الدكتور عبد الرحمن بشير داعية وكاتب من جيبوتي
الدكتور عبد الرحمن بشير
داعية وكاتب من جيبوتي

لقد ظهر في العالم الإسلامي رجال أفذاذ من الأمة ، وهم أقل من القليل ، ولكنهم كانوا ، وما زالوا روادا في الفكر ، فهؤلاء ليسوا جزءا من الحراك الإجتماعي ، وإنما هم يأتون في اللحظة المناسبة ،وهم يحملون في البداية فكرا غريبا ، لأنهم يجدون أن الجميع يتماثلون في التفكير والتطبيق ، وهو ليس من هؤلاء ، وانما يحاول أن يتجاوز فكر العامة ، وهنا تكمن المشكلة ، والغريب أن الفكر الناتج من المجدد يتحول مع التاريخ إلي فكر معيق ، لأنه لا يمثل وسيلة للتصحيح ، وفهما من الفهومات ، وإنما يكون عند أغلب الناس إلى هدف أساسي .
ظهر الأستاذ حسن البنّا في بداية القرن العشرين بفكر جديد ، وأسلوب جميل وجذاب في الدعوة ، ولكن مع مرور الزمن تحول الفكر الإسلامي الذي أبدعه البنّا إلي منهج غير قابل للنقاش عند غلاة الإخوان ، وجدد مؤسس دعوة التبليغ فكرا دعويا جاذبا في القارة الهندية ، ولكن غلاة التبليغ حولوا المنهج الرائع في شبه القارة الهندية إلي أسلوب دعوي عالمي .
إن الفكر الإسلامي التنظيمي يعيش في لحظة أزمة ، أزمة في التفكير ، وأزمة في التطبيق ، ويحتاج إلي عقول كبيرة ومجددة ، ومن هنا ظهر في وقت سابق مفكرون كبار حاولوا تجاوز الأطر الضيقة ، وكان الشيخ محمد الغزالي رحمه الله حامل لواء التجديد ، وسار علي منواله رجال كبار من فقهاء العصر ، ورجال الدعوة ، فكان الشيخ يوسف القرضاوي علي رأس هؤلاء ، والدكتور محمد عمارة ، والاستاذ راشد الغنوشي ، والدكتور حسن الترابي ، وكانوا يوما ما غرباء في داخل المدرسة الإسلامية ، ولكن مع مرور الزمن تحول هؤلاء الرموز الأكثر قبولا في داخل الصحوة .

نهاية التاريخ ، ومسألة الولادة الفكرية

في العالم الاسلامي مشكلة فكرية عميقة تتمثل في إغلاق باب الإجتهاد ، ومحاربة الإبداع ، فكل شيخ يحسب أنه نهاية التاريخ ، ويظن اتباعه أن الزمن توقف عند محطة أفكاره ، ولهذا يحسب السلفيون ان ابن تيمية هو المرجع الأساسي للصحوة ، وانه شيخ الإسلام الأوحد ، وأن مجدد الدعوة محمد بن عبد الوهاب هو الوارث الشرعي لعلم ابن تيمية ، وأنه لا طريق في الفكر الاسلامي سوي هذا الطريق ( طريق أهل الأثر ) ، وفي الجانب الآخر نجد رموز الحركة الاسلامية ( الاخوان ) يحسبون أن الزمن توقف عند الامام البنّا ، وأن لا عبقرية بعده ، فمن جاء بعد البنّا ، فهو إما تلميذ للشيخ ، او مستنسخ لطريقة البنّا ، كما نجد من بعض الطرق الصوفية نوعا من الدجل الفكري يفيد بأن الطريق إلي الله محصور في الطريقة الفلانية ( القادرية نموذجا ) ،أو غيرها .

هناك حديث صحيح عن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم ، وشاع في الأمة ( ان الله يبعث على رأس كل مائة عام من يجدد لها أمر دينها ) ، فهذا الحديث يضع بين أيدينا جملة من الأمور :

١- الدين قابل للتقادم والبلى ، ولهذا فهو يحتاج إلي مفكرين وعلماء يقومون بدورين مزدوجين معا ، تجديد الفهم للدين ، وتجديد الدين في القلوب والعقول .

٢- هناك مرحلة زمنية مقررة من قبل الشارع للتجديد ، وهي موجودة في النص النبوي ( القرن ) ، وبهذا فإن الاجتهاد المرتبط بالزمان وقضاياه ينقرض في كل مائة سنة .

٣- الحديث يفيد بأن الفكر مهما كان عظيما ، فليس خالدا ، الخلود للقيم السماوية الموجودة في الوحي ، ولكن جميع الاجتهادات البشرية التي جاءت من العلماء والمفكرين ليست ذات قدسية ، ومن هنا يجب أن نفك الارتباط ما بين الوحي المقدس ، والفكر البشري .

٤- إن بعض العلماء اجتهدوا في فهم ألفاظ النص النبوي ، فتوصلوا أن لفظ ( من ) لا تشير دوما إلي شخص واحد ، بل قد تشير إلي الشخص المجدد كعمر بن عبد العزيز الخليفة ، والإمام الشافعي العالم المجتهد ، وقد تشير إلي مدرسة فقهية وفكرية كمدرسة المحدثين ، ومناهج الدعوة .

٥- الدين نصوص عامة ، ومناهج للفهم والبحث ، فالنصوص غير قابلة للنقاش ، ولكن المناهج ليست مقدسة كالنصوص ، ومن هنا وردت بعض ألفاظ الروايات ( أمور دينها ) ، ويفهم اللبيب من الحديث أن النصوص غير قابلة للتجديد ، ولكن فهمها قابل للتطور ، ولهذا قرر ابن القيم : إن الفتوي تتغير بتغير الزمان والمكان والأعراف والعوائد .

لقد رفض الفكر الإسلامي الصحيح مسألة إغلاق الاجتهاد ، ويعني هذا نهاية الفكر ، ويؤدي إلي موت الانسان كمشروع استخلافي ، ولكن هناك تيار في كل اتجاه يحسب بأن لديه قوة تتمثل في إيقاف الزمان لصالحه ، وهذا ليس ممكنا ، ومن لم يتأدب مع التاريخ ، فإن الزمن كفيل بأن يؤديه ، وذلك لأنه سيصبح من التاريخ ، ولن تكون لأفكاره فعالية ما لم يتطور ليكون منسجما مع اللحظة ومقتضياتها .

الظاهرة العدنانية تمرد وتطور وإضافة

في العقد الأول من القرن الواحد والعشرين ظهرت في العالم الاسلامي خطابات ثلاثة :
١- خطاب عاطفي جدا ، يخاطب أصحابه العواطف ، وتمثل بهذا الخطاب الدكتور عمرو خالد ، وقد تخصص هذا الرحل في لحظة ما قبل الربيع العربي في مخاطبة الجيل الجديد ( الجيل الساندويشي ) ، هذا الجيل الذي يحتاج إلي معالجات دينية لمشكلاته الفكرية ، فكان الخطاب الإعلامي الذي اهتم بالأضواء أكثر من المحتوي ، وبالعاطفة أكثر من العقل ، وبالوجدانيات أكثر من القراءة التحليلية للمشكلات ، ولهذا تم تجاوزه بسهولة بعد أن بزغ نوره وانطفأ بسرعة .

٢- خطاب إسلامي يجمع بين العقل والعاطفة ، ولكن من اتجاهين مختلفين ، خطاب قوي ظهر من مصر والخليج يحمله رجال من المدرسة السلفية ( محمد حسان ) نموذجا ، وخطاب آخر قوي ظهر من الخليج والشام يحمله رجال من المدرسة الاخوانية ( طارق السويدان ) نموذجا .
إن هذا الخطاب جمع في طرحه بين قوة الدليل ، وخطاب العاطفة ، واستغل جيدا الإعلام المرئي ، والشبكة العنكبوتية بشكل جيد ، فكانت قناة اقرأ الفضائية نجما في سماء الفضاء العربي ، وكذلك قناة الرسالة التي اخترقت العقل العربي لتنافس الجزيرة في جذب الجمهور الاسلامي ، ولا ننسي قناة الرحمة التي صالت وجالت في سماء مصر والعالم العربي .

٣ – خطاب إسلامي عقلاني ، يجمع بين طرح الصحوة ، وعقلانية المدرسة الإصلاحية التي تم تجاوزها ، وللأسف في مرحلة الصحوة ، فهذا النوع من الطرح يحملها رجال كثيرون ، ولكن أهم من يحملها هو الدكتور عدنان إبراهيم ، والدكتور طارق رمضان .
إن هذا الخطاب تألق في فضاء الغرب ، ودرس الاسلام عن كثب ، وغاص في عمق الفكر الغربي بدون أن يشعر أمامه الإنهزام الفكري ، كما غاص في الفكر الإسلامي بدون أن يتيه في قضاياه التفصيلية ، فرفض هؤلاء قومنة الفكر الاسلامي ، وحصر قضاياه في الشرق الأوسط .
خصائص الظاهرة العدنانية .

إن المفكر الاسلامي القدير الدكتور عدنان إبراهيم كغيره من المفكرين العظام له أعداء يجعلونه عدوا من أعداء الأمة ، فمن الناس من يحسب الرحل أنه شيعي الهوي ، ولكنه يستخدم التقية للوصول إلي مآربه ، ومنهم من يحسب الرجل زنديقًا ، ولكنه يستخدم الدين للوصول إلي عقول الشباب من خلال الدين ، بل ورآيت مؤخرا من يجعله علمانيا لا دين له ، وفي الجانب الآخر لاحظت من يجعل المفكر قديسا ، ووليا صالحا ، وإماما انتهت الإمامة إليه في العصر الحديث دون غيره .

لقد استمعت إلي خطاب الرجل بإنصات ، وحاولت أن أعيش مع آفكاره بهدوء ، بل واجتهدت أن أتعرف إلي أفكاره من خلال أطروحاته ، وليس فقط من خلال ناقديه ، أو محبيه ، فوجدت في الرجل وأفكاره مايلي :
١- لاحظت في الرحل موسوعية في القراءة ، وعمقا في الطرح ، وسعة في الرؤية ، فهو فيلسوف كبير له قراءة عميقة في الفكر الفلسفي ، ولكنه ليس فقط قارئا جيدا ، بل له قراءة نقدية لجميع المدارس الفلسفية قديمها وحديثها ، كما رأيت من خطابه قراءة عميقة لا تجد لها مثيلا في الفكر الغربي ، فللرجل فهم خاص للفكر الغربي ، لأنه درس دراسة متأنية هذا الفكر وتاريخه ، فهو ليس كالإسلاميين الذين يقومون نقد الفكر الغربي من خلال الكتب الاسلامية .

٢- رأيت في الرجل قوة في الطرح في تبنيه للمشروع الاسلامي ، فهو لا يخاطب العاطفيين ، وإن كان للرجل عاطفة قوية ، ولكن الرجل حين يقوم بطرح المشروع الاسلامي ، لايستخدم أدوات العلم التقليدي ، بل له آسلوبه الخاص الذي يمزج بين العلم والفن والفلسفة والدين ، وهو يحيط بكل هذه الأمور علما وفهما .

٣- رأيت في الرجل معرفة غير عادية في العلم المادي ، وخاصة في الفيزياء والرياضيات ، وهو ليس ناقلا من الكتب فقط بشكل آلي كما يفعل غالب المفكرين غير المتخصصين ، بل نلاحظ في خطابه معرفة غير عادية في هذه العلوم التطبيقية الصرفة .

٤- إن الرجل شغف بحب العلم والقراءة ، فهو قارئ من الطراز الأول ، يذكر الناس بظاهرة الغزالي الفيلسوف العالم الرباني ، وظاهرة ابن تيمية المفكر الثائر ، فلم أجد لهذا الرجل مثيلا في هذا الباب إلا القليل من الناس ، فهو كذلك يشبه إلى حد كبير المفكر الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي الذي كان يقرأ في اليوم الواحد أكثر من عشر كتاب ، فالرجل يعيش في صومعة الكتاب قارئا ودارسا .

٥- وهب الله الرجل ذكاء مفرطا ، وعقلا متقدا ، وروحانية غريبة ، فهو شخص مركب ، له وله الصوفيين ، وعشقهم ، كما له تحليل الفلاسفة ونقاشهم ، وطرح العقلانيين وقوة أدلتهم ، فهو يشبه إلي حد ما الدكتور عبد الوهاب المسيري ، والاستاذ علي عزت بيجوفيتش .

٦- لاحظت في الرجل الشجاعة الأدبية في تبني ما يراه صوابا ، وانتقاد ما يراه خطأ ، لا يخاف من المواجهة ، ولا يتردد أن يبوح ما يتوصل إليه من أفكار ، فقد تحرر الرجل من عبودية الجماهير ، واتباع الناس في مذاهبهم ، ولهذا تري الجميع يخافون من أفكاره ، ولكنهم لا يقدرون مواجهته فكريا .

٧- إن الرجل يقدر العلماء جميعا ، ولكنه لا يتمثل في أفكارهم ، بل يناقش الأفكار والآراء بأسلوب خشن في بعض الأحيان ، فهذا النوع من النقد لبعض العلماء خلقت له عدوات ظاهرة ، ولكن ما لا حظت فيه أن الرجل يحب كبار العلماء ، ويقدر جهودهم الفكرية ، فهو يصف ابن تيمية بشيخ الاسلام ، ولكن له مواقف من أفكاره العقدية ، لأن الرجل أشعري العقيدة ، ويمدح الشيخ يوسف القرضاوي كثيرا ، ولكن له مواقف من أفكاره ، ويحب البوطي وأفكاره الصوفية ، ولكنه ليس راضيا من موقفه الأخيرة من النظام السوري ، ومتأثر بفكر الغزالي القديم والجديد ، ولكنه ليس غزالي الهوي .

٨- في تفاعلي مع خطابه المثير والقوي ، لاحظت عليه أمرين ، تمنيت من هذا العقل الكبير أن يتركهما ، وهما :
– استخدام الأسلوب الخشن في النقد ، واتباع اُسلوب التوازن في تناول الأفكار والأشخاص والمناهج ، وهو قادر علي ذلك ، بل ويستخدم كثيرا حين يتناول الفكر الغربي بالأسلوب العلمي والهادئ .

– أن لا يبالغ في نقد الصحابة ، وخاصة الذين عارضوا عليا عليه السلام في مواجهته كعائشة رضي الله عنها ، ومعاوية رضي الله عنه ، وأنا لست مع مدرسة ابن العربي ، ومحب الدين الخطيب ، والتي تفهم من خلال أطروحاتها بأن الصحابة ليسوا بشرا ، بل هو فوق مستوي البشر ، كما أنني لست من مدرسة الشيعة التي تؤكد في جل خطاباتها شيطنة أكثر الصحابة رضوان الله عليهم.

إن الحقيقة هي في الوسط ، فلا بد من طرح رؤية قرآنية ، وهي التي تبناها المفكر الموريتاني الدكتور محمد المختار الشنقيطي ، وتتمثل في التفريق ما بين ( سمو المبادئ وقدسيتها ، وبشرية الصحابة ) .
في الكتاب العزيز آية تعطينا دورسا في غاية الوضوح والصراحة وهي : ( تلك أمة قد خلت ، لها ما كسبت ، ولكم ما كسبتم ، ولا تسألون عما كانوا يعملون ) .

هذه هي الظاهرة العدنانية المتمثلة بهذا الشخص الذي طرح فكرا جديدا ، ومغايرا ، ولكنه ينطلق من الوحي ، ويتفاعل مع الواقع ، يصيب أحيانا، ويخطئ أحيانا ، ولا يدعي الكمال والعصمة ، وليس له انتماء فكريا معينا ، بل له انتماء واحد ، فهو يحب الأمة كلها بفصائلها وفئاتها ، بكل أجناسها وأقوامها ، وهو إضافة نوعية في طريق الدعوة والفكر ، وله اُسلوب ظريف ، وهو أيضا في رأيي امتداد لمدرسة الفكر الاصلاحي .

صفحة الدكتور عبد الرحمن بشير على الفايسبوك

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليق 1

اترك رد

  • اللهم بارك له في صحته وعلمه واحفظه ياحفيظ.. وانفعنا بعلمه..واصلح اللهم احوال المسلمين وفرج كربهم… وردهم اليك ردا جميلا
    برحمتك يا ارحم الراحمين…وصلي اللهم وبارك على حبيبنا وسيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم

%d مدونون معجبون بهذه: