ومن ثم يجب أن نقول رئيس إذن – أيضاً، فإذن الحيوانات مُتشابِهة مع التي في البر الرئيس الخاص بالقارة، وطبعاً هذا مفهوم، فنحن الآن نفهم لماذا هذا، فقد قلنا هذه كانت قطعة منها في الأصل وانفصلت، أي أن المنشأ كان واحداً ومن ثم يُوجَد تشابه، لكن علينا أن ننتبه إلى أن الحيوانات في الجُزر المُحيطية لا تُشبِه الحيوانات في أي قارة قريبة إليها، فنحن عندنا جزيرة مُحيطية ولكن الحيوانات مُختلِفة مع أقرب القارات إليها، فهناك اختلاف إذن وهذا شيئٌ عجيب!

تشارلز داروين
تشارلز داروين

لاحظ داروين Darwin أيضاً أن في الجُزر المُحيطية لا تُوجَد برمائيات، فهو زار ورأى جُزراً مُحيطية ووجد أن هذه الجزر المُحيطية تخلو من البرمائيات، مثل برمودا Bermuda ومثل هاواي Hawaii، فهذه جُزر مُحيطية وليس فيها برمائيات بالمرة، وهذا شيئ غريب، فلماذا إذن؟ أنت تتوقع أن تجد حيوانات برمائية في أي مكان، سواء في جزيرة قارية أو جزيرة مُحيطية، ففي أي مكان ينبغي أن تجد برمائيات – التي تذهب من الماء إلى البر ومن البر إلى الماء – لكنه قال أن هذه الجُزر المُحيطية لا تُوجَد فيها برمائيات Amphibians، فلماذا إذن؟
كل هذه الأشياء هى التي قدحت – كما قلت لكم – الشرارة عبر سنين في ذهن داروين Darwin ما جعله يُفكِّر فيها باستمرار، فهناك أسئلة كبيرة يُنبغي أن يُجاب عنها، لكن طبعاً مات الموجودة في البرية في الحظائر عنده وأن الله لم يخلقها الله خلقاً مُباشِراً، فنحن كمُؤمِنين نقول خلقها الله بنا وعبرنا، أي أننا كنا الوسيلة، فنحن نتقبل هذا طبعاً، وبالتالي إذا كنت تتقبل هذا ولا ترى فيه إلحاداً ولا كفراً ولا تجنياً 8 فمما يُحمَد لنا كمسلمين أن عندنا بعض الأسس العبقرية والقوية والعميقة ولكن التطبيقات بليدة وغبية وسخيفة جداً، فهناك أسس تقول لك أن لا مُشكِلة في هذا لأن الله لا يتصرَّف بشكل مُباشِر، فأي مسلم بسيط يفهم الكلام هذا، أي مسلم عادي عنده تقبل من غير أي نزوع إلى التحرج أو التأثم أن الله يفعل عبر الأسباب، فكما نقول دائماً هو يفعل بموسوطية، والقرآن يُؤكِد هذه النظرية الفلسفية اللاهوتية في عشرات الآيات، قال الله وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ۩ وقال – مثلاً – أيضاً وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا ۩، فالله يتحدَّث عن الملائكة، مثل ملائكة السحاب وما إلى ذلك، فهذا كثير جداً في كتاب الله، والله يقول أيضاً تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ۩، فالملائكة تتوفى لأن هذه كلها وسائط وبالتالي لا مُشكِلة في هذا، والله كان قادراً على أن يخلق أي شيئ ويفعل أي شيئ بغير واسطة، فيستطيع أن يفعل مُباشرةً ما يُريد ولكنه لكن لا يفعل هذا والمسلم يتقبل هذا تماماً، وهذا جيد، فإذا كنت تتقبل هذا تماماً فما هى مُشكِلتك مع آليات مُعينة تشتغل وتُنتِج لنا شيئاً آخراً مثلاً؟ ولنفترض التطور مثلاً مبدئياً، فالمُشكِلة إذن؟ هل سألت نفسك كمسلم أيضاً مرة لماذا ليس لديك أدنى مُشكِلة مع الاستنسال Breeding؟ أنتم تعرفون الاستنسال – Breeding – الخاص بمُربي الحيوانات، فالمُربي يُهجِّن نوعاً مع نوع ومن ثم يظهر لنا النوع الجديد، فهذا أمر عادي وموجود بكثرة، والبشر يُمارِسون هذا في النبات وفي الحيوان من ألوف السنين، فاليوم عندك مئات الأنواع من الكلاب، وبعضها فعلاً أنواع بمعنى أنه لا تُوجَد إمكانية للتزاوج بينها، فأحياناً لأسباب ميكانيكة لا يُمكِن أن يحصل التزاوج، فقد يُوجَد كلب ضخم وكلب صغير وبالتالي ميكانيكياً لا يُمكِن أن يتناسب هذا مع هذا، من المُمكِن أن يحصل هذا صناعياً – Artificially – بأن تُلقِّح هذا بهذا ومن ثم يتم الأمر، لكن ميكانيكاً لا تُوجَد إمكانية لفعل هذا، فهذا كلب صغير وهذا كلب ضخم في حجم الذئب مرة ونصف، وبالتالي من الناحية الميكانيكة لا يُمكِن هذا، لكن كل هذه الكلاب في نهاية المطاف استُنسِلت من بعضها البعض، وأصلها البعيد ذئب، علماً بأن هذه النظرية ثابتة الآن في العلم.

عندك الآن أنواع – Varieties – كثيرة من الأرانب، وهذه الأنواع يُسمونها بالفصائل أو السلالات Breeds – – وهى – كثيرة جداً جداً جداً لكن كلها في نهاية الأمر ترجع لنوع واحد، وكذلك يُوجَد في الحمام – Pigeons – مئات الأنواع، علماً بأن داروين Darwin في النهاية ربى الحمام لسنوات في مزرعته بنفسه وأحب هذا الشيئ جداً، حيث يُمكِنك رؤية هذا الحمام بأشكال مُختلِفة تماماً، وهذه كلها – كما قال – ترجع إلى حمام الصخر – Rock – أو الحمام الصخري وهو هندي الأصل، فهذا نوع واحد ولكن خرج منه مئات أنواع الحمام، وكما ذكرنا في حلقات سابقة نحن أيضاً عملنا عملية تهجين بين الفرس وبين الحمار، وبين الحصان وبين الأتان ونتج لنا البغل،وفي دبي على ما

الكاما Cama
الكاما Cama

أعتقد في أواخر الألفية السابقة – في التسعينات لكن لا أعرف السنة تحديداً – قام جماعة من الإنجليز طبعاً وليس من العرب بعمل عملية تهجين بين الجمل واللاما Lama، علماً بأن اللاما Lama تعيش في أمريكا اللاتينية، وهى صغيرة وشبيهة بالجمل، وأصلها هو الجمل فعلاً من قديم، وعلى كل حال نتج حيوان جديد إسمه الكاما Cama، فهو مُكوَّن من Camel ومن ومن لاما Lama فنتج حيوان جديد إسمه الكاما Cama، فهل اعترض أحد وقال أعوذ بالله أو أستغفر الله أو لماذا أيها الكفرة الزنادقة تخلقون خلقاً جديداً؟ هل قال أحد هذا؟ هل قال أحد نحن خلقنا خلقاً جديداً إسمه البغل والنغل والكاما Cama؟

طبعاً في أوروبا وأمريكا هذا المشوار لا ينتهي، علماً بأننا سوف نذكر هذا عندما نأتي إلى الأدلة، فهم أتوا بأُنثى الببر – الببر هو التيجر Tiger، فالتيجر Tiger الهندي إسمه الببر وفقاً للترجمة العربية طبعاً، رجعنا لمُشكِلة الترجمات مرة أُخرى، على كل حال التيجر Tiger الهندي الضخم المُخطَط إسمه الببر، وجمعها الببور، وهو أقوى الحيوانات المُفترِسة، فهو أقوى من الأسد طبعاً – وقاموا بعملية تهجين مع ذكر الأسد – أي لبؤة

لاياجر Liger
لاياجر Liger

الأسد مع ذكر الببر – فخرج لنا حيوان جديد، من المُمكِن أن نسميه – مثلاً – لايتيجر Litiger أو لاياجر Liger أو أي شيئ يكون مزيجاً بين Lion وتايجر Tiger، وهذا شيئ عجيب طبعاً، فقد خرج حيوان جديد قد يبلغ طوله حين يقف عشرة أمطار، علماً بأننا قد رأينا هذا في الفيديو Video في الوثائقيات، وهذا شيئ مُخيف، فرأسه ضخم ووزنه يصل إلى أكثر من خمسمائة كيلو، فهو ضخم جداً جداً، وهذا كان نتاج هذا التزاوج بين النمر والأسد، فالإنسان عمل هذا إذن ولم يقل أي أحد “هذا خلق جديد، أنتم تخلقون الآن، أعوذ بالله من هذا، كيف أتخلقون خلقاً كخلق الله؟” ولم يقل أي أحد أنه أوجد هذه الحيوانات الموجودة في البرية في الحظائر عنده وأن الله لم يخلقها الله خلقاً مُباشِراً، فنحن كمُؤمِنين نقول خلقها الله بنا وعبرنا، أي أننا كنا الوسيلة، فنحن نتقبل هذا طبعاً، وبالتالي إذا كنت تتقبل هذا ولا ترى فيه إلحاداً ولا كفراً ولا تجنياً وافتئاتًا على انفراد الله بالخالقية فلماذا ترى أننا إذا قلنا أن الطبيعة والانتخاب الطبيعي – Natural Selection – عبر الدهور اشتغل وأنتج لنا أنواعاً جديدة كفراً؟ ما هى المُشكِلة؟ علماً بأنني ذكرت لكم هذا وأعطيتكم إياه من أجل أن تُقدَح قوة النقد عندكم، فهذا مُمكِن إذن، وعلى كل حال نرجع إلى موضوعنا الرئيس.

إذن هناك فرق بين حيوانات الجُزر القارية وحيوانات الجُزر المُحيطية، وسوف نفهم أيضاً كيف داروين Darwin أجاب عن هذه المسألة وما هو السبب وراء هذا، فلماذا لا تُوجَد برمائيات في الجُزر المحيطية؟ وأكيد طبعاً هذا السؤال مُحيِّر جداً، فكل البرمائيات طبعاً ليس لديها القدرة على الإبحار البعيد في الماء المالح، فلا يستطيع أي حيوان برمائي أن يدخل مُحيط ما ويسبح لمسافة مائتين أو ثلاثمائة أو ألف أو ألفين أو ثلاثة آلاف ميل، لا يستطيع أن يفعل هذا، فهذا مُستحيل، فجلده غير مُقاوِم لهذا لأن جلده نفّاذ وغير مانع للماء المالح وهذا يقتله هذا، ولا يستطيع أن يضع بيوضه أيضاً في الماء، ولذلك تبيض البرمائيات دائماً في البر، مثل السلاحف والتماسيح وما إلى ذلك، فالتمساح يخرج إلى البر طبعاً لأن بيضه نفّاذ للماء، وبالتالي من المُستحيل إذن أن حيواناً برمائياً يأتي من قارة ويعبر مُحيط ويذهب إلى جزيرة مُحيطية، وهذا لم يحصل فعلاً، لكن هذا هو السبب باختصار، وهذا يدل على ذكاء العلم والتفكير، فشيئ جميل أن الناس تُفكِّر بهذه الطريقة، لذلك أنا دائماً أنطوي على اعتقاد أن الله – تبارك وتعالى – يُحِب العلماء، وأعتقد أن الله – تبارك وتعالى – داروين Darwin يُحِبه، وطبعاً هناك استثناءات، فالله أعلم بأحوال البشر، فإذا كان الله يعلم منه أن عنده إرادة الإلحاد وإرادة مُنكافة الله – علماً بأن هذا لم يظهر بالمرة حقيقةً في سيرة حياته – وأنه فعل هذا عن استكبار أو عن نوع من الانتقام والتشفي فهذا شيئ ثانٍ، لكن عموماً الله يُحِب العلم والبحث، لأن هذا نوع من تقدير وتوقير رسالة الله في الخلق، لأن الله خلقك وأنت تعتقد أنه خلقك وهذا شيئ جميل ومن ثم يجب أن تمشي إلى آخر اعتقادك، فضرورة أنه خلق أن نوقِّر ما خلق، لكن كيف نوقِّر ما خلق إذن؟ لا بأن نضرب سلاماً وإنما بأن نُدرِسه ونُشرِّحه ونُفكِّكه ونُحلِّله ونُقارِنه ونفهمه، فلو افترضنا أن أحدهم – عالم أو فيلسوف أو أي رجل – أهداك كتاباً له، كيف يكون التوقير لهذا الكتاب؟ هل يكون التوقير بأن تُقبِّل الكتاب وتضعه على رأسك؟ لا يكون هكذا أبداً، لكن توقيره الحقيقي يكون بأن تقرأه وأن تفهمه وأن تُناقِش فيه ومن ثم تقول له يا سيد أنا قرأت كتابك وفي الحقيقة أنت قلت كذا كذا كذا وأنا عندي رأي يقول كذا، وبالتالي سوف يفهم أنك فعلاً قرأت رسالته في كتابه، لكن اليوم الأمة الإسلامية – ما شاء الله- نائمة على أذنها، فهى لا تقرأ أي شيئ، لا في النجوم ولا في البحار ولا في الذرة ولا في الحيوان ولا في النبات، ولا تُريد أن تفعل هذا الشيئ، تُريد فقط أن تُقيم الدولة الإسلامية وأن يذبح بعضها بعضاً وأن تُكبِّر، فما هذا؟ هذه أمة تائهة غلبانة، لكن الله يُحِب العلم والبحث لأن هذه كلها رسائل مطوية في الكون، فالعلماء أمثال داروين Darwin ونيوتن Newton وأينشتاين Einstein وجاليليو Galileo وكوبرنيكوس Copernicus هم الذين كشفوا هذه الرسائل، وطبعاً كان عندنا قديماً ابن الهيثم وجابر بن حيان وابن نفيس وابن رشد وابن سينا وكل هؤلاء الفلاسفة، فهم الذين كشفوا أيضاً عن هذه الرسائل طبعاً، وعلى ذكر ابن رشد نُحِب أن نقول أن ابن رشد عنده نظرية في التطور وسوف نذكرها فيما بعد في السلسلة الثانية، فهو عنده نظرية قوية ولها تأثير في الغرب هنا، وهذا شيئ عجيب، لكن هذه العقول الإسلامية الضخمة ذهبت وأصبحت مُنقرِضة للأسف، هؤلاء هم المسلمون المُنقرِضون، وعلى كل حال الله يُحِب هذا.

إذن البرمائيات غير موجودة لأجل هذا السبب، لكن قد تقول لي من أين أتت إذن الحيوانات الموجودة على الجزيرة المُحيطية؟ أنت لا تُؤمِن بالخلق الخاص يا داروين Darwin فمن أين أتت هذه الحيوانات؟ ولا تقل لي أن هذه الجزيرة كانت في الأصل – كما قلنا – جبلاً مثلاً لكن عمه الماء وما إلى ذلك، فربما غرق هذا الجبل لمليون سنة ثم حسر الماء عن قنته أو قمته، وبالتالي السؤال الآن من ـين جاءت الحيوانات؟ والإجابة سهلة عن الحيوانات التي تطير، فبالنسبة للطيور سوف تأتي طيراناً إلى هذا المكان، لكن ماذا عن الحيوانات التي لا تطير؟ كيف أتت هذه الحيوانات إلى هناك؟ والجواب هو أن هذه الحيوانات تأتي عوماً على أشياء عائمة، فهناك أشياء عائمة مثل جذوع أشجار وما إلى ذلك ومن ثم تأتي عليها، وهذا حدث في ملايين السنين، فداروين Darwin دائماً يتحدث عن ملايين السنين طبعاً، فاليوم – مثلاً – قد يأتيك حيوان ثم يأتيك بعد شهرين حيوان ثانٍ ثم يحدث تناسل وهكذا في ملايين السنين، ومن ثم هى أتت هذه الجُزر بهذه الطريقة، وعموماً هذه الجُزر المُحيطية فقيرة بأنواع الحيوان أيضاً، وهذه مُلاحَظة مُهِمة جداً، وذلك بخلاف الجزر القارية التي فيها أنواع كثيرة جداً لأنها مُتصِلة، فالجُزر المُحيطية فقيرة بأنواع الحيوانات ومحدودة، أي أن حيواناتها محدودة، كما لاحظ تشارلز داروين Charles Darwin بخصوص قارة أستراليا، فلماذا هذه القارة تنطوي على تشكيلة من الحيوانات المُتميزة تماماً والتي ليس لها نظير ولا تعيش إلا في أستراليا؟ فالجرابيات هذه تعيش في أستراليا، فلماذا كل الحيوانات الجرابية عائشة في أستراليا؟ لماذا لا يُوجَد في أفريقيا وفي أمريكا اللاتينية حيوانات جرابية – مثلاً – وكيسية – أي لها كيس – أيضاً؟ فهذا أيضاً استلفت داروين Darwin ولذا سيُحاوِل تفسيره.

جُزر كيب فورد هى جُزر قريبة من الساحل الأفريقي وفيها طيور، وطيورها تُشابِه الطيور التي تُوجَد أفريقيا أكثر مما تُشابِه الطيور في جُزر جالاباجوس Galápagos مع أن مُناخ جُزر كيب فورد مُشابِه تماماً لمُناخ جُزر جالاباجوس Galápagos، وبالتالي المفروض أن تكون طيور كيب فورد تُشبِه أكثر طيور جالاباجوس Galápagos، لكن ما حصل هو العكس، فهى تختلف عنها وتتفق أو تتشابه كثيراً فقط مع طيور القارة الأفريقية، فتساءل داروين Darwin أيضاً بخصوص طيور كيب فورد، فلماذا إذن؟ ما القصة؟ ما الذي حصل؟ ومن ضمن مُلاحَظاته المُهِمة أيضاً أن هناك أعضاء أثرية أو ما يُسمى بالأعضاء الزائدة، مثل الزائدة الدودية عند الإنسان ومثل الثَّنْدُوَة – وإذ ضربه في ثَّنْدُوَته – طبعاً، والثَّنْدُوَة هو ثدي الرجل، فالمرأة عندها ثدي لكن الرجل عنده بقايا ثدي، فلماذا هذه الحلمة موجودة عند الرجال؟ هل نقوم نحن بالرضاعة مثلاً؟ ما هى القصة؟ لماذا هذه موجودة؟ فداروين Darwin تساءل وقال لماذا تُوجَد هذه الحلمة عند الرجل الذكر؟ فهو تساءل عن هذه الأعضاء الأثرية، ولماذا أيضاً يُوجَد عندنا عضلات عند الأذن وهى لا عمل لها؟ فهذه العضلات لا تشتغل لأنها عضلات مُتلِفة، مثل الأذن طبعاً، فأذن الإنسان لا تتحرك مثل أذن الحمار – أكرمكم الله – ومن هنا قال لماذا هذه موجودة عند الإنسان؟ لماذا يُوجَد أيضاً عظم العصعص عند الإنسان؟ لماذا هذا العصعص؟ ما الفائدة من وجوده؟ وهكذا، فهذه كلها أعضاء أثرية أو زائدة، وكذلك الحال مع الثعابين، فهى عندها بقايا أطراف مُتحجِرة، فتشريحياً هذه موجودة ولكنها مُتحجِرة فقط لأنها تليفت، لكن هل كان عندها رجلين في يوم من الأيام وهذه الأطراف المُتليفة تدل عليها؟ هذه كلها أشياء لاحظها داروين Darwin ولاحظها غيره أيضاً وتساءل بصددها، وسوف ترون في نهاية المطاف كل هذا ولكن كل شيئ سيكون في وقته، فبعد أن تفهم كل شيئ وتجمع كل شيئ في مكانه لن يكن سهلاً عليك أن تُنكِر بجرة قلم، فهذا شيئ صعب، هذه كلها أشياء مُتناغِمة في بنية واحدة استدلالية وبالتالي من الصعب إنكارها، فلابد من تفسير لكل هذه المسائل.
عندنا مسألة مُهِمة جداً وهى مسألة استنسال مُربي الحيوانات – كما قلنا وكما أشرت إليها اليوم – لسلالات جديدة بطريقة صناعية – Artificially – خاصة، فهؤلاء المُربون هم الذين يقومون بهذا، ومن هنا تساءل داروين Darwin قائلاً: إذا أمكن أن يقوم المُربون – Breeders – بهذه العملية الناجحة في زمن قصير جداً فهل تعجز الطبيعة عبر ملايين السنين أن تقوم بشيئ مُماثِل وأن تُخرِج لنا من نوع نوعاً آخراً فثالثاً فرابعاً في ملايين السنين بأن تحتضره في شروط مُعينة؟ وعلى كل حال هو رأى أنها لا تعجز عن هذا، ولذلك هو عنده فصل طويل في أصل الأنواع أسهب فيه في هذه المسألة، فمن حُجج داروين Darwin القوية القياس تمثيلي، فهو قاس الانتخاب الطبيعي على الانتخاب الصناعي، فالانتخاب الصناعي ينجح ويُفلِح، وبالتالي من المُمكِن أن ينجح أيضاً الانتخاب الطبيعي وأن يُخرِج لنا أنواعاً جديدة وهكذا.

جون جولد John Gouldنقدر أن نقول هذه مجموعة من المُلاحَظات المُهِمة التي شغلت بال هذا الرجل لسنوات طويلة، فهو – كما قلت لكم – عندما عاد من رحلة البيجل Beagle لم يكن تطورياً أبداً، نعملاحظ تغيرات لافتة أقلقته وشغلته ولكنه لم يكن إلى الآن تطورياً ولم يصل حتى إلى مشارف النظرية، فهو رجع إلى بريطانيا – كما قلت لكم – وبدأ يتداول مع العلماء الرأي والنظر والتحليل، وكان أول ما فُؤجي – كما قلت – هو ما قاله العالم وخبير الطيور الشهير جون جولد John Gould عندما قال له أن هذه الفنشيز Finches ثلاثة عشر نوعاً وليست نوعاً واحداً، وهى تعيش على اثنى عشر جزيرة، ومن ثم استغرب من كونها أنوعاً عديدة، لكن جون جولد John Gould قال له “هذه أنواع كثيرة، فبحسب خبرتي لأنني رجل خبير في الطيور أقول لك أنها أنواع وليست نوعاً واحداً” ومن هنا استغرب جداً داروين Darwin طبعاً وبدأ يُفكِّر في الموضوع، كما أنه قال له “هذه الطيور المُحاكية – الموكينجبيرد Mockingbird – ينطبق عليها نفس الشيئ، فأنت سجلت أنها من ثلاث جُزر مُختلِفة وأنا أقول لك أن بينها اختلافات حقيقية، وإن كانت لا تبلغ مبلغ الاختلافات بين الفنشيز Finches لأنها أقل”، وطبعاً يبدو أن هذا الانتواع – Speciation – حصل قبل مُدة بسيطة، لكن الانتواع في الفنشيز Finches حصل قبل مُدة أطول وبالتالي الفروقات أظهر وأكثر تعبيراً عن نفسها، وهذا Mocking Birdsجعله يُفكِر كثيراً في هل مُمكِن فعلاً أن يكون حدث هذا؟وطرح سيناريو كما يقولون – يُفيد بأن من المُمكِن أن هذه الفنشيز Finches كلها قبل مُدة مديدة – الله أعلم بها وأدرى بها – هاجرت من البر الرئيس – أي من نحو الإكوادور مثلاً والجالاباجوس Galápagos وأمريكا اللاتينية – في سرب من الفنشيز Finches إلى تلك البيئة الجديدة، فالآن هى تعيش في بيئة جديدة وكان في البداية الغذاء وفيراً طبعاً، فإذن لم يحصل أي تنافس ضاري أو صراع – Struggle – على الغذاء والموارد، فالأكل موجود بشكل عادي ومن ثم كانت هذه الطيور تتناسل و تكاثر طبعاً بوتيرة عالية دون أي مُشكِلة، فالغذاء مُتوفِّر ولا يُوجَد أي تنافس أو أي صراع يذهب فيه ضحايا، فالكل كان يعيش والكل كان يتكاثر ولكن إلى أمد – هذا هو السيناريو المطروح عند داروين Darwin – طبعاً، فبعد ذلك ما الذي حصل؟ حين تكاثرت بشكل زائد عن اللزوم بدأت الموارد تلقائياً تضيق عن حاجاتها التغذوية، فسوف تُصبِح الموارد أقل، وبالتالي الآن تلقائياً أيضاً سينشأ صراع – Struggle – بين هذه العصافير، فمن المُمكِن أن تتواجد حبة واحدة – مثلاً – ولكن هناك أربعة عصافير يُريدون هذه الحبة وهذه مُشكِلة، ولن ينال هذه الحبة إلا عصفوراً واحداً، لأنها لن تُقسَم إلى أربعة أرباع وبالتالي سوف يحدث صراع، ومن حسن حظ   الفنشيز Finches – طبعاً هذا لم يكن واضحاً عند داروين Darwin، ولن يكون واضحاً أصلاً إلا بعد فترة على يد أحد تلاميذ داروين Darwin، فهذا الرجل يعتبر نفسه داروينياً لأنه يُؤمِن بالداروينية، وهو عالم هولندي كبير إسمه هوجو دي فريس Hugo de Vries، فبدي فريس de Vries الذي تسمعون عنه هو الذي اكتشف الطفرة، فقبل ذلك لم يكن هذا الشيئ واضحاً، وهذه طبعاً من نقاط الضعف في نظرية داروين Darwin في أصل الأنواع، فهو عرف أن هناك تطور ما حصل وعرف أن هناك تحول ما حدث، ولكن كيف حدث بالضبط وما هو منشأه وما هو مصدره لا يعرف، ثم أن هذا التحول عندما يحصل لن يكون له قيمة إلا إذا وُرِّثَ وعُبِّر به من جيل إلى جيل ومن جيل إلى جيل، فكيف إذن يتم هذا التوريث وهذا العبور؟ هذا لم يكن واضحاً لدى داروين Darwin، فهو لم يكن يعرف كيف هذا، وبالتالي هذا أيضاً من نقاط الضعف الشديدة عند داروين Darwin في أصل الأنواع، فلن يُجاب عن هذه المسألة إلا بعد أيه حين، وسنشرح هذا إن شاء الله – أن بعضها وجد نفسه عنده القدرة أن يتناول غذاءه من مصدر آخر، فلو كان يتناول – مثلاً – الحبوب في البداية أصبح الآن عنده القدرة – مثلاً – أن يصطاد الديدان، فهو الآن لا يُريد الحبوب وهذا جيد، فأصبح لديه فرصة جديدة للبقاء لأنه سوف يبدأ في أن يتغذى على الديدان، ولذلك هذا نجا طبعاً، ومن هنا قال داروين Darwin بما أنه بدأ يتغذى على الديدان فإن مُنقاره – Beak – بعد مُدد طويلة سوف يتكيف لاصطياد الديدان، وسوف يُصبِح نحيفاً ورقيقاً مثل المقص الصغير.

هيوغو دي فريس Hugo de Vries
هيوغو دي فريس Hugo de Vries

عندنا أيضاً حبوب كبيرة صعبة الكسر، ولا يستطيع الطائر العادي أن يبلعها كما هى، لكن من حسن حظ بعض طيور الفنشيز Finches – طبعاً داروين Darwin لم يعرف الطفرة ولم يستخدم هذه العبارة أبداً، وهذا الشيئ يجب أن ننتبه إليه، فهو لم يستخدمها لأنه لم يعرفها أصلاً، وأول من استخدم هذه الكلمة هو الهولندي هيوغو دي فريس Hugo de Vries في دراسته الشهيرة عن النبتة المشهورة المُسماة بزهرة الربيع الليلية، لكن المُهِم هو أن داروين Darwin كان يفهم ما الذي حصل بشكل سليم دون أن يعرف الطفرة – أنها وجدت نفسها عندها القدرة على أن تكسر هذه الحبوب الغليظة، فهى لديها منقار سميك وعريض وضخم، وبالتالي قام هذا الطائر بضرب هذه الحبة فكسرها وتغذى عليها ومن ثم نجا، فترك لهم هذه الحبوب الصغيرة لكي يتنافسوا عليها وبدأ في أن يتغذى على الحبوب الكبيرة لأنهم لن يقدروا على منافستها لأنهم لا يملكون منقاراً كمنقاره، وهكذا بعد أجيال وأجيال وأجيال ومُدد مديدة أيش سوف تتناسل وتتسافد هذه الطيور المُتشابِهة مع بعضها البعض، أي صاحب المنقار الغليظ مع صاحب المنقار الغليظ، وصاحب المنقار الرقيق مع صاحب المنقار الرقيق وهكذا، ومن ثم سوف يُصبِحون مثل عشيرة – Population – أو جماعة أو مجموعة مُنفرِدة تعيش وحدها، وسوف ترى البيئة التي تُناسِبها والتي تُوجَد بها حبوب غليظة – مثلاً – فتنفرد بها، لكن للأسف من سوء حظ العلم وداروين Darwin أنه لم يُسجِّل لنا من أي مكان جاء بهذا الفنش Finch، فهو لم يُسجِّل هذا مثلما فعل مع الطيور المُغرِدة، لكن جون جولد John Gould وداروين Darwin نفسه أيضاً فهما أن كل نوع يعيش في بيئة مُختلِفة لابد وأنه تكيِّف معها، بمعنى أن هذه الفينشنز Finches طوَّرت استراتيجيات تغذوية تخص كلاً، فهذا عنده استراتيجية خاصة وهذا عنده استراتيجية خاصة وهكذا، وظروف البيئة وتحديات البيئة هى التي عملت هذا في نهاية المطاف، لكن قد تقول لي كيف عملت هذا وما هى الآلية؟ سوف تفهمون هذا فيما بعد لأن النظرية لم تكتمل إلى الآن، وإن كنتم قد فهمتم الآن أن هذا يحدث عبر آلية الانتخاب الطبيعي، فالذي يستطيع أن يتعامل مع الحبوب الضخمة الكبيرة – مثلاً – سوف يعيش في بيئة فيها حبوب ضخمة كبيرة، كأن الطبيعة بشروطها وظروفها تطرح مُسبَقاً – هى لا تفعل هذا ولكن كأنها تفعل – فعلاً قائمة بالصفات المُفضَلة التي مَن توفَّر عليها أو ما توفَّر عليها من هذه الحيوانات يستطيع أن يمتد ويبقى، وَمن افتقر إليها أوما افتقر إليها لن يكون له أي مكان عندنا، فالطبيعة لو كان لها لسان لقالت “أنا هنا طبيعة صعبة، فليس لدي ديدان وليس لدي حبوب لينة، فقط لدي حبوب كبيرة قاسية، فهل لديك المنقار؟” إذا قلت “نعم لدي المنقار” سوف تقول لك “أهلاً وسهلاً – Welcome – بك، سوف تعيش هنا”، فكأنها تفعل هذا، ومن هنا يقول الآن فلاسفة التطور “كأن الطبيعة تطرح مُسبَقاً شروط التكاثر والبقاء التفاضلي – Differential survival”، فهل عندك القدرة أن تستجيب؟ إذا قلت “نعم عندي القدرة” سوف نقول لك كيف حصل هذا؟ من أين أتيت بها؟ لكن نحن فيما بعد سوف نفهم أن هذا حصل بطريق الطفرة، لكن نحن نقول “ربك – الله – فعل هذا” وهم يقولون “هذه طفرة”، وعلى كل حال هذا الطائر برحمة الله وجد نفسه عنده القدرة على هذا، لكن كيف حدث هذا؟ مُستحيل أن يعرف وأن يفهم داروين Darwin من على مبعدة تقريباً أربعين سنة أو خمسين سنة هذا، فلا هو ولا غيره عنده أي خبر بموضوع أن عندنا DNA وعندنا استنساخ – Replicating – وأن عندنا خطأ بسبب حدوث طفرة -Mutation – ما، وإلى آخر هذه القصة الكبيرة المُعقَدة، فهذه الأشياء لم تكن كانت واضحة عنده ولكن هذا الذي حصل فعلاً، فداروين Darwin فهم الآن فقد وبدأت تتضح لديه فكرة أن البيئة بما تطرحه من شروط وتحديات تعمل في نهاية المطاف وعبر زمانية طويلة على إخراج أنواع جديدة، وقد رأينا كيف تخرج هذه الأنواع وكيف تتناسل مع بعضها البعض وكيف تنحاز في أماكن تُناسِبها وتُلائمها وإلى آخره، فداروين Darwin فسَّر هذا الشيئ داروين Darwin وهذا سوف يُفسِّر لنا مسائل كثيرة وأشياء كثيرة جداً وردت عندنا في الأول، فقد يُوجَد جزيرتان أو أرخبيلان من الجزر مُناخهما – كما قلنا كيب فورد وGalápagos – تقريباً مُتماثِل ومُتشابِه جداً لكن الطيور فيهما غير مُتماثِلة وغير مُتشابِهة، فطيور الكيب فور تُشابِه طيور البر الأفريقي، والآن فهمنا لماذا، فقد فهمنا تماماً أن الشروط البيئية التي طُرِحَت في كيب فورد غير الشروط البيئية المطروحة في الجالاباجوس Galápagos، وهى شروط بيئية مُتشابِهة إلى حد بعيد مع الشروط البيئية في البرالرئيس الأفريقي.

هذا كان أولاً، ثانياً يُوجَد العامل الثاني الذي لن يظهر للعلن بشكل تنظيري قوي إلا مع الداروينية الجديدة Neo-Darwinism وخاصة مع النظرية التركيبية المُعاصِرة – Modern Synthetic – وهو عامل الانعزال – Isolation – أو مبدأ الانعزال، لكن مبدأ الانعزال كان واضحاً لداروين Darwin وكان يتحدَّث عنه بإسهاب يعني لأنه كان يفهم الفكرة جيداً ومن ثم كان يتحدَّث عنها، فما هو الانعزال إذن؟ هذا العامل مُهِم جداً ومن ثم يجب أن ننتبه إليه، علماً بأننا حدَّثناكم عن موضوع الانعزال في الحلقات السابقة لما تحدثنا عن المُستودَع الجيني – Gene Pool – أو المُستودَع الوراثي كما قلنا، وقد تحدَّثنا عن مجموعة من الحيوانات التي تذهب إلى جزيرة – مثلاً – في البحر لكن النسبة بخصوص صفتين – مثلاً – تكون من ستين إلى أربعين، وهذه النسبة تبقى دائماً كما هى، فلا تتغير إلا بعوامل، وحين يقع تغير في هذه النسبة – ولنفترض مثلاً النسبة بين طويل قصير أو أحمرو وأبيض أو أسود وأبيض أو بين أي صفتين، فهذا قد يحدث طبعاً مع كل الصفات، لكننا أخذنا صفتين فقط للتبسيط – يُقال حدث تطور، فعندما تكون النسبة ثابتة – مثلاً بنسبة ستين إلى أربعين أو سبعين إلى ثلاثين – يكون معنى هذا أن المُستودَع الوراثي سوف يظل مصوناً ومحفوظاً كما هو، لكن لو حدث تغير في النسبة أو انعكست النسبة – مثلاً بنسبة خمسة وخمسين إلى خمسة وأربعين أو خمسين إلى خمسين أو ثلاثين إلى سبعين – فسوف يُقال حدث تطور Evolution، لكن ما هو السبب؟ شيئ له علاقة بالانعزال، فالانعزال يحفظ المُستودَع الوراثي، كأن يكون عندك بيئة مُعينة مُغلَقة – Closed – وموجود فيها حيوانات تتناسل وتتكاثر في نفس الشروط وفي نفس البيئة، ومن ثم سوف تبقى الأمور كما هى، لكن لو حصل عندك – مثلاً – جائحة أو وباء اجتاح هذه المخلوقات فقتل نصفها أوربعها أو ثلثها أو ثلاثة أربعها فإن المُستودَع الجيني – Gene Pool – سوف يختلف تردده الآن، فلن يكون بنسبة ستين إلى أربعين – مثلاً – وإنما قد يكون بنسبة ثلاثين إلى سبعين، أي أنه قد ينعكس تماماً، فقد تتغير النسبة لدى صاحب صفة مُعيَّنة مثل طويل الساقين، فيُصبِح بنسبة ثلاثين في المائة بعد أن كان بنسبة ستين في المائة، والعكس مع قصير الساقين، حيث سيُصبِح بنسبة سبعين في المائة بعد أن كان بنسبة أربعين في المائة في البداية، أي أن المُستودَع الجيني – Gene Pool – حدث له الآن تطور وتغير، وكذلك الحال مع الهجرة أيضاً، فقد تأتي حيوانات أخرى بطريقة ما إلى مكان آخر، كأن تنزل بطائرة أو ببراشوت Parachute أو تأتي عائمة على جذوع الأشجار أو بأي طريقة أُخرى، المُهِم هو أنها سوف تأتي إلى هذه الجزيرة المعزولة وتغزوها وبالتالي سوف يحدث تغير في المُستودَع الجيني – Gene Pool – طبعاً، لأنها سوف تُؤثِّر على تردد الصفات، فلو عندي – مثلاً – عشرون ألف من الحيوانات طويلة الساق بنسبة تُساوي ستين في المائة، ودخل معها الآن عشرة آلاف حيوان طويل الساق، فسوف تختلف النسبة لصالح طويل الساق، أو العكس حين تُهاجِر كمية أو عدد من الحيوانات من هذه الجزيرة – خطر لهم هكذا أن يُهاجروا أو أن ينتحروا أو أن يُلقوا بأنفسهم في المُحيط مثلاً – فسوف تختلف النسبة.

إذن موضوع الانعزال – Isolation – مُهِم جداً لكي نفهم كيف يتم التطور وبالتالي كيف يحدث تحول الأنواع أيضاً على المدى البعيد جداً، ولأن موضوع الانعزال كان مُهِماً جداً كان داروين Darwin واعياً به، فمن خلال الانعزال مع نستطيع أن نُفسِّر الأشياء التي ذكرناها ونستطيع أن نقول ما الذي حصل معها، فالذي حصل هو أن مجموعة الجُزر المُنعزِلة طرحت شروطاً بيئية مُختلِفة عن الشروط البيئية الموجودة في جزيرة أخرى أو جُزر أخرى أو أرخبيل Archipel آخر، فطبعاً اضُطرَت الحيوانات هنا أن تتكيف مع هذه الشروط – كما قلنا – وبالتالي بعد أجيال طويلة أصبحت حيوانات مُتميزة بصفات – Traits – خاصة، ومن ثم سوف تختلف عن الحيوانات التي استجابت لشروط بيئية في جزيرة أخرى مُنعزِلة، فهذه الشروط مُختلِفة عن هذه الشروط وبالتالي هذا أصبح واضحاً عند داروين Darwin، لكن هذا شيئ عجيب، لأن هذا يهز لنا المعبد، فالمعبد الآن يتهدَّم ويتداعى، لكن عن أي معبد نتحدَّث؟ عن معبد الخلق المُستقِل والأنواع الثابتة Fixed Species، فنحن عندنا فكرة الأنواع الثابتة وعندنا فكرة قروسطية إسمها سلسلة الخلق العُظمى، علماً بأن سلسلة الخلق العُظمى كانت مشهورة هنا في وكذلك الحال عند العالم الإسلامي، ، فنحن عندنا سلسلة -Chain – يأخذ فيها كل أحد مكانه وفقاً لرقم ما في السلسلة، وهذا الرقم ثابت Fixed، فالفيل في مكانه والأسد في مكانه والنمر في مكانه والذبابة في مكانها والأرماديلو Armadillo في مكانه وهكذا، فكل شيئ موجود في هذه السلسلة وفي هذا الهيراركي الكبير، لكن داروين Darwin قال هذا كله يُعَد كلاماً فارغاً، ولذلك العالم بعد داروين Darwin ليس كالعالم قبل داروين Darwin، فالعالم المادي – علماً بأن هذه الفكرة أخذناها من داروين Darwin – الفيزيقي عموماً تقريباً هو هو – علماً بأنه ليس دائماً هو هو لأن عندنا Expansion of the universe وما إلى ذلك، ولكن عموماً القوانين المادية التي تشتغل في العالم الفيزيقي صلبة إلى حد بعيد، فهكذا كان يتصوَّرها داروين Darwin – لكن العالم الحيوي الخاص بعالم المتعضيات وعالم الحياء عموماً لا يُقاس على عالم النجوم والكواكب أبداً كما قال داروين Darwin، فهذا عالم يمور بالحركة والديناميكية والتغيير، وهذا شيئ عجيب، فكيف هذا يا داروين Darwin؟ قال هو هكذا، فلو عندك عين إلهية ترصد الخلق عبر – مثلاً – مائة مليون سنة سوف ترى مخلوقات كانت موجودة قبل سبعين مليون سنة لكنها غير موجودة الآن، وسوف ترى كيف كانت أسلاف المخلوقات الموجودة الآن، فهى تختلف عنها إلى حد بعيد جداً، لكن سوف ترى كيف تتواتر هذه الاختلافات وكيف تخرج أنواع من أنواع ثم تنفصل عنها، أو بلغة ألفرد راسل والاس Alfred Russel Wallace سوف ترى ما يُسمى بنزوع المُتغيرات إلى الانفصال اللانهائي عن أصولها، وقد حدَّثتكم عن هذه المقالة التي بعثها لداروين Darwin عن المُتغيرات، والمُراد المُتغيرات أي الأصناف Varieties، فهو سماها Varieties، ونحن نسميها المُتغيرات أو نُسميها الأصناف بلغة الـ Taxonomy أو الـ Classification، فهى أصناف تنزع دائماً بطريقة ليس لها أي حد إلى الابتعاد اللانهائي عن أصولها، ومن ثم تُصبِح في نهاية المطاف كائنات أخرى وأنواع أخرى!

أف، معناها العالم – العالم الحي أو العالم الحيوي أو عالم الحياة – فعلاً بالمنظور الدارويني هو عالم مُستمِر في الفوران وفي الحركة وفي التغير وفي التبدل.

للأسف أدركنا الوقت بسرعة، نكتفي بهذا القدر على أن نُكمِل في الحلقة المُقبِلة، فإلى ذلكم أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(تمت المُحاضَرة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: