د.سهيلة زين العابدين كاتبة سعودية
د.سهيلة زين العابدين
كاتبة سعودية

كانت مراجعاتي في الجزئيْن السابقيْن على حلقة” توظيف الدين لخدمة السياسة” على مقولة الدكتور عدنان إبراهيم: “القرآن بطوله لا تجد فيه إلّا بعض الآيات التي تتعلّق بالسياسة.” ومقولته : “النظام الخلافي في الامبراطورية عهد ساداتنا  وتاج رؤوسنا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي  لم يكن متطورًا كتطور النظام  في روما ، وكانوا وثنيين، لأنّ هذا شأن إنساني، ولا يحتاج إلى توجيهات نصوصية دينية تسيّره.”

وستكون مراجعاتي في هذا الجزء على مقولة الدكتور عدنان إبراهيم : ” لو سُئلتُ  من أكثر إحكامًا عدلًا وتطورًا شورى  المسلمين في الخلافة الراشدة أم الديمقراطية الحالية ؟ لقلت الديمقراطية الحالية… شورى الراشدين تؤبد الخليفة، وأنا غير متعاطف مع هذا … هم ( يقصد غير المسلمين) الذين أوجدوا الديمقراطية وقعّدوا ونظّروا لها ، ووضعوا أحكامها.”

وأقول هنا :

أولًا :  من حيث منطق المقارنة والمقاربة، فإنّه لا يصح أن تقارن أمرًا ما في حقبة زمنية، بزمن آخر في حقبة زمنية أخرى، الفارق الزمني بينهما أربعة عشر قرنًا من الزمان، وكلنا يعرف أنّ الفكر الإنساني في تطور مستمر، وشتّان بين الفكر البشري في القرن السابع الميلادي، وبينه في القرن الحادي والعشرين ، هذا إذا فرضنا جدلًا أنّ شورى المسلمين في الخلافة الراشدة هم الذين استحدثوها من تلقاء أنفسهم ، ولا تدخل ضمن منظومة قيمية للإسلام أكدّ عليها الخالق جلّ شأنه في كتابه الكريم في أكثر من موضع ، وجعلها اسمًا لإحدى سوره، وتشمل هذه المنظومة القيمية تنظيم حياة الإنسان الدينية والمدنية  الاجتماعية والمالية والسياسية . ولتكون دعامة أساسية من دعائم الحكم.

ثانيًا : الأهم من هذا أنّ عدل المسلمين في الخلافة الراشدة ، بتوجيه إلهي، وإذا كان الخلفاء الراشدون، وهم من العشرة المبشرين بالجنة لم يلتزموا بالعدل الإلهي ، فمن سيلتزم  حتى يُقال إنّ الديمقراطية الغربية أكثر  عدلًا من عدل الخلافة الراشدة؟

وسأبدل بِ” العدل”

حقيقة العدل في الإسلام، أنّه ميزان الله على الأرض، به يُؤْخَذُ للضعيف حَقُّه، ويُنْصَفُ المظلومُ ممن ظلمه، ويُمَكَّن صاحب الحقِّ من الوصول إلى حَقِّه من أقرب الطرق وأيسرها، وهو واحد من القيم التي تنبثق من عقيدة الإسلام في مجتمعه؛ فلجميع الناس في مجتمع الإسلام حَقُّ العدالة وحقُّ الاطمئنان إليها، وهو من القيم الإنسانية الأساسية التي جاء بها الإسلام، وجعلها من مُقَوِّمَاتِ الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية، حتى جعل القرآنُ إقامةَ القسط – أي العدل – بين الناس هو هدف الرسالات السماوية كلها، فقال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) [1]، وليس ثمة تنويه بقيمة القسط أو العدل أعظم من أن يكون هو المقصود الأول من إرسال الله تعالى رُسُله، وإنزاله كتبه؛ فبالعدل أُنْزِلَتِ الكتب، وبُعِثَتِ الرسل، وبالعدل قامت السموات والأرض.

وفي تقرير واضح وصريح لإحقاق العدل وتطبيقه ولو كُنَّا مبغضين لمن نَحْكُم فيهم، يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ)[2] ، ويقول أيضًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[3]، قال ابن كثير: “أي لا يحملنَّكم بُغْض قوم على ترك العدل فيهم، بل استعملوا العدل في كُلِّ أَحَدٍ؛ صديقًا كان أو عدوًّا”

وأَمَرَ الإسلامُ كذلك بالعدل في القول، فقال تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) [4]، كما أمر بالعدل في الحكم، فقال تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [5]. كما أمر بالعدل في الصُّلْـح، فقال تعالى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْـمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْـمُقْسِطِينَ)[6].

وإذا كان الإسلام قد أَمَرَ بالعدل مع الناس -كُلِّ الناسِ كما رأينا في الآيات الأُوَلِ- العدل الذي لا يَعْرِفُ العاطفة؛ فلا يتأثَّرُ بحُبٍّ أو بُغْضٍ، فإنه قد أمر بالعدل ابتداءً من النفس، وذلك حين أمر المسلم بالموازنة بين حقِّ نفسه وحقِّ ربِّه وحقوق غيره، ويظهر ذلك حين صدَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي لمَّا قال لأخيه أبي الدرداء الذي جار على حقِّ زوجته بِتَرْكِها، ومداومة صيام النهار، وقيام الليل: “إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا؛ فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ”[7]

تحريم الظلم في الإسلام

وبقدر ما أَمَرَ الإسلامُ بالعدل وحثَّ عليه، حَرَّمَ الظلم أشدَّ التحريم، وقاومه أشدَّ المقاومة، سواء ظُلْـم النفس أم ظُلْـم الآخرين، وبخاصة ظُلْـم الأقوياء للضعفاء، وظُلْـم الأغنياء للفقراء، وظُلْـم الحُكَّام للمحكومين، وكلَّما اشتدَّ ضعف الإنسان كان ظلمه أشدَّ إثمًا؛ ففي الحديث القدسي: “يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْـمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَالَمُوا”[8]

ويقول الرسول صلى الله عليه وسلّم لمعاذ: “… وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْـمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ”[9]

وقال: “ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ، وَالإِمَامُ الْعَادِلُ، وَدَعْوَةُ الْـمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا اللهُ فَوْقَ الْغَمَامِ، وَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ، وَيَقُولُ الرَّبُّ: وَعِزَّتِي لأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ”[10]

وقد امتثل الخلفاء الراشدون بالتوجيه الإلهي، لقد قامت دولة الخلفاء الراشدين على مبدأ العدل ،  فها هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول عقب مبايعته بالخلافة: ” أمّا بعد أيها الناس فإنِّي قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإنْ أحسنت فأعينوني، وإنْ أسأت فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى أريح عليه حقه إن شاء الله، والقوى فيكم ضعيف حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”.[11]

ومن أمثلة عدل الصديق رضي الله عنه
ذات يوم صاح أبو بكر الصديق رضي الله عنه  بصدقات الإبل أن تقسم على الناس .
فلما حضرت قال : لا يدخل علينا أحد إلا بإذن .
وبينما هم كذلك ، قالت امرأة لزوجها : خذ هذا الحبل واذهب إلى أبي بكر الصديق ، لعل الله يرزقنا جملًا .
فأتى الرجل أبا بكر الصديق،  فوجده قد دخل إلى الإبل، وبدأ في تقسيمها ، فدخل إلى أبي بكر الصديق  .
فلما رأى أبو بكر  الرجل قال غاضباً : من أدخلك علينا ؟
أخذ منه الحبل وضربه به ، وعندما فرغ أبو بكر الصديق  من تقسيم الإبل دعا بالرجل فأعطاه الحبل .
وقال : اقتص مني .
فقال عمر  : والله لا يقتص ، ولا تجعلها سنة .
قال أبو بكر  : فمن لي من الله يوم القيامة ؟
فقال عمر رضي الله عنه ” أرضه .
فأعطاه أبو بكر الصديق رضي الله عنه  راحلة وقطيفة وخمسة دنانير ، وأرضاه بها ، ورجع إلى امرأته سعيداً راضياً .

أمّا الخليفة الراشد الثاني عمر بن الخطّاب رضي الله عنه،  فإذا ذُكِر عمر ذُكر العدل، وإذا ذُكر العدل ذُكر عمر.

روى الإمام أحمد بسنده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم: “إِنَّ اللَّهَ جَعَلَ الْحَقَّ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ وَقَلْبِهِ”[12]

وفي موطأ الإمام مالك بسنده عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ اخْتَصَمَ إِلَيْهِ مُسْلِمٌ وَيَهُودِيٌّ، فَرَأَى عُمَرُ أَنَّ الْحَقَّ لِلْيَهُودِيِّ، فَقَضَى لَهُ، فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: وَاللَّهِ لَقَدْ قَضَيْتَ بِالْحَقِّ. فَضَرَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِالدِّرَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَقَالَ لَهُ الْيَهُودِيُّ: إِنَّا نَجِدُ أَنَّهُ لَيْسَ قَاضٍ يَقْضِي بِالْحَقِّ إِلاَّ كَانَ عَنْ يَمِينِهِ مَلَكٌ وَعَنْ شِمَالِهِ مَلَكٌ يُسَدِّدَانِهِ، وَيُوَفِّقَانِهِ لِلْحَقِّ مَا دَامَ مَعَ الْحَقِّ، فَإِذَا تَرَكَ الْحَقَّ عَرَجَا وَتَرَكَاهُ” [13]

وكان يأمر عماله أن يوافوه بالمواسم، فإذا اجتمعوا قال:

“أيّها الناس إنّي لم أبعث عمالي عليكم ليصيبوا من أبشاركم، ولا من أموالكم، إنّما بعثتهم ليحجزوا بينكم، وليقسموا فيئكم بينكم، فمن فُعل به غير ذلك فليقم، فما قام أحد إلا رجل واحد قام فقال: يا أمير المؤمنين إنّ عاملك ضربني مائة سوط. قال: فيم ضربته؟ قم فاقتص منه. فقام عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين إنك إن فعلت هذا يكثر عليك ويكون سنة يأخذ بها من بعدك. فقال: أنا لا أقيد، وقد رأيت رسول الله يقيد من نفسه قال: فدعنا فلنرضه، قال: دونكم فأرضوه. فاقتدى منه بمائتي دينار كل سوط بدينارين ولو لم يرضوه لأقاده.

وعن أنس أنّ رجلاً من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين عائذ بك من الظلم قال: عذت معاذًا. قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته، فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين. فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه، فقدم فقال عمر: أين المصري؟ خذ السوط فاضرب فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر: اضرب ابن الأكرمين. قال أنس: فضرب، فوالله لقد ضربه، ونحن نحب ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: ضع السوط على صلعة عمرو. فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد استقدت منه. فقال عمر لعمرو: مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني.” [14]

لقد قامت دولة الخلفاء الراشدين على مبدأ العدل .

وأما مبدأ المساواة الذي اعتمده الفاروق في دولته، فيعد أحد المبادئ العامة التي أقرها الإسلام قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[15]

إنّ الناس جميعًا في نظر الإسلام سواسية، الحاكم والمحكوم، الرجال والنساء، العرب والعجم، الأبيض والأسود، لقد ألغى الإسلام الفوارق بين الناس بسبب الجنس أو اللون أو النسب أو الطبقة، والحكام والمحكومون كلهم في نظر الشرع سواء، وجاءت ممارسة الفاروق لهذا المبدأ خير شاهد.

مبدأ المساواة في عهد عمر بن الخطاب

هذه بعض المواقف التي جسدت مبدأ المساواة في دولته:

لم يقتصر مبدأ المساواة في التطبيق عند خلفاء الصدر الأول على المعاملة الواحدة للناس كافة، وإنّما تعداه إلى شؤون المجتمع الخاصة، ومنها ما يتعلق بالخادم والمخدوم، فعن ابن عباس أنّه قال: قدم عمر بن الخطاب حاجًّا، فصنع له صفوان بن أمية طعامًا، فجاءوا بجفنة يحملها أربعة، فوضعت بين يدي القوم يأكلون وقام الخدام فقال عمر: أترغبونه عنهم؟ فقال سفيان بن عبد الله: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنا نستأثر عليهم، فغضب عمر غضبًا شديدًا، ثم قال: ما لقوم يستأثرون على خدامهم، فعل الله بهم وفعل. ثم قال للخدُّام : اجلسوا فكلوا، فقعد الخدام يأكلون، ولم يأكل أمير المؤمنين.

ومن صور تطبيق المساواة بين الناس ما قام به عمر عندما جاءه مال فجعل يقسمه بين الناس، فازدحموا عليه، فأقبل سعد بن أبى وقاص يزاحم الناس، حتى خلص إليه، فعلاه بالدّرّة وقال: إنّك أقبلت لا تهاب سلطان الله في الأرض، فأحببت أن أعلمك أن سلطان الله لن يهابك. فإذا عرفنا أنّ سعدًا كان أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأنّه فاتح العراق، ومدائن كسرى، وأحد الستة الذين عينهم للشورى؛ لأنّ رسول الله  صلى الله عليه وسلّم ، مات وهو راض عنهم، وأنّه كان يقال له: فارس الإسلام، عرفنا مبلغ التزام عمر بتطبيق المساواة.

وعمرو بن العاص رضي الله عنه ، فقد أقام حد الخمر على عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب، يوم كان عامله على مصر. ومن المألوف أن يقام الحد في الساحة العامة للمدينة، لتتحقق من ذلك العبرة للجمهور، غير أنّ عمرو بن العاص أقام الحد على ابن الخليفة في البيت، فلما بلغ الخبر عمر كتب إلى عمرو بن العاص: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى العاص بن العاص: عجبت لك يا ابن العاص ولجرأتك عليّ، وخلاف عهدي. أما إنِّي قد خالفت فيك أصحاب بدر عمن هو خير منك، واخترتك لجدالك عني وإنفاذ مهدي، فأراك تلوثت بما قد تلوثت، فما أراني إلا عازلك فمسيء عزلك، تضرب عبد الرحمن في بيتك، وقد عرفت أنّ هذا يخالفني؟ إنّما عبد الرحمن رجل من رعيتك، تصنع به ما تصنع بغيره من المسلمين. ولكن قلت: هو ولد أمير المؤمنين وقد عرفت أنّ لا هوادة لأحد من الناس عندي في حق يجب لله عليه، فإذا جاءك كتابي هذا، فابعث به في عباءة على قتب حتى يعرف سوء ما صنع. وقد تم إحضاره إلى المدينة وضربه الحد جهرًا (روى ذلك ابن سعد، وأشار إليه ابن الزبير، وأخرجه عبد الرزاق بسند صحيح عن ابن عمر مطولاً).

فهكذا نرى المساواة أمام الشريعة في أسمى درجاتها، فالمتهم هو ابن أمير المؤمنين، ولم يعفه الوالي من العقاب، ولكن الفاروق وجد أنّ ابنه تمتع ببعض الرعاية، فآلمه ذلك أشد الألم، وعاقب واليه -وهو فاتح مصر- أشد العقاب وأقساه. وأنزل بالابن ما يستحق من العقاب، حرصًا على حدود الله، ورغبة في تأديب ابنه وتقويمه.

أمثلة من عدل الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفّان رضي الله عنه

صحابي جليل و إمام عادل ورجل تستحي منه الملائكة، قدّم الكثير والكثير للإسلام بشّره النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة ، والأحاديث في ذكر محاسنه وحب النبي صلى الله عليه و سلم له كثيرة ..

ففي غيظ وغضب هجم عثمان رضي الله عنه هذا الحمل الوديع على غلام له فضغط على أذنه وشدها بقوة حتى تألم الغلام،. فقال عثمان رضي الله عنه للغلام: إن عركت أذنك فاقتص مني .

رفض الغلام القصاص، ومنعه الحياء بل قيد يده ولسانه، فأحاطه عثمان رضي الله عنه بإصراره حتى دفع يد الغلام فأمسكت بأذنه برفق. فصاح عثمان رضي الله عنه:  ” اشدد يا حبذا قصاص في الدنيا لا قصاص في الآخرة” .

ومثال آخر: “أتى أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه بامرأة ولدت بعد حمل استمر ستة أشهر، فخاف أن يظلمها  فصعد المنبر بأقدام لا تعرف الظلم والشك أو العجلة، وراح يعرض الأمر على أصحاب رسول الله لعله يجد نور العلم عند أحدهم

. فناداه ابن عباس رضي الله عنهما : إنّ الله قال : )وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًاوَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)[16]

وقال تعالى: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَة)َ[17] فإذا تمت رضاعته ، فإنّما الحمل ستة أشهر، فتركها  عثمان  رضي الله عنه.

أمثلة من عدل علي بن أبي طالب رضي الله عنه

كانت تتوفر في علي بن أبي طالب كل مواصفات القاضي الناجح وشروطه ، و مما يدل على ذلك اختيار النبي صلى الله عليه وسلم له ليكون قاضيًا على اليمن وهو في عنفوان شبابه مع وفور عقل ورجاحة رأيه ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختار إلا من كان قويًا أمينًا.

ومع هذا، يزوده بنصائحه و توجيهاته وارشاداته، فقد قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يتوجه إلى اليمن: يا علي ، إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر ما سمعت من الأول ، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء، قال علي : فما اختلف علي قضاء بعد، أو ما أشكل علي قضاء بعد .

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقر علياً بن أبي طالب في قضائه على كثير من القضايا ، و منها ما رواه الإمام احمد في الفضائل عن علي بن أبي طالب قال : : بعثني رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلى اليمن ، فانتهينا إلى قوم قد بنوا زبية للأسد ، فبينما هم كذلك يتدافعون إذ سقط رجل ، فتعلق بآخر ، ثم تعلق بآخر حتى صاروا فيها أربعة، فجرحهم الأسد، فانتدب له رجل بحربة فقتله، وماتوا من جراحتهم كلهم . فقام أولياء الأول إلى أولياء الآخر، فأخرجوا السلاح ليقتلوه ، فأتاهم علي رضي الله عنه  على تفيئة ذلك، فقال : تريدون أن تقاتلوا ورسول الله – صلى الله عليه وسلم – حي ، إنِّي أقضي بينكم قضاء إن رضيتم فهو القضاء ، وإلا حجر بعضكم على بعض حتى تأتوا رسول الله – صلى الله عليه وسلم- فيكون الذي يقضي بينكم ، فمن عدا بعد ذلك فلا حق له .

اجمعوا لي من قبائل الذين حفروا البئر، ربع الدية، وثلث الدية، ونصف الدية، والدية كاملة، فللأول الربع لأّنه هلك من فوقه، والثاني ثلث الدية، والثالث نصف الدية، فأبوا أن يرضوا .

فأتوا النبي – صلى الله عليه وسلم – وهو قائم عند مقام إبراهيم فقصوا عليه القصة، فقال : ” أنا أقضي بينكم ” . واحتبى، فقال رجل من القوم : إنّ عليًا قضى فينا فقصوا عليه القصة ، فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

هذه بعض المواقف للخلفاء الراشدين التي تُبيّن عدلهم بين الناس، فكلهم سواء على اختلاف ألوانهم وأديانهم وأجناسهم ومناصبهم وقرابتهم.

أمّا شورى الخلافة الراشدة ، فقد بيّنتها في الجزء الثاني من مراجعاتي على حلقة” توظيف الدين لخدمة السياسة”

ولكن للأسف نجد البعض تأثر بمزاعم  بعض المستشرقين الإنجليز، مثل  ” وليم موير، دافيد مرجليوث، توماس أرنولد، مونتجمري وات، وبرنارد لويس ”  أنّ نظام الحكم الإسلامي نظام ديني فردي مستبد .

كما زعم مرجليوث أنّ بعض المصطلحات مثل أكثرية، وصوت، وانتخاب لم تُعرف في الشرق الأوسط إلّا حديثاً عندما دخلت اللغات الأوروبية في اللغات الإسلامية، ومزاعم أخرى

وقصر مرجليوث نظام الشورى في الإسلام على أنّه نظام نظري يقوم على المشاورة فقط لا يخضع للتطبيق ، ويزعم مرجليوث أنّ سلطة الإمام في الإسلام سلطة مطلقة لا تخضع لرقابة وتقويم فلا يوجد من يكون الإمام مسؤولًا أمامه، وزعم مرجليوث أنّ الحكم الإسلامي ظل حكمًا استبداديًا  حتى تخلص منه بعد تأثره بالثورة الفرنسية عن طريق تركيا، وزعم  أنّ المنطقة الإسلامية منقطة حارة لا تلائمهما المبادئ الدستورية، ولهذا السبب في رأيه لم يظهر رجال فقه دستوري حتى القرن التاسع عشر .

أمّا  توماس أرنولد  فقد قصر الإمامة على وجود الطاعة، وأطلق هذه الطاعة بلا حدود ولا قيود، ولم يأت بأحاديث وردت في كتب الصحاح الستة، وموطأ مالك، ومسند الإمام أحمد وسُنن الدرامي وغيرها من كتب السُنن  والمسانيد عن وجوب طاعة الأمير في غير معصية، كما لم يذكر ما ورد من أحاديث في مسؤولية الإمام وواجباته، واستشهد بحديث عن أشراط الساعة وقرب حدوثها حيث يغلب الشر على الخير وتكثر الفتن، واعتبره حكماً يطالب به الإسلام في كل الأحوال ليؤيد بكل هذا ما يريد أن يصف به الحكم الإسلامي، أنّه حكم استبدادي ، وأنّ سلطة الحكم سلطة مستبدة لا تجد من يحاسبها ويوقف طغيانها .

هذا ولخطورة هذه المزاعم والافتراءات سأناقشها ليتضح لنا مدى بُعد هؤلاء المستشرقين عن الحيدة والموضوعية ومدى تحاملهم على الإسلام في كل موضع وفي كل مناسبة .

وهذا ما سأبحثه في الجزء الرابع من مراجعات هذه الحلقة

فللحديث صلة.

 

[1] . الحديد: 25.

[2] . النساء : 135.

[3] . المائدة: 8.

[4] . الأنعام : 152.

[5] . النساء : 58.

[6] . الحجرات: 9.

[7]   .البخاري: كتاب الصوم، باب من أقسم على أخيه ليفطر في التطوع ولم ير عليه قضاء إذا كان أوفق له (1832)، والترمذي (2413).

[8] . مسلم من حديث أبي ذر : كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (2577)، وأحمد (21458)، والبخاري في الأدب المفرد (490)، وابن حبان (619)، والبيهقي في شعب الإيمان (7088)، والسنن الكبرى (11283).

[9] . البخاري: كتاب المغازي، باب بعث أبي موسى ومعاذ إلى اليمن قبل حجة الوداع (4000)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام (27).

[10] . الترمذي: كتاب الدعوات، باب في العفو والعافية (3598) وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه (1752)، وأحمد (8030) وقال شعيب الأرناءوط: صحيح بطرقه وشواهده.

[11] .  محمود شريف بسيوني : الوثائق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، المجلد الثاني، دار الشروق، القاهرة، 2003. وقد نشرت هذه الوثيقة بتصريح من المعهد الدولي لحقوق الإنسان بجامعة دي بول شيكاغو.

 

[12] . مسند أحمد: حديث رقم 8846.

[13]  . موطأ مالك: كتاب الأقضية – باب الترغيب في القضاء بالحق – حديث رقم 1206.

[14] . كنز العمال: جزء 12- صفحة 873.

[15]  . الحجرات: 13.

[16] . الأحقاق: 15.

[17] . البقرة: 233.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: