ساكري البشير
ساكري البشير

من صحرائنا، وفي إحدى الغرف المظلمة، على الجانب الآخر من البيت، أضع هذه الكلمات بين جنبيك، لتفكر فيها مليا قبل أن تصدر أية أحكام..وقبل أن تخطو أولى خطواتك بعد أن تنتهي من قراءة هذا المقال، أطلق العنان لخيالك..بعيدا جدا..لترى مستقبلك في حدود سنوات الخمسينيات من القرن الواحد والعشرين..بين عالم تملؤه أنهارا من الدماء..وأطرافا مترامية من الجثث والأشلاء بعضها لأبنائك، وبعضها الآخر لجيرانك…وأخرى لمن معك في فلك واحد قتلوا بعضهم البعض..وبجهل أتقنوا هذه الفنون، لأن الجهل بإمكانه أن يصنع من الرذائل فضائل…أم عالم مزدهر الأفكار…متفتح العقول…رغم الإختلاف..إلا أن الجميع متسامحون…لا تشغلهم الرذائل عن الفضائل..لتسمو أخلاقهم..وترتفع هممهم..فترى أطفالا ينعمون بسلام العلم..وشيوخا – وأنت أحدهم – ترتفع قاماتهم بالحكمة…

ومابين زمننا هذا – 2016- و الزمن الذي سنسعى إلى رسمه على أذهاننا – 2050 – هو فارق قصير جدا، لا يتعدى الـ 34 سنة، أي ثلث القرن فقط، فهل هذا كاف لأن نردع العالم السلبي من أن يقطن في أعماقنا، ويعشش فوق رؤوسنا؟

شتان بين الواقع الذي نريده وبين ما هو موجود، فالتغيير ينبع من داخلنا نحن، فلا يمكن أن نلوم إسرائيل على الجرائم التي ترتكبها، ولا يمكن أن نلوم أمريكا على تقسيمنا..لأننا بضعفنا ومذلتنا..وجهلنا..أعطيناهم الموافقة على أن يفعلوا بنا هذا…فإن كانت هناك لائمة..فهي علينا..ولنا.. وليس لسوانا…

وعلى الأرجح – بالنسبة لي – أن نرسم من الخيال واقعا جديدا، وبدلا من أن نسبح وراء التغزل وشطحات من الإهانات الخلقية التي نتلقاها من الغرب، يجب أن نصيغ أفكارا تقلب عقولنا، وتعيد مسيرتا في ركب التاريخ؛ لهذا أود أن أقدم إليك هدية بسيطة، والهدية بطبعها ثمينة، وغير قابلة للمناقشة، بقدر ما هي قابلة للتأمل…

فالخيال اليوم هو حقيقة الغد..هو المستقبل…والخيال الإبداعي لا يكون إلا عن طريق القراءة الجيدة والواعية، والقراءة دون تفكير وتساؤلات فهي ليست بذات منفعة، والتفكير دون كتابته فلا فائدة منه تُرجى…لذلك سأترك لك فسحة تفكر فيها أيُّ العوالم تفضل… عالم المذلة والعبودية…أم عالم الكرامة والحرية…

في هذا العالم، وفي خضم كل هذه المشكلات، لماذا لا نسعى إلى تثقيف الشعوب، وبث روح الوعي بينهم، بدلا من حل مشاكلهم؟ ولماذا لا تكون القراءة هي أول تلك المشاريع التثقيفية؟ أليست مناهج التنمية البشرية هي المسؤولة عن هذه التوعية؟ فكيف نحاول بناء القدرات الفكرية المعطلة للإنسان البسيط وتحويلها إلى عملية حركية مستمرة؟ أليس التفكير هو العملية الملازمة للقراءة؟ فكيف يمكننا تكوين رغبة القراءة؟ وكيف نستفيد منها؟ وما علاقة القراءة بالكتابة؟ وهل بالضرورة أن يكون كل كاتب عظيم هو قارئ جيد قبل أن يكون كاتبا؟

القراءة وسيلة للرقي…وليست هواية

الكثير منا – بدءا بنفسي – يعتقد بأن القراءة هواية، مثلها مثل كل الهوايات التي نمارسها، نتعلمها ببساطة، وعندما لا تعجبنا نتركها ببساطة، وكأنها لعبة الشطرنج، ولكن المنطق يكشف لنا بأن القراءة هي عملية التحول داخل البُنى المجتمعية، من الركود إلى الحركة، ومن خارج دائرة التاريخ، إلى عمق التاريخ، لأن ما يدفعنا لهذا السلوك هو القضايا العالقة بجذورها داخل المجتمعات، والتي تعطل حركة التاريخ من..إلى، وبالتالي لا بد لأن تكون هناك حركة، يجب أن تسبقها بناء الطرق وتعبيدها، فيسير عليها المفكر قبل المثقف، والمثقف قبل البسيط…وهكذا..

واليوم؛ نحن بأشد الحاجة لهذه الحركة، بعد جمود دام لقرون طويلة، وفي هذا المقام سنسعى – على الأقل – إلى الكشف عن بعض الطرقات التي تؤدي بنا في نهايتها، و إلى الخروج من جحيم الجهل إلى جنة الفكر ، و رسم منعطف تاريخي عملي، من خلال كشف الثغرات التي تعيقنا على هذا، ورفع الغطاء عن أم المصائب التي تنهال علينا، سوى كانت سياسية، أو إجتماعية وعسكرية، أو إقتصادية، لأن هذا يذكرني بالعمل الذي قامت على إثره جل الحضارات التي كانت راكدة مثل الحضارة اليونانية والمتمثلة في الحضارة الأوروبية اليوم، أو الحضارة الكونفشيوسية والمتمثلة في الصين اليوم …، أو التي لم تكن أصلا في الوجود مثل الولايات المتحدة الأمريكية اليوم… كل هذا كان سببه الأول هو الكتاب…فماذا يُمثل الكتاب بالنسبة لنا؟

الكتاب معلم وفيّ…وليس صديقاً

ليست الكتب المستلقية على الأرفف هي مجرد زينة للتباهي، أو هي علامة على الثقافة والرقي، إن لم تكن بواطنها في ذهنك، وتساؤلاتها تشغل تفكيرك، والقضايا المطروحة فيها ترهق كاهلك فلا تشتريها، لأن الكتب هي ماضي الأمم والحضارات، أو هي أفكار كبار العقول، أو هي حلول لقضايا إحدى المجتمعات، أو هي مستقبل غامض، والكتب بتصنيفاتها هي عقول تتكلم بصمت، لأن حكمتها لا تنادي البغال والحمير، بل تستدعي العقول الناشئة والمنيرة، والتي تفكر بصمت أيضا، وتتساءل دون إنقطاع، فالكتاب كما يصفه الجاحظ في قوله: ” …هو الذي إذا نظرت فيه، أطال متاعك، وشحذ طباعك، وبسط لسانك، وجوّد بيانك، وفخّم ألفاظك، ونجّح نفسك، وعمّر صدرك، ومنحك تعظيم العوام، وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر، مالا تعرفه في أفواه الرجال في دهر إنه خير أنيس وجليس”.

إذا كنت تقرأ الكتاب لتتباهى ببعض الأفكار، فلا تقرأ..وإذا كنت تشتري الكتب لتزين بها ركنا من أركان الغرفة فلا تدخل للمكتبات، وإذا كنت تقرأ للمتعة فإبحث عن غير هذا، إلا إذا كنت تقرأ لأن تجعل من القضايا والمشكلات التي تعيق حركة المجتمع نصب عينيك، فذلك هو الهدف الأسمى من إمساكك لكتاب، وقراءته، حتى تفيض أفكاره من جنبيه، ويصبح إضافة على ما تريد أن تضيفه لإحدى القضايا التي تهتم بها… لأن عقولنا تحتاج لتمرين يومي، حتى لا يصبح التفكير في شيء عملية روتينية، تموت حماستها ببطئ شديد دون أن تعيها… ويصبح العقل مقبرة لكل الأفكار العبقرية، كما هي عقولنا اليوم دون تفكير..

والعقل في طبيعته له وظيفة غير الوظيفة التي نستعملها في بث الفتن، فإما أن يكون إيجابي كما هي العقول التي تفكر في بناء الإنسانية، أو سلبي كما هي العقول التي تفكر في موت الإنسانية، والعقل عندنا – بكل صراحة – لا يرقى إلى مستوى المعدة، ومن ثمّ فإن الكتاب عندنا لا يرقى إلى مستوى الرغيف، وغذاء الأفكار لا يلقى من الإهتمام معشار ما يلقاه غذاء البطون، وأفكارنا عن الكون والحياة والإنسان محشوة بالخرافات والأوهام، وثقافتنا تعاني عقدة انفصام بين أفكار ميتة محنطة، لا زالت تحتفظ بحق الصدارة، ورغم عجزها عن فهم الواقع، وأفكار قاتلة، حملت جواز المرور لتأخذ مكانتها المرموقة عندنا، رغم غربتها وعجزها عن التكيف ” كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار” إبراهيم – 14؛ ومناخنا الفكري لا يزال ملوثا بأنواع من الجراثيم ( الإيديولوجية) التي تفتك بعقولنا، دون أن يتاح لها من يكشف عنها اللثام، كما فعل باستور حين خلص البشرية من أذى الجراثيم (البيولوجية).

فلا بدّ لنا إزاء هذه الجراثيم من تكوين وتنمية جهاز المناعة الفكرية لدى قرائنا، وهذا الجهاز لا يتكون ولا ينمو إلا في جو القراءة الحرة، وتنمية عادة القراءة، فالقراءة نفسها هي الخريطة والبوصلة وهي طوق النجاة، وليس شيء مثل القراءة، يعلم التجاوز ويصحح الخطأ، فالقراءة تصحح أخطاءها، وتراجع نفسها، فتحذف ما فات أوانه، فلا تحمله آصاراً وأغلالاً، وتلفظ ما لا جدوى فيه ولا طائل تحته، فلا تضيع فيه وقتا ولا جهداً.

وما كانت عصورنا السابقة، حين كان العالم الإسلامي يحكم الأمم، وقائد الشعوب، وسيدهم، كان فيه الكتاب هو المعلم الأول بعد مشايخ العلم، فحملوا على أكتافهم أمانة الرقي للعالم الآخر – أوروبا- وصاحبها ترجمات للفكر اليوناني والروماني، حتى ظن بعضهم أن العصر اليوناني قد ولى من جديد، لأن الحركة العلمية /الفكرية جعلت الطلب والإستهلاك عمليتين متوازيتين، فكانت لكتب العلم مكانة عظيمة في نفوس علمائنا؛ فهي جليسهم الذي لا يُملّ، ورفيقهم في السفر، ومائدتهم في الجلسات، وأنيسهم في الخلوات، حتى قيل لإبن مبارك ذات مرة: يا أبا عبد الرحمن، لو خرجت فجلست مع أصحابك، قال: إني إذا كنت في المنزل جالست أًصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يعني النظر في الكتب، وقال شفيق بن إبراهيم البلخي: قلنا لإبن مبارك: إذا صليت معنا لمَ لا تجلس معنا؟ قال أذهب فأجلس مع التابعين والصحابة، قلنا: فأين التابعون والصحابة؟ قال: أذهب فأنظر في علمي فأدرك آثارهم وأعمالهم؛ ما أصنع معكم؟ أنتم تجلسون تغتابون الناس؛ وكان الزهري – رحمه الله- قد جمع من الكتب شيئا عظيماً، وكان يلازمها ملازمة شديدة حتى أن زوجته قالت: ” والله إن هذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر”؛ وقيل لبعضهم: من يؤنسك؟ فضرب بيده إلى كتبه وقال: هذه؛ فقيل: من الناس؟ فقال: الذين فيها.

وكانوا – رحمهم الله- يقرؤون في جميع أحوالهم، وروى عن الحسن اللؤلؤي أنه قال: لقد غبرت لي أربعون عاما ما قمت ولا نمت إلا والكتاب على صدري، وكان بعضهم ينام والدفاتر حول فراشه ينظر فيها متى انتبه من نومه وقبل أن ينام؛ وكان الحافظ الخطيب البغدادي – رحمه الله- يمشي وفي يديه جزء يطالعه، كان بعض أهل العلم يشترط على من يدعوه أن يوفر له مكاناً في المجلس يضع فيه كتاباً ليقرأ فيه، وربما احترق طرف عمامة أحدهم بالسراج الذي يضعه أمامه للقراءة وهو لا يشعر حتى يصل ذلك إلى بعض شعره، وقال أبو العباس المبرد: ما رأيت أحرص على العلم من ثلاثة: الجاحظ، والفتح بن خاقان، وإسماعيل بن إسحاق القاضي، فأما الجاحظ فإنه كان إذا وقع في يده كتاب قرأه من أوله إلى آخره، وأيّ كتاب كان، وأما الفتح فكان يحمل الكتاب في خُفه فإذا قام من بين يدي المتوكل ليبول أو ليصلي أخرج الكتاب فنظر فيه وهو يمشي حتى يبلغ الموضع الذي يريد ثم يصنع مثل ذلك في رجوعه إلى أن يأخذ مجلسه؛ وأما إسماعيل بن إسحاق فإني ما دخلت عليه قط إلا وفي يده كتاب ينظر فيه أو يقلب الكتب لطلب كتاب ينظر فيه.

فالكتاب والواقع شيئان متلازمان، ولا ينفصلان، لأن الأول يحتوي على بعض القضايا التي تهمنا، والثاني هو مصدر تلك القضايا، فعندما نقرأ كتابا عن إنحراف الشباب، فهذا يعني بالضرورة أن الواقع يعج بهذا الإنحراف، ونظرتنا للواقع بعد القراءة تزيدنا عمقا في تلك القضية؛ لهذا – بالنسبة لي – فالكتاب هو المعلم الوفي، الذي يعلمنا دون مقابل وفي هذا يقول نيل جايمان: ” تُعد الكتب طريقا للتواصل مع من سلف، وللتعلم منهم كيفية تشييد إنسانية ذات معرفة خلاقة لا تكرر نفسها، ساهمت بعض الحكايات في تطوير البلدان التي نشأت منها، وعمران الثقافات التي أنتجتها، وما زالت خالدة وتتداول حتى اليوم”.

فماضي الأمم نطالعه في كتب التاريخ، وأفكارهم تسردها كتب الفلسفة، و حاضرنا هو نتاج لما سبقنا من الأفكار، أما مستقبلنا فهو ما تصنعه أيدينا نحن، وأفكاره هو نتيجة لمخرجات عقولنا…فأصنعوا مستقبلكم من الآن…الآن..وهذه هي فرصتكم الذهبية، قبل أن يمر عليها قطار الزمن..فنتأخر قرون أخرى كما تأخر من قبلنا…

والكتاب ليس مجرد أوراق مصطفة بين دفتين من الورق الخشن، بل هو نظرات من عالم لم نره من قبل، أو هو شعور بعالم تتملكنا فيه أمنيات أشبه بالمستحيلة، حتى ننتهي منه، فنخرج للعالم الذي نحن فيه، لنشعر حقا بالغربة، وعدم الرضا لما نحن فيه من تخلف وجهل، ولن نتوافق معه إلا ونحن نسعى للتغيير من قواعده، وإعادة بناء أسسه بقوام، وهذا الغرض بحد ذاته أمر يستحق العناء، لأنه يبث فينا روحا جديدة تسعى إلى تعديل عالمنا وتغيير ما يحتاج للتغيير، وحذف الأساطير التي لا طائل منها، ليصبح عالمنا أفضل من العالم الذي نعيش فيه ألف ألف مرة، لأنه سيصبح مختلفا تماماً..

وما يهمنا الآن، وأولا – هو ما يجب أن نسارع به – هو أن الكتب الجيدة، ستعطينا معرفة جديدة حول الواقع الذي ولدت فيه، وبالأحرى ستقدم لنا حلولا لقضايا كانت من أكبر المشكلات في ذلك الزمن، لأن الأفكار بطبيعتها هي وليدة الزمن، فالكتب تعطينا مفاهيم عن الطبيعة والواقع، عن الذات والنفس والإنسان، فهي السلاح الذي يحمينا من عداوة الجهل والشر، والكتب هي التي تعلمنا أساليب الحماية، لأنها هي التي تزودنا بمعرفة مسبقة عن هذا الواقع البائس، ومن خلال المعرفة يمكننا أن نتحرر، ونتغلب على كل الصعوبات، ونحقق بفضلها النجاح، ونمضي قدما في ركب التاريخ، وننافس في عالم الحضارات، ونفرض أنفسنا في هذا الكون الإنساني، فلا تجعلوا من الكتب مجرد كتب…لأنها والله عقول ساكنة..فلنكافح لأجل هذا العالم الذي نطمح إليه كما يقول ج.ر.ر.تولكين بأنه : ” وحدهم السجانون هم من يناضل ضد الخروج”، وأنا أقول لكم: ” وحدهم المتحضرون هم من يناضلون لبناء حضارة…والقراءة وحدها هي التي تؤدي بنا للتحضّر…”

قم من مكانك الآن..وإبحث عن كتاب جيد على قدر حجم تفكيرك.. ويعلمك ما لم تكن تعلم…وكما يقول غيلبر تهايت: “الكُتب ليست أكوامًا من الورق الميت؛ إنها عقول تعيش على الأرفُف”، فإختر من العقول ما يسهل عليك فهم الواقع..

القراءة… مفهوم جديد للواقع

التطرق لتعريف القراءة ، هو أشبه بالغوص في أعماق البحار، فسطحه لا يحمل مثلما يحمله باطنه من سحر المرجان والأسماك، وتنوع في الحياة التي تختلف عن الحياة البرية، كذلك القراءة الواعية، فهي ليست تتبع الكلمات بمجرد العين، بل هي رموز ومفاتيح تمكننا من فهم العالم الذي يدور من حولنا، عن طريق تجارب بعض العقول المفكرة من الذين خاضوا غمار البحث، ودونوها بأقلامهم الزكية، وفي هذا سنحاول التدقيق في تعريف القراءة ليس من باب التعرف على القراءة فقط، بل من الباب الذي تعتبر فيه القراءة من اللوازم التي تفرض نفسها على بني البشر مثلما يفرض الغذاء نفسه من أجل نمو الجسد، وسد الجوع، فالعقل أيضا له من الحاجيات لتغذيته لا تكون إلا في القراءة، والواقع له من المشكلات لا تعالج إلا من جذورها، وفي هذا سنضع بدايةً تعريفا للقراءة حتى نرسم للقارئ أي أنواع القراءة التي نريد:

يقول عبد اللطيف الصوفي معرّفا هذا المصطلح بـ: ” القراءة هي حب البحث، وتنمية العقل، بكل ما فيها من ارتباط بالثقافة والإبداع، أو من مباهج وجدانية، وإقبال تلقائي على العلم والمعرفة، وتزكية أوقات الفراغ بالنافع المفيد”

ويقدم لنا تعريفا آخر أدق من التعريف السابق فيقول بأنها: ” تعد القراءة، منذ القدم، أهم ما يميز الإنسان من غيره من أفراد المجتمع، بل هي من أهم المعايير، التي تقاس بها المجتمعات، تقدما أو تخلفا، ولا نعني بالإنسان القارئ هنا، الذي يعرف القراءة والكتابة فحسب، بل الذي يحب القراءة، ويقبل تلقائيا عليها، بل يكاد يفضلها على طعامه وشرابه، لأنها غذاء عقله، ونور بصيرته، بها يعرف نفسه، ومن خلالها، يعيش محيطه، ويتفاعل معه بصورة واعية، وأخذا وعطاء، قبولا ورفضا”.

فالقراءة هي عملية عقلية تشمل تفسير الرموز التي يتلقاها القارئ عن طريق عينيه، و تتطلب هذه الرموز فهم المعاني، كما تتطلب الربط بين الخبرة الشخصية و هذه المعاني، فالقراءة ليست عملية سهلة كما تظهر للوهلة الأولى، لكنها عملية تشترك في أدائها حواس و قوى و قابليات مختلفة عديدة، و لخبرة الفرد أيضاً و لمعارفه الأولية و لذكائه عمل لا يستهان به في القراءة، لأنها المرآة التي تعكس لنا واقعنا، وتنير دربنا، وبفضلها يستطيع العقل كمصنع، أن يولد أفكارا إبداعية جديدة، وحلولا لقضايا عالقة، كما تمكننا من الخروج من العبودية للطبيعة عن طريق فهمها، وإستيعاب درسها، وإخضاعها، خدمة للإنسان والإنسانية..

ولو تأملنا واقعنا الذي تخلو فيه مكتباته من القراء، وتعج مجتمعاته من المشاكل، لأقررنا فعلا أن غياب القراءة المثمرة هي أولى المشاكل التي يجب أن تعالج قبل أن نعالج مشكلة الحكم، أو الفساد، أو الحرية أو غيرها الكثير من القضايا، لأنها جميعا تندرج تحت شجرة الجهل.

للقراءة أهمية…أين تكمن؟

المجتمع القارئ هو المجتمع الذي يحكم العالم بقبضة من حديد، والمجتمع الذي يقرأ لا يستطيع حتى أن يعرف نفسه، ولا أن يعرف غيره، والقراءة هي التي تقول لنا: هنا وقف السلف من قبلكم، هنا وصل العالم من حولكم، من هنا يجب أن تبدؤوا؛ لكي لا تكرروا الجهود التي سبق أن بذلها الآخرون، ولا تعيدوا التجارب التي مروا بها، ولا ترتكبوا الأخطاء التي ارتكبوها.

فكيف نسعى إلى بناء مثل هذا المجتمع؟

لكي نجعل من مجتمعاتنا الإسلامية مجتمعات تتسابق إلى القراءة كما يتسابق الساسة إلى نهب ثروات الشعوب، نطرح ما طرحه بعض المفكرين الأمريكيين والكتاب والناشرين وأمناء المكتبات ورؤساء أقسام الثقافة والإرشاد في آخر صيف عام 1951م، عندما إجتمعوا في واشنطن، وكان الذي يعنيهم ويسيطر على تفكيرهم أن يجيبوا عن هذا السؤال: ” لقد أصبحت القراءة في العصر الحديث أمراً حيويا لا يستطيع مجتمع أن يحيا بدونه…أصبحت اليوم حاجة ولم تعد ترفاً، فما الذي يمكن أن نفعله لنشجع الناس على القراءة، ونرغبهم بالإستزادة منها؟”.

أما ما يطرحه العالم العربي، أو بالأحرى مفكرونا ومثقفونا إجتمعوا على دراسة المنظورات الواقعية والمثالية الغربية، بدلا من البحث في البنى المجتمعية الخاصة بنا، كانت لهم إنطلاقة تقليد أعمى، لأن عقولهم قد أعمتها المناصب السياسية، والشهرة والمال، فأصبح الباحث لا ينطق إلا بأفكار الغرب، ولا يتفوه لسانه إلا بالأعجمية، وعندما كنت طالبا في الجامعة، كان أغلب الأساتذة لا يتفوهون بإسم منظر عربي، مثل إدوارد سعيد، أو مؤسس علم الإجتماع ابن خلدون، أو الماوردي وغيرهم الكثير ممن بحثوا ودأبوا في مجال علم الإجتماع والسياسة، وبدلا من ذلك كانت الأسماء التي تُلقى على مسامعي هي: آدم سميث، ميرشايمر، كينيث والتز، جوزيف ناي… هكذا كانت مناهجنا التربوية، وموادنا التعليمية، لأن ذواتنا العربية الإسلامية قد غيّبها المثقفين والمفكرين السُذَّج…

لهذا كانت تغيظني هذه الأصوات وهذه الألسن التي تتفوه بتلك الأسماء، فكانت أول فكرة تتراءى لي أن أضع مشروعا جديدا – على الأقل – يقوم بتوعية هؤلاء الشباب بأهمية تراثنا الإسلامي في واقعنا، لأن القراءة هي الوسيلة الأساسية للإتصال بين الأفراد والمجتمعات، فهي أداة الإنسان لكسب المعارف والتعلم، وهي أداة المجتمع للربط بين أفراده، وهي أداة البشرية للتعارف بين شعوبها مهما تفرقت أوطانهم وبين أجيالها مهما تباعدت أزمانهم، وأول ما يجب أن نقرأه هو تراثنا الإسلامي، من أجل تنقيته من شوائبه، ومعرفة ماضينا، ونستوعب من خلاله حاضرنا، حتى يتسنى لنا بناء مستقبلنا…

فإذا كان الكتاب – كما يقول محمد عدنان سالم – هو الخزانة التي تحفظ الخبرات المتراكمة من الأجيال الماضية، فإن القراءة هي المفتاح الذي يتيح الإنتفاع بهذه الخزانة، وهي الوسيلة التي تمكن الخلف مهما كان قزما، أن يطل من فوق كتف السلف مهما كان عملاقا، ليشاهد كل ما شاهده السلف، وأشياء أخرى لم يدركها السلف ولم يشاهدوها، فتتفتح لهم على قدر قراءتهم رؤى جديدة ومفاهيم جديدة، ويضيفونها إلى خزانة معارفهم، ويُغنون بها أفكارهم، فتتطور حياتهم، ويتغلبون على مشكلاتهم، ويرتفع مستواهم، ويتقدمون على من سواهم..تلك هي سنة الله في المجتمعات البشرية: من يقرأ أكثر ينل أكثر، ويرتق أكثر، ورب العزة يقول في محكم تنزيله مخاطبا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ   خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ   اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ   الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ   عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ  ” – سورة العلق – وهذا ما يدل على أن من يقرأ أكثر يُكرم أكثر.

النقد…وسيلة للفهم والتعمُّق

النقد في حقيقته هو ثمرة القراءة الناضجة، التي توفر للقارئ ملكة نقدية تؤهله للتمييز بين نقاط القوة والضعف..بين العلم الزائف والصحيح..بين الحقيقة والوهم، والكشف عن التحيز والإدعاء، ولتمحيص الصحة والخطأ في الأفكار.

وينبغي للقارئ الناقد أن يكون قادراً على معرفة مقدار صحة النص، وهل يتطابق مع الواقع؟ وهل يعبر عنه؟ وهل ثمة ترابط بين عناصر الموضوع؟ وهل يتسم تبويبه بالمنهجية؟ أم تتخلله الثغرات والقفزات؟ وهل وفق الكاتب في عرض أفكاره؟ وما مدى إبداعه؟ وهل جاء بفكر جديد؟ أم كان يجتر أفكاره، أو يكرر أفكار الآخرين؟ وما مدى أمانته العلمية، وخاصة في الإقتباس ونقل النصوص؟

إن الدقة والعمق في فهم المادة المقروءة، والغوص في المعاني، واستشفاف المقاصد الكامنة وراء السطور، كل ذلك من المطالب الملقاة على عاتق القارئ الناضج، ولن يتيسر له ذلك إلا بوساطة (القراءة البطيئة) التي تتيح له التوقف عند بعض النصوص المستغلقة، والتعابير الغامضة، والتأمل فيها، كما تتيح له فرصة التمتع بنص شعري، أو أدبي، أُعجب ببلاغته وجماله، أو بفكرته الجديدة، فتراه يقف عنده، ويردده ليتذوقه، ويستمتع به، ويحفظه.

أما إن كان القارئ، يحقق نصاً تراثيا مخطوطاً، أو نصاً علمياً صعباً، فإنه إلى التأني والبطء في القراءة أحوج، إذ ربما اضطره النص إلى التوقف عند سطر واحد، أو كلمة واحدة، أياماً طوالاً، يراجع لأجلها العديد من المراجع، حتى يطمئن إلى صحة ما ذهب إليه، وسابقا كان لي أحد الأساتذة المولعين بالعلم، قد بحث عن كلمة في قصيدة شعرية لمدة تقارب الخمس سنوات، إلى أن حصل عليها وعلى قصتها.

وقل مثل ذلك في قراءة الدارس الذي يعكف على المواد المقروءة، يطيل فيها النظر، ويكرره، حتى يهضمها، ويعتصر خلاصاتها، ويربط بين أفكارها.

لذلك؛ خذ من الكتاب ما شئت، إنك تريد أن تقرأ ما يفيدك، فربما كنت ترغب أن تقرأ كتاباً بأكمله بإمعان، أو كنت تريد أن تأخذ عنه فكرة سريعة دون أن تهتم بالتفاصيل، أو كنت تريد أن تقرأ منه فصلا معينا أو فقرة تتعلق بموضوع معين، أو أن تبحث في ثناياه عن موضوع معين…التجربة هي التي تعلمك كيف تصل من الكتاب إلى ما تريد.

لأنه ليس لدينا وصفة طبية تحوّل عزوفك عن القراءة إلى شغف بها، وإعراضك عنها إلى إقبال عليها..فلا بدّ للخطوة الأولى من إرادة واستعداد، أما الإستعداد فهو موجود لدى كل إنسان بدافع من غريزة حب الإطلاع والمعرفة، وأما الإرادة فهذا شأنك.

واقعنا…عين الحكمة ومنبع الحقائق

عزيزي القارئ، أنظر في محيط أسرتك، في حدود مجتمعك الضيق؛ زملائك في الدراسة وأصدقاءك، جيرانك، في المجتمع الواسع؛ موظفين، تجاراً، مهنيين، ستجد أن (الكتاب)، والرغبة في القراءة، والشغف بالمطالعة، لا يشغل حيزاً من الإهتمام، بل قد لا يتعدى من يقرؤون مقالي هذا سوى بضعة من القراء يعدون على أصابع اليد، فضلاً عن أن يكونوا محوراً له، ولا يخطر في بال أحد، فضلاً عن أن يكون هاجساً يحركه، للبحث عن وسائل تحصيله.

ولا أظن إلا أنك تشاركني هذا الشعور، وأنت تبحث مثلي في محيطك القريب؛ عن عدد المهتمين بالقراءة؛ بين أبنائك، جيرانك، زملائك، أصدقائك؟ كم واحداً منهم يفكر، وهو يخرج من بيته في الصباح، حاملاً معه قائمة مستلزمات طعام اليوم من خضر ولحم وفاكهة مما يشتهون، كم واحداً منهم يفكر أن يضيف إلى قائمة مستلزمات غذاء الجسد، شيئاً من مستلزمات غذاء الفكر والروح؟ بالله عليك أجبني هل يبلغون عدد أصابع اليد الواحدة؟

بالطبع لا…لكن ماذا لو سعينا نحن بأن نبعث فيهم هذه الروح الشغوفة بحب المطالعة، وكشف الستار عن حقائق كانت مخفية بالنسبة لهم عن القراءة، من فوائدها وأهميتها وأهدافها.. ونعلمهم بأننا في أمس الحاجة إلى غذاء للعقل..بحاجة إلى أدب الأفكار…حتى نحقق تنمية حقيقية..تنمية العقول الراقية…

ولأننا لو أردنا أن ننظر إلى الموضوع من زاوية التنمية والإصلاح الإجتماعي، والإرتقاء في معارج المدينة والتحضر، سنرى عجز الأفكار عن النمو، نتيجة عجزها عن أن تكون في موضع التداول… قلة من المفكرين هم المبدعون…وكميات متناقضة من الكتب هي التي تصدر… وحفنة من القراء هي التي تتلقى..وقلة ضئيلة هي التي تنتقد، وتحمل الأفكار إلى الآخرين… فأية تنمية وأي إصلاح وأي ارتقاء ندعي بأننا قمنا بتحقيقه؟

خط الإنطلاق..من أين؟

تقول فرجينيا وولف: “…لا يوجد في المكتبة سوى كتُلٍ من الكتب، بالإضافة إلى ارتباك يحتشد في دواخلنا؛ روايات وقصائد، كتب تاريخ ومذكرات، كتب علمية وقواميس؛ كتب طُبعت بكل اللغات، وأصدرها رجال ينتمون لكل الأعراق والإثنيات والآراء، نراها تزاحم بعضها البعض على الرفوف؛ وفي الخارج ليس هناك سوى حمارٍ ينهق، ونساء يثرثرن عند الآبار، وثور يجر محرثة ما في حقل من الحقول، يا إلهي! من أين نبدأ؟ كيف يمكن لنا أن نرتب قراءتنا في هذه الأكوام المتعددة..وبذلك نستطيع أن نحصل على المتعة الأعمق والأعرض مما نقرأه؟…”

ربما لم تستطع فهم مقصدي من هذا المقطع الذي تسرده الروائية فرجينيا وولف، لهذا سأعيد الفقرة بطريقتي الخاصة، حتى يصبح المعنى في ذهنك متكاملا..

أعلم أنك تتساءل: من أين أبدأ؟ وأي كتاب يجب أن يكون أولا؟ وهل يمكنني فهم ما فيه؟ هل ننطلق من كتب الفلسفة أم كتب التاريخ أم الأدب؟ أيهم له فائدة أكبر؟ .. كل هذه الأسئلة لا تنفعنا، لأننا لسنا هنا بصدد التحصيل العلمي، ولا إختيار المجالات العلمية الأنسب، لأن كل العلوم مترابطة مثل بيت العنكبوت، لا ينفصل إحداها عن الآخر، وإلا سيصبح بيت العنكبون به خلل…قراءة الكتب لا تحتاج إلى الإهتمام، بل تحتاج إلى همة عالية، وإلى إدراك تام، والسؤال الأهم هو: كيف نقرأ الكتب التي تساعدنا على حل مشكلاتنا في الواقع؟ وبطريقة أبسط: أيُّ الكتب التي ترتقي بنا نحو الأفق من أجل بناء مستقبل واعد؟

رسالتي إليك أمانة…لا تضيعها

في ختام هذا المقال، لا يسعني سوى تقديم نصيحة بسيطة، حتى تستطيع أن تضع خطوتك الأولى في عالم القراءة، وأعلم أنك تتساءل كيف نختار الكتاب المناسب؟

إختيار الكتب التي تتطابق مع تفكيرنا وإهتمامنا شيء بغاية البساطة، والإجابة هي التي كما قدما سبقا الأديب المسرحي البريطاني برنارد شو، حينما سأله أحد الناشئة، أنه لكي تعرف إهتمامتك، يجب أن تقرأ موسوعة فكرية، فإن وجدت مجالا يثير إهتمامك فإنطلق بالبحث والتعمق فيه، حتى تصل إلى مبتغاك، وتحقق غايتك النبيلة في إثارة المشكلات الكامنة، أو المساهمة صنع حلول لها.

ستقول بأن هذا وحده لا يكفي، لأنك لا تعلم كيف تقرأ كتابا، وتسألني كيف نقرأ الكتاب؟

سبق وأن قدمت لنا فرجينيا وولف إجابة راقية عن هذا السؤال – كيف نقرأ كتاباً كما يجب؟ – وتجيب عليه بالآتي: ” …حتى لو استطعت الإجابة عن ذلك السؤال بنفسي، سيظل الجواب محصوراً بي وليس بكم؛ النصيحة الوحيدة التي يستطيع أن يسديها شخص لآخر حول القراءة هي أن لا يتبع أي نصيحة؛ هي أن تتبع حواسك، أن تستخدم عقلك، وأن تتوصل إلى استنتاجاتك الخاصة”.

في الغالب؛ جميعنا نأتي إلى الكتب أول مرة ونحن بعقول مقسمة وضبابية، نبحث وقتها عن الرواية التي حدثت في الواقع، وعن الشعر الكاذب، وعن السيرة الذاتية المغرية، وعن كتب التاريخ التي تؤجج كبريائنا؛ إذا استطعنا إبعاد كل هذه التصورات المسبقة عندما نقرأ، فإن هذه ستكون بداية مثيرة للإعجاب؛ لا تُمْلِ على الكاتب ما يفعله، في محاولة منك لأن تصبح هو؛ كن ذلك الزميل الذي يسانده ويتواطئ معه؛ إذا تراجعت عن ذلك، وأصدرت حكماً مُسبقاً في البداية، ستمنع نفسك من الحصول على أي فائدة دسمة مما تقرأه؛ لكن إن فتحت عقلك بقدر ما تستطيع، ثمة علامات وتلميحات تسبق صفاءً غير محسوس، وتصدر من انعطافات الجمل الأولى في الكتاب لترمي بك إلى وجود شخص آخر مختلف؛ أقحم نفسك أكثر فيما وجدت نفسك، وانغمس في هذا الأمر، لتجد بأن الكاتب العظيم يعطيك، أو يحاول أن يعطيك شيئاً أوضح؛ لأنه يحاول أن يقدم لك خلاصة فكره في مجموعة من الأفكار، قد إكتسبها بعناء من تجربته الشخصية، فهو بذلك يوفر علينا الجهد والوقت، لننطلق نحن أيضا في تكوين ملكة أفكارنا، والبحث عن حلول لكل مشاكلنا التي تقع على عاتقنا، وهذا التفكير الإيجابي، والفكر المستنير هو ما سنتكلم عليه في المقال السابق، فكن على إستعداد، وهيء عقلك، ومرّنه جيدا حتى يصبح عقلا متفتحا..لا عقلا مغلقا..

ها أنا الآن أُنهي معك جلستي الأولى، وأختم حواري عن القراءة، لأجمع أفكاري في حقيبتي العقلية، وأرحل، بحثا عن الجزء الثاني من المقال، والمتمثل في ” المفكر الحكيم”، ثم يليه الجزء الثالث ” الكاتب العظيم”..وذلك وفق ما طرحته في العنوان الكبير أعلى هذه الفقرات..

لذا؛ كن متأهبا وذوهمة عالية، لأنني لن أتوقف عن وخزك بهذه الأفكار، أو لأنني أودك أن ترتقي من هذا القاع المزدحم بالأفكار الساذجة…لن أتوقف حتى تتراءى لي بوادر الإستجابة منك، للبدئ بصنع هذا العالم الذي نطمح إليه، وأعلم جيدا عزيزي القارئ أنني لا أكتب – أبدا – لأصحاب العقول المغلقة التي تضع التقاليد فوق التطور، ويتهربون من القضايا الشائكة خوفا من سلطان جائر، أو سجنا غابر، وتستسلم للخرافات التي ينثرها كتاب اليوم وخطباء المنابر، والذين يعتقدون في الفقر زهدا، وفي الذل عبادة، وفي الخيانة صلاة وتقرب من الله عز وجل، فأنا أكتب لتلك العقول التي ترحب بالأفكار النهضوية..التحررية .. التنويرية، والتي تجترئ على تخطيط المستقبل، وتضع البرامج للحياة، وتدقق في حساباتها، لأنني أعلم يقينا بأن هذا ما أراده الله للإسلام والمسلمين، لأن الآخرة ليست بمنقطعة عن الدنيا، والدنيا هي الباب الذي ندخل به للآخرة، لهذا يقول الله عز وجل في سورة القصص: ” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ” – (77(- ولا تنسى نصيبك من الدنيا، وهؤلاء الذين يصرخون بأعلى أصواتهم، ويتباكون، ويدعون إلى الآخرة، هم سبب مصائبنا، لأن قلوبهم ممتلئة بالدنيا، فأرادوا أن يمتلكوها كما إمتلكها قارون سابقا، فغلفوا أدمغتكم بالآخرة…ووجهوكم حسب نيتكم، فتركوا الجهل يتفشى بينكم كداء الطاعون، حتى أصاب من أصاب، وماتت الأمة بين أيدي هؤلاء الخونة، فراجعوا تاريخكم، وإبحثوا في تراثكم، وأطلبوا العلم لله، وليس لشيء غيره..وأنا على يقين بأن العلم سيحرركم من بؤسكم، وينصركم على ذلكم، ويقربكم من الله..بمعرفة وإدراك تام.

وهؤلاء..أصحاب العقول المغلقة لا يقبلون معادلة المنطق التي يتقبلها العقل بأريحية تامة، لأنهم إرتضوا لأنفسهم الجهل، ووضعوا الجلباب واللحية والعطور…بما فيها من راحة وترفيه…فوق العقل/الفكر…هؤلاء هم علة تأخرنا.

ويؤسفني جدا أن أختم قولي بهذا، لأنني أعلم يقينا أيضا أن الكاتب عندما يكون منفردا في كفاحه، سيكون أشبه بالفدائي في ساحة المعركة، ولكن لا يزال الأمل يدق أبوابي، لأنني أشعر بوجود الله بجانبي، فلن يضيع عبدا.كانت نيته لله خالصة..

قائمة المراجع:

راضي النماصي، داخل المكتبة خارج العالم: نصوص عالمية حول القراءة، أثر للنشر والتوزيع، السعودية، 2016

محمد عدنان سالم، القراءة أولا.

محمد صالح المنجد، كيف تقرأ كتابا، دار الوطن، الرياض، 1995

طاهري فاطمة، ظاهرة العزوف عن القراءة، مركز جيل البحث العلمي.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليق 1

اترك رد

  • السلام عليكم

    ابدعت كتابتا و بحثا لتخرج لنا المقالة

    لكن انت طرحت المشكلة و حلها محصور في قراءة المقال الذين لن يتعدون عدد أصابع يدك ، فأنا لدي سوْال يبحر في عقلي ليحل في موانئ الإجابة و يلتقط الحلول ؟

    كيف نوعي و نحبب لمجتمعنا القراءة ؟؟

%d مدونون معجبون بهذه: