المسحور

بقلم الدكتور عدنان ابراهيم

دخل المنزل عائدا من الشركة  فألقى التحية و انحنى على يد أمه الستينية يقبلها ثم دخل غرفته و بادر الى خلع بدلته الصفراء و هو ما دأب عليه على الدوام: يخلع بدلته ثم يعلقها إلى جانب أختها، تلك الخضراء التي يعرفها أهل الحي كلهم من سبع سنين، و رغم ما بين البدلتين من فارق العمر ـ إذ لا يزيد عمر الصفراء عن ستة أشهر ـ فإنهما تبدوان متماثلتين في الجدة! و كأنهما أشتريتا في يوم واحد،علقها ثم ارتدى بيجامته و عاد ليجلس قبالة أمه

ـ ها أمي، متى سنزور الحبايب؟

ـ يعني نسيت، أم أنك تتماكر؟ اليوم مساء طبعا.

ـ و هل بلغك  شيئ من كلام؟ ماذا قالت عطاف؟ أنا واثق أنها طائرة من الفرح، و أهلها أيضا.

ـ أكيد يا حبيبي، و هل كانوا يحلمون بعريس مثلك، قمر، طول و عرض و جمال و شهادة قد الدنيا، و ماذا أيضا؟ وظيفة في أحسن و أكبر شركة، يخزي العين.

و بالفعل فجمال أقرب الى الطول وسيم قسيم أشقر  يفرق شعره الناعم من منتصفه و إن صار  في الفترة الأخيرة أنزع الرأس (1)

ـ لكن قل لي: هل اشتريت هدية لهم؟ أخشى أن تكون نسيت.

ـ لا تقلقي، اشتريت، اشتريت.

و في المساء دق باب منزل خطيبته ففتح شقيقها الصغير ياسر الباب:

ماما بابا هذا جمال و عمتي أم جمال

ـ يا أهلا و ألف سهلا، تفضلوا تفضلوا. قال الأب، الحاج سميح، والد عطاف، و هو رجل طويل أقرب إلى النحافة، في منتصف العقد السابع، يتموج شعر رأسه بلون فضي، وقور، عليه مخايل العز، و تعلوه سيما التقوى.

و دخل جمال متأبطا ذراع أمه التي  تنهج: أهه أهه أهه، فقد أجهدها المشي الطويل، زهاء كيلومترين.

ـ تفضلوا، أهلا و سهلا، ماذا؟

هل أتيتم هذه المرة أيضا مشيا على الأقدام؟ تساءلت عطاف بشيئ من استنكار.

ـ و في كلِّ مرة بعون الله، فالمشي مفيد جدا للصحة، كفانا جلوسا، ماذا يأتي من وراء الراحة إلا المرض و السمنة و مشاكل السمنة.

أجابها و هو يمشي بأمه  نحو الصالون .

 

و أقبلت أمُّ عطاف ترحّب و هي تنزل درج السلم من الدور الثاني:

زارتنا البركة، يا مئة أهلا و سهلا، أهلا بأختي و حبيبتي أم جمال، أهلا و سهلا بالباش مهندس.

 

و بعد أن تكامل حضور أعضاء العائلة المهمين: الأب و الأم و عطاف تقدّم جمال مبتسماً إلى خطيبته بهديته ملفوفةً بورقة حمراء لكن بغير شريط من تلك التي يزيّن بها ورق الهدايا :

ـ تفضلي!

ـ ما هذا؟  لمَ الكلفة؟ و الله ما كان ثمة داعٍ.

ـ أبداً، شيئ يسير، لوحُ شيكولاته من النوع الفاخر،لا أشك في أنك ستحبينها!

و نظر أبو عطاف نظرةً خاطفةً إلى زوجته استقبلتها هي بارتباكٍ للحظةٍ، ثم قالت مخاطبة الضيوف: تفضلوا بالجلوس.

و جلس جمال و الى جانبه والد عطاف، و عطاف عن يمين أبيها في مواجهة خطيبها من زاوية، و شقيقها الصغير ابنُ العاشرة بجوارها و بين يديه جهاز آيباد شرع على الفور في اللعب به.

و دار حديثٌ عن وظيفة جمال في الشركة و أحوال العمل و المدير والموظفين و الترقية التي وعد بها المدير جمال و ما الى ذلك.

 

في الجهة الأخرى من الصالون جلست السيدتان الكبيرتان تتحدثان، ثم لم يلبث أن تطرق الحديث بينهما الى موضوع مثير:

ـ نعم ذكرتِني يا أمَّ جمال، أيش حكايةُ السحر التي ذكرتِها (2) قبل أن تستأذنوا بالإنصراف في المرة السابقة؟ لم أفهم بالضبط ما الحكاية.

ـ آه يا حبيبتي، حركتِ المواجعَ، قصةٌ طويييلةٌ…

كان جمال تخرج من كلية الهندسة قبل تسع سنوات، و يخزي العين عنه، كما ترينه ما ينقصه شيئ،  و ألف مَنْ تتمنّاه

و العجبُ يا أختي أنه كان كلما خطب فتاة يرحّبُ بنا أهلُها و تستطار هي من الفرح،  و ما هي إلا شهران أو ثلاثة حتى يعودوا عن موافقتهم، و حين نسألهم عن السبب و نلحّ لا يرجعون الينا إلا بكلمة : ما في نصيب!

في البداية يا أُخيتي لم نأبَهْ كثيراً بل كنا نقول: هم الخاسرون، و نعيد الكرة مع أناس آخرين، و الشيئ نفسه، شهران .. ثلاثة.. و أحيانا أربعة أو خمسة، و ينتهي الموضوع على النحو نفسه.

ـ يا لطيف، ما هذا، الله على أولاد الحرام، من هذا الذي كان يفسدُ عليكم أمرَكم؟

ـ لا، ليس الأمر كما قدرتِ

في البداية ظننا أن هناك من يحفر تحتنا و يفسد علينا

و لا أخفي عليك: أول مرة ـ الله يغفر لنا ـ اتّهمنا عمته،  فقد كانت راغبةً بتزويجه من ابنتها سعاد، لكن جمال لم يكن يشعر نحو البنت ذاك الشعور، كان يراها كأخته.

المهم، بارك الله في أم سعدي الفرّان فقد فتحت عيني و أفهمتني أنّ ابني مسحور، خبيرة هي و فاهمة الدنيا…

أي نعم مسحور، هناك من بنات الحرام منْ صنعتْ له سحراً ليبقى عزباً طيلة حياته.

ـ يا ساتر يا رب، لا سامحهم  الله أولادَ الحرام و بنات الحرام، لا يخشون الله، و ما الذي يستفيدونه من عملهم هذا؟

ـ و لا أخفي عليك يا حبيبتي أن الولد بعد رابع مرة ـ يا روحَ أمّه ـ  بدأ يتغير حاله، تستطيعين القول إنه بدأ يكتئب قليلاً

و يا حبيبي بدأ شعر رأسه من الهم يتساقط

و المشكلة أنه لم يقتنع بموضوع السحر هذا، فعنده أن هذا الكلام كلَّه كلامٌ فارغ لا معنى له.

 

و في الواقع فصاحبنا يُعوّلُ كثيرا بل بالأحرى لا يعول الا على جماله و شهادته و وظيفته،  و تلك ثلاثة كافية لا يحتاج معها الى أي ضرب من ضروب المعجزة، بل يكاد يرى نفسه معها معجزةً كاملة.

ـ طيب، و ماذا حصل بعد ذلك؟

ـ  حاول يا أختي مجددا، المرةَ الخامسة، و السادسة، و السابعة

و لا جديد، الأمر نفسه، لم يتغير شيئ، و الله ِشيئٌ غريبٌ عجيبٌ، و لولا أنه حدث معنا ما صدقتُ حدوثه.

ـ و هل اقتنع جمال بعدها؟

ـ إقتنع، و هل كان أمامه إلا أن يقتنع

ـ و بعد ذلك ماذا فعلتم؟

ـ الله يرضى على أختي سَرِّيّة ـ  أختها الصغرى التي تصغرها باثنتي عشرة سنة ـ لقد سألت و استفسرت هنا و هناك حتى وقعت على شيخ مبارك تقي عنده خبرة في هكذا أمور، يفك السحر، و لا يطلب مقابلا، لكن إن أعطيته أي شيئ على سبيل الهدية قبله و ..

ـ الشيخ سلامة؟

ـ و الله هو بعينه، أي نعم الشيخ سلامة، الله يطيل  عمره، تعرفينه؟

ـ سمعتُ به..

أم حامد حدثتني عنه مرة، و مرة أخرى سمعت حليمة جارتنا تحكي عنه أشياء عجب حين كنا في عزاء صبحة عبيد

المهم، هل نجح في فكّ السحر؟

ـ نعم نجح، و لماذا لا ينجح، و لله الحمد ، أعطى سرية ورقة مكتوبا فيها أشياء بقلم كوبيا يغسلها جمال في ماء و يشربها، و أعطاها حجابا صغيرا ملفوفا بإحكام في نايلون على أن يحمله جمال دائما

ـ و بعد ذلك؟

ـ بعد ذلك؟ كل خير يا حبيبتي، جئناكم و تشرفنا بمعرفتكم و وضع الله القبول بيننا، عليم الله كم انشرحت صدورنا لكم، و اللهُ يديم المودة و يتمم على خير.

ـ  يعني هذا تمّ من وقت قريب، و نحن أول ناس تخطبون اليهم بعد فكّ السحر؟

ـ بالضبط يا حبيبتي، بالضبط.

ـ اللهُ كريم

قالتها بصوت هو الى الهمس أقرب، ثم أعقبتها:

الله يتمم على خير

 

في الجهة الأخرى كان الحديث تنقصه الإثارة، يدور برتابة، رتابة تجرّ الإملال، ما  سمح لعطاف أن تلاحظ هذه المرةَ شيئاً لم تلتفت إليه في الزيارة السابقة، خامرها معه شعور غير محبب و غير واضح لها بشكل مفهوم، أو ربما لم ترغب هي في فهمه بهذه السرعة:

أولا: ما يبدو أنه عادة راسخة لدى جمال:  تلعيبه حاجبيه حين يتكلم، و هي لهذا السبب بالذات تكره مذيعا في التلفاز، يستفزك بحاجبيه حين يحركهما بطريقته المعروفة ، ماركة مسجلة بين زملائه المذيعين

لكن هناك ما هو أغيظ و أبعث على الإستفزاز، أعني كيف يحتسي جمال قهوته، فهو كلما رفع الفنجان إلى فمه تبسّم قليلاً كالفَرِح، ينظر اليه و هو يقربه إلى فمه، فاذا صار قريبا من فمه نظر فيه، ثم يرتشفه بتلذذ بالغ و ببطء شديد، شيئا فشيئا، و بعد كل رشفة تقريبا ينظر فيه مجدداً.

في البداية قالت في نفسها: ما هذا؟ لعلّه تذكّر شيئا، ثم عادت لتقول لنفسها: غير صحيح، و هل يتذكر مع كل شفة شيئا؟ ماذا لو كان هذا الرجل ينطوي على شيئ من هَبَل؟ لستُ أدري، كلُّ شيئ ممكن، لكنه مهندس ناجح كما سمعت و كما يؤكّد هو دائما، طيب ما المشكلة ممكن مهندس و فيه هبل، ما المانع؟

لماذا لا يكون السبب ـ ربما ـ أنه من أولئك الذين يقرءون الفنجان ، و لعله وجدني من نصيبه فهو فَرِحٌ بي ، لكنه يتبسم قبل أن ينظر فيه ، فهل يقرأ الفنجان من ظاهره؟  شيئ محير بالفعل يا عطاف.

آه، يا ويلي، أخشى أن يكون الأفندي يفعل هذا سخريةً بي، أو بأبي، أو بأمي حتى، ممكن يكون رأى شيئا جعله يسخر في نفسه منّا

و اللهِ العظيم لو كان كذلك لأرفضنّه رفضا باتا و لو هلكتُ، و لو مِتُّ..

و في هذه اللحظة نهض والدها:

أستأذن يا باش مهندس فقد رُفع أذانُ العشاء و لا بد من أن أدرك صلاةَ الجماعةِ في المسجد، فلا تؤاخذوني يا جماعة، على كل حال أهلا و سهلا بكم، أبقوا أنتم هنا على الرحب و السعة و سأعود أنا بعد الصلاة.

ـ لا، بارك الله فيك يا عم،  نستأذن نحن أيضا فقد تأخّر الوقت قليلا، و تعرف دوامي يبدأ من الساعة السابعة صباحا و قد تعودت على أن آوي الي الفراش مبكرا.

و نهضوا جميعا و اقترب جمال من الحاج سميح و بصوته الخفيض قال:

ـ من فضلك يا حاج هل تسمح لعطاف بالخروج معي غدا إلى مطعم الفردوس القريب من بيتكم هنا؟ أعلم أنه مطعم شعبي متواضع لكني اخترته لقربه من داركم و كما تعلم يعني…

ـ أها، في الحقيقة فاجأتني يا ابني بطلبك هذا..

و ظلّ جمال ساكتا يتبسم و ينظر الى الحاج  الذي استتلى:

ممكن ان شاء الله،  لكن بشرط أن تصطحبوا معكم ياسر(3) على أن لا يتجاوز الأمر الساعة و النصف.

 

ـ  شكرا لك يا عم.

و قفل و أمه عائدين مشياً كما أتيا، و في الطريق سألها:

ـ لاحظتُ أنك كنت و أم عطاف  منهمكتين في حديث بدا لي مثيراً، عماذا كنتما تتحدثان؟

ـ عن مصيبة السحر، و كيف يسّرّ الله فكّه و ..

ـ أخشى أن تكوني أخبرتِها عما فعَلَتْه خالتي سَرِّيّةُ.

ـ نعم بالطبع أخبرتها.

ـ ماذا؟ ماذا يا أمي؟ أخبرتِها، مصيببةٌ، كارثة، لقد انتهى أمري، كلّ شيئ ضاع.

ـ ولماذا يضيع كل شيئ؟ ما هذا الذي تقوله، كفى الله الشر.

ـ كيف لا يضيعُ و قد أخبرتِها أننا رششنا ماء العمل (4) على عتبة دارهم؟

ـ أها، لا، لا، أعوذُ بالله، و هل جننتُ لأخبرها بهذا؟ ماذا تظنُّ أمَّك؟ مهبولةً ام مخبولة؟

ـ الحمد لله، طمّن اللهُ قلبك يا أغلى و يا أعظم أمّ في الدنيا كما طمنتِ قلبي.

 

و نام ليلته تلك و الأماني العذاب تخفق برأسه

غداً سوف أجلس مع عطاف وحدنا، لا بأس من وجود الولد فهو عيل صغير لا يعرف شيئاً، و سوف تجد عطاف فرصتها للتعبير بحرية عن حبها لي و إعجابها بي

من المؤكد أنها ستحدثني عن الشيكولاته و كم هي لذيذة و طيبة، و لسوف تُكرّر شكرها لي

إذن سأهديها واحدا آخر،  لكن لا في الزيارة القادمة بل في التي تليها، نعم، لئلا تُبتذَل الهدية فتخفَّ شدّةُ الفرح بها

و في الأرجح ستفاتحني في موضوع تحديد موعد كتب الكتاب… حسنٌ، من جهتي لا مانع لديّ من تعجيل الموضوع، فأنا مستعد تماما و لا ينقصني شيئ

لكن من المهم أن أخوض معها في شؤون الحياة، و تصوري عن الحياة الزوجية، و معنى الحب، و تربية الأولاد، و أيضاً عن علاقاتنا بجيراننا و أقربائنا و أصدقائنا، و لسوف أذهلها بآرائي و خبرتي الدقيقة في هذه الموضوعات

ستصدم حتما بمدى ثقافتي و وعيي بشؤون الحياة و الناس و الدنيا..

سوف ترى من هو جمال حسانين

 

و ظل يهوم و ينعس  حتى غلبته عيناه فسقط في نوم عميق لذيذ.

 

في الغد بعد العصر كان جمال يجلس مع عطاف في مطعم الفردوس و معهم ياسر الصغير، جلست و هي غيرُ شاعرة بتلك الفرحة و لا بذلك الحماس الذي كانت تنتظره من نفسها، فطريقة جمال في لقائك و الترحيب بك ، ماذا أقول ، تذكرك ب أو تحيل على شيئ بارد خامد، شيئ لا روح فيه، لا حماس، نعم لم يخطر على بالها أنّ في طريقته تلك كذبا أو اختداعا، كلا، و لكنها خلو من دفء الحياة و تدفقها ، لا سيما في هكذا حالات: خِطبة و مقدمات زواج و ارتباط أبدي

تأتيه و أنت محبور خفيف ملآن مشاعرَ و أفكاراً

لكنك  ما إن تراه و تسمعه حتى ينطفئ كلُّ شيء، ماءٌ باردٌ، سطلٌ كبير من الماء البارد صُبَّ عليك، فيتبخر كل شيئ، و تشعر بنذير صداع قادم و ضيق صدر و قتامة تغشى أفق نفسك

هذا ما جال في خاطر عطاف منذ ليلة البارحة و هي تتقلب في فراشها و قد جفاها النوم، حتى إنها أصبحت مغثوثة، ترين عليها حالة هي مزيج من الإحباط و الضيق و القلق و شيئ من حزن خفي مستبهم.

 

أنشأ جمال يتحدث و قابلت هي حديثه باقتضاب شديد: أها، جيد، حسن، مفهوم، عرفت، ..تقولها ثم تطرق، و حين تنظر اليه تبدو شاردةً، فعلق قائلا بعد أن حيرته  استجاباتها المبتورة المقتضبة، بالأحرى أربكته، فهكذا صنف من الخلق لا يتحيّر بسرعة، نعم يمكنك أن تربكه ـ و إن كان هذا بصعوبة ـ حين تخربط حساباته الخطيّة أو تفشل توقعاته:

ـ هل ثمة ما يزعجك؟ هل أزعجك أحدٌ اليوم؟

ـ أبداً، مجرد تفكير.

ـ تفكير؟ أتدرين أنّ التفكيرَ الكثيرَ غيرُ ملائم للإنسان؟

ـ بأيّ معنى؟ سألته مستنكرةً متحفزةً

ـ بمعنى أنّ الحياة و ظروفها في أيامنا هذه لا تسمح بإطالة النظر في الأمور، المطلوب هو المزاج الواقعي العملي، التفكير لا يُطعم خبزا و لا يُسدّدُ فاتورةً و لا يبني بيتاً

ـ  ما هذا الكلام؟ التفكير في نظري أكثر من ضروري لتفحص قيمنا و مساءلة منطلقاتنا في الحياة و تقييم سلوكاتنا و موازنة خياراتنا.

تلمسون بالطبع الفارق الواضح بين اللغتين، كيف لا و نحن بإزاء خريجة فلسفة، و ما عساه يصنع هنا مهندس في مواجهة فيلسوفة

ـ قيم؟ قيم ماذا، و منطلقات ماذا، و خيارات ماذا؟

صدقيني ما القيمُ و المنطلقاتُ التي صدّعوا رؤسنا بها إلا ديكور، زخارف يتزين بها الفارغون العاطلون، وعلى مستوى الكلام فقط، أما في واقع الأمر فالمال هو اللب و الجوهر، بيت القصيد، إنه جالبُ الحظ و خالقُ الإعتبار و ماسحُ كلِّ عار، فقلما يظهر مع المال عار، قدرات المال سحرية و إن شئتِ قلتِ إعجازية

إنكشف الغطاء أمامها مباشرة عن رجلٍ عابدٍ للمال مولّهٍ به، مقدِّس للمادة متحنث في محرابها، من منظوره المال مركز الوجود، كلِّ الوجود، لا شيئ له معنى أو قيمة خارج المال و بغير المال

ـ لا أكاد أصدق ما أسمع! أهذا هو رأيك في الحياة و في القيم و في ..، المال من منظورك هو مركز الوجود؟

أمّا ترى أن الحياة ، حياة الإنسان ، حياة البشر، نحن بشر، لسنا جمادات أو عجماوات، أما ترى أن حياتنا لها معنى و دلالة تفوق المال و تتجاوزه؟

أما تلمح أفقا لك كإنسان من وراء الذهب و الفضة؟

تكلمت بطريقة بالغة التأثر، محزونة فيها ظلال البكاء

أما ترى أن ..

و حضر النادل:

ـ تفضلوا! و بيده ورقة و دفتر صغير يقيد فيه الطلبات

ـ عفوا يا سيد!  لحظةً من فضلك !، إنتظرْ

و التفت الى عطاف:

ـ هل اخترتِ أم أختارُ أنا لك؟ يمكن الأفضل أن أختار لك!

و لم تزد على أن هزت رأسها عموديا هزة خفيفة بالموافقة و انسحب خداها الى الأعلى قليلا و كذا شفتها العليا و ضاقت عيناها و ارتفع جفناهما السفليان يسيرا فلاحت نظرة اشمئزاز باهت على وجهها

و التفت هو الى النادل الواقف على رأسه رافعا دفتره و بيده الأخرى قلمه

قال و هو يقلب لائحة الطعام

ـ حسنٌ إذن: ربع فراخ محمّر ـ لك يا عطاف ـ، و ربع آخر لي

و ماذا أيضا؟ ماذا يا جمال؟ نعم، لا بأس بقليل من السلطة.

و مدَّ لائحة الطعام إلى النادل

ـ و المشروب؟ قالها النادل بلهجة تفوح منها رائحة  البرم ممزوجة باشمئزاز مكتوم

ـ آه المشروب

و التفت الى عطاف:

تريدين مشروبا ربما؟ أنا أفضل الماء دائما، طبعا كما قد تحدسين لأسباب صحية، أظن أنك عرفت طبيعتي و وجهة نظري في هذه الأمور

لم تُجِبْه بل حتى لم تنظرْ إليه و ظلّتْ تنظرُ الى الشارع عبر الزجاج، زجاج النافذة

ـ إذن كوب ماء، ماء عادي من فضلك، فتلك الغازيات لا مكان لها على مائدتي، لا أعرف كيف يشربونها مع علمهم بكل ما فيها من ضرر

وا  وا،  و كأس عصير ليمون للآنسة

و فيما النادل يكتب بسرعة، مال هو على عطاف و همس لها: عما قريب ستدعين المدام، ها ها

ـ خمس دقائق و يكون كل شيئ حاضرا

قال النادل و دار منصرفا

نظرت هي إلى النادل و عاد جمال إلى وضعه الأول دون أن يسمع جوابا على خفة دمه

وعادت عطاف تنظر عبر الزجاج في كآبة

ـ آه، الله يلعنك يا شيطان، كيف نسينا ياسر؟ لماذا لم تذكريني؟

ـ أذكرك بماذا؟ أصلاً هو تغدى في البيت، و على كل حال هو أكله قليل، ألم يلفتك كم هو نحيف؟

لا تشغل بالك!

ـ ما من مشكلة سيأكلُ معي

ـ لا رغبةَ بي الى الطعام. لا أحب الأكل كثيرا.

قال الصغير ببراءة وهو يواصل اللعب على آيباده

ـ ماذا كنا نقول؟

أي نعم، كنا نتناقش في الحياة و القيم و لستُ أدري ماذا يسمونها… جيد

كنت تقولين الحياة الإنسانية تحتاج الى كذا و كذا و القيم و المنطلقات و مثل هذا الكلام، أنظري:

هذا الكلام طالما سمعناه و لا نزال، إذا كنتِ في المدرسة تسمعينه، في الكلية تسمعينه، في الجامع، في التلفزيون، في كلِّ مكان تسمعينه، لكنْ صدقيني مجرّدُ صفِّ كلمات، فلسفة فارغة، استعراض خطابي منمق، لا يلبث اذا ما تعرّضَ للإختبار أن يتكشف عن لا شيئ، بخار، نقش على الماء، كتابة في الهواء..

مزهوّاً واصل كلامه بطريقة المنتصر، و ظلت هي معتصمة بصمتها، ناظرة إليه نظرة من الواضح أنه لم يفهم منها شيئا و إلا لكان سكت من فوره

في الواقع لم تعد تسمع ما يقول، بالأحرى تسمع هسيسا (5)، فذهنها مشغول بالتأمل لا في مضمون الكلام أعني الهسيس بل في تقنيته و شكله

في داخلها صارت متأذية من كونها تفكّر فيه ك(رجل)، يعني حين تقول مثلا: هذا الرجل، أو على أنه بطريقة أكثر تحديدا (جمال)، تشعر بظلم القدر ، أستغفر الله، بل ظلم اللغة ، ما أسخفها و أطوعها هذه اللغة لأهواء البشر و رغباتهم الملتاثة

لماذا و كيف يُسمَّى أحدُهُم ـ و بكل سهولة ـ رجلا، و يدعى فوق ذلك جمالا و إن كنتُ أنا مثلا لا ألمس فيه شيئا من الرجولة و لا أرى فيه إلا دمامة قابضة قاتلة.

يقولون: اللغة مرآة، لا بأس، لكنّها مرآة مكسّرة مهشمة تكبر الصغير و تصغر الكبير و تقلب الأوضاع كلها رأسا على عقب

ألا بئست المرآة

ثم أنظري يا عطاف يا قليلة الحظ ما هذا الصوت الذي  يتكلم به؟

إنه يعذّبُ به من يستمع إليه

نبرة واحدة ما تتبدل، خفيضٌ صوتُه، ناعمٌ بلا روح بلا تدرجات بلا انفعالات

أشبه بصنبور ماء لامع جديد، و لكن حين تفتحه على آخره ينسرب لك الماء منه خيطا رفيعا جدا لا ينقع غُلة و لا يشفي علة، إذا أرت أن تبترد به في يوم قائظ لم يسعدك بأكثر من أن تمسح به وجهك مسحا، فلا هو ماء و لا هو زيت .

ثم يا بنت يا عطاف ما هذا الوجه الساكن الجامد الذي لا يعكس أيّ إنفعال، و هل هناك إنفعال أصلا لكي يعكسه؟

و ماذا عن الابتسامة البلهاء التي لا تفارقه؟

إن وافقك تبسم،  إن خالفك تبسم

أشبه بروبوت، بل أحيانا أشعر و بصدق بأن الروبوتات التي رأيتها في بعض الأفلام أعربت عن إنفعالٍ ب و تفاعل مع البشر بدا لي معه أنها تتواصل معنا، حتى خُيّلَ إليَّ أني أحببتها و تعاطفت معها .

أما المصيبةُ التي هنا فشيئ آخر لم يتفق لي أن رأيتُ مثلها في كلّ حياتي

يارب، يا إله العالمين، ما هذا الحظ؟ ما هذه المصيبة السوداء؟

يا الله، كنت أظن أيام الكلية أن (خليل) زميلنا أيقونة الوَخَامة و الغِلاظة،  تعالوا و أنظروا إلى تمثال الثقل و البلادة!

لو أنه يبقى متجهما أرحمُ مئةَ مرة من هذه الإبتسامة البلهاء التي تكاد تقتلني.

مهندس، يقولون مهندس، ألا فلتذهب كلُّ الهندسات إلى ستين جحيما

 

و حضر النادل بالطعام

و شع ّ وجهه بسرور مستفز

انتفخ خدّاه من هنا و من هناك اذ اتسعت ابتسامته، وارتفع صوته قليلا:

ها قد حضر الطعام، قالها بفرح ممزوج  بفخر، لكنه ليس من صنف ذاك الفخر المزهو اللائق بالواثقين من الرجال، بل من صنف آخر يصعب عليك تحديده بسرعة

و اعتدل في جلسته و إن كان دائما ما يجلسُ معتدلاً ، كصنمٍ وضعوه على كرسيّ، و رفع رأسه قليلا، و لمَ لا يفعلُ و قد حضر طعامٌ هو منْ طلبه، و المهمُّ أنه هو و لا أحد سواه من سيحظى بمجدِ دفع ثمنه

متهيئا للأكل وضع الفوطة على صدره، و نظرتْ هي إليه، و لم تدر لماذا شرعت تتساءل بينها و بين نفسها  بصدد جوهر هذا البني آدم الذي ألقَتْ به المقاديرُ في طريقها

و ما عرفته  الى اللحظة في هذا الوقت القصير أن المسكين .. شيئ ضائع بين الطفل البرئ الذي تشعر إزاءه بالمحبة و الرحمة و الرجل الناضج الذي تشعر معه بالثقة و الإحترام، فلا هو ممن يُحَبُّ و يُحنَى عليه، و لا هو ممن يُحتَرم و يُوثَق به

طيب، فما هو إذن؟ أهو طفل تلبسه شيطان ففقد براءته  و جماله و بقيتْ غرارته بلا براءة و بلا جمال فما تجد بُدًّا من أن تخافه و تنفر منه؟ كلا، هذه مبالغة مفرطة، فالرجل ليس من ذلك الصنف الشرير من البشر، إنَّ ما هو عليه ليس الشر و الإجرام، شيئ آخر كريه يبعث على الضيق و النفور

أم هو رجل  لم يشعر برجولته؟ بل لم يشعر مرة من الدهر بالمعنى المجرد للرجولة، فصار يمشي بين الناس في هيئة رجل فاذا دنوت منه و فتشته كنت كطاوٍ خُمصان قُرِّب إليه طعام فلما أصاب منه إذا هو كَفنٌ لا ملح فيه، تَفِهٌ مسيخ ٌ لا طعم له و لا ريح

إزاءه تشعر بالخواء و السآمة، حالةٌ إذا امتدت قليلا أورثتك الضيق بنفسك و الشعور بالتسطح ، أما لو قُدر لها أن تستمرّ فحتما ستقودك إلى الخبل و الجنون

من الناس منْ تشعرُ حين تقتربُ منه أنه غامضٌ، ملتفٌّ على ذاته، متشرنقٌ على نحو معقد جدا، صندوق مغلق على أسراره، أمّا صاحبنا هذا فليس من هذا النوع، يا ليته كان منه، إذن لشعرت بعمق ما، بمعنى، بشيئ يستحق التفحص و المتابعة، و لكن يا حسرة، ورقة بيضاء، طبلٌ أجوف

 

ـ  عَطّوف! عَطّوف! أين أنت؟

بهذه الكليمات أرجعها الى حيث هما، كليمات  رأتها هي سخيفة بالغة السخف : عطوف، سحقا لك و لعواطفك، تعرفها أنت العواطف؟ و الله ما لكَ بها من علاقة. قالت في نفسها، و تابعت: تستحق أن يٌكوى لسانك بالنار لتتعلم أن ترحم بسكوتك من ابتلاهم القدرُ بك

ـ عطووووف!

ـ نعم، سمعتُ، أين سأكون يعني، هنا

ـ لم تأكلي شيئا!

ـ لستُ جائعة، ثمّ أنت لم تفهمني أن الدعوة الى غداء، توقعتها دعوة إلى فنجان شاي أو كوب عصير

ـ أحببتُ أن أجعلها لك مفاجأة!

تحبين الشاي إذن، لا بأس، الآن أطلب لك شايا

ـ لا لا، لا أريد شيئا، سُدّت نفسي عن الطعام و الشراب جميعا، أكلتُ في البيت و شربت

ـ حسنٌ، لنكملْ نقاشنا إذن

و لم تردَّ هي بشيئ

ـ أعود فأقول لك بكل الصدق و الفهم:

الدينار أولاً ثم تتبعه سائرُ المهمات، أتظنين يا عطاف أن المُعدِم له شرف او كرامة؟

و هنا قهقهتْ في نفسها حتى خُيّل إليها أنّها تسمع ضحكتها تجلجل بين جدران ذاتها: أه أه أه أه أه، قال شرف و كرامة، و ما يدريه ما الشرف و الكرامة، شرف ماذا و كرامة ماذا؟

آخ، لأول مرة أشعر بالغيظ من اللغة و الغضب عليها  إلى هذه الدرجة

يا تبا لك أيتها اللغة كيف تسمحين لنفسك أن تبتذلك مثل هذه المخلوقات؟

لكن ما علاقتكِ أنتِ؟ ما ذنبكِ؟ أنت مجرد أنانية حقيرة لا تراعين حرمات الغير

هل أنتِ مَنْ انتُهِكَتْ حرمتُه؟ كلا، و لكنْ الشرف و الكرامة هما منْ انتهكت حرمتهما

يا حرام، الكرامة ـ أي نعم لأبدأ بالكرامة و لينتظر الشرف قليلا، ما المشكلة، فأنا أنثى و من حقي أن أتعاطف أكثر مع الإناث، بل هذا من واجبي في هذا الزمان الوسخ الذي تُظلم فيه الأنثى و تمتهن في بلاد حقيرة كهذه

ليقل لي عقلاء العالم و حكماء الدنيا ما الذي جرّأ مثل هذا المخلوق على أن يحاضر فيَّ أنا خريجةَ قسم الفلسفة حول القيم، ما الذي يفهمه هو و أمثاله في موضوع شديد التعقيد كهذا

ماذا يا عطاف؟ هل أُحسستِ بأن روحك الفلسفية أهينت؟

نعم، أحسست بهذا و بعمق، و لن أترددَ في قول هذا لنفسي، و للدنيا كلِّها إذا اقتضى الأمر

و الله إنّ لديّ عقلاً يزن ألفا من أمثال هذا ال…، ألفا؟ ألفا ماذا يا هبلة؟ قولي مليونا

تعسا لي، أصلاً المقارنة هنا غير واردة، تفاهة و ظلم المقارنة

مقارنة بين الصفر و الواحد؟ عبث

مهما كثرت الأصفار و تحالفت يبقى المليار منها كواحدها: صفرا، الصفر فقط يأخذ قيمته من الواحد

أعوذ بالله أنا أعطيه قيمة، لا و الله، ما دخلي أنا به، دعي أمه تعطه قيمة، حبيبها و مدللها

لِمَ أُحطِّمُ نفسي لأعطيه قيمة؟

كلا، لن أفعلَ ـ و شددت على النون وكزّتْ على أسنانها ـ لن أفعل و لو بقيتُ عمري كلَّه وحيدةً

نعم فلنعد إلى الكرامة

الكرامة المسكينة أليس من حقِّها أن تقع على كريم جدير بها لترتاح هي و تنسجم معه؟

لِمَ إذنْ يخلعونها على الرقيع و الحقير و اللئيم؟  و تحت ماذا ستتموّه الرقاعة و الحقارة و اللؤم؟ لم وُجدتْ هذه الكلمات؟

هذا هو الانتهاك لو كانوا يعلمون

هذا بالضبط منشأ الإنتهاك المادي الذي يجرمونه، إنتهاك الأعراض، يا سحقا لهم

ماذا عليهم لو تعلموا احترام هذه الكيانات الموقرة الباذخة: الكرامة ، الشرف ، الأمانة ، الصدق،  النبل ، العظمة …إذن  لصارت  حياتهم كريمة فخمة تليق بالبشر، بالآدميين، لكن يا حسرة، عبثٌ كلُّه عبث

و شعرت بالإعياء من كل هذا الجدل الجواني العنيف المتمرد فجنحت إلى استراحة ألفت نفسها معها تعود فتسمع ما يقول هذا الكائن، أعني الهراء الذي يقيئه و هو يظنه لبَّ لباب الحكمة و ذَوبَ التجربة

ـ المالُ يجعلكِ رقماً صعبا، رقما كبيرا يضئ بالفوسفور الأخضر من رأس جبلٍ عالٍ، رقم محكوم من حيثُ دلالتُه  على حيثيتك و اعتبارك في المجتمع بقوة أسية، و بالمناسبة أنت مجالك أدبي، تخصص فلسفة على ما أعتقد، وقد لا تدركين معنى القوة الأسية فلأشرحْها لكِ

ـ لا، شكرا، وفّر على نفسك التعبَ، فقد درسنا المنطق الرياضي و الرمزي و الوضعي و هذه أشياء تافهة بالنسبة إلينا

أُسية و فرعية و خرابيط . تمتمتْ تقول

واصل كلامه دون أن يقطعَ أكله، و هو فيما يعرض يتناول الطعام بطريقة تذكرك بطريقة إحتسائه القهوة

ـ ممتاز إذن، يعني هاتيك الفلسفة فيها بعض الفائدة، صدقيني يا عطاف إن الناس كلَّ الناس رغم أنهم يظلون يجادلون في هذه المسائل لكنه فقط جدال بالكلام

مجرد مواعظ: آيات و أحاديث و أشعار و حكايات عن ضرورة الزهد و التحذير من فتنة المال و لا أدري ماذا عن الأغنياء و أنهم يحاسبون طويلا يوم القيامة و يدخلون الجنة متأخرين جدا، بشق الأنفس يدخلونها ، و مثل هذا الكلام الذي نسمعه من يوم كنا، لكنهم عمليا، كلَّهم  بلا استثناء يصادقون على كلامي بألف دليل و دليل

أُتركي هذا، دعيك منه، و هيا قولي لي: ألم تلحظي أن الأغنياء قليلا ما يحلفون بالله؟ بعكس الفقراء و المعثرين، نصف كلامهم حلف، لماذا؟ واضح، الأمر واضح، الغنيُّ لا يحتاجُ الى الحلف فكلامه أياَ كان مصدّقٌ عند من يسمعه، أما الفقير فرغم كل الأيمان المغلَّظة و الأقسام الموثقة يظل الناس يرتابون في كلامه

أيضاً ألم تلاحظي أن الأغنياء قلما يتحدثون عن الكرامات و العين و الحسد و السحر و مثل هذه المسائل، في حين يدور جُلُّ إنْ لم يكن كلُّ حديث الفقراء على هذا النوع من المسائل، لا حديث لهم سواها

لمَ نذهب بعيدا؟ خذي إليك هذا المثل: الرجل الناجح المحظوظ الجالس أمامك الذي هو أنا أترينه؟ لعلك تتساءلين عن سرِّ نجاحه و تبريزه

ـ لا، ما تساءلت. قالت و قد بدأ كأسها يفيض

ـ ما من مشكلة، لنفترض أنك تساءلت بهذا الخصوص، و على كل حال كأيَّن من رجل و امرأة سألوني عني و عن نجاحاتي، مئات ممكن، ليس عشرات، فإليك الجوابَ :

عاجلته فلم تتح له فرصة أن يلتذ بالحديث النرجسي عن نفسه، قاطعته بنية أن تنغص عليه قليلاً جزاء ما عذبها هذا الوقت كله مذ جلسوا، شاعرةً بأنها إن عادت الى دارها دون أن تفعل فستنشقُّ  من الغيظ

ـ ـ عندي سؤالٌ آخر لو سمحتَ

ـ تفضلي!

ـ  أنت ما شاء الله عليك مهندس وموظف في أكبر شركة، و أكيد مُرَتّبُك ممتاز

ـ هل تودّين أن تعرفي كم يبلغ مرتبي الشهري؟ و هو بالمناسبة سرٌّ لم أُطلع عليه أحدأَ إلا أُمي

ـ و ما شأني أنا بمرتبك، أرجوك لا أريد أن أعرف، فليس في الأمر ما يعنيني بالمرّة

ـ أنتِ و ما تريدين

تابعي، ما هو سؤالك؟

ـ أقول أنت مهندس و وضعك ممتاز فلمَ إذن لا تتوفّرُ على سيارة إلى الآن؟ سؤال تردّدَ في رأسي كثيرا

ـ ها ها هأ هأ ، سيارة؟ قد اشرتُ قبلاً إلى أن المسألة لها علاقة باللياقة و النشاط

و هنا أنزل الفوطة عن صدره و مسح فمه بها ثم كفيه، و نظرت فإذا الطبق نظيف تماما ليس فيه إلا بعض العظام النحيفة، بيضاء للغاية، فقد تعرَّقَها حدَّ النظافة التامة (6) و تابع:

لاحظتُ من زمن أن زملائي الذين يمتلكون سيارات قد سمنوا و ثخنوا و فقدوا لياقتهم، ناهيك عن الأمراض و مشاكل الصحة على اختلافها و كثرتها و ..

ـ آمنَّا، لكن هذا فيما يخصك، فما ذنب أمك السيدة الكبيرة أن تمشي كّل ذاك المشي في كلّ مرة؟ و قد رأيتها أمس بنفسي تلهث من البهر، و سمعتها تشكو التعب

ـ تعرفين هذه طبيعة النساء يحببن التشكي و الإلتياع

و أمي متفقة معي تماما في أن المشي صحيٌّ و ضروريٌّ

 

ـ ضروري! من يدري؟ ممكن

لكن ماذا حين ترزق بأولاد صغار؟ هل ستمشي بهم و في كلِّ الفصول، في ريح الخريف العاصف و برد الشتاء القارس، في الحر اللاهب، تحت المطر و في ظلمة الليل؟ أم هل ستقف على المحطة تنتظر الباص و تركب في الزحام تجرجر زوجتك و صغارك وراءك؟

ـ أمّ، هأا، مأمأ وهأهأ و قلب شفته السفلى و رفع كفّه اليمنى بمحاذاة وجهه جاعلا بطنها لوجه عطاف، و ثنى عنقه و قال:

يبدو أنني سأفكر في الموضوع من هذه الزاوية

لكن ليس قبل أن يرزقنا الله بالصغير الحبُّوب

ـ من فضلك! تكلّم عن نفسك، يرزقك أنت، فلمَ تدخلني معك؟

ـ ماذا تعنين؟

نهضتْ واقفةً :

ـ لا أعني شيئا، فقط أريدُ العودةَ إلى الدار

ـ كما تريدين يا عطوف، غرسون الحساب من فضلك

ـ أربعة عشر دينارا و ستون فلسا

ـ ماذا؟ أرني الورقة!

و خطفها من يد النادل و جعل يدور ببصره عليها كمن مسّه طائف من الشيطان، ثم قال:

ـ دينار و أربعون فلسا ثمن الماء؟ هذا نصب و احتيال، نصب مكشوف، مفضوح، أين المدير؟ أريد  المسؤول؟ و علا صوته، و عاد يخاطب النادل:

ـ  ثم ألم تلحظ يا محترم أنّ طبق الآنسة ظلّ كما هو لم تمسّه،  من المؤكد أنها قذرت مطعمكم و طعامكم هذا، أين المدير؟ يظنون الناس بُلهاً مغفلين، أنت أمام مهندس يا سيد يا محترم!

و لم تصدق عطاف ما يجري، أهي في حلم أم في يقظة؟ يا للفضيحة، فتانِكِ السيدتان هناك وضعتا أيديهما على أفواههما تضحكان

يا الله ما الذي حلّ بي

و ها هي ذي السيدة الجالسة عن يميني تميل على زوجها و تُسرُّ اليه بكلام و تشير بإصبعها نحونا، يا لَلْكسوف، يا لَسواد الوجه

و أقبل المدير و معه رجل طوالٌ صارم متجهم يترجح أن يكون أحدَ الحرّاس، و آثرت عطاف أن تنأى قليلا فمشت خطوتين تاركة هذه الساحة السوريالية لبطلها الفذ، وقفت مع أخيها على بعد خطوات من المخرج، و كُسورُ مشاهدَ و أبعاضُ أحاديثَ تتعاركُ و تتداخل بعبثية و انفلات في دماغها المثقل

و إنْ كانت إلا دقائقَ لم تَطُلْ حتى رأته منتصباً إلى جانبها و قد فارقته هذه المرة ابتسامته البلهاء

و طلّتْ سحنةٌ جامدةٌ،  وعاد وجهه وجها لتمثال شمع  بلا تضاريس كالتي يتوفر عليها البشر، تخفقُ أن تقرأ فيه شيئا له معنى

و سارت إلى دارها ملتاعةً محزونة، فالأمل العريض الذي رسمته في خيالها حبا كبيرا لرجل نبيل تفخر به بقدر ما تحبه و تهواه تلاشى بسرعةٍ صاعقةٍ و آض (7) سحابةً من قتامة

ألا ما أتعس حظي و أخيب أملي

قالت في نفسها

و نزلت دمعتان حرّاوان على وجنتيها و هي تفتحُ بابَ الدار

 

بعد العصر من يوم الغد و كان يوما مُصحِياً رائعا، طرق  الصغير ياسر باب أم جمال، فتح هذا الأخير الباب:

ـ ياسر! أهلا و سهلا حبيبي، تفضل!

ـ  شكرا، فقط جئتُ لأبلغك كلمةً من أبي و أمي و.. وعطاف

و افترَّ جمال (8)  و لمع البِشرُ في عينيه  :

ـ أكيد بخصوص موعد عقد الزواج، أليس كذلك؟

ـ يقولون لك: كلُّ شيئ قسمةٌ و نصيبٌ.

و سكت لحيظةً

و كأنما بحجر صوان أهوى رجل طويل شديد بتمكن و بلا تردد على جانب رأس جمال من هذه الناحية: طًقْ

ثم أكمل الصغير:

و تقول لك عطاف : الله يرزقك ببنت الحلال و يسعدك، و القلب داعٍ لك

طَقْ، بالحجر نفسه على الجانب الآخر من دماغه

فغر فمه، و كما الأبله:

ـ كيف؟ ماذا؟

ـ هكذا، هذا ما قالوه، السلامُ عليكم

و دار الولد على عقبيه و هرول راجعاً

 

صَفقَ صاحبُنا  بابَ الدار هوناً، و انقلبَ و ليس في ذهنه و لا على لسانه سوى كلمة ( السحر)

و هل غير السحر؟

ـ ماما ماما..يَمّا

ـ نعم يا حبةَ عيني

ـ الشيخ، الشيخ، …الشيخ  سلامة

ـ ما له يمّا؟

ـ كذابٌ، ضحك علينا

لم يفكَّ السحر

 

(1) أي انحسر شعره عن جانبي جبهته.
(2) لا تكتب ياء المخاطبة إلا مع فعل الأمر و المضارع و تكتب فيما عدا ذلك كسرةً.
(3) ياسر اسم يصرف و يمنع من الصرف، فان كان اسم فاعل صرف و ان كان على وزن الفعل لم يصرف.
(4) يراد بالعمل في مثل هذا السياق ما يعمل من حجاب أو سحر و نحوه.
(5) الهسيس الكلام الخفي الذي لا يفهم.
(6) تعرّق العظم و اعترقه اذا أخذ اللحم عنه نهشا بأسنانه.
(7) آض يئيض أيضا عاد و رجع.
(8) الافترار هو أقل الضحك و أحسنه.

 

 

 

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقات 4

اترك رد

  • وما ادراك يا عدنان ما تشعر به الفتات في مثل هذا الموقف الذي يحسدها عليه الكثيرون و اولهم ام جمال ،لا شك انك لم تقع في مثل هذا يوما لا من قريب ولا من بعيد ..وعرفت كل شيء لله درك.

  • قصه اكثر من رائعه، واقعيه تصف حال البعض في مجتمعاتنا. تشبيهات جميله تفوق الوصف، جعلتني اتخيل الموقف امام عيني لحظه بلحظه. كان الله في عون من هم على شاكله (جمال) ممن غُلِبو على امرهم بتصديقهم لكذبهٍ اختلقوها. ابدعت استاذي الفاضل، حفظك الله وسدد خطاك.

%d مدونون معجبون بهذه: