المرتضى إعمراشا كاتب مغربي
المرتضى إعمراشا
كاتب مغربي

يقول ربنا: “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”.

يفهم من هذه الآية الكريمة وغيرها، كآيات امتنان الله على الناس بتسخير ما في السماوات والأرض، أن بني آدم، بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم، إخوة، يتساوون في حقوقهم المدنية، كالحق في الشغل، والتنقل، والصحة، والتعليم.. وغير ذلك؛ وترشد الآية التي نحن بصددها، إلى وجوب تظافر جهود الجميع على توفير الأساليب الممكنة لذلك، بأن يشترك الناس في الحفاظ على الكيان البشري، وتهيئة البنيات التحتية للمدن والقرى، وتجهيز الموانئ والمحطات، بما يوفر أعلى مستوى من الكرامة الآدمية. وقوله سبحانه : “ورزقناهم من الطيبات”، يرشدنا إلى التقسيم العادل للثروات، وتوفير فرص الشغل، وضمان دخل قار للفرد الإنسان دون تمييز، وقوله : “وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلاً”، إشارة إلى مهمة الإنسان النبيلة في الأرض، بأن استخلف فيها ليقوم عليها بما يحفظ المصالح العامة للإنسان والحيوان، والنبات، وكل من يشاركنا الكوكب ، والارتقاء بالآدمي من المرتبة الحيوانية، وقانون الغلبة للأقوى.
إن القرآن الكريم طافح بآيات بينات، ترشد إلى تحقيق العدالة الاجتماعية، وإشاعة روح التراحم، كمبادئ سامية ، جعلها غاية فوق كل اعتبار، كما في قوله: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” [ 25 الحديد]، فربط بين كون الإنسان حاملا لرسالته، وبين كونه متصفا بالأخلاق والصفات الجميلة. “قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ”[16،المائدة].

رسالة الإسلام عالمية الروح، ولا يجوز أن ندعي احتكار تطبيقاتها كمسلمين، وإن كان بعضنا أبعد ما يكون عن أخلاقها، بل يراها فقط شعائر وطقوسا ليس لها أي إشعاع حضاري في الأرض. إن مؤشرات تطبيق القيم التي جاء نبينا بها، يجب أن لا تنحصر في أمة دون أخرى، وإنما العدل أن ينسب محمد صلى الله عليه وسلم إلى أكثر الشعوب تراحماً، وتطبيقاً لغاية ما بعث به، وهو رحمة العالمين. فيقاس قربك منه عليه الصلاة والسلام، بفيض رحمتك على ما حولك، فأنت بذلك محمديٌ، مهما كان انتماؤك، وتعتبر عدواً لرسالة محمد، إذا انحصرت الرحمة في قلبك وتعاملاتك، ولم تكن معيارك الأساسي، في الإيمان به، حتى لو سُمّيت باسمه، ونشأت على دينه كما لُقنت؛ لذلك ساوى القرآن بين الأنبياء والمصلحين الاجتماعيين في كل أمة أيا كان دينهم، كما في قوله سبحانه “إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ” [21، آل عمران] ، فتأمل لقوله الذين يأمرون بالقسط من الناس، عامة، لكل البشر.

فما أدين لله به أن عالمية رسالتنا لا تحصرها مشاريع آنية هنا وهناك، أو تضرها هزائم الإسلاميين في أي عصر أو مصر..، لأن الإسلام يعتبر انتصار الحرية، وكرامة الإنسان والحيوان، في أوربا وأمريكا، وجنوب أفريقيا، واليابان ورواندا، وغيرها، انتصارا للإلهي في الإنسان، وهو غاية مشروعه في الأرض، و وجوهر النبوة، ولا يفرق الله بين حرية وكرامة جاء بها أتباع دينه، أو جاء بها من لا يعرف دينه، إذ الغاية، استعادة كرامة بني آدم كلهم [ولقد كرمنا بني آدم].

إن بعض النصوص التشريعية، الجنائية خاصة، والتي وردت في القرآن والسنة، لا أعتقد – بهذا المعنى العالمي للدين – أنها مقصودة لذاتها، إنما هي وسيلة يجب أن تواكب مفهوم العدالة المتطورة عبر الزمن، لا أن نصر على مفاهيم تجاوزتها البشرية، والدفاع عنها محض تنظير لا طائل منه، إذ ليس من التدين أن نحرص اليوم على قطع يد السارق، مثلا أو رجم الزاني، معتقدين أن الله أراد ذلك لذاته، بينما هناك عقوبات بديلة ارتقت إليها البشرية. والقسم الثابت في النصوص هو المنظم لعلاقتنا بالله، أما ما ينظم العلاقات الاجتماعية فالباب فيها أوسع. فالأساس هو محكم التنزيل: “هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ” [7،آل عمران]، فأرشدنا سبحانه إلى اتباع المحكم، وهو ما يسمى تشريعيا بـ “المبادئ فوق الدستورية”، التي تبنى عليها الأحكام. وقال سبحانه “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ”[13، الشورى]، فهؤلاء الأنبياء لم تكن أحكامهم التشريعية متفقة، قطعا، إنما جمعتهم كليات الدين، والتوحيد أحد أساساتها. لذلك كانت الحاجة إلى بعثة الرسل، تترى، ناسخين شرائع من قبلهم، لاختلاف عادات الناس، بل وقع النسخ زمن النبوة، وحظر عمر رضي الله عنه، العمل ببعض النصوص لفقدان مناط تنزيلها، بل إن بعض شرائع الكتاب أصبحت مستحيلة اليوم، خاصة متعلقات الحرب، وأحكام الرق، والمعاملات التجارية والمالية، والإدارية، وفيها عشرات الآيات، ولم يعد لها حظ اليوم، إلا في جدالات لا طائل وراءها.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: