د.سهيلة زين العابدين كاتبة سعودية
د.سهيلة زين العابدين
كاتبة سعودية

قبل أن  أواصل مراجعاتي على حلقة انتقاص الفقهاء من حقوق المرأة من برنامج صحوة بقناتي روتانا خليجية ومصرية الذي يقدمه الإعلامي القدير الدكتور أحمد العرفج محاورًا ضيف البرنامج الدائم المفكر العلامة الدكتور عدنان إبراهيم  (رابط الحلقة)   . أود أن أقدم خالص شكري وعظيم تقديري لفضيلة العالم العلامة الدكتور عدنان إبراهيم لنشره في صفحة حسابه على الفيس بوك مراجعاتي كاملة على برنامج صحوة، فهذا هو العالم الحق الذي يُقدر ويحترم الآراء المخالفة له مثل الموافقة له، ويتقبلها بصدر رحب، دون مصادرتها، واتهام صاحبها بالجهل والكفر والزندقة والعلمنة واللبرلة والعمالة للغرب، كما يفعل بعض من يصفون أنفسهم بعلماء، فالعالم الحق الذي يقبل الرأي المخالف لرأيه احترامًا لعلم وجهد واجتهاد مخالفه، ورغبة في الإثراء المعرفي بالإسلام لتحقيق الصلاح للأمة وتنقية كتب تراث الإسلام ممّا علق بها من شوائب مورثات  فكرية وثقافية جاهلية ومرويات موضوعة في الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام، وإعادة إلينا الإسلام الذي اختطف منا ، فموقف الدكتور عدنان هذا ينم عن نقاء سريرته، وطهارة إيمانه، وكريم خلقه ، زاده الله علوًا في قدره وعلمه ومكانته.

وتوقفتُ في الحلقة الماضية عند عدم تطّرق الدكتور عدنان لما جاء في مداخلتي عن استرقاق الأسيرات، وإباحة مضاجعتهن بدون عقد زواج، فمن الافتراءات الباطلة ما يُنسبه الإرهابيون والملحدون إلى ما تقوم به داعش من سبي النساء واغتصابهن وبيعهن إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، قائلين ما يفعله داعش فعله محمد وصحابته، ويرجع هذا لسوء فهم ملك اليمين، باعتبارهن الأسيرات في الحروب والجواري، مع  بإباحة وطأهن من قبل من يملكهن بدون عقد زواج، من ذلك ما ذكره الطبري في تفسيره للآية(3)من سورة النساء بقوله: “…فإن خفتم أيضًا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة، بأن لا تقدروا على إنصافها، فلا تنكحوها، ولكن تسرَّوا من المماليك، فإنكم أحرى أن لا تجوروا عليهن، لأنّهن أملاككم وأموالكم، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور.” وللأسف فإنّ الإمام الطبري أخطأ في تفسيره لهذه الآية، وكيف يُنسب هذا المعنى لله عزّ وجل؟

فلم يرد في الآية ما يشير إلى التسري بالمماليك، فمعنى ملك اليمين طبقًا لسياق الآية عن الزواج من الكتابية إن لم تسمح ظروفه الزواج من مسلمة، فجاءت(أو ما ملكت أيمانكم) معطوفة على (فانكحوا ما طاب لكم..)ولنتأمل الآية معًا لتتضح أمامنا الصورة(وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَىٰ فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ  فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ  ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا)

وما ذخرت به كتب التراث من أحكام استرقاق الأسرى، واستباحة الأسيرات يتنافى تمامًا مع ما جاء في القرآن الكريم، ومع السنة الفعلية، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يُبح لنفسه استرقاق الأسيرات، ولا استغلالهن جنسيًا، فقد تزوّج من  جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار التي وقعت في  السهم لثابت بن قيس, فكاتبته على نفسها, فأتت رسول الله لتستعينه في كتابتها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:” وهل لك في خيرِ من ذلك؟” قالت: “وما هو؟” قال: “أؤدي عنك كتابتك, وأتزوجك” قالت: “نعم يارسول الله, لقد فعلت. ففعل رسول الله كما تزوّج صفية بن حيي بن أخطب النضيري  الذي قتل بعد موقعة الخندق لتأليبه بني النضير وبني قريظة  ضد المسلمين، وتحريضهم على قتالهم، وتحالفوا مع المشركين، فكانت موقعة الأحزاب ( كيف نقول عنها غزوة، والأحزاب هم الذين جاءوا لقتال الرسول صلى الله عليه وسلّم؟)، وكانت صفية من ضمن أسرى خيبر، فخيرها الرسول صلى الله عليه وسلم بين الإسلام وزاوجه بها، وبين بقائها على دينها ،وإطلاق سراحها، فاختارت الإسلام والزواج بالرسول صلى الله عليه وسل ، وكان مهرها مقابل إطلاق سراحها، وما ورد في صحيح البخاري عن زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيدة صفية رضي الله عنها، روايات موضوعة؛ إذ كيف يتزوجها، ولم تمض شهور العدة؛ فقد قتل زوجها كنانة بن ربيع النضيري في غزوة خيبر، فكيف يدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم تمض مدة للتأكد من خلو رحمها من حمل؟

أمّا ما ورد  من روايات عن تسري الرسول صلى الله عليه وسلم بمارية القبطية وريحانة بنت شمعون اليهودية، فهذه روايات موضوعة ليبيحوا لأنفسهم التسري بالإيماء وملك اليمين؛ فالقرآن لم يُبح ذلك بل نص في آيات قطعية الدلالة على الزواج من الإماء، ولا يمكن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمر به خالقه:(وَأَنكِحُوا الْأَيَامَىٰ مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) [ النور: 32]( وإمائكم) معطوفة على الأيامى، أي وانكحوا الأيامى وإمائكم، فأين معنى التسري بالإماء؟

والذي أحدث هذا اللبس في الفهم أنّ استرقاق الأسرى من الموروثات لدى الأمم والحضارات، ولم يستوعب المفسرون والفقهاء والمؤرخون تحريم الإسلام استرقاق الأسرى، واغتصاب السبايا من النساء، فليس هناك فرق بين الأسرى والرق في كتبهم، ويُفسّر قوله تعالى:(وما ملكت أيمانكم)أي الأسيرة التي تستعبد وتستمتع بمجرد ملك اليمين بالبيع والشراء، والذين أسترقوا أسيرات الحروب  خالفوا  ما جاء في القرآن الكريم عن الأسرى الذي تبيّنه الآية الكريمة(فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) [ محمد: 4]

فبعد انتهاء الحرب يكون الوضع بالنسبة للأسرى إما إطلاق سراحهم بلا مقابل، أو طلب فدية، تشمل مالًا، أو تبادل الأسرى،كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلّم بأسرى بدر، ولم يتطرق القرآن إلى استرقاق الأسرى لا من قريب ولا من بعيد، كما أنّ الرسول eشرع لنا تبادل الأسرى في كثير من أحاديثه الصحيحة، وألحَّ على ذلك..

ولكن للأسف القول بنسخ هذه الآية جعل بعض العلماء يُفتون باسترقاق الأسرى من قبيل المعاملة بالمثل، لأنّ الأعداء يسترقون أسرى المسلمين، ويستبيحون أعراض الأسيرات المسلمات، وهذا يتنافى مع ما جاء في القرآن الكريم، ويتنافى مع تحقيق قوله تعالى:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [ آل عمران: 110]

فلكي نكون خير أمة أُخرجت للناس، علينا أن نتجنب المنكرات، ومن هذه المنكرات استرقاق الإنسان، واغتصاب عرضه، وإن كان أعداؤنا يفعلون ذلك بأسرانا، فلا ننزل إلى مستواهم، ولنرفعهم إلى مستوانا باتباعنا تعاليم ديننا التي جعلت المن والفداء هما طريقة التعامل بأسرانا من الأعداء، وللأسف الشديد نجد  كتب التاريخ والفقه والتفسير تعتبر الأسيرات إماء مسترقات، فيطلق أصحابها عبارة أعتقها على الأسيرة، وأعتق الأسرى عند حديثهم عن زواج الرسول صلى الله عليه وسلّم من السيدة جويرية بنت الحارث رضي الله عنها، فيقولون أعتقها وتزوجها، وعند سمع الصحابة بذلك، قالوا عن بني المصطلق أصهار رسول الله، فأعتقوا مائة من بني المصطلق، وكأنّهم أصبحوا عبيدًا بمجرد وقوعهم في الأسر، بل نجد القائلين بالناسخ والمنسوخ نسخوا كلمة(وأسيرًا)من آية(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [ الإنسان:8] فقالوا الآية كلها محكمة باستثناء(وأسيرا)فهي منسوخة!!!!

مصطلح ملك اليمين

لقد ورد مصطلح ملك اليمين في القرآن الكريم في(15)موضعًا، بكل صيغها(مَـلَـكَتْ أَيْمَانُكُمْ)(مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ)(مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ)(مَلَكَتْ يَمِينُكَ)

وقد فسرها كثير من المفسرين والفقهاء والمحدثين والمؤرخين طبقًا لأفقهم المعرفي المتوفر لديهم آنذاك على أنّها تعني اسيرات الحرب، ويتوزعن كمقتنيات بيتية على الصحابة وبأعداد مفتوحة وبدون عقد شرعي، كما كان هو السائد قبل الإسلام،  والإسلام برئ ممّا نُسب إليه، فلا رسوله، ولا صحابة رسوله لديهم جوار من سبايا الحروب، لأنّه لا وجود هذا في صحيح الإسلام. لقوله تعالى(فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) [ محمد: 4]

فهذه الآية تبيّن تحريم استرقاق الأسرى والسبايا، كما حرّم الله استرقاقهم في التوراة؛ إذ جاء هذا النص في الإصحاح(21)من سفر التثنية:” إذا خرجت لمحاربة اعدائك ودفعهم الرب الهك إلى يدك وسبيت منهم سبيا. ورأيت في السبي امرأة جميلة الصورة والتصقت بها واتخذتها لك زوجة. فحين تدخلها إلى بيتك تحلق راسها وتقلم اظفارها. وتنزع ثياب سبيها عنها وتقعد في بيتك وتبكي أباها وأمها شهرًا من الزمان، ثم بعد ذلك تدخل عليها  تتزوج بها فتكون لك زوجة، وإن لم تُسر بها فاطلقها لنفسها لا تبعها بيعا بفضة ولا تسترقها من أجل أنّنك قد أذللتها”.[ الآيات 10-14]

فالله جل شأنه حرّم استرقاق الأسرى في القرآن والتوراة، فلا علاقة للأسرى بملك اليمين، ولا توجد دلالات في القرآن على ذلك، فالأسرى في القرآن هم الأسرى، يوضح هذا قوله:(مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) [ الأنفال: 67]

والتعامل معهم تعامل رحمة وعطف:(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ  عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا
إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)[ الإنسان: 8، 9]

ويُشير إلى إطلاق سراحهم في قوله:(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ) [ الأنفال: 70]

فمن أين أتى ربط مصطلح “الأسرى” بمصطلح(ملك اليمين)مع أنّ هذا المصطلح مصطلح قرآني، لم يكن معروفًا قبل نزوله؟

هذا وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ  من العلماء من  قالوا بنسخ ( وأسيرًا) في قوله تعالى:(وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ  عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) فقالوا الآية كلها مُحكمة باستثناء( وأسيرًا) فقد نُسخت!

والسؤال كيف عرفوا ذلك، ولم يخبرهم به مبلغ الوحي الرسول صلى الله عليه وسلّم.

مصطلح (ملك اليمين) من سياق الآيات ودلالاتها

إذًا مصطلح(ملك اليمين)لا يقصد به أسيرات الحروب، كما فهمها وفسرها مفسرو القرآن الكريم القدامي، ونقلها عنهم المؤرخون والفقهاء الذين بنوا أحكامًا فقهية عليه، وردّدناه ودرّسناه ودرسناه منذ صدور تفسير الطبري للقرآن الكريم المتوفى(310ه)– وهر أوّل تفسير للقرآن الكريم، وقد تناقله المفسرون التاليين له- إلى عصرنا هذا، وتبيّن هذا الخطأ عندما قامت داعش باغتصاب الأسيرات وبيعهن، وعندما أثار أحد من يُطلق عليهم بدعاة، قضية العودة إلى زواج ملك اليمين معتبرًا أن “الشرع يحله”، فاعتبره  بعض علماء الأزهر “يوقع الناس في إشاعة الفاحشة”، وبيّن الدكتور محمود مهنا، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر أنّ المراد بملك اليمين أمور كانت موجودة في ذلك الزمان، باعتبار الأسيرات ملك يمين، فلا زواج يمين ولا ملك يمين إلا في الحالات التي كانت أيام المسلمين الأوائل وغيرهم، وأشار إلى أنّه حتى في حال نشوب حروب اليوم بين المسلمين وغيرهم، فإنّ الإسلام لا يعتبر أسيرات الحروب ملك يمين، بسبب وجود قوانين تم تشريعها وسنها أجمع عليها علماء المسلمين بأنّهن أسيرات، ولسن ملك يمين.”

فهذا القول كشف خطأ هذ المفهوم من حيث تناقض الدكتور مهنا في قوله، فكيف يكون ملك اليمين أسيرات الحروب في أيام المسلمين الأوائل،  بينما لا يعتبر الإسلام أسيرات الحروب ملك يمين؟ ولو كان ذلك  صحيحًا كيف تُلغي قوانين وضعية تشريعًا إلهيًا؟

فهذا يؤكد خطأ مفسري القرآن الكريم بربط ملك اليمين بأسيرات الحروب، وذلك لأنّهم جردوا مدلولات هذا المصطلح من سياقها، ووقع علماء معاصرون في خطأ العلماء القدامى بقبولهم لتفسيرهم  الذي ألغى  أزلية القرآن الكريم وصلاحية تشريعاته  لكل زمان ومكان، فلم يعمل العلماء المعاصرون عقولهم لفهم سياق الآيات ومدلولاتها، فليس من المعقول أنّ الله يبيح حرامًا، ويُجمع علماء معاصرون– كما قل الدكتور محمود مهنا عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر- بحرمته لصدور أنظمة دولية تُحرّمه!

إنّ التّحليل بالسياق يُعدّ وسيلةً من بين وسائل تصنيف المدلولات، وفهم الآيات القرآنية، وهذا يتطلب عرض اللّفظ القرآنيّ على موقعه لفهم معناه ودفع المعاني غير المرادة. وللسّياق أنواع كثيرة منها السّياق المَكاني ويعني سياق الآية أو الآيات داخل السّورة، والسّياق الزّمنيّ للآيات، أو سياق التّنزيل، والسّياق المَوضوعيّ  وهو الآيات التي يجمعها موضوع واحد، والسّياق المَقاصديّ ومعناه النّظر إلى الآيات القرآنيّة من خلال مقاصد القرآن الكريم، والسّياق التّاريخيّ، وهو سياق الأحداث التّاريخيّة القديمة التي حكاها القرآن الكريم  ولمُعاصرة لزمن التّنزيل، والخاصّ هو أسباب النّزول، والسّياق اللّغويّ وهو دِراسةُ النصّ القرآنيّ من خلال علاقاتِ ألفاظِه بعضها ببعض والأدواتِ المستعملة للرّبط بين هذه الألفاظ، وما يترتّب على تلك العلاقات من دلالات جزئية وكلّية.

 

ولنطبّق هذا على مصطلحات” ملك اليمين”،” أزواج”،” المحصنات”

ولنبدأ بمصطلح” ملك اليمين”، وهذا المصطلح لم يعرفه العرب قبل الإسلام، وهو مكوّن من كلمتيْن، هما” ملك” و”يمين”.

و”اليمين” جاء في آيات عديدة، منها:

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا) [ النحل: 91]

(ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلًا بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة

إنما يبلوكم الله به وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) [ النحل:92]

(ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم فتزل قدم بعد ثبوتها وتذوقوا السوء بما صددتم عن سبيل الله ولكم عذاب عظيم) [ النحل: 94]

(قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) التحريم:2]

من هذه الآيات يتبيًن لنا ان الأيمان هو الحلف والقسم بالله والعهد على الالتزام بما حلف عليه ويستطيع المسلم اذا حنث بيمينه ان يُكفر عنه بصدقه أو صيام، فإذًا معنى(ما ملكت أيمانكم)هو الشخص الذي أقسمتم اليمين بالله أن تكونوا أمناء عليه، وقد يكون هذا الشخص زوج، أو زوجة، أو أولاد، أو من تكلفون برعايتهم وحمايتهم من أطفال ويتامي، ولا تملكون أجسادهم ببيع وشراء، وإنّما تملكون حق حمايتهم ورعايتهم والإنفاق عليهم باليمين الذي أقسمتم على ذلك. والذي يؤكد صحة هذا المعنى، أنّه لم يرد ولا في آية واحدة من الآيات التي تحث على العتق ملك يمين، ولهذا دلالته، وهي أنّ ملك اليمين لا تعني المماليك من العبيد والجواري.

معنى (زوج ) في القرآن الكريم

كما أنّ كلمة(زوج) لها عدة معان، كما في قوله تعالى:(وكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً. فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ. وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ. وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ. أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)[ الواقعة: 5-9]

(وأنبتت من كل زوج بهيج)[1](ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)[2]

وخلاصة القول: إنّ لفظ(الزوج)في القرآن الكريم ورد على ثلاثة معان رئيسة: إما على معنى زوجة الرجل وحليلته، وإما على معنى القرين، وإما على معنى الصنف، والسياق والسباق هو الذي يحدد أي المعاني الثلاثة هو المراد.

معاني مصطلحات ملك اليمين والمحصنات

لكي نفهم معنى(ملك اليمين) لابد من الوقوف عند معاني مصطلحات(ملك اليمين)و( المحصنات)، وبيّنت فيما تقدّم  معنى المصطلح الأول، أمّا  مصطلح(المحصنات)لا يعني المتزوجات في كل الآيات الواردة فيها، فالإحصان قد يكون بالزواج، وقد يكون بالإسلام، وقد يكون  بالعفة، ولو كان الإحصان بالزواج فقط، فكيف يكون(والمحصنات من النساء إلّا ما ملكت أيمانكم)[النساء:24]من المحرّمات، والله يُبيح الزواج بالمحصنات في الآية التي بعدها:(وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِن مِّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ)؟

لو دققنا في الآيتيْن نجد في الآية الأولى ذكر(المحصنات)فقط دون إلحاق صفة بهن، بينما في الثانية ألحق صفة المؤمنات بالمحصنات، لأنّ معنى الإحصان في الآية الثانية، هو الإحصان بالإيمان وليس بالزواج، كما في الآية الأولى .

هذا ونلاحظ في هاتين الآيتين ورود مصطلح(ما ملكت أيمانكم)بعد المحصنات

فالمراد ب(إلّا ما ملكت أيمانكم في قوله تعالى:(والمحصنات من النساء إلّا ما ملكت أيمانكم) ملك النكاح، والمعنى أن ذوات الأزواج حرام عليكم إلا زوجاتكم اللواتي ملكتم حق نكاحهن بعقد شرعي، أو بنكاح جديد بعد وقوع البينونة بينهن وبين أزواجهن، بينما معنى(فمن ما ملكت أيمانكم) في الآية الثانية أي ممن ملكتم ذمتهن بالزواج بعقد شرعي  من  فتيات أهل الذمة المؤمنات، بإذن أهليهن ودفع مهورهن(فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) فعقوبة الكتابية إن أتت بالفاحشة بعد إحصانها بالزواج نصف عقوبة المسلمة المحصنة بالزواج، وهذه الآية دليل على أنّ لا رجم للزانية المحصنّة في الإسلام، لأنّ الرجم يعني الموت، والموت لا يُنّصّف.

ويؤيد معنى المحصنات قوله تعالى:(اليومَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ و الْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ) [ المائدة: 5]

لو نظرنا إلى السياق الموضوعي لآية النساء  نجد في السياق العام  للآيات السابقة لها تتحدث عن علاقة الأزواج(وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ )و(وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ )وجاءت بعد ذكر المحرّمات من النساء، ولا علاقة ذلك بموقعة أوطاس وسبايا هوازن التي أغلب المفسرين قالوا بنزولها في سبايا هوازن المتزوجات، وتحرّج الصحابة من وطأهن، فأباح الله لهم ذلك بعد استبرائهن بحيضة واحدة، كما ورد في تفسير الطبري لهذه الآية الطبري في تفسيره لهذه الآية:” عن ابن عباس في قوله:(والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم)كل امرأة لها زوج فهي عليك حرام إلا أمة ملكتها ولها زوج بأرض الحرب, فهي لك حلال إذا استبرأتها، وبني الفقهاء على هذا الفهم الخاطئ حكمًا فقهيًا خاطئًا، وهو بطلان زواج الحرة بسبيها، ويجوز لمن تقع في أسره وطأها بلا عقد  زواج بعد استبرائها بحيضة واحدة، وإن كانت حاملًا بعد وضعها، والأمة المتزوجة بيعها طلاقها”

ودليل خطأ هذا الفهم إسلام قبيلة هوازن، ورد لهم رسول الله صلى عليه وسلم نساؤهم، فكيف تنزل آية تبيح وطء  سباياهم المتزوجات، والله بسابق علمه يعلم بإسلامهم؟

أمّا الروايات التي أخرجها الإمام  مسلم، عن نزول(والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم)في سبايا هوازن، وإباحة الله وطء المتزوجات منهن بعد استبرائهن، من حيث المتن لا تتفق مع الآية(4)من سورة محمد التي لا تبيح استرقاق الأسرى والسبايا، ومن حيث السند ففيها قتادة المعروف بتدليسه.

هذا يبيّن لنا كم أخطأ المفسرون في حق الله تعالى وفي الإسلام بتفسيرهم هذه الآية هذا التفسير الخاطئ، الذي وجّه به دعاة الإلحاد أشد الضربات لإبعاد شباب الإسلام عن دينهم؛ لذا أعود وأكرر إنّ تفسير النص القرآني ليس  حكرًا ولا ملكًا للمفسّرين القدامي، فلابد من إعادة تفسير القرآن الكريم بعيدًا عن التفسير الجنسي والعنصري الذي فسّر به المفسرون القدامى، وعلينا أن نتدبر ونتأمل في سياق الآيات ،ولا نجتزها من سياقها لنعطي لها معني غير معناها.

تأملات في مدلولات بعض الآيات القرآنية الوارد فيها مصطلح ملك اليمين

هذا ما سأبحثه – إن شاء الله –  في الجزء الرابع من هذه المراجعات، فللحديث صلة.

[1] . الحج:5.
[2] . الذّاريات 49.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقان 2

اترك رد

  • دكتورة جزاك الله خيرا على هذا الإجتهاد مشكورة
    لكن أريد من فضلكم أن تشرح لي الآية الخامسة و السادسة من سورة المؤمنون .
    و كذلك ‘إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم’ هنا حرف أو الذي يفيد التخيير بين شيئين فهل يمكن القول التخيير ما بين المسلمة و الكتابية؟؟
    يعني لا يجوز الجمع بينهما ؟؟
    و كذلك في آخر الآية الخامسة و العشرين من سورة النساء يقول الله تعالى ‘ ذلك لمن خشي العنت منكم و أن تصبروا خير لكم و الله غفور رحيم ‘ يعني هل يمكننا القول كذلك بأن الزواج من الكتابية يكون فقط بسبب الخوف من الوقوع في الزنا ؟؟

  • دكتورة جزاك الله خيرا على هذا الإجتهاد مشكورة لكن نريد منكم أن تشرح لي الآية الخامسة و السادسة من سورة المؤمنون.
    و كذلك يقول الله تعالى ‘فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ‘ هنا وجود أو التي تفيد التخيير بين شيئين فهل يمكن القول التخيير ما بين المسلمة و الكتابية؟ ؟
    أي لا يحل للرجل المسلم أن يجمع بينهما ؟؟
    كذلك يقول الله تعالى في آخر الآية الخامسة و العشرين ‘ ذلك لمن خشي العنت منكم و أن تصبروا خير لكم و الله غفور رحيم ‘ يعني هل يمكننا القول كذلك بأن الزواج من الكتابية يكون فقط بسبب الخوف من الوقوع في الزنا؟ ؟

%d مدونون معجبون بهذه: