أحمد أبو رتيمة كاتب فلسطيني
أحمد أبو رتيمة
كاتب فلسطيني

يبرز القرآن المشهد الأول في تاريخ الإنسان عبر منح هذا الكائن الجديد سلطاناً لم يكن للملائكة: “وعلم آدم الأسماء كلها”، وقد كانت هذه الميزة تحديداً هي سر تفضيل الإنسان على الملائكة فأمرهم الله بالسجود لآدم، فأي سر عظيم تحمله الأسماء حتى تستحق أن يكون هذا الكائن الضعيف المحدود موضع احتفاء وتكريم حتى من الملائكة! يقول الفيلسوف نيتشه إن التسمية سلطة! الأسماء هي مفتاح المعرفة ومفتاح فهم الطبيعة وتسخيرها، فالإنسان يلجأ للتسمية حتى يحدد مفاهيم الأشياء ويضع لها عناوين واضحةً تيسر تعامله معها.. تصوروا لو لم يسم الإنسان الشجرة شجرةً مثلاً وأراد أحدنا أن يقول لصاحبه “شجرة” ماذا كان سيفعل؟ سيضطر لأن يأخذ بيده ويقطع المسافات الشاسعة ثم يشير إلى الشجرة حتى يفهم مقصده، لكن وجود اسم مميز للأشياء يختزل الجهد والمشقة عبر تكوين صورة ذهنية مشتركة في عقول الناس يتم استدعاؤها عبر الأسماء فيسهل التواصل والتعارف بين البشر. جاء في كتاب “بنو الإنسان” لبيتر فارب:  “يصبح الوجود الإنساني غير محتمل لو أن كل واحد من الأجسام والأحداث التي نصادفها اعتبر شيئاً فريداً بذاته، فمثلاً لو نظرنا إلى غابة ورأينا أشجار الحور والبلوط والسنديان والصنوبر كأشياء فريدة في ذات كل منها بدلاً من جمعها في صنف “أشجار” فإن عملياتنا العقلية تصاب بالشلل، والمفاهيم تعفينا من التعلم المستمر عن كل شيء أو جسم أو حادثة جديدة” تتمثل قيمة الاسم في القدرة على التعميم واكتشاف القواسم المشتركة، لو لم تكن الأسماء موجودةً لكان الإنسان عاجزاً عن اكتشاف وجه الشبه بين الجمل والقطة، ولكان عليه أن يلف الكون زاويةً زاويةً ليتعرف على كل مخلوق بهويته وسمته الخاص لأنه لا يستطيع أن يستفيد من تجاربه المختزنة في التعامل مع الأشياء الجديدة التي يراها كل يوم في حياته. في مقابل التعميم فإن الاسم يفيد التخصيص أيضاً، وكلما تعمق المرء في المعرفة كلما امتلك القدرة والسيطرة على اكتشاف الفروق الدقيقة ومنح الأسماء المميزة لما يبدو للوهلة الأولى شيئاً واحداً، لاحظوا الفرق مثلاً بين تشخيص إنسان عامي لحالة مرضية وبين تشخيص طبيب لذات الحالة، إن الإنسان العامي لا يمتلك إلا معرفةً محدودةً في تخصص الطب لذلك فإنه قد يفسر عشرات الأمراض المختلفة بأنها أنفلونزا، لكن الطبيب المتعمق في تخصصه يملك القدرة على ملاحظة الفروق الدقيقة التي لا يلاحظها العامي وبالتالي إعطاء عشرات الأسماء التخصصية للمشكلة، إن الطبيب يملك معرفةً أكثر، وبالتالي فهو يملك سلطاناً أكثر على الأسماء.. إن الأسماء ليست سوى حقيقة العلم والمعرفة، فمقياس المعرفة الدقيق هو في مدى قدرة الإنسان على منح الأسماء سواءً للتعميم أو للتخصيص، وكلاهما جهد فكري، فالتعميم يقتضي القدرة على ملاحظة مئات أو آلاف الأحداث المختلفة واكتشاف ملامح عامة تجمع بينها، ومن ثم منحها اسماً مشتركاً وهو ما يسمى أيضاً بمنهج الاستقراء ، والتخصيص يتطلب الغوص فيما يبدو شيئاً واحداً والقدرة على اكتشاف التعدد والفروق الدقيقة بداخله وهو معنىً قريب من مفهوم منهج الاستنباط. الأسماء لا تقوم بدور فني وحسب في توصيف الأشياء، بل إنها تقوم بدور فكري أيضاً، إن منح الأسماء لمكونات الطبيعة يبدو مشابهاً لخلق هذه المكونات من العدم، ومن هنا نفهم كيف كانت الأسماء سر تكريم آدم، والسياق القرآني الذي يتحدث عن تعليم آدم الأسماء يمهد لقصة الخلق بالحديث عن تسخير ما في الأرض جميعاً للإنسان، وكأن تسخير الطبيعة للإنسان تمر عبر مفتاح علم الأسماء! إن الإنسان لا يستطيع السيطرة على مكونات الطبيعة وتسخيرها ما لم يكن قادراً على تصورها وتحديدها واستخراجها من حالة الخفاء والهلامية الملتبسة بها في الطبيعة، ماذا لو لم يعرف البشر اسم “الزمان” لتحديد انقضاء الوقت ومرور الليل والنهار!! تخيلوا أننا نعيش على هذه الأرض ولا نعرف أن هناك شيئاً اسمه الزمان!! كيف ستكون نظرتنا لأعمارنا ولانقضاء السنوات، سنكون عاجزين عن تصور انقضاء السنوات والأيام وسنعيش خبط عشواء، سيكبر الأطفال ويصيرون شباباً ثم شيوخاً ويموتون بعد ذلك ونحن عاجزون عن تحديد مفهوم العمر، إن الاسم يتجاوز مجرد وظيفته الفنية ليمارس سلطاناً حقيقياً يمكننا من السيطرة على الطبيعة عبر فهمها والقدرة على اكتشاف قوانينها. غياب الاسم يضعف قدرة الإنسان على فرض سلطانه، وهذه الفكرة العبقرية تنبه إليها مالك بن نبي في حديثه عن ابن خلدون، فهو يرى أن الذي أعاق انطلاق إبداع ابن خلدون ووصوله لصياغة قانون الدورة التاريخية هو محدودية مصطلحات عصره التي وقفت به عند ناتج معين من منتجات الحضارة وهي الدولة وليس الحضارة نفسها. يقول بن نبي: “وهكذا لم نجد فيما ترك ابن خلدون غير نظرية عن تطور الدولة في حين أنه كان من الأجدى لو أن نظريته رسمت لنا تطور الحضارة حيث كنا نستطيع أن نجد فيها ثروةً من نوع آخر غير ذلك الذي أثرانا به فعلاً، إذ لم تكن عبقرية ابن خلدون بعاجزة عن أن ترسم لنا ذلك التطور في صورة منهج قائم بذاته” إن الذي أعجز ابن خلدون ليست محدودية عبقريته، بل محدودية الأسماء التي عرفها عصره، فاسم “الحضارة” أكثر تعميماً من اسم ” الدولة” ولو عرفه ابن خلدون لدخل به أبواباً أوسع من الاكتشاف والمعرفة.  اللغة ذاتها ليست سوى ترميز لحقائق الحياة عبر اختزالها في أسماء محددة، واللغة كما بات معروفاً ليست وسيلة تواصل وحسب بل إنها هي التي تحدد طريقة التفكير وتتحكم في تداعي المعاني، وحين تنشأ لغة في البادية فإنها ستمنح الصحراء عشرات الأسماء لأنها قادرة على التمييز بين تفاصيلها الصغيرة، أما حين تنشأ لغة في بلاد الأسكيمو فستمنح بدورها الجليد عشرات الأسماء، وهكذا فإن اللغة مؤشر على معارف القوم الذين ابتدعوها. يقول الداعية الفلسطيني عدنان إبراهيم إن علم الأسماء هو الشرط الأول لبدء أي معرفة إنسانية، إذ إن المعرفة هي التمييز الدقيق بين الأشياء، ولها مسلكان التحليل والتركيب، تحليل الوحدة إلى أجزائها وهذا لا يكون إلا عبر منح الأجزاء الصغيرة أسماءً، وتركيب الأجزاء في وحدة وهذا أيضاً لا يكون إلا عبر منح اسم جديد للوحدة الجامعة بين الأجزاء. لا غرابة أن تكون القدرة على التسمية مؤشراً دقيقاً على المستوى الحضاري للشعوب والأمم، ولو تأملنا في حضارتنا المعاصرة على سبيل المثال لوجدنا أن الغرب يسبقنا في ابتكار مصطلحات لم يكن الإنسان يعرفها من قبل، وما ذلك إلا لأنهم هضموا المعرفة الإنسانية السابقة فصاروا قادرين على التجاوز والإبداع عبر اكتشاف مصطلحات جديدة تختزل حقائق الحياة والمعرفة.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: