مصطفى أمجكال باحث مغربي
مصطفى أمجكال
باحث مغربي

ككل مرة و أنا أشاهد مظاهر البؤس و الهوان الذي تعيشه أمتنا الإسلامية ، أحاول جاهدا أن أفك ذلكم الارتباط الخطير بين فعل الإنسان المسلم و بين منظومة القيم التي يدعوا إليها و يتبناها ، فلا أكاد أجد سبيلا إلى ذلك ، فحجم ما تخلفه الصورة أعظم بكثير مما تقوله الكلمات .
الحقيقة المغيّبة عن أذهاننا اليوم، أنّنا ننحر قيمنا السّامية و أخلاقنا العالمية، و مصداقية ديننا، و ذلك على أيدي أغبياء هذه الأمة و سفهائها، فالصّور التي نراها اليوم عبر العالم في سوريا و العراق و اليمن و القدس و ليبيا و مصر و….. اللائحة تطول ، و كلها من بلاد الإسلام العظيم ، صور توغل في نحر و قتل كل الكلمات السامية التي خاطبنا بها القرآن الكريم و التي تحث على التعارف و الرحمة و حسن الخلق و الصبر و الجنوح للسلم و رحمة المستضعفين و إغاثة الملهوفين ، و إطعام الجائعين ، و كل الأخلاق العظيمة التي كانت شرف هذه الأمة و رمز عزتها و مصدر قوتها و جاذبيتها .
لم نعد نستطيع الحديث بوثوق تام عن السلام و الرحمة التي جاء بها ديننا الحنيف و التي قال فيها تعالى
{ و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } ، و ما ذلك إلا لأن سفهاء الأمة و الجهلة من أبنائها يعيثون في الأرض فسادا و قتلا و تذبيحا في بعضهم باسم الدين ، و دعوكم من المؤامرة و غيرها ، فكلها كلمات يصعب أن تفك أسرارها و خباياها أمام هول الصورة و وكارثية المشهد .
لن يصدقك أحد تريد أن تقنعه بالإسلام عبر مئات الكلمات ، لكنه سيصدق حتما صورة واحدة ينسف بها رجل أخرق أحمق جاهل كل ما تقوله و تدعوا إليه ، و يزيد عليها التكبير و التحميد …. ألا لعنة الله على الجهل و الجاهلين.
نحن اليوم لسنا فقط مقصرين في بيان حقيقة الإسلام الصافية ، بل لقد أخرتنا الأحداث الجارية بمئات السنين و جعلتنا نبدل بدل المجهود مجهودين ، و قلّ اليوم من يفعل ذلك للأسف ، مجهود تصحيح الوضع و بيان باطل ما يقوم به الجهلة ، و مجهود مراجعة المصادر و البحث في صدقها و مصداقيتها ، و خاصة التراثية منها ، تلك المصادر التي طالها التحريف و التأويل كل حسب ليلاه و مبتغاه …
يؤسفني جدا أن أقول أن خطاباتنا الإسلامية اليوم خطابات ردود و دفاع أكثر منها خطابات تأصيل و بيان ، إنها تدافع عن الإسلام كأنه متهم في ذاته ، و تدافع عن القرآن كأنه المذنب في تشريعاته ، في حين كان عليها أن تبين للناس أن فهمنا نحن من أخطأ السبيل و ضل الطريق ، نعم إنه ذلك الفهم الذي تشكل عبر السنين بدافع الطائفية و الحزبية ، بدافع الإقصاء لكل مخالف و تكفير و تضليل و تفسيق الآخر لأنه يخالفني و أخشى على حوزتي من اشتداد شوكته و اتساع دائرة أتباعه ، لأنه و للأسف الشديد أيضا حين يتقوى هو الآخر يمارس نفس السلطة و يقترف نفس الذنب و الخطيئة .
لابد أن نفهم أنفسنا أولا أننا لم نستوعب حقيقة المشكل الذي نعيشه ، و لم ندرك بعد أن الخطأ ذاتي فينا و ليس في الآخر ( المؤامرة ) ، نحن الذين ما استوعبنا حركة التاريخ عبر القرون كيف أن العنف لم يثمر إلا فاكهة مرّة من أنواع التمزّق و التفرّق و الخراب ، نحن الذين نرفع شعارات براقة { رحمة للعالمين } { لتعارفوا } { خير أمة } لكننا عند التطبيق نمارس اللّعن و القتل و التحزّب و الطوائف و قطع الرؤوس و التّصليب و التّشريد و التّجويع ، و في حق من يا حسرتي ؟؟؟ في حق بعضنا البعض أبناء الملة الواحدة و الدين الواحد و الرب الواحد .. فأي خسارة بعد هذه الخسارة .
في لحظة من لحظات التفكير العميق و الاندهاش الممزوج باليقين بأنّ هذا الوضع الذي نعيشه هو النتيجة الحتمية لتفكير ساد لمئات السنين ، بل أتقن العديد من أبناء الإسلام ممارسته عبر قرون ، في تلك اللحظة يلحّ علينا السؤال التالي : كيف تفاقم هذا الوضع الخطير بهذه الدرجة المخيفة في بيئة كان المفروض فيها إنها بيئة سمحة و رحمة و مهيمنة على كل الأديان المنحرفة ؟؟ كيف لنا أن نفسر هذا الانزلاق الخطير و نحن خير أمة أخرجت للناس تأمر بالعدل و الإحسان و تنهى عن الفحشاء و المنكر و البغي ؟؟ هل هو فعلا شرعنا الذي يحمل كل هذه النصوص الداعية للقتال و الحرب و الدماء من أجل إعلاء كلمة الله ؟؟ أم أن هناك خللا ما في تعاطينا مع القرآن و السنة كمصدر من مصادر التشريع الإسلامي ؟؟ أم أن في الأمر مؤامرة تحاك للمسلمين بليل كما يقال، و أن كل ما نراه و نسمع به مجرد تلفيقات لا أساس لها من الصحة – تريكاج -بالمعنى السينمائي ؟؟ .

فلا بد في البداية من تصفح التاريخ و لو على عجل و في شكل مشاهد بما أن الموضع له علاقة بالصورة و ما لها من دور في كشف حجم الكارثة التي تعيشها أمة الإسلام .
المشهد الأول .
عندما نطالع تاريخ المشهد الأول من حياة الأمة الإسلامية ، و خاصة عصر النبوّة ، نتلمس خاصية فريدة حرص عليها النبي صلوات الله و سلامه عليه ، ألا و هي توحيد الأمة و لمّ فرقتها و تضميد جراحها التي نهشتها حروب السنين ، حروب قادها حمقى العرب من كل الأطراف لا لشيء إلا لإرضاء رغبات القوة و الملك و الغلبة ، فكان أول دعوة الإسلام :” و كونوا عباد الله إخوانا ” ، و هكذا حرص النبي صلى الله عليه و سلّم على أن يكون الناس إخوة في الدين ، فكان أول عمل في المدينة بعد بناء المسجد -الذي يعتبر في دلالته الرمزية صورة من صور وحدة التوجه – هو الإخاء بين المهاجرين و الأنصار حتى تذوب خلافات السنين و ضغائن العصور.
لقد كانت سيرته صلوات الله و سلامه عليه حبلى بالمواقف المنيرة من مواقف الرحمة و الرأفة و العطف و الإقبال على الناس ، حتى من خالفه و عاداه ، كان يحترق كمدا لأجل هدايتهم و إخراجهم من الظلمات إلى النور ، بل إن حروبه صلى الله عليه و سلم كانت تحمل الرحمة و الدّعاء بالهداية ” اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ” كما في غزوة أحد ، و هذا لم يكن من محض تفكير ذاتي منه صلى الله عليه و سلم ، بل هو التشريع الرباني { و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } و قال تعالى { ولو كنت فظّا غليظ القلب لانفضّوا من حولك } ، و قال تعالى { كتب عليكم القتال و هو كره لكم } .

المشهد الثاني .
لقد نسي الناس وصية القرآن الخالدة ، و تناسوا مواقف النبي صلى الله عليه و سلم المشرفة في التّسامح و الاختلاف و الرّحمة ، تناسوا قوله تعالى { و لا تكونوا من المشركين من الّذين فرقوا دينهم و كانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون } و قوله تعالى { و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم } و قوله صلى الله عليه و سلم ” لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض ” فما كان نسيانهم و تناسيهم هذا إلا أن يورثهم حروبا طاحنة و كوارث مدمرة و ضحايا بالآلاف ، و بعيدا عن مبحث المصيب من المخطأ ، فالذي يهمّنا هو حجم المصائب و فداحة المشهد .
لقد ورثنا بعد نكبة نسيان الهدي النبوي الأول و الإعراض عنه منظومة فكرية متشعبة المصادر و مترامية في النتائج ، فقد حرصت كل الطوائف الدينية و السياسية على دعم مواقفها بكل ما أتيح لها من أدلّة و براهين ، حتى وصل ببعضها إلى الكذب الصراح على النبي صلى الله عليه و سلم بوضع الأحاديث و تلفيق الروايات و التدليس على الناس ، كل ذلك من أجل تثبيت الملك و تركيز الحكم سواء كانت حكما دينيا أو سياسيا ، و هذا كان يقتضي بالضرورة ردع المخالفين و زجر المناوئين و قطع دابر كل من تشمّ منه رائحة المعارضة ، و هكذا قاد هذا النوع الجديد من التفكير إلى مرحلة جديدة من التنظير لفكر الطائفة و الجماعة و العودة إلى العصبية و الوراثة الشرعية و غيرها من المبررات التي تعطي الصلاحية الكاملة لردع المخالف ، و كل ذلك تحت غطاء الشرعية الدينية و النصوص القرآنية التي فهمتها كل طائفة بفهمها الخاص الذي يحمي حوزتها و يصون ملكها و سلطانها .
مشهدنا اليوم .
إن المشهد اليوم ليس ببدعة من مشاهد الأمس القريب و البعيد ، إذا ما استثنينا عصر النبوة و عصر الخلافة الراشدة في المجمل ، فالتراث الفكري منذ بدأ عصر التدوين إلى يوم النّاس هذا لا يزال يزخر بأفكار تتكرر عبر الصفحات و الكتب ، قد تختلف في الشكل و المصطلحات ، لكنها تتفق في الجوهر و المضمون ، أفكار تؤسس لفكر العصبية و الطائفية و المذهبية و التعصب ، و تأسس لشرعية ردع المخالف و إسكات صوت المعارض ، فتارة بدعوى الحفاظ على الجماعة ، و تارة أخرى بدعوى حماية السنة ، و تارة أخرى بدعوى حرب البدعة ، و كل الطوائف توظف نفس النصوص و نفس المصطلحات و نفس القاموس اللغوي و الشرعي حتى فقدت كل تلك النصوص مصداقيتها و فاعليتها و روحها لتفرق الحقيقة بين المتناقضات و بين الطوائف المتناحرة دينيا و سياسيا .
إن المتتبع لتراثنا الفقهي من خلال الكتب التي ألفت عبر السنين، سوف يجد آثار هذه المنظومة الفكرية لا تزال تلقي بظلالها على مواقف العلماء و المفتين و الدعاة و المفسرين .. قد تطفوا إلى السطح تارة فيشتد بريقها و تلوح معالمها في شكل قمع ممنهج لفكر المخالف ، كما حصل لطوائف أهل السنة على يد الفاطميين ، أو ما حصل للمعتزلة في زمن تولي أمراء أهل السنة و العكس كما حصل أيام محنة الإمام أحمد رحمه الله و رحم الجميع ، و كما أسلفت فالمتتبع لهذا التاريخ سوف يجد المئات من الفتاوى لكبار أعلام الإسلام تحكم ببدعية فكر معين أو طائفة معينة أو شخص معين أو حتى كتاب معين ، كما حصل مع كتاب إحياء علوم الدين الذي احرق جملة و تفصيلا ، أو كتب أبو الوليد بن رشد ، أو كتب علماء أهل السنة التي أحرقت أيام مهدي الموحدين بالمغرب الأقصى .
إن المشهد اليوم هو امتداد لمشهد الأمس ، قد تختلف الأسماء ، لكنها لا تختلف المسميات ، البارحة كانت الخوارج الأزارقة ،و القرامطة و الحشاشين …. و اليوم داعش و بوكو حرام ، و الهجرة و التكفير .. أسماء متعددة لمسمى فكري واحد ، الإقصاء و الإجرام و الكذب على الله و رسوله و على الدين و على الأمة و التاريخ .

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: