د.سهيلة زين العابدين كاتبة سعودية
د.سهيلة زين العابدين
كاتبة سعودية

مراجعات على برنامج صحوة.. حلقة 22 “توظيف الدين لخدمة السياسة” (13).. الكلاسيكية الأغريقية وأثرها على الأدب العربي

أواصل مراجعاتي على برنامج صحوة الرمضاني الذي أذيع في قناتي روتانا خليجية ومصرية، وقّدمه الدكتور أحمد العرفج وضيفه الدائم المفكر الدكتور عدنان إبراهيم.

ومراجعاتي في هذا الجزء ستكون تكملة حول ما أثير في مداخلة الحلقة عن الأدب الإسلامي، وتعليق الدكتور عدنان إبراهيم عليها بقوله:” الإسلاميون خاضعون لوهم الاكتفاء، ويظنون أنّه بما أنّ هذا الدين كامل إذا نحن يمكن أن نبني سياسة واقتصاد وعسكرية إسلامية ، وإدارة إسلامية ، وأدب إسلامي ..، وممّا قاله إنّ مشروع الأدب الإسلامي أجهض، وكل هذه الأوهام ما هي إلّا فقّاعات..”

وقد بيّنتُ في الأجزاء السابقة ما حواه القرآن الكريم من آيات بيّنت أسس الحكم والاقتصاد، والموارد المالية، والعسكرية في الإسلام، وتنظيم قتال المعتدين، ومعاملة أسراهم، إضافة إلى ما حواه من علوم كعلم الأجنة وخلق الكون والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وعلوم أعالي البحار وجغرافية وفلك وإدارة، وتفسير لحركة التاريخ، ممّا يؤكد أنّ كل هذا كان حقيقة، وليس وهمًا، ولا فُقّاعة.

وبيّنتُ في الحلقة الماضية موقف القرآن الكريم من الكلمة الطيبة والخبيثة ومن الشعر، وتوقفتُ عند المذاهب الغربية وأثرها على الفكر العربي، وسأتحدّث في هذه الحلقة عن  الكلاسيكية الأغريقية وأثرها على الأدب العربي.

الكلاسيكية الأغريقية

وهي قائمةُ على تعددِّ الآلهة، والصراعِ بينها، وصراعِ الإنسانِ مع القوى الإلهية، وجعْلِ هذا الصراع هو الغاية العليا من خلق الإنسان، وهي أقدمُ المدارسِ الأدبية الغربية، ولقد نشأت هذه المدرسةُ في فرنسا خلال المدة الواقعة بين عام 1630ـ 1660م، والسببُ في نشأتها أنَّ كبارَ الأدباءِ الفرنسيين عندما قرأوا الآثار الأدبية لقدماءِ اليونان والرومان ، ووازنوا بينها وبين فنونِ الشِّعرِ الشعبي ، وأدباء القرون الوسطى بهرتهم  الآثار القديمة لهوميروس وأرسطو، وأرادوا أن يسيروا على نهج أرسطو ،وأرسطو ينطلق من تصورهِ الوثني لله عزَّ وجل والإنسان والكون والحياة ، وبدأ الأدباءُ الغربيون في استلهام أساطير العالم القديم، وكلُّ الدلائل  تشير إلى أنًّ استخدامَ الشعراء العرب، وتوظيفهم للأسطورةِ جاء نتيجة تأثرِهم الواضح والمباشر بالكُتَّابِ الغربيين، وهذا التأثر جاء من رواد حركة التجديد ، ومن هؤلاء الأساتذة   المازني، وعبًّاس محمود العقًّاد، وهما يمثلان مدرسة الديوان، وأحمد زكي أبو شادي ، وعلي محمود طه ، وهما يمثلان تأثيرات ما يسمى بمدرسة أبولو[1]، وأبلو اسم إغريقي واختيار الجماعة لهذا الاسم يتناقض مع أهدافها وثورتها على القديم ودعوتها إلى الجديد ؛ إذ يقول أبو شادي في افتتاحية العدد الأول من مجلة أبولو(وكما كانت الميثولوجيا الإغريقية تتغنى بأبولو للشمس والشعر والموسيقى ، فنحن نتغنى في حمى هذه الذكريات التي أصبحت عالمية )

إذًا ثورة أبولو على القديم العربي لتجدد القديم الإغريقي فحملت اسمًا إغريقيًا بدعوى أنَّه اسم عالمي يتلاءم مع صيغتها،  كما علل الدكتور أبو شادي سر اختيار اسم “أبولو”، وهذه أولى بذور التأثر بالثقافة الغربية في شعرنا العربي”[2]” .

ولم يتوقف هذا التأثر عند هذا الحد ؛ إذ نجد أصحاب هذه المدرسة، وكذلك مدرسة الديوان، وأيضًا الشاعر إلياس أبو شبكة الذي يمثل المدرسة الرومانسية العربية، ومن بعده الشاعر بدر شاكر السيًاب قد استخدموا الإشارات الأسطورية الإغريقية والرومانية، والدينية مقلدين في ذلك الشعراء الغربيين”[3]“.

هذا وإن كان المازني والعقَّاد قد أدخلا الأساطير الإغريقية والرومانية والفرعونية في شعرهما نجد إلياس أبو شبكة وبدر شاكر السيَّاب قد أدخلا في شعرهما أساطير الكتاب المقدًّس بعهديه القديم والجديد، فبالنسبة للسيًّاب فلقد شكًّل الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد أصلًا خصيصًا من أصول السيَّاب الأسطورية، وبخاصة ما كان قائمًا من قصصه الديني على فكرة الفداء والتضحية والمعجزات”[4]“.

أثر الأسطورة الإغريقية على أدب توفيق الحكيم

ولم يقتصر التأثير الإغريقي على هؤلاء الرواد من الشعراء؛ إذ امتد إلى أكبر رواد المسرح في عالمنا العربي الأستاذ توفيق الحكيم ؛ فإنَّنا  نجد للأسطورة الإغريقية مكانًا بارزًا في مسرحه ،فلقد بلغ عدد مسرحياته الأسطورية خمس مسرحيات هي “إيزيس”، و”الملك أوديب” ، و”براكسا ” أو “مشكلة الحكم”، و”بجماليون” التي تضمنت ثلاث أساطير في آن واحد ، ومسرحية شهرزاد .

كما نجد موضوعات بعض مسرحياته مقتبسة من أساطير إغريقية كمسرحية السلطان الحائر التي اقتبسها من أسطورة “اختيار هيرقليس” ، ومسرحية” الطعام لكل فم” التي اقتبسها من الأسطورة الإغريقية القديمة التي صاغ منها ايسخلولوس في القرن الخامس قبل الميلاد ثلاثيته المشهورة “الاريسا” واقتبس من أسطورة بجماليون في المقطوعة التمثيلية “الحلم والحقيقة”[5].

ونلاحظ عند توقفنا عند مسرحيات الأستاذ توفيق الحكيم الدينية نجده في مسرحية أهل الكهف قد    أبعد النص القرآني لهذه القصة، واعتمد في كتابتها على المصادر التالية:

1-مصنفات التاريخ المسيحي.

2- التوراة.

3-كتاب الموتى.

4- الأناجيل الأربعة .

كما نجده حشر الأسطورة اليابانية “أسطورة النوام السبعة” ، ويعترف الأستاذ توفيق الحكيم أنّه في قصة “أهل الكهف ” قد تأثر بالاتجاه الإغريقي، فذكر في مقدمة مسرحية “الملك أوديب ( كان الذي قصدته من وضع أهل الكهف هو إدخال عنصر التراجيديا في موضوع عربي إسلامي ،التراجيديا بمعناها الإغريقي القديم الذي احتفظتُ به : الصراع بين الإنسان وبين قوة خفية هي فوق الإنسان )”[6]“.

إنَّ صراع الإنسان مع الإرادة الإلهية يمثل العقيدة الوثنية للإغريق؛ لأنًّ للإغريق آلهة كُثر، هم صنعوهم، وهم يحاربونهم.

وقد هدف الأستاذ توفيق الحكيم من مسرحياته الأسطورية الآتي:

1-إحياء التراث الإغريقي الوثني.

2-تجريد آلهة الإغريق من الشر.

3- ترسيخ العقيدة الإغريقية القائمة على صراع الإنسان مع القوى الإلهية هي الغاية العليا من خلق الإنسان.

4-الاعتراض على قضاء الله وقدره ، وعدم التسليم له ،ويتمثل هذا في إصرار أوديب على استمرار علاقته الزوجية بِ”جوكاستا” حتى بعدما علم أنَّها أمه.

والأخطر من هذا أنَّنا نجدُ الأثرَ الإغريقي بدا واضحاً على فكره، ففي كتابِه التعادلية جعل مهمةَ الإنسانِ في الحياة محاربةَ القدرةِ الإلهية فيقول في موقفِه من حريةِ الإنسان” الإنسانُ عندي حرُّ في اتجاهِه حتى تتدخلُ في أمرِه قوى خارجيةٌ اسميها أحيانًا القوى الإلهية ، حريةُ الإنسانِ عندي إذن مقيدةٌ شانها في ذلك شأنُ حرية الحركة في المادة”[7]،ويستطردُ قائلًا : ”  وقد حاولتُ تفسيرَ موقفي من حريةِ الإنسان ووحدانيتِه .. فقلتُ في كتابي “فن الأدب”:

” هذا الموقف من قضيةِ العصرِ قد وقفتُه وتأملتُه .. فالإنسانُ عندي ليس إلهُ هذا العالم .. وهو ليس حرًا ولكنَّهُ يعيشُ ويريدُ ويكافحُ داخلَ إطارِ الإرادةِ الإلهية ..هذه الإرادةُ التي تتجلى للإنسانِ أحياناً في صورٍ غيرِ منظورةٍ من عوائقَ وقيودٍ على الإنسانِ أن يكافحَ لاجتيازها والتغلبِ عليها”[8]، ثُمَّ يقولُ : ” إنَّ قضيةَ العصرِ اليوم وهي التي تقومُ على حريةِ الإنسانِ سواءً باعتبارِه فردًا أو باعتبارِه جماعةً إنَّما تتحدُ وتتلاقى في أمرٍ واحدٍ هو إنكارُ اللهِ ..إنكارُ القوى غير المنظورة التي تؤثرُ في مصيرِ الإنسانِ ، ثُمَّ يقول : ” …إنَّ فكرةَ الشَّعُورِ بالقوى الأخرى التي تواجهُ الإنسانُ وتؤثرُ في إرادتِه وحريتِه تدفعُ به في نهايةِ الأمرِ إلى أنْ يحشدَ غرائزَ حربِه ونشاطِه وكفاحِه لا ضدَّ هذه العوائقُ المستترة ، هذه القوى الخفيةُ …فالشَّعُورُ بعجزِ الإنسان أمامَ مصيرِه هو عندي حافزٌ إلى الكفاحِ لا إلى التخاذل.. “أهلُ الكهف” كافحوا ضد الزمن .. ولبث أحدُهُم متعلقاً بالحياة يقارعُ الزَّمنَ بسيف بتَّار ،هو القلب إلى آخر لحظة “وشهرزاد “جاهدت محاولةً أن تردَّ إلى الصَّوابِ زوجَها الذي أراد أن ينبذ أرضَه وآدميتَه ، وأن تُعيدَ إليه إيمانَه ببشريته ..و”سليمان” جاهدَ ضدَّ إغراءِ القدرةِ التي كادت تخرسُ صوتَ الحكمة .. وهكذا كان الإنسانُ عندي، يجاهدُ دائمِا ضدَّ العوائق الخفية التي شعر بتأثيرِها في حريته وإرادتِه ومصيرِه .. ” [9]

هذا بالحرفِ ما قالَه الأستاذُ توفيق الحكيم في كتابِه التعادلية، وهو يعبرُ في هذا عن عقيدةِ الإغريق في صراعِ الإنسان مع القوى الإلهية، وهنا ابتعدَ الأستاذُ توفيق الحكيم عن التصور الإسلامي عندما جعل مَهمَّةَ الإنسانِ في الحياة الدنيا هي محاربةُ القوى الإلهية، فاللهُ سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليس لمحاربتِه ،وإنَّما لعبادتِه (وما خلقتُ الجنَّ والإنسَ إلاَّ ليعبدون)،فمهمةُ الإنسانِ العليا هي عبادةُ الله، وما يعترضُه من عوائق وعقباتٍ هي بمثابةِ امتحانٌ وابتلاء على الصَّبرِ على طاعتِه عن معصيتِه ، وقدرتِه على آداء أمانةِ الاستخلاف التي كلَّفه الله بها.

كما نجدُه اعتبر هناك قوى خارجية غير القوى الإلهية، وذلك عند قوله : “عندي الإنسان حر في اتجاهه حتى تتدخلَ في أمرهِ قوى خارجية أسميها أحياناً القوى الإلهية ،كما نجدُ الأستاذُ توفيق الحكيم قد تأثر بالفيلسوفِ الروسي نيتشه عندما ذكرَ أنَّ القوى الخفية ” القوى الإلهية” تضعُ عوائقَ أمامَ الإنسانِ أن يجاهدَها ويكافحَها ويحاربَ ضدَّهَا ، وهذا المعنى نجدُه عند نيتشه في حملهِ على فكرةِ الألوهيةِ لكونها في نظرهِ عقبةً تحولُ دونَ تأكيدِ الإنسانِ لذاتِه.

كما نجدُ التأثيرَ الوثني الإغريقي على فكرِ الأستاذ توفيق الحكيم في كتابه” راقصة المعبد”؛ إذ يوجدُ نصٌ بين أيدينا يبين لنا هذا التأثير فلنقرأ ما كتبه الأستاذ توفيق الحكيم :

“صرتُ على غير هدى في حانات باريس وملاهيها حتى الهزيع الأخير من الليل.. ولم أجرؤ على العودة إلى السكن قبل الساعة التي قَدَّرت أنَّ النومَ يقْهَرُني فيها قهراً ، ودخلتُ فخلعتُ ثيابي لتواً .. وألقيتُ بجسمي على الفراش ، وأغمضتُ عيني ،واستعنتُ بعزيمةٍ ماضيةٍ على طلبِ النُّعاسِ تخيل إليَّ أنَّي نجحتُ . فلقد رُحتُ في إغفاءةٍ عميقة ..ومضى وقتٌ لستُ أدري أهو دقيقة أم ساعة ،وإذ أنا انتفضُ انتفاضةً أيقظتني، وكأنَّما شيءٌ قد وخزني في قلبي فقمتُ أصيحُ في جوفِ الظلام : يا إله الفن .. لماذا تفعل بي ذلك ؟ لماذا تصنع بي ذلك دائماً ) ثُمَّ يقول :

“يا إله الفن يروقُ لك دائمًا أن تجرحَ وتُذِّلَ هذا القلبِ الذي هُيء لخدمتك ؟ وغرقتُ في الصمت .. كلمةُ “إله الفن” مازالت تطنُّ في أُذُني ، كأنَّ لها حقيقةً واقعة .. وطفقتُ أرددُ : إله الفن ..إله الفن .. إله الفن .. نعم إنَّه وحدُه الذي أتوجُّه إليه مستجيراً من أثقالِ حياةٍ يقودُها بالسلاسلِ في موكبِه الحافل “…ونظرتُ أمامي في الظَّلامِ .. وقلتُ …إنّك في المعبد ـ آه لو ألقيت إليَّ نظرةً من فوقِ عرشك ..)

ثُمَّ يقول: ( ثُمَّ هنالك في بناء المهرجان الفشسبتيل هاوس حيث شاهدتُ أوبرا “ادرمينوس “،و ” ايرودريس” ،و”تريستان” ، و “ايزولت ” لمحتُ أيضًا حركات تصفيق خفية من يدي إله الفن ..وفي كنيسة “سان بيتر” حيث أصغيتُ إلى الحان موزار الدينية .. فحرتُ وتساءلت : أترى عبقرية موزار هي التي خدمت الكنيسة ..أم الكنيسة هي التي أظهرت عبقرية موزار ؟ هنالك أيضاً شعرتُ كأن إله الفن كان حاضراً ينثر على تلك الأنغام الملائكية ابتسامة الرضا. …)

ويقول الأستاذ توفيق الحكيم ” إنِّي موقن بأنَّ إله الفن كان مني غير بعيد أمام كل هذه المظاهر الفنية العظيمة ..آه ولكني أريد أن أراه الساعة وجهًا لوجه لأجثو عند قدميه وأشكو إليه “

هذا ونجد الأستاذ توفيق يصفُ رقصاتِ سالومي بأنَّها رقصاتٌ إلهية!…

ثُمَّ يقولُ الأستاذُ توفيق ” ..وصحتُ عندئذ صيحة مدوية التفت إليها إله الفن قائلاً : من هذا؟ فرفعتُ صوتًا قاصفًا : لماذا تفعل بنا هذا؟ فنظرَ إليَّ حيثُ أقفُ وقال: عبدٌ يعترض ؟ فقلت في .. وإطراق : حاشا أن أعترضْ …إنَّما أسألُ عن العلِّةِ …وأطلبُ أن أفهمَ الحكمةَ فأجابَ في هدوءٍ وجلال ،أنتمْ جميعًا في خدمتي أنتم لي ، وما ملكتْ أيديكم… أنتم رقيقٌ مشدودُ إلى عجلتي …لكم أن تنظروا إلى راقصاتِ معبدي .وأن تتأملوا جمالَهُنَّ …وأن تلتقطوا أزهارَهُنَّ ..وأن تستلهموا حسنَهُن وحبَّهُنَّ .ولكن أذكروا دائمًا أنَّهُنَّ لسنَ لكم …” إلى أن يقول : ” فأطرقتُ ملياً … وقلتُ مخاطباً نفسي ..نعم..نعم ، ثُمَّ التفتُ إليه وأنا أخرُّ ساجداً مستفسرًا عفوك ..لقد نسيتُ أمر هذه من عملِنا وأن تفصيلَ أرديتِك في حاجةٍ إلى كل هذه الأدوات”[10]

وبعد قراءتنا لهذا النص أسألُ القراء الكرام : ما الفرقُ بين هذا النصِ وبين أيةِ أسطورةِ إغريقيةِ وثنية؟

فكما ترون لقد صنعَ الأستاذُ توفيق الحكيم إلهاً للفن بعبدُه ويسجدُ له ، ويحاورُه ويعارضُه ثمَّ يستغفرُه ويتوبُ إليه ، وهذا الإلهُ له معبدٌ وراقصات…الخ

ولعلَّ هذا النَّصَّ يفسرُ لنا أهدافَ الأستاذِ توفيق الحكيم من أحاديثِه الأربعةِ إلى اللهِ أو مع الله ،فالتأثيرُ الإغريقي الوثني باقٍ وظاهر ، يوضحُه حوارَهُ مع اللهِ ،ويؤكدهُ هذا النَّصُّ الذي بين أيدينا.

ولم يتوقفْ التأثيرُ الإغريقي الوثني على فكرِ الأستاذ توفيق الحكيم عند هذا الحد ؛إذ نجدُه جعلَ من الشَّيْطانِ شهيدًا وذلك في قصةٍ أسماها الشهيد، وفيها يعلنُ إبليس رغبتَه في التوبةِ ، فيذهب إلى البابا في ليلةِ ميلادِ المسيحِ مبدياً رغبتَه في التوبة ،فيرفضُ توبتَه ،فيذهب إلى حاخام اليهود ،ولكن يرفض دخولَه في اليهودية لأنَّ اليهودَ ليس من عاداتهم دعوةُ الغير إلى دينهم ، فيذهب إلى شيخ الأزهر فيستقبلُه ، ويُصغي إلي قولِه ،ثمَّ يقول له : إيمان الشَّيطانِ عملٌ طيبٌ ،ولكن إبليس  ..ويقول الأستاذ توفيق ،ويرفضُ شيخ الأزهر طلب إبليس معللاً رفضه بقوله : ( وتأمل شيخ الأزهر العواقب .. لو أسلم الشَّيطانُ فكيف يُتلى القرآن ؟ هل يمضي النَّاسُ في قولهِم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ؟ لو تقرر إلغاءُ ذلك لاستتبع الأمرُ إلغاءَ أكثر آيات القرآن .. فإنَّ لعنَ الشَّيْطانِ والتحذير من عملِه ورجسِه ووسوستِه يشغلُ من كتابِ اللهِ قدْراً عظيماً كيف يستطيع شيخُ الأزهر أن يقبلَ إسلامَ الشَّيْطان دون أن يمسَّ بذلك كيانُ الإسلام كله)

ويصوَّرُ الحكيم حالَ إبليس بعد ذلك بأنَّه توَّاقٌ للخيرِ والإيمان، وصعدَ إلى جبريل عليه السلام ،وجبريل حرَّم عليه التوبة .…وختم قصتَه بقولِ إبليس “إنَّي شهيد…إنَّي شهيد “[11].

هذه القصة تتنافى مع ما جاء في قوله تعالى في سورة ص ( قال إبليسُ ما منعكَ أنْ تسجدَ لما خَلَقْتُ بيدي أستكبرتَ أمْ كُنْتَ مِنَ العالِين .قال َ أنا خَيْرُ مِنْه خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلقْتُهُ مِنْ طِينٍ . قالَ فاخْرُج مِنْها فَإنَّكَ رَجِيم. وإنَّ عليكَ لعنتي إلى يومِ الدِّين .قالَ ربِّ فانْظِرني إلى يومِ يُبْعَثُون .قالَ فإنَّك مِنَ المُنْظِرين إلى يومِ الوْقتِ المعلوم . قالَ فَبِعِزَّتِكَ لأَغْوِيَنَّهُم أَجمعين .إلاَّ عِبَادكَ مِنْهُم المُخْلَصِين. قال فالحقُّ والحقُّ أقُول . لأملأنَّ جَهنَّم مِنْك وَمِمنْ تَبِعكَ مِنْهُم أَجمَعِين.)[12]

كما نجد الأستاذ توفيق الحكيم جعل البابا وحاخام اليهود وشيخ الأزهر كأنّهم آلهة يقبلون توبة الشيطان أو يرفضونها.

كما نجدُه يسخرُ من القرآن في مبررات رفضِ شيْخِ الأزهرِ لتوبةِ الشيطان، وينفي عن الخالقِ علمه الغيب.

ونجدُه يصوِّرُ الشيطانَ أنَّ لديه نزعةَ خيرٍ وتوَّاقًا لفعل الخير ،وصوَّر الشيطانُ أنَّه مظلومٌ مع أنَّ الشيطان شرٌ مطلقٌ عدو للبشرية إلى أن تقوم الساعة.

أثر الأسطورة على الأدب العربي

واعتمادُ معظمِ رواد الأدب العربي للأساطير الإغريقية في أعمالهم الأدبية كان له الأثر السلبي والخطير على الأجيال التالية لهم من الأدباء والشعراء ؛ إذ تجاوز هؤلاء الأدباء والشعراء أخلاقيات الكتابة الأدبية،  بل تجاوزوا كل الحدود ، عندما نالوا من الذات الإلهية ،وأساءوا إلى أنبيائه.

فها هو صلاح عبد الصبور يعود إلى الوثنية بقصيدته ” الإله الصغير” فيقول فيها :

كان لي يوماً إله، وملاذي كان بيتُه

قال لي “إنَّ طريقَ الوردِ وَعْرٌ فارتقيتُه

وتلفَّتُ ورائي،   وورائي      ما وجدتُه

ثُمَّ أصغيتُ لصوتِ   الريحِ تبكي، فبكَيتُهْ

ذاتَ يوم، كنتُ ارتادُ الصحاري ، كنتُ وحدي

حين أبصرتُ إلهي، أسمرَ الجبهة،   وردي

ورقصنا وإلهي للضحى، خداً …لخد

ثُمَّ نِمنا  ، وإلهي بيْنَ أمواج ٍوورد”[13]“

أمَّا أمل دنقل فلقد مجَّد الشيطان لنه قال” لا” لرب العباد ،وذلك في قصيدته “كلمات سبارتكوس الأخيرة”التي يقول فيها:

المجد للشيطان …معبود الرياحْ

من قال “لا” في وجه من قالوا “نعمْ”

من عَلَّم الإنسانَ تمزيقَ  العدمْ

من قال “لا”… فلم يَمُتْ؛

وظلَّ رُوحاً أبدية الألمْ”[14]“

أمَّا أدونيس فيقول في قصيدة أسماها “الإله الميت”:

اليوم حرقت سراب السبت  سراب الجمعةْ

اليوم طرحت قناع البيتْ

وبدلتُ إله الحجر الأعمى وإله الأيام السبعةْ

بإله ميتْ”[15]“

ويقول في قصيدة ” الخيانة”

وأنا ذلك الإله -الإله الذي سيُبارك أرضَ الجريمة .

إنَّني خائنٌ أبيع حياتي

للطريق الرجيمة،

إنَّني سيد الخيانة”[16]“.

ويقول في قصيدة “موت “:

نموت إن لم نخلق الآلهة ،

نموت إن لم نقتل الآلهة.”[17]“

وقد أعلن كرهه لله في ” مجنون بين الموتى”؛ إذ قال على لسان أحد الأصوات:

أكره النَّاس كلهم أكره الله والحياة”[18]“

ويقول في” لغة الخطيئة”

أعبر فوق الله والشيطان”[19]

ويقول في قصيدة” كاهنة الأجيال

كاهنة الأجيال قولي لنا شيئاً من الله الذي يولد”[1]”

ويقول في قصيدة “مراكش-فاس” :

زواحف من كل نوع تقتحم الأرض ، والإنسان يصطاد السماء ،إنَّه الله يتقدم في جنس حيواني يتخلف”[1]”

وفي قصيدة “مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف” نجده ذكر اسم الله بين الحشرة والشاعر دون فاصل بينهما فقال:

كل شيء يدخل إلى الأرض من سم الكلمة والحشرة الله الشاعر”

وهو بقوله هذا قد ساوى بين الله والحشرة ، وأنّ كلمة الله تخرج إلى الأرض من سم الكلمة، بل نجده جعله كالحشرة بقوله” والحشرة الله الشاعر “تعالى الله عما يصفون”، ويستمر أدونيس في كفره بالله والتجرؤ عليه فيقول في القصيدة نفسها : هاتوا فؤوسكم نحمل الله كشيخ ميت.

هاتوا فؤوسكم نحمل الله كشيخ ميت.

فهل مثل هذا الأدب والشعر يُمثِّل الهوية العربية والإسلامية؟

ألسنا في حاجة إلى مصطلح الأدب الإسلامي لإعادة الهوية الإسلامية لأدب المسلمين؟

للحديث صلة.

4-د. عبد الرضا علي: الأسطورة في شعر السياب ،ص25،دار الرائد العربي ،ط2،1984م،بيروت-لبنان.

[2] -سهيلة زين العابدين حمَّاد : فكر توفيق الحكيم تحت مجهر التصور الإسلامي ص 231.

[3] -عبد الرضا علي: الأسطورة في شعر السيَّاب ، مرجع سابق ،ص26.

[4] -المرحع السابق،ص60.

[5] -سهيلة زين العابدين حمَّاد، فكر توفيق الحكيم تحت مجهر التصور الإسلامي ،ص675.

[6] – توفيق الحكيم : الملك أوديب، ص40.

[7] -توفيق الحكيم : التعادلية ،ص 59.

[8] -المرجع السابق :ص 60.

[9] -المرجع السابق : ص61.

[10] -توفيق الحكيم : راقصة المعبد ،ص 133،124.

[11] -توفيق الحكيم: مجموعة قصص أرني الله “الشهيد” ،ص 12-27 بتصرف واختصار.

[12] -سورة ص : الآيات 75-85.

[13] -ديوان صلاح عبد الصبور”الناس في بلادي” ،قصيدة” الإله الصغير”،ص47،ط 4سنة 1983م،دار العودة ،بيروت.

[14] -أمل دنقل : الأعمال الشعرية الكاملة ،ص110،ط 3،سنة1407 هـ-1987م،مكتبة مدبولي،القاهرة،مصر.

[15] -أدونيس : الأعمال الشعرية الكاملة ،المجلد الأول،ص 346 ط 4 ،سنة 1985م،دار العودة ،بيروت،لبنان.

[16] -المرجع السابق :ص344.

21_المرجع السابق:

[17] -المرجع السابق : ص389.

[18] -المرجع السابق : 184

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقان 2

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: