نادية ياسين كاتبة وداعية مغربية
نادية ياسين
كاتبة وداعية مغربية

خلال العقود الأخيرة، حرص الفكر النمطي السائد على تقديم بعض الوجوه ،التي تم انتقاؤها بعناية شديدة، بصفتهم “المفكرون الجدد للإسلام”؛ وتدأب وسائل الإعلام، الفرنسية على الخصوص، بشكل منتظم، على إطرائهم وتقديمهم على أنهم الممثلون الوحيدون لإسلام الأنوار. هؤلاء الأبناء المدللون، يتقنون اللعب بالمفاهيم، ويقدمون نظريات ويرفضون أخرى، ويستنتجون، وقد يجهزون على مفكر ما أو ينسفون قراءة معينة… لا أود أن أطيل الكلام حول عمق تحليل هذا أو جهل ذاك بأبسط البديهيات، فما يربطهم جميعا هو “هذا التشابة العائلي الملحوظ” حسب عبارة رشيد بنزين، الكاتب “المرموق” لمُؤَلَّف حول هذه الظاهرة. هذا التشابه العائلي يتجسد أساسا في الموقف الناقد الذي يبلغ حد التحامل أحيانا على القراءات التقليدية ”الظلامية” للإسلام.
إذا كانت حدة التعبير وحريته هي سمتا المفكرين الجدد للإسلام، فإن عدنان إبراهيم، بكل تأكيد، على رأس قائمة هؤلاء. وإذا كان التمكن من حكمة كونية كالفلسفة مقياسا آخر للتجديد والجدة فإن عدنان إبراهيم في أعلى السلم دون شك، “فوقه الشمس” على حد تعبير فكاهي فرنسي مشهور ومحظور . لكن الحقيقة أن هناك هوة سحيقة بين هؤلاء المفكرين الجدد المزعومين، وهذا الوجه المتألق الذي يستحق السمو إلى آفاق تعز فيها المقاربات العميقة والشاملة يوما بعد يوم.
أود، في هذه المقالة، أن أرسم الملامح الكبرى لمفكر معاصر يثير كثيرا من الجدل، وسيستمر في تقديري ، لكنه يتميز حتما عن “المفكرين الجدد للإسلام” كما شكلتهم وتدفع بهم إرادات مشبوهة. سأحاول أيضا أن أحدد موقعه في الفكر الإسلامي السائد والمهيمن، حتى الآن، على وسائل الإعلام. فبقدر ما يلقى خطاب الأستاذ عدنان إبراهيم صدى وتجاوبا عند شباب يبحث عن مخرج من أزمة هوية خانقة ، فإنه يُزْعِج بل ويُؤرق ممثلي الإسلام النفطي، المُتَحَجِّر والعاجزِ عن أي انفتاح على المستقبل.
أعتقد أن العصف الذهني الذي يثيره هذا الفارس المنفرد، مؤشر مطمئن على غد الأمة، وظاهرة تستحق المتابعة. ومع أنني حاولت أن أحتفظ بقدر من الموضوعية، فقد اخترت نشر مقالتي هذه، على موقع “أمة”، لأن هدفي هو التوجه، في المقام الأول، لجمهور مسلم فرانكفوني، لألْفِتُ انتباهه لفكر يشقُّ طريقه ويستحق أن يُعْرف بهذه اللغة أيضا (إن لم نقل خصوصا؟)؛ فموقع مفكرنا، المطاح به حاليا من طرف حراس العالم الافتراضي للمعبد السعودي، لديه صفحة باللغة الإنجليزية والعربية، ولا يتوفر بعد على صفحة باللغة الفرنسية. سنحاول إذن، من خلال هذه المقالة، تحديد بعض معالم فكر هذا الرجل الذي شغف – بجدارة- قلوب رواد الأنترنت من المسلمين.

عدنان إبراهيم والانتماء العقدي

إذا كان أغلبية من يُصَنَّفُون ضمن”المفكرين الجدد للإسلام” يتخندقون في حدود الانتماء الثقافي غالبا، ومناقشة أفكار عقيمة حول الإسلام، فإن عدنان إبراهيم متجذر بعمق في انتماء عقدي. إذا كان الأوائل يفضلون البقاء وراء المنصات لإلقاء محاضراتهم، أو لوحة مفاتيح حاسوب لتأليف كتبهم، فإن الرجل يخوض معاركه من فوق المنبر، أمام عين الله بالتأكيد، ولكن أيضا أمام عين كاميرا، وأذن مكبر صَوْت بمؤثرات خاصة، كما يخوضها بلحية أصيلة لكنها مشذبة بعناية. قد يبدو هذا التفصيل تافها وغير مجد بالنسبة للقارئ غير المُطَّلِع، لكنه بالغ الأهمية عند المتخصص الملِمِّ بالعالم الإسلامي، وبما فَعَل فيه الفقه المُنْحبس الذي اختزل علامة الإيمان في الأشكال و المظاهر. كما أن حفظ مفكرنا للقرآن الكريم وتمكنه من علومه، يُتَوِّج هذا المزيج، ويُقَدِّم حُجَّة دامِغة لأُمّة تم إخضاعها، منذ زمن، بالسيف وبتوظيف النص الديني.
بلغتني أصداء عن محاضرة مَحَلِّية خرج جمهورُها مشمئزا إلى الأبد، من “مفكر جديد للإسلام” أطلق اسم ” العُمْران ” على سورة “آل عِمْران”. سيدرك المعرَّبُون بسهولة، فَدَاحَة هذا التجديف، ودِقَّة الفرق الذي تُحْدِثُه لام التعريف التي تُحَوِّل اسم عائلة ”عِمْران” التي ينتمي إليها سيدنا موسى عليه السلام، إلى “العُمْران” أي “علم و تقنية بناء و تهيئة التجمعات البشرية و المدن و القرى”. لعله من نافلة القول إن الإسلام ”المتلألئ” لهؤلاء المفكرين الجدد، لا يمكنه أن يذهب بعيدا مع هذا النوع من الأخطاء الفادحة؛ فهذا لا يُغْتَفَر في زمن تشترط فيه الجودة ويسود التوجس، وهذا من حسن الحظ إذ لا أحد يقبل استبدال إسلام معاد للإسلام بإسلام قروني ولو كان متحجرا.
واضح إذا أن أي فكر نقدي لا يمكن أن يُعْتَبَر اجتهادا، ما لم يكن المفكر مقبولا من داخل حقل فكري وضعت صُواه النظرية عبر قرون، وتجذر بشكل خاص في اللاوعي الإسلامي. لذا فأيما فكر نقدي لا يطمح لأن يقدم ، الآن وأكثر من أي وقت مضى، بديلا محكما ، ومقبولا لدى النخبة في العالم الإسلامي، سيبقى مجرد تهريج مجاني. إن الشباب يعتبر بامتياز النخبةَ المرشحة لحمل مشروع التغيير الاجتماعي والسياسي، لذا يجدر بالربيع العربي، من وجهة نظري، أن يُبدأ، أو على الأقل، أن يكون مصحوبا بوضع منارات هوياتية تعبد الطريق لأمتنا.
نعم، “المفكرون الجدد”، هم أيضا، يرسمون طريقا جديدا، لكنه طريق مسدود لأنه يدور في حلقة مفرغة، في حِضْن فكرٍ مطبوعٍ بقوٍة باستشراقٍ رديء.
عبر التاريخ السياسي للمسلمين، (وهل هناك تاريخ ليس سياسيا؟)، استطاع نظام خبيث وماكر أن يدمج بين مطلب مشروع، يتمثل في الحفاظ على الإيمان الفطري، ومطلب غير مشروع، يتمثل في ضرورة ملازمة الجماعة ولو تحت نير الاستبداد. منذ ذلك الحين، فُرِض على المسلمين أن يحصروا حركتهم في هذا المجال الضيق فقط، لأنه لم يبق هناك شيء يُفَكَّر فيه ما عدا كيفية الحفاظ على” بيضة الإسلام”: ذاك المفهوم “المقدس” الذي أصبح رمزا للوحدة مهما كان الثمن، وإن كان المقابل هو التنكر غير المباشر للوحي.
إن كل محاولة لقراءة تاريخنا بعيدا عن القراءة التقليدية تعتبر تَهَجُّما على ”البيضة المقدسة”. هجوم مدان بشدة باعتباره تهديدا بالوأد “للفرخ العزيز” الذي لم يكتب لأحد بعد أن يلمسه أو أن يتحقق من وجوده حتى. هذا الفرخ الذي لم يكتب له أن يولد، وأن يكتمل تكوينه بعد كل هذه القرون، لكن ذلك لا يهم ! لا يهم إن كانت “البيضة” قد فسدت وأزكمت الأنوف رائحتها منذ الفتنة الكبرى التي مزقت جسم الأمة، لا يهم حتى إن كنا نجهل محتواها تحديدا ! لا يهم إن كان الشباب، داخل هذه البيضة، يشعر بالضيق والاختناق ويواجه عالما أكثر فأكثر غرابة، ويحاول يائسا أن يتنفس هواء ينسجم فيه إيمانه مع وقائع عالمه.
لقد كانت هناك، بالتأكيد، وستظل، محاولات عدة، لصنع عجة مغذية بمُحِّ تلك “البيضة”، لكن أولوية الوحدة المزعومة ظلت تستفحل بانتظام بشكل مَرَضِي وفق تقلبات الأحداث التاريخية. أما اليوم، فيقدم الاستعمار الجديد وموجة معاداة الإسلام المتصاعدة، مبررا ممتازا لطباخي فِكْر محافظ ضرير. إن ثقل التقاليد والسياق الموضوعي، قد بلغا إذن حالا يجعل أي محاولة لاختراق البيضة وتغيير ظروف عيش “الفرخ” ( ولو بهدف إنعاشه)، وخيمة العواقب ما لم يكن صاحبُها قوي الحجة متمكنا من مراجعه. أضف إلى كل ذلك، الأمية المتفشية في العالم العربي المسلم التي تُفَاقِم صعوبة فَقْس “البيضة”.
لكل هذه الأسباب التي أنتجت بيئة عدائية ومنغلقة، فإن الحد الأدنى المطلوب هو التَّمَكُّن من اللغة العربية والإلمامُ بالقرآن كما حدَّدَه، من أعالي التاريخ، عِلمٌ من أذكى العلوم : ” فقه الأصول”. ذاك العلم الذي نشأ في زمن كان فيه المسلمون لا يهابون استخدام العقل، فوضعوا ضوابط للاجتهاد مازالت جيدة في خطوطها العريضة إلى يومنا هذا.
من هذا المنظور، فإن للأستاذ عدنان إبراهيم مكسبا مهما يميزه عن المفكرين الجدد أدعياء الاجتهاد. إنه يتحدى الغالبية العظمى من هذه الحواجز الأصلية المشروعة في نهاية المطاف، ما دام الإسلام امتلاكٌ للمعنى قبل كل شيء، وليس مجرد هوية جوفاء. وهذا يتأكد على الخصوص من خلال مقاربته المنهجية رفيعة المستوى. إنها بالأحرى فن توليد محكم يتأسس على معرفة عميقة بالتراث الفقهي المعقد.
إن كل محاولة تجديد لا تحظى بالاعتراف من داخل هويتنا ويعاني أصحابها من وجود ثغرات معرفية بهذ ا الإرث الثقيل، ستبقى حبيسة دائرة المضاربات الفكرية المتواطئة مع غرب معاد ومرفوض مطلقا. أما حمل خطاب تغيير من الداخل، والنجاح في تتبع طريق وعر المسالك، كثير التعرجات، مبعثر المعالم، بمهارة بطولية، فهو علامة اجتهاد واعد، وإن أُنْتِج في عقر دار غربٍ تَوَفَّق مُجتهدُنا في اعتباره شريكا في التغيير عوض أن يرى فيه عدوا.

عدنان إبراهيم وعلاقته بالغرب

لقد أضحى من المستحيل أن نفكر في الإسلام خارج إطار معادلة يكون فيها الغرب عاملا أساسيا؛ ليس لأن الهيمنة الغربية هي حقيقة موضوعية في الواقع المعاصر، بل لأن الغرب يسعى لرعاية صياغة ”الفكر الجديد”على عينه وبمقاسه لأسباب جيوستراتيجية معروفة. لهذا فإن المفكرين الجدد أحرص على الاستجابة لصورة نمطية مرسومة من طرف الآخر، منه على تصحيح مسار تاريخنا مع الحفاظ على حس نقدي تجاه التاريخ العام.
وهكذا تجدهم لا يكترثون بوضع مقاربتهم في إطار جدلية تاريخية. بل غالبا ما يوجهون نقاشهم نحو إدانة بعض الأفكار، عدتهم في ذلك مفاهيم سطحية وجوفاء بل ومتجاوزة في غالب الأحيان. العيب الرئيس لهذه المفاهيم هو أنها غير مقبولة من قبل النخب المرشحة لحمل مشروع التغيير، فما بالك بالشعوب التي يفترض أن تلبي نداء هذه النخب. عندما نتفحص الفتاوى التي تتفشى في البلدان الإسلامية، وسَمْت بعض نجوم هذا المجال ثم مستوى الأجوبة التي يقدمها بعض علماء الشبكة العنكبوتية المشهورين، لا يملك المرء إلا أن يتساءل عن حظوظ “مفكر جديد”، حاد اللسان، سهل العبارة لكنه متساهل في أساسيات الإسلام، من تجاوب الجماهير مع أفكاره؟
عدنان إبراهيم، خلافا لهؤلاء، يحظى بقبول كبير. فقد نجح في التمكن من فكر هذا الغرب الذي مازالت علاقة المسلمين به، رغم رغم إنكار المنكرين ، تحكمها العاطفة خصوصا، لكن مع الحفاظ على المسافة اللازمة. إنه أمر مُلفت إن لم نقل مذهل، في عالم إسلامي جدّ متشنِّج، أن يَذْكُر إمامٌ فوق مِنْبره ” الكفَّار” ليس لذَمِّهم أو مُهَاجمتهم أو التلويح بالجزية، وإنما لاستخلاص الحكمة الكونية من أفكارهم. سيجد البعض أن الأمر عادي جدا ما دام الرجل يعيش في بلد غربي: النمسا تحديدا. لكنَّ هذا التعليل لا يصْمُد أمام واقع يثبت لنا أن التسامح يقل كلما زاد القرب من هذا الغرب “غرب كل المغريات”. فالفتاوى الأكثر تشددا ومعاداة للآخر تصلنا من لندن، عاصمة الديمقراطية والحضارة مجتمعتان. إن تميز الرجل يَكْمُن في فنّه و مهارته في الحفاظ على مسافة بناءة بينه وبين الغرب الذي يعيش فيه. عدنان إبراهيم يُطَمْئِن على الهوية الإيمانية والمعنى، وفي نفس الوقت يستجيب للرغبة الدفينة والمكتومة في القرب من الآخر.

عدنان إبراهيم وشمولية المقاربة

إذا كان ”المفكرون الجدد للإسلام” قد اعتادوا اتباع المسار الإيديولوجي لفكر خارجي المنشأ، كل معاركِه وحُججِه أضحت مُتوقَّعَة ومَأْلُوفة، فإن عدنان إبراهيم يقوم بنقد مُمَنْهج للإسلام الموروث يصل في بعض الأحيان إلى حَدِّ نَسْفَ أدلته بشجاعة مذهلة. ثم يقوم ببراعة سحرية بتجميع ما شتتته الفتنة الكبرى في التاريخ السياسي الإسلامي، ليقدم الإسلام بالوجه المشرق الذي أراده الوحي. إنه يقوم، دون هوادة، بتفكيك صارم للانقسامات الإيديولوجية التي شوهت الرسالة، وإن كان الثمن، في كثير من الأحيان، توجيه ضربات صادمة تصعق المبتدئين من كل المشارب. ثم إنه يعتمد في تأصيل نظرياته على المصادر الداخلية للفكر الإسلامي دون أن يمنع ذلك امتزاج الحكمة الكونية بخطابه الذي يُسْتَشَف منه بقوة الاعتراف بالآخر واحترامه.
رجلنا المتمرد على الفكر التقليدي، بشكل غير مقبول في أمة ضحية لتحجر فكري قروني، تحركه إرادة صادقة في تخليص الإسلام مما علق به من شوائب عبر التاريخ. إرادة تبدو جلية في الحرقة الواضحة التي يتحدث بها الرجل، و كأنه بكل قراءة له يستشهد استشهادا رمزيا مؤثرا.
وهو أمر يتباين تماما مع مجرد رغبة البعض في تجريد الإسلام من أجل الانخراط في سياق محاولة هيمنة ثقافية لم تعد متخفية.
إن شمولية هذا التفكيك المنهجي ليست نتيجة لانتماء مذهبي معين ، ما دام صاحبنا يطيح تباعا بكل المدارس الفكرية والمذهبية التي نشأت في ظرفية تاريخية ناتجة عن الانكسار التاريخي الذي سببه معاوية، الصحابي الذي انحرف عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرفها )حسب مفكرنا الفذ(. ففي الوقت الذي نجده فيه يؤاخذ الإسلام السني باعتباره –في جزء كبير منه- مجرد تجسيد لما أثله هذا الصحابي المنفك عن سبيل النجاة، بعيدا عن روح الرسالة كما تلقاها وبلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم، نجده في موقف آخر يشكك في بعض الأسس العقدية للمذهب الشيعي مثل ”عودة المهدي المنتظر”… مما يجعل تصنيفه صعبا على المولعين بتوزيع التسميات والتصنيفات.
في مقاربته الغنية جدا، لحد يصعب معه الإحاطة بها، ينسب انتظار المهدي لعقيدة الخلاص الإنتظارية التي لا تليق بروح الإسلام الأصلي الذي يجمع بين الإيمان والعقل.
يتعذر علينا إذن أن ننسبه للتيار الشيعي الأرثوذكسي على الرغم من أن الحب اللامتناهي لآل البيت يشع من كل مقارباته. إنه صعب التصنيف حقا عل%D<EF4.D~YeY{ r7,[;qsqSOD@I?  硝b_3v؆HRQ@9>gIiNɛi۠=~2>8kX(Cԡ`ue\̸y0″1ճu

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: