بدر الجنيدي باحث إسلامي - المغرب
بدر الجنيدي
باحث إسلامي – المغرب

يعتبر الأستاذ مالك بن نبي في بداية كتابه ميلاد مجتمع، أن هذا الأخير يملك شخصية وهوية وخصائص تميزه على غيره وتضمن له البقاء فيقول: “فالمجتمع يحمل إذن في داخله الصفات الذاتية التي تضمن له الاستمرار، وتحفظ شخصيته ودوره عبر التاريخ. وهذا العنصر الثابت هو المضمون الجوهري للكيان الاجتماعي،إذ هو الذي يحدد عمر المجتمع، واستقراره عبره الزمن، ويتيح له أن يواجه ظروف تاريخه جميعا. وهو الذي يتجسد في نهاية الأمر في شبكة العلاقات الاجتماعية، التي تربط أفراد المجتمع فيما بينهم، وتوجه ألوان نشاطهم المختلفة،في اتجاه وظيفة عامة،هي رسالة المجتمع الخاصة به”.

قدمت بهذا النص، لأقف على إجابة سؤالين: لماذا رفض المجتمع المكي المشروع الإصلاحي النبوي؟ ولماذا كانت الهجرة؟ وسأخصص هذا المقال للسؤال الأول محاولا الوقوف على أعطاب المجتمع المكي والذي منعته من التعاطي مع الدعوة المحمدية رغم وضوح عناوينها، ممتنعا على الإصلاح والاستماع للنقد الداخلي للأوضاع المبثوث في القرآن المكي على مسار عقد وثلاث سنوات.

لقد عاش المجتمع القرشي بطبقاته ونخبه في منظومة دينية، فكرية، أخلاقية،اقتصادية، وسياسية، تصوغ للإنسان تصوره حول نفسه والوجود وصفها القرآن بالجاهلية، هذه المنظومة كانت مشروع مجتمع يؤمن لأفراده حالة من الروحانيات، ورواج اقتصادي، وقانونا للتقاضي والتحاكم، لكنها في نفس الوقت منظومة متهرئة، تحتاج لقوة السيف لتستمر.

لقد عاش النبي (ص) في ظل هذه المنظومة لمدة أربعين سنة، إلى أن انعزل عنه في حالة تأملية بغار حراء، ليعود حاملا معه مشروعه الإصلاحي المتجسد في ميراث النبوة، هذا الأخير الذي حاولت الجاهلية دهرنته وعلمنته، مفرغة إياه من بعده السماوي، وهذا ديدن الجاهلية في كل عصر، حيث تغلف ما هو سماوي بما هو أرضي، فاصلة الإنسان عن منابع الروح.

كما ذكرت حافظت الجاهلية على الشعائر، فبيت إبراهيم هو نفسه البيت، والأخلاق هي الأخلاق إلى أن تحظ بمسميات أخرى، والقانون هو القانون لكنه يرتكن للأهواء، و دار الندوة البرلمان القرشي ينعقد كما عادته إلا أن النزاعات قد تستل لها السيوف لأتفه الأسباب، القصد أن المجتمع في ظاهره ينبض بالحياة، إلا أنه قد نُخر فسادا وظلما، وطبقية، وتحللا، وتقطعا في أوصال العلاقات الاجتماعية، وهو ما ركز عليه النبي الكريم في أول دعوته، وتجده في ردود جعفر بن أبي طالب أمام ملك الحبشة.

لقد طرح الرسول الأكرم (ص) مشروعه الإصلاحي، والذي أحدث رجة في المجتمع المكي، وصل صداه إلى أحياء قريش، وصار حديث نواديها، وبدأ عدد المقبلين على هذه الدعوة الثورية يتزايد، وهذا ملمح عميق، ودرس جليل يفيد أن المجتمع يتعايش مع خلله إلى حين ظهور بديل يحفز الطاقات النائمة، فالأفكار تملك قوة ذاتية بفضل بساطتها، وانسجامها مع نفسها، تنتشر انتشار التيار الكهربائي في الأسلاك فتستنير المصابيح.

لقد شكل ميراث النبوة منذ فجر التاريخ بديلا حضاريا عن مشاريع الجاهلية،و إن تزيت بأزياء الكهنوت/الفكر/التنوير/
العقلانية/التحديث/الدهرنة، فسعيها دوما إلى إصدار نسخا محرفة عن ميراث الأنبياء، لتستفرد بالإنسان وتجعله خاضعا للمادية الصماء، فهي تروم الشرك بدل التوحيد، والظلم بدل العدل، والقوة محل الرحمة، الإكراه بدل الإقناع.

فأمام نصاعة المشروع النبوي لم تجد الطبقة السياسية والاقتصادية و الكهنوتية إلا أن تحرك آلتها الإعلامية، في وجه الدعوة و الداعية، تشويها وتكذيبا وتزييفا للحقائق وكيلا للاتهامات، وبعد أن فشلت مناوراتها وعروضها التفاوضية دخلت مرحلة التعذيب والحصار و التصفية البدنية.

فالمجتمعات المريضة تدافع عن منظومتها بالقوة، عوض الحوار الهادئ البناء، وماذا كانت ستخسر مكة لو فتحت الباب للنقاش والتحاور، وما هو السيناريو المحتمل لو قبلت ب”لكم دين و لي دين” و”خلوا بيني و بين الناس”، لكن الجاهلية كمنظومة منغلقة ترى صلوحيتها فقط، وهي بذلك تؤذن بزوالها.

خلاصة هذا التأمل: أن الصراع الأبدي كان بين ميراث النبوة ومشاريع الجاهلية بمختلف تلاوينها، فالأول يحاول صوغ تصور الوجود حيث يجعل الإنسان مستخلفا فيه معمرا لا مدمرا، والثاني يطلق له العنان ليسطو بأخيه الإنسان تحت أسماء عديدة، ويعلن وفاة الإله، ليحل محله، فيخلق مجتمعات ظاهرها الانسجام، باطنها التفكك… تواصل سيرها بقوة الدفع إلى أن تنبع دعوة جديدة تستلهم من ميراث النبوة لتبدأ دورة الحياة و ميلاد المجتمع.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: