نظرية التطور 

السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات

الحلقة السادسة والعشرون

حلقات مفقودة وأعضاء أثرية

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.

أحبتي في الله إخواني وأخواتي: السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، أُحب في صدر هذه الحلقة أن أُجيب عن تساؤل تردد غير مرة وهو: لم كل هذا الاهتمام بنظرية التطور؟ هل تستأهل أو تسحق هذه النظرية كل هذا الاهتمام المُطوَّل والجدي والمحموم إلى حدٍ ما؟ طبعاً تستحق لأسباب، بسأكتفي ربما باثنين منها، السبب الأول للتأثير الهائل والمُمتَد الذي مارسته ولاتزال النظرية في حقول ونُطُق علمية مُختلِفة ومُتباينة جداً من التشريح والنُسج ووظائف الأعضاء وعلم الأعصاب والدماغ وحتى علم الصيدلة وتحضير الأدوية فضلاً عن علم الأحياء والتاريخ الطبيعي وهو ميدانها العتيد الأصيل، إلى علم النفس وبالذات علم النفس التطوري وعلم الاجتماع وعلم التاريخ وفلسلفة الأخلاق والفلسلفة السياسية وإلى غير هذه النُطُق والميادين من العلوم والفنون، فالنظرية تقريباً لم تكد تترك نطاقاً أو ميدانياً علمياً وفكرياً إلا ومارست تأثيرها الواضح والجلي فيه عليه، إذن هى نظرية مُهِمة، ولا يُمكِن للإنسان في هذا العصر أن يتعاطى مع هذه العلوم والفنون بجدية وفهم وإدراك واسع ومرن دون أن يفهم هذه النظرية التي حشرت أنفها في كل هذه العلوم والفنون، لكن ما هو أخطر بين مُزدوَجين على الأقل من وجهة نظر المُتدينين ومن وجهة نظر المُؤمنين خاصة المُؤمنين المُوحِدين – أي أصحاب الدينات التوحيدية من اليهود والنصارى والمُسلِمين هو –  السبب الثاني – انعكاس النظرية على  اللاهوت وعلى علم الكلام وعلى علم العقيدة، وبشكل أخص على قضية ومسألة الإيمان بالله تبارك وتعالى كمُوجِد وخالق للأنواع الحية بالذات، فتأثير النظرية هنا كان ساحقاً ومُخيفاً، لماذا؟ لأن  بمُجرَد أن نفهم بشكل صحيح مدلول هذه النظرية خاصةً فيما يتعلَّق بآلية الانتخاب الطبيعي وكيف يعمل  وكيف يشتغل سنُدرِك مُباشَرةً من فورنا أن هذه النظرية تتعارض على طول الخط مع الفهم السائد والشائع لمفهوم الخلق في اللاهوت الكتابي -Biblical Theology- واللاهوت الإسلامي، أي اللاهوت اليهودي واللاهوت النصراني واللاهوت الإسلامي، فاللاهوت علم، أي علم الكلام وعلم العقيدة المُؤسَس على أسس منطقية وطبيعية وفلسفية، والنظرية تتعارض تماماً من هذه الزاوية مع الفهم السائد للخلقوية، لكون الله -تبارك وتعالى أو للاعتقاد بكون الله  -هذا الأدق- تبارك وتعالى خلق الأنواع خلقاً خاصاً -Special Creation- بكلمة التكوين  كُنْ فَيَكُونُ ۩، فالنظرية ضد هذا تماماً، مُؤيِداتها وشواهدها والحقائق التي فسرتها كثيرةٌ جداً، ونحن في هذه الحلقات المُتأخِرة فقط نأتي بنماذج على قدرة النظرية التفسيرية، واليوم أيضاً في حلقات هذا المساء – طبعاً نحن نُسجِّل في كل أمسية أكثر من حلقة، فقد نُسجِّل حلقتين أو ثلاث حلقات في الأغالب، فأنا أتحدَّث عن  حلقات هذه الأمسية على كل حال -أيضاً سنستعرض-إن شاء الله- طائفةً من هذه الحقائق والظاهرات التي تُفسِّرها وفسرتها النظرية بشكل مُثير وبشكل مُدهِش.

إذن النظرية مُهِمة ومن هنا كان التصريح الهام للفيلسوف الكبير برتراند راسل Bertrand Russell وهو أحد فلاسفة العصر الملاحدة أو المُلحِدين

وبحسب دارسي تاريخ الفلسلفة وتاريخ الفكر والأفكار في القرن العشرين وربما حتى أكثر من هذا، لكننا سنقول أن في القرن العشرين لم يُوجَد مُفكِّر أوسع دائرةً ولا أعمق فكراً وأكثر دراسةً من برتراند راسل، فهو أوسع المُفكِّرين فكراً، وكتبه تقريباً جاوزت الثلاثمائة وأربعين كتاباً في تخصصات مُختلِفة، وهو في الأصل رياضياتي -Mathematiker- من طراز فريد، ولكنه فيلسوفٌ كبير، وبحث في الاجتماع والسياسة والسلام والتربية وأشياء كثيرة جداً، وكان يتحدَّث عن بعض المُفكِّرين وربما لا يُستثنى من هذه القاعدة إلا رجل واحد فقط وهو ألفرد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead، فألفرد نورث وايتهيد كان أستاذاً له طبعاً، ثم زميلاً له بعد ذلك، وتشاركا في إنتاج الموسوعة المشهورة Principia Mathematica -أي مبادئ الرياضيات- في ثلاثة أجزاء على مدى تسع سنوات، وأصبحا زميلين، وألفرد نورث وايتهيد Alfred North Whitehead  أيضاً من أوسع مُفكِّري العصر على الإطلاق دائرةً وأكثرهم عمقاً، وعلى كل حال برتراند راسل ليس شخصية هزيلة أو شخصية ضئيلة، فلابد أن يُؤخَذ كلامه ويُحمَل على محمل الجد حين نتناوله ونعرض له بالنقد أو التفنيد أو النقاش الفلسفي والفكري، وبرتراند راسل على الأقل حسبما قرأت في السنين الماضية في موضعين من كتابين له كتاب حكمة الغرب وكتاب لماذا لست مسيحياً؟ Why I am Not a Christian- علماً بأن كتاب لماذا لست مسيحياً؟ هو كتاب صغير، لكن كتاب حكمة الغرب كتاب كبير وأتى في مُجلَد ضخم ذكر أن اللاهوتيين عبر العصور -اللاهوت الكتابي بالذات والإسلامي- كانوا يعتمدون على الدوام في قضية أو في مسألة إثبات وجود الذات الإلهية على أدلةٍ من طابع منطقي -أي من طبيعة منطقية- خاص، ويقصد بالمنطق المنطق الصوري  الأرسطوطاليسي، ثم يقول برتراند راسل “لكن علماء المنطق المُعاصِرين قد كفوا عن الاعتقاد بجدوى وصلوحية هذا المنطق الصوري Formal Logic، فهو لم يعد صالحاً، لقد تهدم صرحه، وهناك الآن ضروب جديدة من المنطق وخاصة المنطق الحديث الرمزي”، وعلى كل حال برتراند راسل بالذات أحد الرادة -الرواد- العظام جداً لهذا المنطق وكتاباته تشهد بهذا، لكنه يقول “هذا المنطق لم يعد صالحاً لأن الخروق والثقوب فيه كثيرة جداً”، ثم يستتلي قائلاً “إلا أن هناك دليلاً ليس من طبيعةٍ منطقيةٍ محض أو محضة”، فلماذا إذن؟ قال “لأن له جنبة أو له جهة علمية”، إنه  دليل التصميم أو بُرهان التصميم -Design Argument- المُسمى أيضاً في اللاهوت الديني بدليل العناية أو الدليل الغائي أو -كما قلنا- برهان النظم أو النظام، علماً بأنني قد تعرضت له بإسهاب إلى حدٍ ما في مُحاضَراتي قبل بضع سنين عن الإلحاد –مطرقة البرهان وزجاج الإلحاد وعلى كل حال كل حلقات التطور هذه التي قد تبلغ أكثر من خمسين حلقة  -أي أكثر من خمسين ساعة – تُعتبَر امتدادً لكلامي على برهان التصميم، لأن  أقوى اعتراض وأكبر نقد مُوجَه ولايزال يُوجَه إلى برهان التصميم الذي هو باعتراف برتراند راسل أقوى الأدلة المُتدينين على إثبات وجود الله هو نظرية التطور بآلية الانتخاب الطبيعي، فيقول برتراند راسل “هذا أحسن أدلة اللاهوتيين”، وعلى ما أذكر -لم أُراجِع هذا للحقيقة، فأنا قرأت هذا قبل أكثر من عشرين سنة – أنه في كتابه حكمة الغرب قال هذا الدليل كان سيكون مُقنِعاً لي- أي لبرتراند راسل- وسيعترف بأن الله موجود لولا أن نظرية تشارلز داروين قد نقضت هذا الدليل وهدمته، فإذن الاعتقاد بالتطور بآلية الانتخاب الطبيعي خطير باعتراف برتراند راسل وطبعاً كل الملاحدة المُعاصِرين وخاصة الملاحدة الجُدد من أمثال ريتشارد دوكنز  Richard Dawkins وسام هاريس  Sam Harris، وهيتشنز Hitchens وكراوس Krauss والفيلسوف الأمريكي التطوري دانيال دينيت Daniel Dennett وأمثال هؤلاء، القائمة الطويلة التي عُرِفَت في بداية الألفية الثالثة، فكل هؤلاء بلا استثناء يرون أن نظرية التطور أكبر دعامة علمية تنقض البراهين اللاهوتية وخاصة برهان النظم أو برهان التصميم على وجود الله تبارك وتعالى، فإذن التطور ينقض هذا لأنه يفل أقوى سيف أو أقوى سلاح بأيدي المُؤمنين بل يكسره، فالاعتقاد بالتطور يفل أو يكسر هذا السيف ولذلك هذه القضية خطيرة.

إذن هذا جواب عن الإخوة والأحباب الذين يتساءلون لم هذا الاهتمام؟ وانس يا أخي أو انسي يا أختي أن تُحاوِل أن تُنازِل مُلحِداً يفقه إلحاده المُعاصِر أو الجديد دون أن تكون على دراية حقيقية وعميقة ومُمتازة بنظرية التطور، وهذه نصف الحكاية، والنصف الآخر من الحكاية ودون – أي علاوةً وإضافةً إلى ذلك –  أن تكون مُتمكِناً من بلورة جواب عن تحدي التطور لبرهان التصميم. إذا لم يكن لديك هذا البرهان إذن أنت ستسعى في ماذا؟ في تقوية معمار الإلحاد، وستأخذ مِعولاً لكي تنقض معمار الإيمان، فهذه قضية خطيرة جداً، لكن طبعاً الذين لا يعتنون لا بالعلم ولا بالفلسفة ولا بقضايا الإلحاد يتساءلون لم كل هذا الاهتمام بالنظرية؟ لماذا؟ لأن هذه النظرية في وهمهم وفي ظنونهم نظرية تافهة وبسيطة -للأسف هكذا يُعلِّموننا دائماً- ومُجرَد فرض علمي وليست حتى نظرية، أي أنها Hypothesis وليست حتى Theory، فهى فرضية كما يقولون أو يقول بعضهم، وأحسنهم حالاً يقول هى نظرية لم ترتق إلى مصاف حقيقة، وهذا كلام مَن لم يعرف لا الفرضية ولا النظرية ولا الحقيقة، فالنظرية في الحقيقة تُفسِّر الحقائق، لكن هؤلاء لا يعرفون هذا، ويظنون النظرية شيئ والحقائق شيئ، لكن النظرية تُفسِّر الحقائق، النظرية تُفسِّر حقائق واقعية أحياناً وحقائق ملموسة وحسية وصلبة تحتاج إلى بناء نظري لتفسيرها، وبالضبط هذا ما تفعله إلى حد بعيد. لكن عليه أن ننتبه إلى أنه لا وجود لنظرية بالمُطلَق وإلى أن ليس هناك أي نظرية نستيطع أن نقول أنها صحيحة بالمُطلَق، فيستحيل أن تسأل عالماً في أي تخصص علمي وليس فقط في الأحياء والتاريخ الطبيعي وإنما في أي تخصص علمي حقيقي كالعلوم الصلبة وليس في علوم زائفة أو علوم رخوة -العلوم الصلبة كما يُقال مثل الفيزياء والكيمياء وأقل منهما علم الأحياء، فعلم الأحياء أقل صلابة بكثير من علم الفيزياء والكيمياء، لكن أقوى العلوم وأصلبها الفيزياء، وعلى كل حال هذه هى العلوم الصلبة- ويقول لك هذه النظرية مُطلَقة الصحة، فهذا لا يُمكِن، وكلهم يقولون أنها صحيحة إلى حد الآن، لكن هل يُمكِن أن تُنقَض في يوم من الأيام؟ يقول لك نعم، هذا الإمكان وارد ولكنه ضعيف، فبحسب ما بين أيدينا إلى الآن الإمكان ضعيف، قد يكون هذا بنسبة ثلاثة في المائة أو خمسة في المائة أو عشرة في المائة، لكن هى صحيحة إلى حد الآن بنسبة تسعين في المائة، ونحن سنأخذ بها لأنه لا يُوجَد بين أيدينا بديل أفضل منها، أي لا يُوجَد بديل في قوتها أو أقوى منها، فهذا غير موجود، وطبعاً في نظر التطوريين والملاحدة بالذات من التطوريين البديل عن نظرية التطور هو الإيمان بالله وبالخلقوية كما يقولون، أي أن الله يخلق بـــ كُنْ فَيَكُونُ ۩.

في الستينيات والخمسينيات طبعاً لم تكن هذه النظرية رُفِدَت بهذا الكم من الأدلة وهذا الكم المهول من الأدلة، لكن في آخر عشرين سنة نظرية التطور تلقت دعماً غير مسبوق على صحتها، وخاصة من نطاق أو في نطاق البيولوجيا الجزيئية المُتعلِقة بالحامض النووي ودراساته وما إلى ذلك، فهى أدلة غير عادية وقوية جداً جداً وغير مسبوقة، وبعضها شبه دامغ ومُحير ومُثير، لكن في الستينيات لم تكن هذه الأدلة مُتوفِرة، وأنا أذكر أن أحد العلماء والفلاسفة أيضاً العلميين وهو السير آرثر كيث Sir Arthur Keith  قال “أنا أُؤمِن بالتطور رغم وقوفي على نقود كثيرة جداً على هذه النظرية ورغم وقوفي أواطلاعي على مواطن الضعف فيها لأن البديل من أو عن الإيمان بها الإيمان بالله كخالق، وهذا ما أرفضه تماماً”، ثم يقول “هذا غير قابل حتى للتفكير Unthinkable – عندي”، وهذا شيئ غريب، فهناك موقف مُتطرِّف من قضية الإيمان وقضية الإيمان بالله، وطبعاً هذه الأشياء سوف نستعرضها بالتفصيل في السلسلة الثانية حين نتحدث عن نقود النظرية علمياً ولاهوتياً وفلسفياً وأشياء مثل هذه، وعلى كل حال هذه هى النظرية، فمَن شاء أن يُنازِل الملاحدة ويُدافِع عن دعوى وقضية ومسألة الإيمان في هذا العصر عليه أن يستوعبها، بمعنى أن كل كتب الفخر الرازي وأبو حامد الغزالي وابن سينا وابن تيمية وابن رشد لن تنفعك، فهذا لن ينفعك على الإطلاق، لأن في أيامهم لم تكن هناك نظرية التطور والداروينية، لم يكن كل هذا الكلام، وفعلاً قبل أن تبرز هذه النظرية للعلن في القرن التاسع عشر -كما أطلعتكم على تاريخها أعتقد بالتفصيل المُمِل في خمسة عشر حلقة- كان الناس مُطمئنين جداً إلى برهان التصميم وأن الله موجود ويُبدِع ويخلق لا إله إلا هو، وكان هذا أقوى برهان في أيديهم، ولكن بعد أن برزت هذه النظرية للعلن انقلب الأمر رأساً على عقب وفُلَّ أقوى سلاح -كما قلت قُبيل قليل- بأيدي اللاهوتيين وبأيدي رجال الإيمان، لكن للأسف الشديد بعد مائة وخمسين سنة لايزال بين العرب والمُسلِمين مَن لم يُدرِك إلى اليوم الاستتباعات والتوالي الخطيرة للنظرية على قضايا الإيمان، فاستتباعات النظرية -It’s Implications- وتواليها غير مُدرَّكة عندهم، ويظنون المسألة سهلة جداً جداً ويُمكِن أن نُواصِل في الدفاع عن الإيمان وتأليف كتب ووضع مساقات مدرسية جامعية في قضايا اللاهوت دون أن نتعرض بالشكل اللازم وبالشكل المُناسِب لنظرية التطور، وهذا وهم كبير، هذا سلوك نعامي تماماً، بغض النظر كذبنا على النعامة أو صدقنا معها وسواء هى تفعل هذا أو لا تفعل لكن هذا هو سلوك النعامة في المثل المشهور، فنحن نُحاوِل ألا نرى، والآن ليس أمامنا خيار ألا نرى، فلماذا؟ لأن الآن الملايين من أبنائنا ومن شبابنا الذين يُجيدون اللغات الأجنبية ويقرأون التراث العلمي الكلاسيكي والمُعاصِر يُحرِجوننا كل يوم بمئات الأسئلة حول النظرية والموقف اللاهوتي من النظرية، فهذا يحدث كل يوم، وطبعاً مَن يُتابع يرى أن هذا يجري في المنتديات الخاصة بالإيمان والتوحيد والإلحاد كل يوم، وكثيرٌ جداً من هؤلاء الشباب يفهمون النظرية إلى حد بعيد بشكل جيد، فهم يفهمون تماماً مدلولها ومدلول التطور بالانتخاب الطبيعي، إذن المسألة لم تعد ترفاً ولم تعد خياراً، ومن هنا المسألة خطيرة، وأنا قلت أن هذا للأسف بعد مائة وخسمين سنة، لماذا؟ لأن في السياق الغربي وحتى في العالم الجديد -الولايات المُتحدَة الأمريكية- بلغ الجدال حدته  وذروة حدته حول الاستتباعات اللاهوتية للنظرية في أول عشر سنين بعد نشر أصل الأنواع، فـأصل الأنواع نُشِرَ 1859 ثم بلغ الجدال  -حول ما ذكرت-  في هذه العشرية وذلك في 1860 إلى 1870، بمعنى أن النصارى في العالم الجديد في القارة الأوروبية وفي المملكة المُتحِدة أدركوا على الفور -فور نشر أصل الأنواع- دلالة النظرية لاهوتياً واستتباعات النظرية إيمانياً، فهم أدركوا خطورتها لأن النظرية خطيرة، ولم يُوجَّه إلى الإيمان عبر العصور ضربة أكبر من هذه الضربة، فهم فهموا هذا لكن للأسف المُسلِمون إلى اليوم لايزالون لا يفهمون هذا ويظنون أن المسألة بسيطة وسهلة ويقولون: لماذا نهتم؟ لماذا ينبغي أن نهتم؟ يجب أن نهتم، فليس أمامنا إلا أن نهتم، إذا أردنا أن نُحصِّن أنفسنا، وطبعاً كما أقول دائماً ولابد ان أُكرِّر الآن علينا أن ننتبه إلى أننا لم نعد نجلس في المساجد وحتى في الجامعات أو الكليات الإسلامية يُخاطِب بعضنا بعضاً، فاليوم العالم في حالة سيولة، العالم بلا جدران وبلا أبواب بلا نوافذ، جرِّب أن تضع أي مقطع يتناول هذه القضايا أو قضايا حساسة وسوف تجد التعليقات من جميع الاتجاهات واهتماماً من الملاحدة ومن العلمانين واليهود والنصارى واللادينيين والبوذيين والمُسلِمين والإسلاميين، فالكل مُباشَرةً سوف يُدلي بدلوه سواء كان مع أو ضد، فهذا سوف يحدث مُباشَرةً، لكن قبل عشرين سنة  كنا يُخاطِب بعضنا بعضاً ولا يسمع الآخرون، ويُصفِق بعضنا لبعض ويمسح بعضنا الجوخ لبعض، ونحرق البخاخير ونطمئن أننا بخير وأننا مُقتدِرون وأن لدينا القدرة أن نُجادِل وأن نُدافِع وأن نقول وأن الأمور كلها بخير، لكن الآن انقلب الوضع تماماً -تماماً انقلب الوضع- طبعاً، ولذلك أنت لا يُمكِن أن تخرج في هذا الفضاء السيبيري بأفكار مُحنَّطة مُتحَجِّرة أو بأفكار فَطيرة غير ناضجة صبيانية، فلا يُمكِن أن  تقرأ صفحتين أو ثلاث صفحات أو أن تسمع لك مُحاضَرة في الموضوع ثم تبدأ تتكلم، فأنت ستُزري بنفسك وستجعل نفسك هُزأً ومسخرة أمام الدارسين وأمام الواعين وأمام العارفين، ولذلك عليك أن تنتبه، فالقضية أصبحت تحدياً حقيقياً ليس فقط للشرف العلمي ولأمانة الكلمة والرأي بل لمُستقبَل الإيمان ذاته، ومن هنا -وأختم بهذا- نحن مُهتَمون، ولابد أن نهتم.

الآن سأحدثكم عن حلقة من الحلقات المُهِمة في المسار التطوري الطويل والذي بلا شك لم يكن مساراً وردياً ولم يكن مساراً مليكاً مُعبَّداً واضحاً، بالعكس المسار التطوري والسبل التطورية سبل مُتعرِّجة مُتداخِلة مُعقَّدة، فليس من السهل الحديث عن حلقة مفقودة -Missing Link- كما يُقال دائماً تقف على الخط المُباشِر بين نوعين مثلاً، فيُقال هذه الحلقة المفقودة تماماً بين الإنسان وبين أسلافه الأدنين مثلاً، هذا من الصعوبة بمكان، لكنها قد تكون حلقة تسد فجوةً في مسار فرعي للتطور، وبالضبط هذا ما فعلته مُتحجِّرة إيدا Ida العجيبة الثامنة كما دعاها بعض أو أحد كبار العلماء، فقال أنها العجيبة الثامنة إيدا Ida، وإيدا Ida في عام ألفين وتسعة شغلت العالم وشغلت الدوائر العلمية حول العالم، وطبعاً الذي تابع ويُتابِع الأخبار العلمية والكتابات العلمية يعلم هذا، فما قصة إيدا Ida؟ وما هذه الحفرية؟ وهل هى فعلاً حلقة مفقودة؟ الآن لم تعد مفقودة، لكن أين تقع في المسارات التطورية؟ ما دلالتها؟ ما قصة إيدا Ida خاصة أنها مُستخرَّجة مِن حفرة أو من نُقرة حجرية في ألمانيا -جارتنا هنا- قريباً من فرانكفورت Frankfurt، من بُحيرة ميسِل Messel أو قريبة جداً من بُحيرة ميسِل Messel؟

إيدا Ida باختصار حفرية مُثيرة جداً ورائعة للعلماء لأنها حفرية تقريباً شبه كاملة، فأكمل أحفورة -Fossil- إلى الآن بين أيدي العلماء هى أحفورة إيدا Ida، وهى كاملة بنسبة 95%، غير ناقص منها إلا ساق واحدة، لأن لها طبعاً يدان ولها ساقان لكن هناك ساق فقط غير موجود، فيما عدا ذلك كاملة، لأن حتى الأمعاء موجودة وحتى الأسنان موجودة، وهذا شيئ عجيب، بل حتى الشعر موجود على بدنها والذيل والمخالب -في الحقيقة هى ليست مخالب حتى أكون دقيقاً، ولكن هي أظافر، وهذا شئ عجيب ومُثير جداً، فالأظافر في خمسة أصابعها موجودة- وكل شيئ موجود، وبالمُقارَنة مع الحفرية التي كانت مفخرة لمتاحف التاريخ الطبيعي حول العالم وهى حفرية لوسي Lucy – العرب يُسمونها لوسي- المُكتشَّفة في سنة 1974 والتي ترقى إلى حوالي 32 مليون عام قِدماً في الماضي نجد أن لوسي Lucy  كاملة بنسبة 40 أو 45 % فقط، لكن إيدا Ida  كاملة بنسبة 95%، فكل شيئ فيها موجود، ولذلك دعاها بعض العلماء بانتشاء العجيبة الثامنة، هى الأعجوبة الثامنة في العالم، فبعض العلماء يرى أن هذا من باب المُبالَغة، لكن طبعاً انتبهوا واحذروا دائماً من التضخيم والمُبالَغات الإعلامية، فما عسى إعلامي أو صحفي أن يفهم في التطور وفي الحفريات؟ ولذلك ستجدون مواد مُتلفَّزة كثيرة تدعي أن إيدا Ida  هى الحلقة المفقودة التي يكتمل بها سجل الإنسان التطوري، وهذا غير صحيح، فهى ليست كذلك، والآن سنفهم ما هى إيدا Ida  وأين تتموضع أو تتموقع إيدا Ida.

في الحقيقة إيدا Ida -كما قلت لكم- تم اكتشافها في وقت مُبكِّر نسبياً على يد باحث عن الحفريات هاوٍ وليس مُتخصِصاً، لكنه بُمجرَد أن عثر عليها ورأى اكتمالها كأحفورة أدرك أنه أمام شيئ ثمين، لكنه لم يُدرِك المغزى العلمي لهذه الأحفورة، هو فقط أدرك أنها شيئ جميل لأنها مُكتمِلة، علماً بأنها كانت تنام على جنبها، وعلى كل حال هذا الهاوي وجد هذه الأحفورة واحتفظ بها في بيته، وجدها تقريباً في 1983 -كما قلت لكم- في نُقرة ميسِل Messel جنوب شرق فرانكفورت Frankfurt. ثم بعد ذلك تم تسريب معلومات عنها، فاهتم بها أستاذ مُشارِك شاب في جامعة أوسلو Oslo للأحياء والتاريخ الطبيعي إسمه يورن هوروم Jørn Hurum، فهوروم Hurum اهتم بها كثيراً وجاء ورآها وفرح وأدرك مُباشَرةً أنه وقع على كنز مفقود، وبدأ التفاوض حول إيدا Ida ولكن طُلِبَ فيها مبلغ عظيم جداً، ووافقت بعد ذلك أوسلو Oslo -بالذات متحف التاريخ الطبيعي في أوسلو Oslo- على دفع هذا المبلغ الذي هو أعلى مبلغ دُفِعَ إلى الآن في أحفورة، وهو مليون دولار، أي مليون دولار في هذه الأحفورة الصغيرة التي هى بطول 57 سنتيمتراً أو 54 سنتيمتراً فقط، فدفعت أوسلو Oslo -أي المتحف التاريخي وهو متحف التاريخ الطبيعي في أوسلو Oslo– مليون دولار، وفعلاً تم اقتناء المتحف لهذه الحفرية في أواخر 2006 وأوائل 2007، ولم يُعلَن عنها إلا في مايو  -شهر خمسة- 2009، لماذا؟ بعد أن استكمل العلماء هناك الدراسات والاختبارات العلمية على هذه الأحفورة، فهناك دراسات مُتخصِصة كثيرة جداً لناس مُتخصِصين، وبعضهم مُتخصِص فقط في الأسنان ودلالة الأسنان ومعنى الأسنان، وهذا شيئ عجيب، وهناك دراسات امتدت أكثر من سنتين، ولم يتم الإعلان عنها في مُؤتمَر علمي في أوسلو Oslo بل في الولايات المُتحِدة الأمريكية، وانشغل العالم في ذلك الوقت كثيراً جداً بأحفورة إيدا Ida، لأنها فعلاً مُهِمة جداً وخطيرة في قضية التطور، فواضح أنها حلقة -Link- حقيقية تُؤكِّد أن التطور علمية جارية وشغالة، أي تُؤكِّد وجود التطور. فما هذه الحفرية إذن؟ هى -كما قلت لكم- حفرية شبه مُكتمِلة، ومن أهم الدلالات ومن أهم صفات هذه الحفرية أنها تمتلك في يديها إبهامين مُتقابِلين، فهى لها إبهامان مُتقابِلان، والإبهامان المُتقابِلان في ذوات الأصابع الخمس في اليدين صفة تختص بها القرود والقرود العُليا، لأنها صفة في الرئيسات Primates، لا نقول رئيسيات لأن هذا خطأ، فهذه النسبة خاطئة ومع ذلك في الكتب العلمية يقولون رئيسيات، ولا يُوجَد شيئ إسمه رئيسي، ومن ثم يجب أن نقول رئيس وليس رئيسي، مثلما تقول -مثلاً- كبير وليس كبيري، فهذا أيضاً رئيس وهذه رئيسات Primates، وعلى كل حال هذه صفة تختص بها هذه الرئيسات، وهذا مُهِم جداً، فإذن هى من الرئيسات، وهذا شيئ جميل ومُهِم!

النُقطة الثانية -كما قلت لكم- هى أن لها أسنان، ونحن رأينا قبل ذلك كيف زعم كوفييه Cuvier أنه يستطيع من خلال سن لحيوان مُنقرِّض -سن واحد- أن يُعيد بناء هيكله العظمي تماماً، وطبعاً تم التحدي له وفشل في هذا مرة، وهذه قضية ثانية، لكن السن مفتاح -key- لأشياء كثيرة، فهو يستطيع أن يُخبِرنا هل هذا الحيوان ثديي مثلاً أم غير ثديي؟ وهل هو من الرئيسات أو من غير الرئيسات؟ ويستطيع أن يُخبِرنا عن نمط حياته التغذوي، أي على ماذا يتغذى، هل يتغذى على اللحوم أم على النباتات؟ وهكذا، فهذا السن يُخبِرنا بهذا، ويُخبِرنا أيضاً أشياء عن عمر الحيوان، أي كم كان عمره حين نفق، هل وصل عمره إلى سنة أم سنتين أم تسع أشهر أم عشرة أشهر أم غير ذلك؟ وفعلاً من خلال أسنان إيدا Ida وأشياء أخرى طبعاً استطاعوا أن يُحدِّدوا أنها ماتت أو هلكت عن عمر يتراوح بين 9 و10 أشهر، أي بفارق شهر واحد فقط، وهذا شيئ غريب، لكن العلماء -كما قلت لكم- كانوا يدرسون من أكثر من سنتين هذه الأحفورة، وهى لها ذيل طبعاً وفيه الفقرات المعروفة في الذيول، أي لها ذيل بفقراته، وطبعاً هى كائن حبلي بلا شك، فهى من الحبليات، علماً بأن الحبليات قبل ذلك ظهرت بكثير، فهى ترقى إلى 47 مليون سنة، إذن هى أقدم من لوسي Lucy، فمعنى أنها ترقى إلى 47 مليون سنة أنها ظهرت تقريباً بعد انقراض الديناصورات Dinosaurs بـ10 ملايين سنة، أي أنها ظهرت في العصر الإيوسيني Eocene Epoch، والعصر الإيوسيني Eocene Epoch هو فجر العصر الحديث، وهذا يعود إلى الفترة من ستة وخمسين إلى أربعة وثلاثين مليون سنة مضت، فإذن هى ظهرت  في العصر الإيوسيني Eocene Epoch وهو من ستة وخمسين إلى أربعة وثلاثين مليون سنة ماضية، وهى ترقى إلى سبعة وأربعين مليون سنة ماضية، فإذن هى في العصر الإيوسيني Eocene Epoch.

إيدا Ida  -كما قلت لكم- تنتهي أصابعها ليس بالمخالب كالزواحف وإنما بأظافر كالرئيسات، ونعود إلى الأسنان الآن لنجد أن من خلال أسنانها اكتشف العلماء أن نمطها التغذوي كان نباتياً، وبالذات على الفواكه، فهى تعيش على الفواكه ويُقال أن في أمعائها آخر وجبة اقتتات عليها، وطبعاً يقترح بعضهم أنها هلكت وهى في مُقتبَل عمرها وفي أول حياتها بسبب أنها كانت تُحاوِل أن تشرب من بُحيرة ميسِل Messel  فغرقت، أُغمى عليها واختنقت فنزلت في قاع هذه البُحيرة، وهذه البحيرة تحتفظ بمُتحجِّرات -Fossils- في مُنتهى الروعة، تقريباً بثمانية أنواع من الأفاعي القديمة وبستين نوعاً -أي بستين أحفورة- للأحصنة -Horses- القديمة القزمة، وهذه الحفريات استُخرِجَت كلها، وكان أكثر هذه الحفريات كاملاً، لكن ما هى أهمية إيدا Ida  بالذات إذن؟ هى حلقة انتقالية -Link- خطيرة ومُهِمة، ولذلك هى مُهِمة، وطبعاً هناك أيضاً حفريات لأكبر نملة عاشت على وجه الأرض، وهم وجدوها في بُحيرة ميسِل Messel التي ذكرت لكم موقعها، وأيضاً حفريات لثمانية أنواع من الرئيسات ال Primates، وهم وجدوها في بُحيرة ميسِل Messel، ويُوجَد ثمانية أنواع من التماسيح في بُحيرة ميسِل Messel، فهى بُحيرة عظيمة جداً وقدمت لنا روائع الحفريات، والأروع طبعاً كانت إيدا Ida، لكن لماذا سُميت إيدا Ida؟ سماها العالم النرويجي  يورن هوروم Jørn Hurum بهذا الإسم لكي تكون على إسم ابنته، فابنته إسمها إيدا Ida، ويُوجَد  فيلم -Movie- مشهور جداً إسمه إيدا Ida  أيضاً عن فتاة يهودية، لكن على كل حال هو سماها إيدا Ida، واسمها العلمي هو داروينيوس ماسيلاي Darwinius masillae، نسبةً إلى داروين Darwin، فهى  إسمها داروينيوس ماسيلاي Darwinius masillae ولكن عُرِفَت بإيدا Ida.

إذن إيدا Ida  فيما يرى علماء التاريخ الطبيعي وعلماء التطور هى حلقة وسيطة، بين ما يُعرَّف ببروسيميانس Prosimians -العرب يسمونها البروزينيات- طبعاً، وهى نوع من الرئيسات المُتميزة بأدمغة صغيرة وتُعتبَّر الأجداد البعيدة لليمورات أو الليموريات Lemurs، أي حيوان الليمور Lemur، فهذه من أجدادها، وهذا كان الفرع -Branch- الأول، وطبعاً كل هذا مُتفرِّع من الرئيسات الأولى Early Primates، فإذن عندنا بروسيميانس Prosimians، وعندنا بعد ذلك البشريات أو أشباه الإنسان Anthropoids، وهذه الـ Anthropoids ينطوي تحتها الإنسان في نهاية المطاف أو البشر والسعادين والقرود -Monkeys- والقرود العُليا -Apes- والقرود العُليا، فإذن السعادين والنسانيس والقرود العُليا -Monkeys & Apes- والبشر -Humans- يدخلون تحت الـ Anthropoids وهذا هو الفرع الثاني، وهناك -كما قلنا- ينتهي بالليمور  الحديث New Lemur، فالحلقة الوسيطة الآن بين هذا الفرع وهذا الفرع هى إيدا Ida، أي أنها جاءت لتكون حلقة وسيطة، إذن واضح أن إيدا Ida ضداً على ما يقوله كثير من الإعلاميين غير العلميين ليست الجد المُباشِر للإنسان ولا لسلف الأنسان، أي أنها لا تقع على خط مُباشِر هو خط تطور الإنسان، فهذا غير صحيح، ولذلك سماها العلماء المُتخصِصون بالعمة الكُبرى Grand Aunt، فهى عمّة وليست جدة -Grandmother or Grandfather- وإنما عمة، لماذا؟ لأنه تقع على خط فرعي، ولكن أهميتها -كما قلت- أنها تصل بين هذين الفرعين من فروع الرئيسات الأولى، وبالتالي هى تسد فجوة هامة، جميل!

هذا إذن ما يتعلق بإيدا Ida، وأنا ذكرت أن هناك مصادر يُمكِن لمَن شاء أن يتوسع بالرجوع إليها فيما يختص بإيدا Ida، وأهم وأحفل وأوسع هذه المصادر كتاب العالم والكاتب العلمي المشهور البريطاني كولين تادج Colin Tudge إسمه The Link: Uncovering Our Earliest Ancestor، أي الحلقة: الكشف عن جدنا أو سلفنا المُبكِّر، ويُريد أن يقول الكشف عن جدنا الأول أو عن سلفنا الأول أو الأكثر تبكيراً، فهذا هو إسم الكتاب، وهو يقع في زُهاء 300 صفحة. حوّله السير ديفيد آتنبره Sir David Attenborough إلى وثائقي، وهو -كما ذكرت قُبيل قليل- عالم كبير جداً، وحين كنا صغاراً كنا نحضر له وثائقيات عن النبات والحيوان، وهو رجل عجيب في الإلقاء  وطبعاً هو مُلحِد -للأسف- وهو عالم تطوري أيضاً. ديفيد آتنبره  David Attenborough  مُلحِد وهو سير Sir، أي أنه أخذ لقب سير Sir، وأول ما ترى لقب الفارس سير Sir  يجب أن تعلم أنك أمام عالم كبير جداً، فهذا لا يُعطى لأي إنسان ببساطة، لابد أن يُعطى لعالم بلغ الذروة وأوفى على الغاية، مثل السير ايزاك نيوتن Sir Isaac Newton، فنيوتن  Newton  كان عنده لقب السير Sir، وهوكينج Hawking عُرِضَ عليه اللقب لكنه رفض لاعتبارات تخصه، فهو رفض أن يتسلم لقب سير Sir من الملكة  قبل أكثر من عشر سنوات أو زُهاء عشرات سنوات، وعلى كل حال ديفيد آتنبره David Attenborough عنده لقب سير Sir، وهو عالم كبير، ووثائقياته من أجمل الوثائق، وعنده صوت رخيم وطريقة في الإلقاء ساحرة، وهو الذي حوّل هذا الكتاب إلى وثائقي موجود على النت Net -الحمد لله-  وعرضته البي بي سي BBC بنفس العنوان The Link: Uncovering Our Earliest Ancestor، أي بنفس عنوان الكتاب الخاص بلكولين تادج Colin Tudge، فيُمكِن أن تقرأ الكتاب إن شئت وهو مُتوفِّر في Amazon، ويُم كِن أن تعود إلى الوثائقي لأنه يُغنيك عنه في الحقيقة، فأنا قرأت الكتاب وشاهدت الوثائقي ووجدت أن الوثائقي كان مكثَّفاً ومُركَّزاً وجميلاً مع وجود الصور والأشياء واللقاءات العلمية طبعاً مع كبار العلماء الذين اشتغلوا على إيدا Ida، وذلك في حوالي 55 دقيقة، وهذا يكفي، وسوف تفهم أشياء كثيرة عن إيدا Ida.

نأتي الآن مادمنا تكلمنا عن حلقة من هذه الحلقات التي لم تعد مفقودة لكي نتحدَّث عن حلقة من جنس الحلقات أو نوع الحلقات التي وصفناها بأنها حية، فهى تعيش بيننا وتدب على الأرض، وقد ذكرتها في تاريخ النظرية، لكن وعدت أن أعود إليها، وها أنا ذا أعود إليها سريعاً، وهى الحلقة المعروفة بـ الهوتسن Hoatzin، وهو نوع من الطيور يعيش في المُستنقَعات الاستوائية في أمريكا الجنوبية، وهذه المُستنقَعات تُعربِّد فيها التماسيح، فالتمساح هناك هو الملك المُتوَّج، وهو بانتظار أي حيوان أو أي طير أو زاحف يأتي لكي تنهشه، فكيف بالكتاكيت والعصافير الصغيرة؟ سوف تقع مُباشَرةً وتذهب، ولذلك هذا الهوتسن Hoatzin يحتاج أن يتشبث جيداً بالأشجار، والعجيب أن له في نهاية جناحيه مخالب، وهذا يُمكِن أن تراه في اليوتيوب طبعاً، اكتب فقط كلمة هوتسن Hoatzin وسوف ترى هذا مُصوَّراً بالفيديو، هو أعجوبة حقاً، فهو له جناحان لكن فيهما مخالب، إذن هذه حلقة انتقالية -Transitional- لكنها ليست مُتحفِّرة، وإنما تعيش بيننا إلى اليوم، فإذن من الصعب أن يُقال لا يُوجَد تطور، بل يُوجَد تطور، علماً بأن هذا ليس زاحفاً ولكنه ليس طائراً تاماً، فالطائر الحديث ليس له مخالب في نهايات جناحيه، فقط يمتلك جناحين بريش، لكن هذا له مخالب في نهاية الجناحين لكي يتشبث بقوة في الأشجار وفي فروع الأشجار، وهذا بحد ذاته يُفهِم -لا أقول يُوحي  وإنما يُفهِم- ويدل على أن الجناحين هما في الأصل يدان أو طرفان Limbs‎، فإذن الجناحان كانا في يوم من الأيام طرفين ولكن تم تعديلهما، وهذا هو التطور Evolution، فالهوتسن Hoatzin  يُؤكِّد أن الطيور -كما قلنا غير مرة- مُتطوِّرة عن الزواحف، أي الزواحف التي لها أطراف أمامية وخلفية، وهذه الأطراف  تنتهي بمخالب، ولكن تم تعديل هذه الأطراف وخاصة الطرفين الأماميين وتحوّلا في الطيور إلى جناحين، وقد يقول لي أحدكم الآن ما الدليل؟ عندك هذا الدليل الذي هو من أقوى الأدلة وأروعها، فنحن لدينا طيور إلى الآن تعيش في هذه المُستنقَعات في أمريكا الجنوبية أو اللاتينية وتنتهي أجنحتها بالمخالب، فالمخالب لاتزال موجودة، لكن لماذا استبقاها الانتخاب الطبيعي؟ لأنها في مثل هذه البيئة وفي مثل هذه الظروف والمحيط لازمة ومُهِمة، فهذه السمكرة -Tinkering- استبقتها وقالت لا بأس، ولذا عندنا  طائر بمخالب، أي طائر بأجنحة تنتهي بمخالب، وهذه أعجوبة طبعاً، فهذا أيضاً من الأعاجيب التي لاتزال حية بيننا.

الآن سنتحدث عن حلقة أعجب، وأنا كلما نظرت إليها يقشعر بدني حتى ولو كان هذا في الصور وليس في الفيديو، فأنت حين تراها تتعجَّب، فهذا شيئ عجيب وكائن عجيب غريب من أعجب الكائنات التي تُعايشنا على ظهر البسيطة اليوم على الإطلاق، إنه البلاتيبوس Platypus أو البطيطة أو مِنْقار البط أو خُلْد الماء، من بلاتيس بالإغريقية، وبلاتيس معناها Flat المُسطَّح، والبوس Pus معناها القدم، أي قدم المُسطَّح، وفي الحقيقة هو مِنْقار، فإسمه مِنْقار البط، وهو كائن عجيب، فما هو هذا؟ هل هذا زاحف؟ فيه من الزواحف لكنه ليس بزاحف، هل هو طير؟ ليس بطير ولكن فيه من الطير أشياء. هل هو ثديي؟ ليس بثديي وإن كان فيه من الثدييات، وفي نهاية المطاف غلبت عليه الثديية، فجعلوه حيواناً ثديياً. لكن ليس له نظير على وجه الأرض إلا ثديي آخر تُوجَد منه أربعة أنواع فرعية وهو آكل النمل الشوكي Spiny Anteater، فآكل النمل الشوكي Spiny Anteater يُوجَد منه أربعة أنواع كلها آكلة نمل. إذن باختصار لدينا البلاتيبوس Platypus، وآكل النمل Anteater فقط. وهذان النوعان يُشكِّلان قسماً بحياله في الثدييات، وإذا تحدثنا عن الثدييات -أعتقد أنني ذكرت هذا مرة-  Mammals سنقول أن الثدييات إما ولودة وإما بيوضة، لكن قد يقول لي أحدكم كيف تكون ثدييات بيوضة؟ هذا يحدث لأنها تبيض، لكن ما هى؟ فقط هذان، فالثدييات التي تبيض هى البلاتيبوس Platypus  وآكلات النمل Anteaters فقط، أما سائر الثدييات تلد، فحين نقول الثدييات -كلمة Mammals أتت حتى من كلمة Mam، وهى معناها ثديي- فإننا نقصد أنها تُرضِع وأن لها علاقة بالإرضاع، فهل هذا البلاتيبوس Platypus يُرضِع؟ يُرضِع، فهو يبيض ولكن يُرضِع، وهذا شيئ غريب، إذن هو فعلاً ثديي، فالثدييات بيوضة وولدة، والولودة إما أن تكون مشيمية Placental -كلمة Placental أتت من كلمة Placenta- وإما أن تكون Marsupial أو كيسية جرابية، أي ذات كيس أو جراب، وأنتم  تعرفون الجرابيات طبعاً، وقد تحدَّثنا عنها في الحلقة الأخيرة، فهذه كلها ولودة، لكن مَن الأكثر؟ الأكثر هى المشيمية طبعاً.

إذن لدينا مشيميات وجرابيات، ولدينا ثدييات وحيدة المسلك، أي وحيدة الفتحة Monotremes، فكلمة Mono تعني وحيد ولذا إسمها Monotremes، وكما قلت لكم هذه الـ Monotremes يُوجَد منها فقط مِنْقار البط أو البطيطة -بلاتيبوس Platypus- وآكل النمل فقط على وجه الأرض. وهذه الكائنات تبيض، لكن ما هو العجيب فيها؟ حين دخلت في أواخر القرن الثامن عشر إلى أوروبا بالذات فى إنْجِلْترا لم يُصدَق العلماء والناس أنها حيوان حقيقي، وظنوا أنها مُجرَد خدعة علمية، أي أنهم ظنوا أن بعض العلماء أو بعض الهواة ركَّب حيواناً من عدة حيوانات، لأنك حين تراها لا تكاد تُصدِّق، فهى لها منظر عجيب غريب، ولها مِنْقار فعلاً مثل مِنْقار البطة، وهو مِنْقار مُسطَّح وعريض وطويل، لكنه ليس مِنْقاراً عظمياً بل هو مِنْقار لحمي، وهذا المِنْقار لحمي وحساس، أي أنها تشعر به وتحس به هذه البطيطة أو مِنْقار البط، وفيه فتحتا المنخار -أي منخران للأنف- في أعلاه، وسترى هذا في الصورة وفي الفيديو Video، وهو شيئ جميل! قدماها الأماميان أو طرفاها الأماميان فيها أصابع خمسة، وبين هذه الأصابع كالبط غشاء، ولذلك حين تسبح في الماء تستخدم طرفيها الأماميين كمجدافين، أما الطرفان الخلفيان فينتهيان بمخالب قوية تُساعِدها على الحفر كما تُساعِدها على تسريع العوم أيضاً، وفيهما -أي في هذه المخالب- سٌمٌ قاتل، ففي هذه المخالب سُمٌ قاتل تستخدمه البطيطة أو مِنْقار البط لقتل أعدائها، ولها فرو وليس لها ريش، فلو كانت طيراً كان ينبغي أن يكون لها أي ريش، لكن هى ليس لديها ريش ولكن عندها فرو، وهذا الفرو يُلحِقها بالثدييات، في حين أن لها مِنْقار، وهذا المِنْقار يُلحِقها بالطيور، لكن هى ليست طيراً، ومع ذلك تبيض، وكونها تبيض هذا يُلحِقها بالزواحف ويُلحِقها بالطيور، ولكنها تُرضِع أولادها لأن عندها حلمات وغُدد، وتتناسل -أي الذكور مع الإناث- تحت الماء، لكنها تفقس بيضها فوق الأرض، حيث تخرج الأنثى الحفَارة وتحفر جحوراً أو جُحراً عميقاً ومُعقَّداً مُتداخِلاً وتنتهي فتحته في الغالب في الماء وأحياناً تنتهي فتحته حتى على الأرض العادية، ثم تضع بيضها من أربع بيوض إلى ثمان بيوض أو ثمان بيضات في الداخل في حُجرة داخلية، ثم تحتضنها في الجزء بين مُؤخرَتها وما يتلوه، وذلك تقريباً لبضعة أيام إلى عشرة أيام، وقد تُوفي على عشرة أيام ثم يفقس البيض، ويبدأ في الارتضاع من أمه، أي أنها تُرضِعه، ولذا هى حيوان ثديي، وحين تذهب لكي تبحث  لها ولأولادها عن الغذاء -غير هذا اللبن- أيضاً تسد الجُحر وتدخل الماء، فإذا دخلت الماء تُغلِق أُذنيها وتُغلِق عينيها وتُغلِق المنخرين، أي كأن عندها صمام يُغلَق بالكامل، وهذا شيئ عجيب، إذن كيف تتعاطى مع طرائدها؟ كيف تصطاد هى الطرائد؟ يُرسِل مِنْقارها نبضات كهربائية -وهذا شيئ عجيب- لأن هذا المِنْقار يعمل كجهاز الرادار Radar الذي يُرسِل النبضات ثم يستقبل رد الفعل، فيُحدِّد موقع وموضع الطريدة وينقض عليها، والعجيب أن البلاتيبوس Platypus أو مِنْقار البط أو البطيطة تقريباً ليس له معدة خلافاً لكل الفقاريات وخلافاً للثدييات بالذات، فهو ليس له معدة وإنما مُجرَد انتفاخ بسيط في آخر المريء مُتصِل بالمِعى، فهو لديه انتفاخ بسيط وليس له بنية المعدة، ومن ثم العلماء استغربوا من هذا، فلماذا إذن؟ لماذا ليس لهذا الحيوان الثديي وحيد المسلك معدة خلافاً لسائر الثدييات وأكثر الفقاريات معدة؟ قالوا ربما لأنه يقتات ويغتذي على ديدان لينة، فهو غذاؤه طبعاً بين الضفادع والديدان والروبيان والجمبري والقشريات والأسماك، هذا تقريباً ما يتغذى عليه البلاتيبوس Platypus، ومن هنا قالوا هذه الأشياء مُعظمها لين وبالتالي لا يحتاج إلى عملية هضم مُعقَّدة ومُركَّبة، لكن في الحقيقة هناك سبب جيني وراثي أكثر أهمية، وهو أنه وُجِدَ في جينوم Genome البلاتيبوس Platypus جينان -Two Genes- يختصان بالهضم، فهما يُنتِجان خمائر -Enzymes- مُهِمة جداً لعملية الهضم، لكن هذين الجينين مُعطَّلان ومُسكَّتان Silenced، علماً بأننا سنتكَّلم اليوم في الحلقة التالية كلاماً مُثيراً ومُهِماً جداً عن الجينات المُعطَّلة أو الجينات النائمة أو الجينات المينة Dead Genes والتي تُسمى بالجينات الزائفة Pseudogenes، لكن العلماء يقترحون أن بسبب طفرة أصابت هذين الجينين لم يعد هناك من أهمية لوجود معدة مُركَّبة، ستكون مُجرَد تجويف لا يُؤدي عملاً زائداً ولذلك تقلصت، ونحن رأينا في الأعمدة -Pillars- العشرة الخاصة بالنظرية التركيبية التطورية الحديثة  -وهى الصيغة المُعدَّلة للداروينية الحديثة Neo-Darwinism- أن من المُمكِن أن يكون التطور بالاختزال -Reduction- وبالرجوع -Retreat- أيضاً، فهناك أشياء تكون موجودة ثم تختفي، وهناك أشياء غير موجودة ثم تظهر وهذا هو الأكثر، وهذا ينتمي إلى النمط الأول.

أدركني الوقت، إلى أن ألقاكم في الحلقة القادمة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(تمت المُحاضَرة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليقان 2

اترك رد

  • (عدنان ابراهيم احبه كثيرا ولكن حينما سمعت في احد حلقاته في نضريه التطور ان الانسان لم يتم تصميمه من مصمم ابتعدت عنه علما) طبعا هاد احد تعليقات الناس على اليوتيوب وسؤالي ما المقصود من نظرية التطور

%d مدونون معجبون بهذه: