نظرية التطور 

السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات

الحلقة السابعة عشرة

التطور الصُغروي – الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.

ريتشارد لينسكي Richard Lenski
ريتشارد لينسكي Richard Lenski

أحبتي في الله، إخواني وأخواتي: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، أُكمِل معكم في هذه الحلقة وهى الحلقة السابعة عشرة من سلسلة التطور تجربة العالم الكبير ريتشارد لينسكي Richard Lenski التي شرعت في آخر الحلقة السابقة بالتقديم لها، فأنا قدمت لهذه التجربة دون أن أخوض في عرضها كما جرت، لكن كيف صُمِمَت هذه التجربة؟ كالتالي، حيث أتى هذا العالم الكبير وفريقه باثنتي عشرة قارورة، وملأ هذه القوارير كلها بحساء مُغذٍ للبكتيريا، وطبعاً العامل الرئيس فيه الجلوكوز Glucose – هذه المادة السكرية المعروفة بالجلوكوز Glucose – وطبعاً فيها مُغذيات أخرى مثل السترات Citrate، لكن البكتيريا عموماً لا تُحسِن الاستفادة من السترات Citrate، فالسترات Citrate هى التي تُعطي الليمون هذا الطعم الحامض، ومن هنا قُلِبَت Citron من السترات Citrate، فهى موجودة لكن غير مُهِمة لأن البكتيريا لا تستطيع أن تتعامل معها كمادة مُغذية أو كمادة غذائية، غذاؤها الأساسي هو الجلوكوز Glucose.

myxo

إذن اثنتا عشرة قارورة مليئة بهذا الحساء المُغذي – الجلوكوز Glucose -سيضع العالم لينسكي Lenski في كل قارورة البكتيريا الإيشيرشيا القولونية، وهم يقولون أنه سيُعدي To Be Infected- من العدوى Infectation – كما يُقال باللغة العلمية كل قارورة من هذه القوارير بكمية مُحدّدة من هذه البكتيريا الإيشيرشيا القولونية بكمية مُتساوية، وكلها نفس البكتيريا، يعني نفس الجينوم Genome ونفس التركيب ونفس النوع من البكتيريا، ولكن بفارق بسيط جداً، بكتيريا تتميز بجين Gene مُعين سيُسمى بالأرا ARA الموجب، وبكتيريا تتميز بجين Gene مُعين سيُسمى بالأرا ARA السالب، فالـ ARA: ARA+ أي (ARA Plus)، و ARA – أي (ARA Minus)، لكن لماذا؟ هذا لن يُؤثِر على الإطلاق، ولكن هذا سيكون مُهِماً فقط في تمييز هذه عن هذه، أي حتى نستطيع أن نُميز، مثل عامل مُلوِّن، أي باللون، فهذه فقط مسائل فنية ومسائل تقنية، لكن هو نفس النوع من البكتيريا وهى تشتغل بنفس الطريقة ومحكومة بنفس الجينوم Genome وبنفس المُخطَط الوراثي من غير أدنى فرق، فما الذي يحدث الآن؟ هذه البكتيريا سوف تتكاثر، فهى سوف تبدأ تتغذى الآن ثم تتكاثر بوتيرة سريعة في البداية إلى أن ينفذ الغذاء وينتهي الجلوكوز Glucose وتستقر عند حد مُعين فيبدأ الجوع الآن لعدم وجود الغذاء، فهى تكاثرت ونتج منها أعداد هائلة جديدة، ثم سكنت عند هذا المُستوى وبدأ الجوع، فماذا فعل البروفيسور Professor / لينسكي Lenski في اليوم التالي؟ كان يُعِد اثنتي عشرة قارورة جديدة، علماً بأن ذلك يحدث كل يوم، فالآن نحن سيكون لدينا خط طويل من القوارير، لأننا نتكلم عن عشرين سنة الآن، فالتجربة ستستمر لعشرين سنة، يعني تقريباً لأكثر من سبعة آلاف يوم، فسيكون لدينا اثنا عشرة خطاً من القوارير بطول سبعة آلاف يوم، وهذا -كما قلت لكم – يُناظِر أزماناً جيولوجية مُتمادية جداً، فهىتجربة من أحسن التجارب التي صُمِمَت على الإطلاق – على فكرة – لاختبار فرضيات التطور، وأخذت زمناً وجهداً وجهوداً وأموالاً بشكل غير طبيعي، لكن هذا هو العلم، فالعلم ليس مُجرَد تأملات وفلسفات كما لو كان أرسطو Aristotle جلس ليتأمل، فالعلم الآن موضوع مُختلِف تماماً، ولذلك – كما قلت لكم – علينا أن نحترم وضعنا وأنفسنا قبل أن نوجه أي نقد وأي كلام، فلابد أن نفهم ما الذي يحدث أصلاً وكيف يُبرهِن هؤلاء الناس على أقوالهم وعلى نظريتهم، فيجب أن نفهم كيف يشتغلون في الأول، وبعد ذلك إن كان لدينا شيئ من المُمكِن أن نتكلم، لكن لا نتهجم هجوم الجاهل الغرير هكذا، فهذه المسائل غير عادية على كل حال.

في اليوم التالي إذن سيُعدي القوارير الجديدة، وأيضاً كلها ملأى بهذا الحساء المُغذّي “الجلوكوز Glucose”، فهو سيُعديها بالبكتيريا الآن التي تطورت في القوارير-قوارير اليوم السابق – لكن طبعاً ليس كل البكتيريا، وإنما سيأخذ عينة منها ويُعدي بها القوارير الجديدة، وهذه العينة تُساوي بالضبط واحد على مائة، فهو سيأخذ فقط واحد على مائة من هذه البكتيريا ويضعها في القوارير الجديدة ويُكرِّر المشوار، وتبدأ تتكاثر سريعاً، فالغذاء موجود ما شاء الله، لأن هذه بيئة فيها رفاه غذائي، ثم ينفذ الغذاء ويبدأ الجوع، وطبعاً هى تتكاثر وتصل إلى حد مُعين، فهناك حد مُعين لتكاثرها، وعندما ينتهي الغذاء يقف التكاثر، وطبعاً هذه القوارير عموماً موضوعة في حضانات مُهتَزة، أي أنها تهتز باستمرار، لكن لماذا تهتز؟ حتى تجعل توزيع البكتيريا على هذا الحساء مُتجانِساً، فتوزيع البكتيريا في القارورة عموماً يكونمُتجانِساً في كل أجزائها، ولذلك هذه الحضانات تهتز حتى لا ترسو البكتيريا تحت ولا تجد مكاناً تتكاثر فيه مثلاً، فكل شيئ مُصمَم وكل شيئ مدروس، فهى تهتز باستمرار لكي تبقى مُتجانِسة، وهذا جميل جداً!
إلى الآن هذا تصميم التجربة، وكل يوم جديد تُوجَد اثنتا عشرة قارورة جديدة، وتُعدى بواحد على مائة من آخر نسل، وتستمر المسألة، فما هى الفرضية التي يُراد اختبارها بهذه التجربة المُعقَّدة المُرهِقة؟ هذه التجارب يُسمونها تجارب أو دراسات طويلة الأمد – Long-term – لأنها تحدث على المدى الطويل، فهذه دراسات على المدى الطويل – Long-term Studies – أو تجارب على المدى الطويل، لأنها قد تستغرق طبعاً عشرة وعشرين وثلاثين سنة أحياناً، وهذا شيئ عجيب، لذا يُقال عنها أنها Long-term، وعلى كل حال الفرضية كالتالي: المفروض أن هذه البكتيريا تتكاثر باستمرار بنفس القانون وبنفس المُعدَّل، وقدرتها على استهلاك الجلوكوز Glucose محدودة بحسب برنامجها الوراثي، فهى تتكاثر إلى نفس المُستوى ثم تقف، وفرضية التطور أن الأعداد الهائلة من الإيشيرشيا القولونية – كما قلت في الحلقة السابقة – تفرض أن تقع طفرات، وبعض هذه الطفرات من المُحتمَل أن تكون نافعة في اتجاه وبخصوص أن تكون نافعة بحيث – مثلاً – تُمكِّن البكتيريا من استهلاك الجلوكوز Glucose بكفاءة أعلى، فربما – وهذا شيئ آخر مُحتمَل ولا نعرفه – تأتي طفرات تُمكِّن البكتيريا من استغلال غير الجلوكوز Glucose أيضاً، فهذا قد يحدث لو مثلاً وقعت طفرة أو أكثر من طفة مُركَّبة، وهذا شيئ مُعقَّد جداً، وهذا هو بالذات الذي يُنكرِه التكوينيون، فهم يقولون “هذا الكلام لا يحصل بالطفرة ولا يحصل بالصدفة، هذا مُستحيل، قلابد من مُصمِم يقوم عليه – وهو الله تبارك وتعالى – لأن نسبة حدوثه كذا وكذا” ثم يبدأ يحسب لك ويقول لك أن الناتج هو واحد على عشرة أس مائة وخمسين أو مائة وستين أو ثلاثمائة وما إلى ذلك، وهذا يستحيل لأنه يُساوي العدم، ولكن ماذا تفعلون إن حصل هذا في الطبيعة وإن حصل في الواقع؟ للأسف هذا ما يثبته التطوريون لأنه يحصل، ففي هذه التجربة هذا سوف يحصل ولك أن تتخيَّل هذا، بحيث تتراكب طفرتان أو ثلاث طفرات، وكل واحدة بحيالها لا تنفع شيئاً، لكن إن جاءت وطفرت بعد ذلك بمحض الصدفة – Randomly عشوائياً – طفرة أخرى وركبت عليها ثم جاءت طفرة ثالثة ستكون النتيجة في نهاية المطاف أن هذا الكائن سوف بطريقة مُثيرة جداً بحيث يمتاز الآن بأفضلية جديدة تجعله أكفأ بخصوص الناحية الفلانية، فهل هذا يحصل؟ للأسف هذا يحصل، وفي هذه التجربة سوف ترون كيف حصل هذا، لذلك هذه التجربة من أقوى الأدلة بيد الملاحدة وبأيدي التطوريين الملاحدة بالذات الذين يقولون “الصدفة تأتي بتنظيم مُعقَّد، وتأتي بأشياء لا يتخيَّل المُؤمِنون أو المُألِهة أو الخلقويون أنها تحصل، لكنها تحصل ورأيناها ونحن وثقناها أنها تحصل”، فسوف نرى إذن، فهذه أشياء خطيرة جداً، وسوف نرى هل هناك إمكانية للرد على هذا الشيئ أم لا وكيف يُمكِن الرد، فأنت لا تستطيع أن ترد التجربة، لأن هذه التجربة مُحكَمة علمياً، فلا كلام في هذا الشأن، لكن يُمكِن تأويل التجربة، فقد تكون التجربة صحيحة مائة في المائة لكن قد يكون الخطأ في تأويل ما حدث وفي تفسير ما حدث، فيبقى هنا هوامش للاجتهاد، وسوف نرى هذا لكن كما أقول دائماً في السلسلة الثانية !

ماذا فعل لينسكي Lenski؟ بعد أجيال – مثلاً بعد ألفي جيل أو ثلاثة آلاف جيل – بمُعدّل ستة أجيال كل يوم كما قلنا – كان يأخذ عينات من هذه العشائر Populations – Population مثل عشائر الحيوانات لكن هذه عشائر بكتيريا أو قبائل بكتيريا أو جمهرات سكانية – ويُجمِّدها تجميداً حقيقياً بحيث لا تتكاثر ولكن لا تموت، فيُمكِن بعد ذلك أن يفك تجميدها ويُعيدها إلى هذه البيئة التغذوية، فتبدأ تتكاثر، لكن هذه وقف تطورها، كأنك أخذت مخلوقاً من المخلوقات – مثلاً – التي جرى عليها التطور في ظرف – مثلاً – مائة مليون سنة ولكنك أخذته قبل سبعين مليون سنة، أي حين كان عمره ثلاثين مليون سنة، ثم جمدته وبعد ذلك أنعشته بعد سبعين مليون سنة – نفترض هذا لأن هذا كله خيال – حتى تُقارِنه بنظرائه الذين تطوروا وأصبحوا أنواعاً أخرى، وهذا هو الذي فعله لينسكي Lenski، فهو أخذ عينات من هذه البكتيريا وجمدها بعد أجيال مُحدَدة وتركها، ولكي يستطيع أن يميز يُوجَد عندنا – كما قلنا – الـ ARA+ (ARA Plus)، والـ ARA – (ARA Minus)، وذلك لكي يقدر على أن يُميِّز من أين هذا ومن أين هذا، وهو فعل هذا، وظلت هذه البكتيريا تتكاثر – كما قلت – إلى أجيال كثيرة، وجاء بعد مُدة مُتمادية لينسكي Lenski وقال نُريد أن نختبر وأن نرى ما الذي حدث، فهل هناك تطور مُعين حصل؟ هل طوَّرت تكاثرها أو طوَّرت أحجامها أو طوَّرت أي شيئ؟ فجاء ودرس وفعلاً وجد أن هناك تطوراً ملحوظاً، فكل العشائر الاثنتا عشرة – وهى اثنتا عشرة قارورة مُتجدِدة باستمرار – طوَّرت من كفاءتها في التغذية، أي أنها تسفيد من نفس الغذاء بطريقة أكثر كفاءة، لكن كيف أعرف أنا هذا؟ مثل إنسان كل يوم يأكل رغيفاً من الخبز ثم قال لي أحدهم أنه بعد خمس سنين طوَّر من كفائته التغذوية، مع أنه يتناول فقط رغيفاً من الخبز، فقد لاحظ لينسكي Lenski أن أحجامها قد ازدادت نسبياً، فهذا من ناحية الحجم وليس الأعداد، فالأعداد تقريباً كما هى، لكن كيف نعرف هذا؟ هذه كلها مسائل فنية وأنا أُبسطها لكم، لكن حين تعودون إلى الكتب العلمية المُتخصِصة سوف تقرأون هذا بالتفصيل المُمِل جداً جداً طبعاً، فتجربة لينسكي Lenski هذه موجودة في أكثر من سبعينأو ثمانين صفحة بلغة علمية فنية مُعقَّدة جداً، وتحتوي على Tables وDiagrams وأرقام ومُعادَلات رياضية، فهذا شغل مُتقّن جداً، وهم طبعاً يعرفون هذا بمقياس مُعين، فهم يضعونها على Diagram مُعيَّن للكثافة، ويظهر هذا بشكل حتى مُبصَر ومرئي في الإعتام والإضاءة، فكلما زاد الإعتام كان هذا يعني وجود عدد أكبر، وكلما خف الإعتام يكون العدد أقل، فهو يستطيع أن يعرف أن هنا تُوجَد أعداد أكثر وهناك تُوجَد أعداد أقل، فهذا واضح عندهم، ولديهم طرقهم أيضاً في قياس الأحجام، فإذا كانت كمية الغذاء – الغذاء هو نفسه – كانت هى نفسها ووجدنا أن الأحجام بدأت تزيد فإذن هناك طفرات نتجت أو نشأت أو ظهرت فعملت على زيادة كفاءة البكتيريا في الاستفادة من غذائها، وهذا ثبت للينسكي Lenski، لكن كيف تم هذا؟ درس الـ DNA في البكتيريا، وهذا شيئ عجيب، فكله يحتوي على DNA طبعاً، فيُوجَد نفس اللغة، وهذه اللغة نحن نسميها لغة إلهية مثلما سماها عالم الوراثة العظيم فرانسيس كولينز Francis Collins المعروف بكولينز Collins والمعروف دوره حتى في مشروع الجينوم Genome البشري، فهو عنده كتاب إسمه لغة الله، ولكن ما هى لغة الله هذه؟ الـ DNA، فالـ DNA هو لغة الله، وهو بصمة الله في الخلق وفي المخلوقات، فهذا الرجل مُؤمِن، وهو رجل تطوري وعالم عظيم جداً جداً ومُؤمِن أيضاً، فهو يرى أن التطور لا يتناقض مع الإيمان بالمرة، بل يكشف لنا عن أسلوب الله – كما أقول أنا بلغتي – في العمل، فهذه هى لغة الله إذن، والـ DNA هو هذه البصمة الإلهية والكتابة التي يكتب الله بها المخلوقات، ولذا هو عنده كتاب كامل إسمه لغة الله، وهو كتاب جميل!

على كل حال نعود إلى دراسة الـ DNA لهذه البكتيريا، حيث تعجب بسببها البروفيسور Professor لينسكي Lenski وزملاؤه وفريقه، فهناك طفرات وقعت في القبائل الاثنتي عشرة كلها بحيث مكنتها أن تزيد كفاءتها، وهذه الطفرات أصابت تسعة وخمسين جيناً Gene وليس جيناً Gene واحداً أو اثنين أو ثلاثة أو عشرة أو عشرين، وإنما تسعة وخمسين جين Gene في القبائل الاثنتي عشرة، وهذا شيئ غريب، لكنها مكنت كل قبيلة أن تُطوِّر نفسها على نحو مُتميز، والنتيجة واحدة، فالكفاءة أعلى والحجوم أكبر، ولذا هو قال “هذا أمرٌ غريب”، وهو يقول طبعاً هو والتطوريون الملاحدة “بالضبط هذا هو النوع من الطفرات التي يزعم المُألِهة أو التكوينيون أنه لا يحدث، فهو يحدث بالغلط أو بالصدفة، وتكون نتيحته مُمتازة وإيجابية وهائلة، ويعطي ميزات بقائية وميزات تفاضلية، فهذا حدث ويحدث”، وهناك شيئ أغرب من هذا لعلي ألمحت إليه فيما سبق، ولكن ما هو؟

أعتقد بعد الجيل ثلاثة وثلاثين ألف ومائة – احسب أنت في أي يوم هذا، خُذ الثلاثة والثلاثون ألف ومائة واقسم على ستة وما إلى ذلك – وتحديداً ثلاثة وثلاثين ألف ومائة في إحدى هذه القبائل أو العشائر حدث شيئ غريب – وقد حدثتكم عن موضوع التكاثر وكيف يُعرَف بالإعتام، فكلما زاد الإعتام كان التكاثر أعلى – لاحظ البروفيسور Professor لينسكي Lenski فجأة أن في بعض القواير ارتفع هذا الإعتام، وهذا معناه وجود تكاثر انفجاري هنا، فحدث مثل انفجار في الأعداد، إذن هنا وقعت فعلاً طفرة خاصة لم تقع في كل القوارير أبداً ولكنها وقعت في هذه بالذات، ونحن قلنا فيما يتعلَّق بالأحجام طبعاً أنه أخذ بكتيريا وجمدها وأعاد فكها ورآها وقارنها بالبكتيريا المُتطوِرة بعدها على مدى – مثلاً – ألف يوم وزيادة أو ألفين فوجد أن الحجم فعلاً أصبح مُختلِفاً، فهذه هى الطريقة لكي يعرف الحجم، ولكن هذا لا يُعرَف بالعين مُباشَرة وما إلى ذلك بل بالمُقارَنة، فما الذي حدث إذن؟ الزيادة هنا كانت تقريباً ستة أمثال، أي أن التضاعف أصبح ستة أمثال وهذا فعلاً انفجاري، حيث وجد البروفيسور Professor لينسكي Lenski أن طفرةً وقعت في هذه العشيرة أو القبيلة مكَّنتها من أن تتعامل مع السترات Citrate وأن تستغل السترات Citrate وليس فقط الجلوكوز Glucose، وإنما السترات Citrate أيضاً، وهذا شيئ عجيب، فالآن البيئة ستغدو أكثر رفاهيةً تغذوياً، فلن يكون لدينا مصدر واحد وإنما سوف لدينا أيضاً مصدر زائد مخصوص لنا، فهناك لطف ما حاق بنا أو نزل بساحتنا، وطبعاً ما تتناسل من هذه البكتيريا من قوارير تتكاثر بمُعدَلات هائلة وهى ستة أمثال الأخرى، فلينسكي Lenski يعلم هذا ويعلم تردد الطفرات، فكل هذا محسوب عنده ومدروس، وهو مبدئياً يعرف أن هذا لا يُمكِن أن يكون ناجماً عن حدوث طفرة واحد، لأن لو طفرة واحدة لوقعت في غيرها حتماً، فهو علم أن هذه ليست طفرة واحدة، وبالفعل وجد أن هذا كان نتيجة وقوع ثلاث طفرات وبالصدفة وبشكل عشوائي، فالطفرة الأولى لم تُفِد شيئاً والطفرة الثانية أيضاً لم تُفِد شيئاً، لكن الطفرة الثالثة دخلت في تركيبة مع الثانية والأولى الآن ثم ظهرت النتيجة، حيث أصبحت هذه البكتيريا قادرة أن تتعامل مع السترات Citrate على أنها مادة تتغذى عليها، وبدأت تتغذى عليها إلى جانب الجلوكوز Glucose، وبهذا تتكاثر أكثر من غيرها بستة أمثال، ومن هنا يقول لينسكي Lenski – كما قلت لكم – والتطوريون الملاحدة بالذات “هذا نوع من المسائل التي يُصِر المُألِهة على أنها لا تقع، وهى تقع وأمام أعيننا، فأنتم تقولون أنها لا تقع ولكن نحن كعلماء نقول أنها تقع”، علماً بأن لا أحد يقول أنا كعالم مُلحِد أقول كذا وكذا، فالدين ليس علاقة بهذا، ولكن هناك مَن يقول أنا كعالم أقول لك أن هذا يقع ولدي الدليل، فأنت تنفي وأنا أُثبِت، والمُثبِت حُجة على النافي، وبطريقة إمبريقية مُوثَقة تستطيع أنت أن تتحقق منها بنفس الأسلوب الإمبريقي أو الأسلوب التجريبي.

نأتي الآن إلى مثال آخر، فهذا هو مُلخَص تجربة لينسكي Lenski، وهى – كما قلت لكم – تجربة مُعقَّدة وطويلة ومُرهِقة وفيها تفصيلات فنية، لكن نحن أعطيناكم روح هذه التجربة، ومَن شاء أن يزداد إذا كان مُتخصِصاً يستطيع أن يعود إلى الكتب المدرسية – أي الجامعية – ويقرأ هذه التجربة في كل فاصيلها وفنياتها.

web-croppedIvory-Stock-KWS-Ivory-Room-Credit-Kristian-Schmidt-for-WildAid_0نأتي الآن إلى الناب الخاص بالفيلة الذي يُسمونه العاج Ivory، وطبعاً هو مطلوب ومعروف في العالم ويُباع بأثمان باهظة جداً لغايات كثيرة معروفة، وعلى كل حال الفيلة من الكائنات أيضاً المُهدَدة بالانقراض، وأحد أسباب تهديها هو كثرة صيدها غير المشروع وغير المُقنَن للاستفادة من أنيابها العاجية، والمفروض أن التطور – وهذا ما فعله التطوريون – يتقدم هنا أيضاً بفرضية أو بتنبؤ يُفيد بأن عند ازدياد تجارب أو مُغامَرات الاصطياد غير المُقنَنة وغير المشروعة سوف يُعطي الانتخاب الطبيعي ميزة بقائية للأنياب الصغيرة، لكن قد يقول لي أحدكم لماذا تقول غير المُقنَنة؟ وبدوري أقول لأن المُقنَنة طبعاً تأخذ في اعتبارها ضرورة بقاء الفيلة، فتكون بأعداد ميسورة مُحدَدة، لكن لم يكن هناك ثمة قانون حاكم وحصل خرق للقانون سوف تكون العملية غير مُنضبِطة بحيث يُشكِّل هذا الاصطياد غير الشرعي تهديداً حقيقياً لبقاء الفيلة، فهو تهديد حقيقي لها ويُمكِن أن يُفنيها، فبعد عشرات السنين تفنى كلها ولا يبقى ولو فيل واحد، وذلك بفعل الاصطياد غير الشرعي وغير القانوني، لكن ما دخل الانتخاب الطبيعي الآن؟ المفروض إذا كان يُوجَد انتخاب طبيعي ويشتغل أن يُعطي ميزة للأسنان الصغيرة وللأنياب الصغيرة، لأن الذين يصطادون طبعاً لا يصطادون الفيلة الكبيرة الحجم أيضاً بأنياب صغيرة، بل يتركونها حتى تنمو أنيابها لكي يُصبِح ثمنها أجدى وأكبر،أما ذوات الأنياب الكبيرة فهى التي تُصبِح هدفاً لنيرانهم، وهذا معناه أن الانتخاب الطبيعي الآن سيُعطي ميزة تفضيلية للفيلة بالأنياب الصغيرة، فتكثر هذه طبعاً، وقد يقول لي أحدكم “هذا يحدث وبشكل طبيعي” وهذا غير صحيح، فهو يحدث ولكن بشكل غير طبيعي، فهل تعرفون ما هو الشكل الطبيعي؟ الشكل الطبيعي عندك هو أن الفيلة الكبيرة بالأنياب الكبيرة طبعاً تُصاد، والفيلة الصغيرة التي ما زالت تنمو بأنياب صغيرة تُترَك، لكن الفرضية ليست كذلك، فنحن سنفترض – وطبعاً الفيل يعيش في المُعدَّل خمس وأربعين سنة إلى خمسين سنة، وهو من أبطأ الحيوانات تكاثراً، نعم يُوجَد مَن هو أبطأ منه ولكنه من أبطأ الحيوانات تكاثراً، فكل ست سنين تقريباً يضع بطناً أو فرداً – وجود فيل في عمر خمس عشرة سنة مثلاً، ويكون العاج الخاص به بشكل مثالي ومُمتاز، وبحسب فرضية التطور المفروض أن ترى بعد عقود أو مئات السنين الفيلة في عمر خمس عشرة سنة وقد تراجع حجم أنيابها، فهذه هى الفرضية العلمية، وليس أن هناك فيلة صغيرة وأحجام عاجها صغير، ليس هذا هو، وإنما في نفس السن، فقبل مائة سنة تكون الفيلة – مثلاً- في سن خمس عشرة سنة ويكون العاج مثلاً بطول كذا وبحجم كذا وبوزن – نفترض مثلاً – عشرين كيلو – الناب الواحد – أو ثلاثين كيلو، والآن بعد مائة سنة من هذا الاصطياد وعمل الانتخاب الطبيعي سنرى الفيلة في سن الخامسة عشرة وقد انخفض وزن العاج ووزن الناب الواحد إلى عشرة كيلات، أي عشرة كيلو جرام وليس خمسة عشر أو عشرين، فهذا معناه وجود انتخاب طبيعي وهذا الانتخاب يشتغل تماماً، بمعنى أن الفيلة – علماً بأن هذا للتبسيط – التي يسمح برنامجها الجيني أنها تُنمّي في سن الخامسة عشرة عاجاً بطول كذا وبوزن كذا بحيث تُصبِح مُهيأة للاصطياد سوف تفنى لأنه ستُصاد، أما الفيلة الأخرى التي برنامجها الوراثي لا يسمح لها بهذا بسبب وجود خلل أو قصور أو أي شيئ لا ندري ما هو ولكن برنامجها لا يسمح لها بأن تبلغ سن الخامسة عشرة وعاجها على النصف أو الثلث أو أقل أو أكثر من هذا – أي أقل من المُعدَّل العادي – سوف تبقى وسوف تتكاثر أكثر، فالصياد لن يطمع فيها، مع أن حجم الفيل نفسه ضخم وسنه ضخم لكن العاج صغير، فهل هذا حدث؟ وهل يُمكِن اختبار هذا؟ قد يقول لي أحدكم أن هذا من المُمكِن أن يحدث ولكن في ملايين السنين، وهذا غير صحيح، لأنه حدث في فترة بسيطة جداً جداً تصل تقريباً إلى زُهاء ستين سنة.

إدارة الصيد الأوغاندية – أي في أوغندا Uganda – نشرت سنة ألف وتسعمائة واثنين وستين تقريرها عن هذه العملية، علماً بأن هذا يُغطي المسافة الزمانية من خمس وعشرين إلى خمس وثمانين، أي ما يقرب من ستين سنة تقريباً، وقالوا “وضح من هذا التقرير أن الفيلة فعلاً اتجهت اتجاهاً واضحاً إلى تصغير أنيابها من حيث الحجم والطول والوزن” ومَن فعل هذا بدأ الآن يسود، وهذا يدل على أن الانتخاب الطبيعي يشتغل، فهناك فيلة في نفس السن بأنياب أقل، والتي كانت قبل ستين سنة بأنياب أكبر تمت إبادتها بسبب كثرة اصطيادها ثم جاء النوع الثاني لكي يبقى.

طبعاً أنا مُتأكِد من أي إنسان مُؤمِن سوف يقول لي “هذا غير صحيح، وأنا غير مُقتنِع بأسطورة الانتخاب الطبيعي هذا، فواضح أنكم تشبثتم بشيئ لم تُحبوا أن تسموه قانوناً أو روحاً توازنية سائدة في الطبيعة وسائدة في العالم تسمح بأن تكون دائماً النتائج مُتوازِنة وتُعطي نوعاً من العقل، فهناك عقل لا يُدرِكه الكائن نفسه ولا يُدرِك عوامله أصلاً ولايُدرِك ظروفه ولا شروطه، هناك عقل سارٍ في العالم يضع كل شيئ في مكانه وفي موضعه وبقدره وفي قدره حتى تستمر الحياة” ونحن سوف نرى هذه التضمينات الفلسفية واللاهوتية ولكن مُتأخِراً.

الآن نأتي إلى تجربة من أعجب التجارب، وهذه التجربة أعتقد أنها تضاهي تجربة سحالي بود مرتشارو Pod Mrcaru وبود كوبيشته Pod Kopište في العجب بل من المُمكِن أن تكون أعجب قليلاً، فسوف أُحدِّثكم عن تكلبن الثعالب والذئاب، والمقصود بكلمة تكلبن أي تحول الثعلب إلى كلب وتحول الذئب إلى كلب، وطبعاً تحول الذئاب إلى كلاب مسألة معروفة، فعلماء الأحياء تقريباً الآن كلهم مُتفِقون على أن الكلاب الأليفة التي نعرفها تم تدجينها من الذئاب قبل عشرة آلاف سنة، وطبعاً يُوجَد منها أكثر من مائة وخمسين نوعاً، فهذه الكلاب الأليفة بدءاً من ذوات الحجم الصغير إلى ذوات الحجم الكبير التي قد يكون حجمها مثل الخروف مرة ونصف وأكثر تم تدجينها، وتقريباً بحسب إحصاء بعض العلماء الأمريكان يُوجَد أكثر من مائة وخمسين نوعاً من الكلاب الأليفة المُدجَنة التي تُسمى بالكلب الأليف Canis Lupus Familiaris، وهذا الكلب الأليف تم تدجينه من الذئاب قبل عشرة آلاف سنة، فالإنسان قام بهذه المُهِمة، وهذا نوع من الانتخاب الصناعي تقريباً، وفي الحقيقة سوف نرى مزيجاً من الانتخاب الطبيعي والانتخاب الصناعي كانت نتيجته ان الذئاب أصبحت كلاباً، علماً بأننا سوف نشرح هذا.

كونراد لورنتس Konrad Lorenz
كونراد لورنتس Konrad Lorenz

عالم سلوك الحيوان النوبلي – حامل جائزة نوبل Nobel طبعاً في هذا الحقل أي في علم الأحياء – النمساوي المشهور جداً كونراد لورنتس Konrad Lorenz له كتابه إسمه Man Meets Dog أي الإنسان يُقابِل الكلب أو الإنسان يلتقي بالكلب، وهو عالم كبير ودراساته جميلة جداً وقوية وفيها أصالة وإضافات كثيرة.

النمساوي لورنتس Lorenz اقترح فرضية وهى أن الكلاب الأليفة مُتحدِرة من نوعين، النوع الأول من الذئاب – Wolves – والنوع الثاني من الثعالب، أي من الذئاب ومن الثعالب فقط، وبقيَ الأمر مُحتمَلاً ومفتوحاً، ووُجِدَ علماء كانوا يُعارِضونه وكذلك علماء كانوا يُؤيِدونه، فالمُعارِضون يقولون “هذا غير صحيح، والأدلة الواضحة على أن هذا الكلب الأليف بكل أنواعه أتى من الذئاب لكن بالنسبة لموضوع أنه أتى من الثعالب أو من أبناء آوى – أي الجاكلز Jackals – فهذا غير واضح لدينا”، وطبعاً بالنسبة للنمساوي كونراد لورنتس Konrad Lorenz كان عنده مُلاحَظات سلوكية، فهو عالم سلوك حيوان كبير، ولاحظ هذا بالمُلاحَظات السلوكية، ولديه أدلة أوردها في كتابه الإنسان يُلاقي – أو يلتقي – بالكلب، ولكن بعد أن قدَّمت علوم الوراثة الجُزيئية أدلتها التي تقريباً من الصعب دحضها أو إدحاضها انتهت نظرية لورنتس Lorenz، فالآن لا تجد على الإطلاق عالماً واحداً يقول لك هذه الكلاب بعضها من نسل الثعالب أو ابن آوى، فكل هذه الكلاب الأليفة مأخوذة من ذئاب، أي أن كلها مُدجَنة من ذئاب، فمن قبل عشرة آلاف سنة بدأت هذه العملية، لكن قد تقول لي هل كل الكلاب ينطبق عليها هذا؟ طبعاً هذا لا ينطبق على كل الكلاب، فنحن عندنا الكلاب البرية، والكلاب البرية أصلها قبل مائة مليون سنة، فهى مأخوذة أيضاً من ذئاب أو شيئ له علاقة بالذئاب ولكن نحن لا نتحدَّث عنها، وإنما نتحدث عن الكلاب الأليفة المُدجَنة التي بدأ ظهورها من عشرة آلاف سنة.

رايموند كوبينجر Raymond Coppinger
رايموند كوبينجر Raymond Coppinger

طبعاً لدينا عالم كبير مشهور جداً إسمه العالم رايموند كوبينجر Raymond Coppinger، وكوبينجر Coppinger عنده كتاب عظيم جداً، وهو أكبر عالم مُتخصِص في هذه النظرية، أي في نظرية الكلاب والذئاب وكيف تطورت الذئاب لتُصبِح كلاباً، والآن سأشرح لكم مُلخَص النظرية، فالعالم عنده كتاب رايموند كوبينجر Raymond Coppinger إسمه Dogs: A New Understanding of Canine Origin, Behavior and Evolution، أي الكلاب: فهم جديد لأصول الكلاب – أي للأصول الكلبية – والسلوك والتطور، وهو كتاب مشهور وعمدة في هذا الباب، فكل علماء التطور يرجعون إلي كتاب رايموند كوبينجر Raymond Coppinger لكي يشرحوا ويُبسِّطوا هذه النظرية، أي نظرية كيف تحولت الذئاب إلى كلاب، لكن ماذا يقول كوبينجر Coppinger؟ يقول باختصار “ليست الذئاب العادية البرية هى التي تحولت إلى كلاب أليفة في بيوتنا وحظائرنا، فهذا مُستحيل، وذلك بسبب مسافة الهروب Flight Distance”، فما هى مسافة الهروب Flucht Abstands إذن؟ علماً بأنك حين تكون في البرية أو حتى في السفاري – مثلاً – أو تُلاحِظ حتى في البرامج الوثائقية ذلك الشيئ سوف تتعجب، فالسبع أو الأسد – Lion – قد يكون أمامك وتراه، وإلى جانبه الحمار الزرد – مثلاً – أو الغزلان أو الظباء والمها بشكل قريب جداً ومن ثم تستغرب من هذا، فهل هى لا تخاف؟ ما الذي يحصل؟ فمسافة الهروب قصيرة جداً وأحياناً تكون أمتاراً، فلماذا هى قصيرة؟ لكن هذه محسوبة وبالتالي لا تخاف، وهم يقولون هذا كان يحدث حتى بالانتخاب الطبيعي، فهم يعرفون هذا، وهذه الحيوانات تعرف قدرتها على الهرب، والأسد يعرف قدرته على الاختطاف، فهو يضرب ضربة بخطف سريع، والكل يعرف هذا، وطبعاً إذا اقترب أكثر من المسافة المسوح بها – مسافة الهروب – فإنها تنفر، لأنها تحسب حسباها وحدها غرزياً وتعرف هذا، وطبعاً هو يحظى بفريسته عموماً، لأن الضعيف والمريض والمهزول والمكسور هو الذي يقع، فالحيوان العادي في الظروف العادية يُفلِت لأنه يعرف مسافة هروبه، لكن لماذا يُغامِر الحيوان؟ لأنه مُضطَر أن يُغامِر، فإذا لم يقترب من هذا المكان – مثلاً خ لن يشرب الماء، فهذا المكان يُوَجَد فيه الماء وهو يُريد أن يشرب، فيأتي والأسود موجودة، وإلا سوف يموت من العطش إذا لم يأت إلى هنا مثلاً.

نفترض مثل وجود بعض الحيوانات القمّامة الرمّامة التي تأكل الجيف وبقايا الحيوانات الأخرى كالضباع Hyenas – هذه حيوانات قمّامة رمّامة، وهى الشريك الأول للأسود، فدائماً تُنازِعها وتغلبها باستمرار – مثلاً، وهذه تكون مُضطَرة كثيراً أن تنال من هذه البقايا الميتة، فهذا اضطرار إذن، وهذا هو قانون صراع البقاء وصراع الوجود، في حين أن الذئاب البرية مسافة هروبها من الإنسان كبيرة طبعاً، ولذلك ليس في برنامجها أن تأكل من القمامات البشرية، فالذئب البري لا يأتي على مزبلة بشرية ويأكل منها، لأنه يخشى من أن يقع في فخ الإنسان، ولذلك يقول رايموند كوبينجر Raymond Coppinger “مُستحيل أن الإنسان دجن – عمل تدجين Domestikation – للذئب البري كما نعلمه كذئب”، فهذا مُستحيل، وذلك بسبب مسافة الهروب، فالمسافة بعيدة جداً، ومن ثم يقول كوبينجر Coppinger “وإنما الذي حصل هو أن أنواعاً من الذئاب البرية قلصت مسافة الهروب وبدأت تتقمم على القمامات البشرية”، وطبعاً هذا العلم شيئ جميل، فسر الجمال في العلم وعامل النجاح فيه هو التخصص، ففي الغرب هنا طبيعي جداً جداً جداً – هذا لا يُمكِن إحصاءه – أن تسمع بعالم تخصَّص في حيوان واحد فقط، بالأمس – مثلاً – كنت أُشاهِد National Geographic Channel ورأيت عالماً مُتخصِصاً في البرص – أبو بريص – فقط، وقال لك أنه من عشرين سنة يدرس البرص، فله عشرون سنة بالضبط في هذا التخصص وهذا أمر عادي، ولك أن تتخيَّل هذا، ولذلك يخرج بنتائج عجيبة طبعاً، وهذا يحدث حتى في الصناعات، فهم يصنعون الآن مادة لاصقة بسيطة تستطيع أن تضعها بيدك وتحمل ثلاثمائة كيلو جرام، وهذه المادة مأخوذة من البرص، فهو أخذ هذا اللاصق من دراسة البرص، وهو لاصق بسيط تضعه على الزجاج فيحمل لك ثلاثمائة كيلو جرام ولا يقع، وهذا تم أخذه من البرص ولكن بعد دراسة وصلت إلى عشرين سنة على البرص فحصلت الاستفادة إذن.

هناك عالم آخر قال أنه تخصَّص في النمل من أربعين سنة، وهناك علم ثالث قال أنه من ستين سنة هو يدرس النحل، أي أنه قضى حياته كلها في دراسته، ولذلك هؤلاء بهذا التخصص وبهذه المُثابرة وبهذا العمق والفنيات طبعاً يستطيع الواحد منهم طبعاً أن يُعيد لك الماضي الذي لم نره ولم نكن هناك لنعيشه، فكيف لنا أن نعرف ما كان يحدث قبل مليون سنة مثلاً؟ لكن يستطيع العالم أن يفعل هذا بالتخصص والخيال والعلم والمُثابر، فيبدأ يُعطيك نماذج ومُقارَبات تُحاوِل أن تُفهِمك ما الذي حصل تقريباً في الوقت الذي لم نكن فيه مخلوقين حتى، وعلى كل حال كوبينجر Coppinger قال “هذا مُستحيل أن يحصل، وإنما الذي حصل هو أن أنواعاً من الذئاب البرية قلصت مسافة الهروب وبدأت تتقمم على القمامات البشرية”، فهى بدأت تفعل هذا ومن ثم كانت هذه البداية، طبعاً والنهاية عندكم، بمعنى أن هذا الحيوان لما بدأ يقترب ألقى الإنسان له – مثلاً – دجاجة ميتة أو قطعة لحم أو قطعة دهون، ومن ثم ائتنس هذا الذئب الذي دجن نفسه تدجيناً طبيعياً، واقترب من الإنسان وبدأ يأكل من قمامته، وهذا تدجين طبيعي، وإسمه تدجين ذاتي، فهم يُسمونه بالتدجين الذاتي Self-domestication، علماً بان هذا هو إسمه العلمي، فهو قام بتدجين ذاته بنفسه وبدأ بالمُبادَرة، وفي خطوات أخرى عبر مئات السنين وربما عبر عشرات السنين وربما حتى في جيل واحد من أجيال هذه الثعالب اقترب بعضها من الإنسان، وبدأ الإنسان يُربِّت عليه ويسمح له على جسمه ومن ثم ائتنس بهذا، فهو يُعطيه طعاماً، وبالتالي بقيَ عنده لأن طعامه كان مُتوفِراً باستمرار، فالآن يبدأ مشوار التطور إذن، وسوف يحدث ما رأينا حدث مع سحالي بود مرتشارو Pod Mrcaru، فهذا الذئب الآن لن يعدو في البراري باستمرار، وسوف يتخلى عن وسائل كثيرة في اصطياد رزقه لأن الرزق أصبح مضموناً وأصبح يُعطى له كل يوم على أن يقوم بالحراسة وأن يُحافِظ على حظيرة صاحبه، وهكذا بعد ألوف السنين سيتحول إلى الكلب الذي نعرف، فكل هذه الكلاب التي نعرف هى أبناء الذئاب، وهناك إجماع على هذا، فكل علماء الأحياء يُوافِقون على هذا،وطبعاً الدراسة الجينية للذئاب والكلاب أيضاً تُؤكِد هذا تماماً وتعطينا المُدة وتقول كيف يُمكِن أن يحصل في عشرة آلاف سنة، وهذا شيئ عجيب، فالبيولوجيا الجُزيئية تُحدِّد لك تماماً هذا، علماً بأن هذا سندرسه بعد ذلك عندما نأتي عند أدلة التطور أيضاً في موضوع الأدلة الجُزيئية، فسوف نرى كيف نعرف هذا وما إلى ذلك، وهذه كلها أشياء جميلة جداً ومُعقَّدة.

tumblr_miktxzi8mn1rtzgg3o1_1280نترك هذا الآن بعد أن فهمناه كمُقدِمة، فنحن نُريد أن نرى تجربة حديثة أمام أعيننا أيضاً، لأننا لا نُريد شيئاً يتعلَّق بعشرة آلاف سنة وإنما نُريد شيئاً يحدث أمام أعيننا، فكيف تم تحويل الثعالب إلى كلاب؟ الثعلب Vulpes — طبعاً ليس كالكلب، وخاصة الثعلب الأحمر عموماً الذي يُسمى بالـ Vulpes vulpes، وطبعاً كل الثعالب في نهاية المطاف هى ثعالب، لكن لماذا يُسمونها بإسم الثعلب الأحمر؟ لأنه الأكثر انتشاراً، فهناك ثعالب فضية ورمادية وبيضاء والكثير من الأنواع المُختلِفة من ناحية اللون لكن الثغلب الأحمر هو المُنتشِر – الأكثر انتشاراً – في أكثر القارات تقريباً،فأكبر الأعداد تكون من الثعلب الأحمر ولذلك تُسمى كلها بالـ Vulpes vulpes، أي تُسمى بإسم الثعلب الأحمر، وهويختلف عن الكلب طبعاً بلا شك، فهو حيوان غير مُدجَّن ولا يأنس بالإنسان ويفترق عن الكلاب في أشياء كثيرة جداً، لكن هل من المُمكِن أن يتخلى عنها ويبدأ يتعود عادات الكلاب ويغير نفسه عضوياً أيضاً في أشياء مُعينة لها علاقة بالجنس والتكاثر – مثلاً – بحيث يُصبِح كالكلب؟ هذا شيئ مُذهِل، وهذا الذي حدث أمام أعيننا، فهناك تجربة لعالم روسي كبير في علم الوراثة وفي علم الحيوانات أيضاً إسمه ديمتري بيليف Dmitry Belyaev أو ديمتري بيلييف Dmitry Belyaev، علماً بأن ديمتري بيليف

ديمتري بيليف Dmitry Belyaev
ديمتري بيليف Dmitry Belyaev

Dmitry Belyaev كان موجوداً أيام ستالين Stalin أيضاً، وأُسنِدَ إليه وظيفة في مزرعة ثعالب من أجل الفرو – أي من أجل فرو الثعالب – في الخمسينيات وذلك في أواخر عهد لينين Lenin، لكن بسبب أن ديمتري بيليف Dmitry Belyaev كان عالماً مُقتنِعاً بالوراثيات المندلية Mendelism والمورجانية Morganism – نسبةً إلى العالم مندل Mendel والعالم مورجان Morgan – تم عزله، فهو كان مُقتنِعاً بالوراثة العلمية كما شرحنا مبادئها بشكل سريع مُقتضَب، والمُهِم هو أن ديمتري بيليف Dmitry Belyaev كان عالماً مُقتنِعاً بالوراثيات المندلية Mendelism والمورجانية Morganism ولذلك تم عزله من وظيفته وذلك في سلطة العالم الزائف المُؤدلِج والمُؤدلَج تروفيم ليسينكو Trofim Lysenko، علماً بأننا حدثناكم عن تروفيم ليسينكو Trofim Lysenko من قبل، وعلى كل حال تم عزله، ولكن من حسن حظ العلم – وبالذات علم الأحياء – أن عالمنا ديمتري بيليف Dmitry Belyaev سوف

تروفيم ليسينكو Trofim Lysenko
تروفيم ليسينكو Trofim Lysenko

يُمارِس أبحاثه أيضاً بعد ذلك، وسوف يُسنَد إليه وظيفة أكبر لكن بعد وفاة ستالين Stalin في سيبريبا، فسوف يُقيم هناك مزرعة كبيرة للثعالب وسوف يُجري دراساته عليها، وطبعاً هنا سنكون أمام انتخاب اصطناعي وليس انتخاب طبيعي، وإنما انتخاب اصطناعي، وهذا الانتخاب الاصطناعي هو صورة مُقابِلة للانتخاب الطبيعي، وفي الحقيقة – كما قلت لكم – لكي أكون دقيقاً علمياً هو مزيج من انتخاب صناعي وانتخاب طبيعي جرى على الذئاب قبل عشرة آلاف سنة وحولها إلى الكلاب الأليفة، وطبعاً هو حوَّل أنواعاً منها وأفراداً منها بالحري، وإلا الذئاب كلها موجودة الآن، فهو حوَّل أفراداً منها إلى الكلاب الأليفة، فهذا انتخاب طبيعي وانتخاب صناعي، لكن هذا الانتخاب الصناعي يعتمد طبعاً على قوانين طبيعية وقوانين حيوية، سوف تُحوِّل الثعالب تقريباً إلى شيئ أشبه بالكلاب، فهناك تحويلات حقيقية على المُستوى أيضاً البنيوي والوظفي، فما الذي حدث إذن؟ سوف نرى الآن، حيث أتى بيليف Belyaev بثعالبه هذه لإجراء التجارب عليها، وطبعاً كان عنده الثعلب المعروف بالثعلب الفضي Silver Fox، علماً بأن الثعلب الفضي فروته مطلوبة جداً وثمينة، فهم كانوا يستجودنه ويُربوته من أجل أن يأخذوا هذا الفراء الذي يُباع بأسعار عالية، وعلى كل حال هو أتى بهذه الثعالب الفضية، ثم قسم الثعالب الفضية التي لديه إلى ثلاث مجموعات بهدف الاستيلاد، فهو يُريد أن يستولد وأن ينتخب الأنواع التي تناسبه أكثر، وطبعاً يُناسِبه بشكل مبدئي الأنواع الأكثر ألفة للإنسان والتي تُقبِل على الإنسان، فهذا يُناسِبه جداً، والهدف البعيد طبعاً هو الفراء وهو هدف اقتصادي، لكن العلم استفاد هنا في الطريق، وهذه الاستفادة قد تكون أتت عرضاً وليس غرضاً، لكن على كل حال استفاد العلم كثيراً والتطور استفاد كثيراً، فهو قسم هذه الثعالب الفضية إلى ثلاثة أقسام أو ثلاث مجموعات، المجموعة الأولى هى الأسوأ وهى التي لا تستجيب للإنسان، فهى تنفر منه وتهرب مُباشَرةً وربما تعضه، وهذه لا تستولد، فنحن لا نحتاجها ولا نُريد أن نُدجِنها اصلاً ومن ثم استبعدها، والمجموعة الثانية هى التي تُقبِل على الإنسان ولا تهرب منه ولا تعضه ولكنها لا تُعطي استجابات إيجابية، أي أنها لا تُعرِب عن أي استجابات إيجابية معه، وهذه لا حاجة لنا بها أيضاً، والمجموعة الثالثة هى المجموعة الأخيرة وهى الأفضل، فهى التي تُقبِل على الإنسان وتألف به وتُحرِّك ذيلها وتُهمهِم له وتقبل أن يمسها وأن يُربِّت عليها وأن يُقدِّم لها طعامها، فهناك بعض الأفراد من الثعالب فعلت هذا، ومن ثم قالوا نحن نُريد هؤلاء، فلو وُجِد فردان في مجموعة من مائتين – مثلاً – تم أخذهما، وقالوا نحن نُريدهما فقط، فهما يفعلان هذا لوجود خطأ ربما في الجينات Genes جعلهما يفعلان هذا.

أنا لدي قط بلاني الله به، وهو قط فارسي جميل جداً جداً، وأنا أُسميه ملك جمال القطط، لكن سلوكه من أسوأ ما يكون، فهو لا يُحِب أن يُحمَل ولا يسمح لك أن تُمسِد عليه، فمُباشَرةً يخمشك، وهذا يدل على وجود خطأ جيني عنده، فهو يفعل هذا مع أن هذا النوع من أحسن الأنواع، وهو نوع شديد الحياء والإقبال على الإنسان، لكن أنا عندي منه فرد من أسوأ الأنواع، فهذا الفرد لا يُستولَد طبعاً، فقط يُرمى في أقرب مزبلة، لكن الله بلانا به والآن نحن نقوم بتربيته، فهو يُعامِلنا كخدك عنده، ويتعامل مع البيت مُعامَلة الفندق Hotel، فيخرج ويأتي كما يهوى ولا بيسمح لأحد أن يحمله لأنه ضيق الخلق – سبحان الله – بشكل غير طبيعي، وعلى كل حال هذه الحيوانات موجودة لأنها مثل البشر، فهناك بشر كذلك أيضاً.

إذن قال بيليف Belyaev أن هذا النوع الثالث أو هذه الفصيلة الثالثة مُمتازة ونحن نُريد أن نستولدها لأنها مُمتازة جداً، فبدأ الآن يعمل Breeding من خلال ذكر مع أنثى وذكر مع أنثى وهكذا من هذه الأفراد بالذات، أي أنه يقوم بعمل انتخاب صناعي Artificial Breeding، فالانتخاب الصناعي يختلف عن الانتخاب الطبيعي طبعاً، لأن الانتخاب الطبيعي يحتاج إلى زمن طويل، لكن الانتخاب الصناعي يُقصِّر الزمن ويحرق المراحل، والانتخاب الطبيعي غير واعٍ وأعمى – Blind – كما سماه دوكنز Dawkins، لكن الانتخاب الصناعي واعٍ ومُبصِر، وذلك لأننا نحن الذين نقوم عليه، فالبشر هم الذين يقومون به، فأنا كإنسان أفعله وأقول أنني أُريد مع هذا وأُريد هذه الصفات الفلانية بالذات دون غيرها، فأنا أعرف ماذا أُريد ولذلك هو انتخاب واعٍ ومُبصِر، ومن هنا كان داروين Darwin مُعجباً جداً بالانتخاب الصناعي، وعنده الحق في هذا صراحة، فهو رأى الذين يستولدون المواشي ويستولدون الخيول ويستولدون الحمام فأُعجِبَ به، وهو نفسه قام باستيلاد الحمام، فهو ربى الحمام عنده في مزرعته في الداون هاوس Down House، وقال “هذا أمرٌ عجيب، كأن الحيوانات لدائن – أي قطع لدائنية – يتم قولبتها وتشكيلها، فتخرج فيما بعد بالشكل الذي أُريده، كأنت تكون بريش مُعيَّن أو بحجم ذيل أو رأس مُعيَّن وما إلى ذلك، ولذا هذا شيئ عجيب”، وهذا طبعاً يحدث في سنوات، ولكنه كان مُعجبَاً جداً بهذه الإمكانية وبطواعية الحيوانات على أن تشتكل بيد الإنسان بهذه الطريقة، فكأنها قطعة من اللدائن وأنت تقوم بتشكيلها، فتُكبِّر من ناحية وتُصغِّر من ناحية أُخرى وهكذا، وفي خلال عشر سنين – مثلاً – تجد الشيئ الذي تُريده تماماً، ولذا كان داروين Darwin مسحوراً مجذوباً بهذا الشيئ، وسوف يحدث شيئ مثل هذا الآن مع هذه الثعالب الرمادية Silver على يد عالمنا ديمتري بيليف Dmitry Belyaev، فهو بدأ في أن يُولِّد بينها، ولكنه لاحظ أن هذه الثعالب – الأجيال الجديدة – الآن بدأت فعلاً تبتعد عن الثعالب وتقترب من الكلاب بشكل واضح، فأصبحت تنشج للإنسان وتُهمهِم له كالكلب، وأصبحت تُحِب التربيت واللمس والقرب من الإنسان، على عكس الثعالب، فالثعالب غير أليفة وتخاف من الإنسان وتنفر منه وتهرب دائماً، لكن هذه ليست كذلك، كما أنها تُحرِّك ذيولها كما تفعل الكلاب، ومن ثم هذا أعجبه جداً، علماً بأن الذي حصل في الحقيقة هو شيئ أبعد من هذا بكثير، فهذا مازال شيئاً عادياً ومُجرَّد سلوك، لكن ما جرى كان أكثر بكثير حتى أنه أجبر هذا العالم وأتباعه أيضاً وتلاميذه الذين واصلوا التجربة بعد وفاته على أن يُعطوا هذه الفئة الجديدة إسم Domesticated Elite، علماً بأنها ليست نوعاً طبعاً، وهم لم يقولوا أن هذا يُعَد نوعاً جديداً، هو أشبه أن يكون نوعاً جديداً ولكنه ليس نوعاً جديداً، فهو ليس ثعلباً رمادياً تماماً، كما أنه ليس كلباً خالصاً، وإنما هو شيئ يقع بينهما، أي بين الكلب وبين الثعلب، فلابد أن نُعطيه إسماً جديداً، وهذا لا يصح أن يُسمى ثعلباً رمادي، لأن حتى الفروة الخاصة به فقدها، وتبقع كما يتبقع الكلب الويلزي Welsh Dog، فاختلف حتى شكله، وطبعاً هنا خسرنا اقتصادياً لأننا كنا نُريده من أجل الفروة، لكنه فقد الفروة الآن، وحتى شكل الذيل الخاص به اختلف، فذيول الثعالب تكون إلى أسفل وتكون كثيفة، فذيولها مُنخفِضة على عكس ذيول الكلاب التي تكون مُرتفِعة إلى أعلى، فهذه الثعالب أصبحت ذيولها أخف ومُرتفِعة كذيل الكلب وهذا شيئ غريب، وفقدت الفروة وتبقعت مثل الكلب الويلزي Welsh Dog، ولذلك هم خسروا اقتصادياً هنا طبعاً، وعلى كل حال تم تسمية هذه الفئة الجديدة بالـ Domesticated Elite، أي النخبة المُدجَّنة، فهم أسموها بالنخبة المُدجَّنة لأنها ليست كلاباً وليست ثعالباً، ثم أنها – كما قلنا – بدأت تتكاثر، وبعد عشرة أجيال من الاستيلاد صار لدينا إجمالياً ثمانية عشرة في المائة من الثعالب من النخبة المُدجَّنة الجديدة، وهذا كثير جداً، وبعد عشرين جيلاً ارتفعت إلى خمسة وثلاثين في المائة في المزرعة، وبعد ثلاثين إلى خمسة وثلاثين جيلاً أصبحت بنسبة سبعين إلى ثمانين في المائة من عشيرة التجربة، أي من العشيرة – Population – التي جرى عليها التجريب، فمن هذه العشيرة صار عندنا من سبعين إلى ثمانين في المائة منها نخبة مُدجَّنة، والعجيب – كما قلت لكم – أنها فقدت فروتها الثعلبية وأصبحت مُرُّقَطة مثل كلاب الرعي الويلزية، فضلاً عن أن آذان الثعالب تكون مُدبَبة مثل السبعة وآذان الكلاب تكون مُتهدِلة، لكن هذه أصبحت آذانها مُتهدِلة، فحتى شكل الآذان اختلف ليُصبِح مثل شكل آذان الكلاب، وهو ما حدث مع الذيل أيضاً، وقد تحدثنا عنه وذكرنا كيف ارتفع الآن وأصبح أقل كثافة ليكون مثل ذيل الكلب، والأعجب من هذا كله كان ما يتعلَّق بالدورة النزوية وهى الدورة الجنسية لها، فطبعاً الكلاب عموماً كما تعلمون لها دورة خاصة بها، فالكلاب الذكور تستطيع أن تأتي إناثها في أي وقت، فأي أنثى تكون في فترة انتزاء أو اشتهاء يأتيها الكلب الذكر، لكن المُهِم الآن والعبرة تتعلَّق بالأنثى في الثعالب وفي الذئاب وفي الكلاب، فالأنثى في الكلاب لها دورتان في السنة فقط، وطبعاً تختلف بين عشائر الكلاب من عشيرة لعشيرة، فبعضها يكون في أكتوبر وبعضها في نوفمبر وبعضها في غير ذلك، لكن عموماً هما دورتان في السنة، وتستمر كل دورة تقريباً ستة أيام، ففي الكلاب تُوجَد دورتان وليس دورة واحدة، وكل مرة تقريباً ستة أيام، لكن في الثعالب تُوجَد دورة واحدة، والآن هذه النخبة المُدجَّنة صارت دورة إناثها النزوية مرتين في السنة، وهذا شيئ عجيب، فعبر التاريخ لها دورة واحدة لكن الآن صار لها دورتان، أي أنها دخلت تقريباً في عالم الكلاب، وهذا شيئ غريب لكنه حدث بالانتخاب الصناعي دون أن نُدخِل معها الكلب، فهنا لا يُوجَد أي تهجين، والكلب ليس له علاقة بالقضية أبداً، قالقضية كلها قضية استيلاد فقط – كما قلت – لأنواع مُعينة أو لأصناف مُعينة بصفات مُحدَدة، وهذا الاستيلاد يكون مُستمِراً بينها، ومع عوامل تربوية خارجية جنجت إلى أن تكلبن، فهذا هو تكلبن الذئاب وتكلبن الثعالب كما قلت لكم، وفي الحقيقة كانت هذه النتيجة لافتة ومُذهِلة جداً، فيبدو أن الذي جرى في تجربة ديمتري بيليف Dmitry Belyaev مع ثعالبه كان شيئاً مُشابِهاً لما جرى مع الذئاب قبل عشرة آلاف سنة، لكن – كما قلنا – فى تجربة بيليف Belyaev كان يُوجَد انتخاب صناعي محض، لكن في التجربة القديمة كان هناك مزيج بين الانتخاب الطبيعي والانتخاب الصناعي.

أدركني الوقت مرة أخرى، إلى أن ألقاكم لأُكمِل معكم أدلة التطور الصُغروي في حلقةٍ ثالثة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(تمت المُحاضَرة بحمد الله)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: