نظرية التطور 

السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات

الحلقة العاشرة

أعمدة النظرية وأدلتها – الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومَن والاه، سبحانك لا علم لنا إلا ما علَّمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.

أما بعد أحبتي في الله، إخواني وأخواتي: السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته، نُكمِل في هذه الحلقة موضوع كيف أفلح تشارلز داروين Charles Darwin في الجواب عن الأسئلة التي حيرته على مدى سنين وفك الألغاز التي كان دائماً يتساءل بصددها في مُلاحَظاته وفي دفاتره الخمسة التي كان يكتبها كلما عنّ له خاطرٌ جديد أو تساؤلٌ مُستجِد، فقد كان له خمسة دفاتر لقبها بالأحرف الأبجدية الأولى من اللغة الإنجليزية، أي الدفتر A والدفتر B والدفتر C والدفتر D، باستثناء الدفتر الأول A فقد كان مُخصَصاً لعلم طبقات الأرض “جيولوجي Geology ” أما الدفاتر الأربعة فقد كانت مُخصَصة لعلم الأحياء والتاريخ الطبيعي، فكلها كانت مواد خام – Raw Materials – تتعلق بالنظرية التي لم تكن آنذاك قد تبلورت كنظرية، فهناك مُلاحَظات كثيرة وتساؤلات، وكانت هذه دفاتر سرية يُخفيها من زوجته ويُخيفها من الناس لأن فيها بعض المُلاحَظات وبعض الأشياء وطبعاً هو كان مُدرِكاً تماماً خطورة نظريته وخطورة العقابيل والتبعات العقية لهذه النظرية.

تشارلز داروين
تشارلز داروين

على كل حال وصلنا إلى أن تشارلز داروين Charles Darwin بهذه النظرية الجديدة استطاع أن يُفسِّر اختلاف الحيوانات في بيئات مُتشابِهة، وبكلمة واحدة لماذا؟ لأنها معزولة أو مفصولة، الأمر الذي أتاح لها أن تتطور كل مجاميع منها على انفراد بطريقة مُستقِلة Independent، وبعد ملايين السنين وجدنا أنفسنا إزاء حيوانات مُختلِفة وأنواع مُختلِفة، فقال “هذا أحد أدلة نظريتي أصلاً”، فهذه ظاهرة فسرها وهو يستدل بها بعد ذلك، وأيضاً هناك حيوانات الجُزر القارية وحيوانات الجُزر المُحيطية، فكما قلت لكم حيوانات الجُزر القارية – Continental Islands – تتشابه مع حيوانات البر الرئيس، أي مع حيوانات القارة القريبة من هذه الجُزر القارية، فلماذا إذن؟ قال داروين Darwin – علماً بأن الجواب أصبح سهلاً الآن في ظل النظرية، فالجواب أصبح واضحاً ومكشوفاً – هنا “لأن هذه الجُزر القارية في الماضي السحيق كانت مُرتبِطة بالقارة الأم وبالبر الرئيس، فكانت جُزءً منها”، فهناك حيوانات موجودة الآن على هذه الجُزر القارية، وهذه الجُزر الموجودة الآن في عمق المحيط وفي عمق الماء في الأصل كانت جُزءً من القارة، والحيوانات التي تعيش عليها أو تقطنها كانت من ضمن حيوانات القارة نفسها، وقد تقول لي لكن لماذا لم تتطور أيضاً عبر مُدة زمنية؟ هذا مُمكِن جداً وهذا ليس مُستحيلاً أيضاً وفق مبادئ النظرية، لكن يبدو أن هذا الانفصال إلى حدٍ ما لا يزال حديثاً نسبياً، فإذا حصل الانفصال – وهو حاصل الآن مع أن المنشأ واحد والمصدر واحد والأنواع واحدة في زمنية طويلة في نهاية المطاف سوف نرى أننا أيضاً بإزاء حيوانات مُختلِفة لكن إلى الآن هذا لم يحصل، في تشابه فهمنا لماذا، والأكثر إثارة من هذا أن حيوانات الجُزر المُحيطية – Oceanic Islands – لا تتشابة مع حيوانات أقرب بر رئيس ومع القارات القريبة جداً منها، فلماذا إذن؟ قال “لأن الجُزر المُحيطية بطبيعتها لم تكن جُزءً من القارة – علماً بأنني شرحت لكم في حلقة سابقة كيف تنشأ الجُزر المُحيطية باختصار طبعاً واقتضاب شديد – ولذلك لأنه ليست جزءً من القارة فطبيعي وبدهي أن تكون حيواناتها مُتميزة من حيوانات البر الرئيس، كما أنني لاحظت أن الجُزر المُحيطية تخلو من البرمائيات Amphibians، فهى ليس فيها حيوانات برمائية، في حين أن الجُزر القارية تشتمل على حيوانات برمائية، واشتمال الجُزر القارية على حيوانات برمائية يُؤكِد فعلاً أن هذه الجُزر في الماضي السحيق كانت جُزءً من القارة، وهناك برمائيات في القارة وهناك برمائيات في جُزرها، أما الجُزر المحيطية التي لم تكن يوماً جزءً من القارة كيف تصل إليها البرمائيات؟ والبرمائيات عموماً ليست مُحصَّنة ضد ملوحة الماء وضد ملوحة ماء المُحيط، فجلدها نفّاذ للماء وبالتالي سيموت حتى من كان يعرف منها من السباحة، فمن كان يعرف منها السباحة سيسبح ثم بعد فترة و بعد أيام سيهلك لأن جلودها نفّاذة للماء، فهى ليست منيعة ضد أو مُحصَّنة ضد ملوحة مياه المُحيط، ولذلك لم تُفلِح أن تصل إلى الجُزر المُحيطية”، وهذا شيئ غريب وهى مُلاحَظة ذكية جداً وجواب أذكى، فإذن النظرية فسَّرت هذا!

الريا Rhea
الريا Rhea

أيضاً ما يتعلق بالأنواع التي تميزت إلى أكثر من نوع واضح أنها ينميها أصلٌ مُشترَك مثل النعام اللاتيني أو النعام الأرجنتيني وهو الريا Rhea طبعاً، فقلنا لكم هنا ريا Rhea في الشمال من حجم كبير وهناك ريا Rhea في الجنوب من حجوم صغيرة، فيقول داروين Darwin هذا نوع آخر وبالتالي غير مُمكِن التناسل بينهما، وكما قلنا بصدد مثال آخر ربما لأسباب ميكانيكية لا يُمكِن التناسل بينهما، فهذا صغير جداً وهذا كبير، فهو أشبه بالنعام في حجمه الحقيقي وإن كان أصغر قليلاً، وهذا شيئ عجيب، ففي الجنوب الريا Rhea الصغيرة دائماً لا تختلط بها ريا Rhea كبيرة، فواضح أنها ريا Rhea وأنها نعام أمريكي لاتيني، وهذه ريا Rhea في الشمال وواضح أنها ريا Rhea، لكن لماذا هنا الصغير وهنا الكبير؟ قال داروين Darwin “هذا يُؤكِد نظريتي مرةً أخرى، خاصة نوع من الانعزال بأي طريق، فقد تخصصت هذه الحيوانات في هذه البيئة وتكيفت معها واستجابت لها بما انتهى إلى هذه النتيجة، فهناك حيوانات ريا Rhea صغيرة، وحيوانات الريا Rhea الأخرى استجابت على نحو مُختلِف في شمال الأرجنتين عبر ملايين السنين وانتهت إلى هذا الحجم وظلت كمجاميع يلوذ بعضها ببعض ويتكاثر بعضها ببعض”، ثم يقول داروين Darwin مُستتلياً “انظروا وانتبهوا إلى ما تفعله الطبيعة وما تفعله الحيوانات حين تستجيب للطبيعة بأشكال وأنحاء مُختلِفة، فالمسألة لا تتعلَّق بخلق مُستقِل وأن الله خلق الأنواع وأصبحت أنواعاً ثابتة Fixed Species، وهى ليست أنواعاً ثابتة أبداً ولكن هى مُتحرِكة”، وإلى الآن يُمكِن لكثير من الناس حتى المُتدينيين أن يقبلوا مثل هذه المُعطَيات ومثل هذه الوقائع، فلا يُوجَد أي مُشكِلة عندهم في هذا ولكن أين يبدأ التحرج؟ يبدأ التحرج إذا أردت أن تذهب مع تشارلز داروين Charles Darwin إلى آخر شوطه التطوري، فهو يقول لك “أنا لا أكتفي بهذا وأنا غير مُقتنِع بهذا فقط، فأنا سأبقى أنحدر وأنحدر وأنحدر أو أعود إلى الماضي لكي أضع أصبعي على حقيقة أن كل مئات ملايين هذه الأنواع قد تحدرت من أصل واحد بسيط عبر مئات ملايين السنين”، وهنا يحدث طبعاً الانكسار في المواقِف ويحدث النزاع، لكن هذا ما يُريده داروين Darwin وهذا ما يُؤكِد عليه، fINCHESونفس الشيئ الآن يُصبِح واضحاً لدينا في الجواب عن لماذا تميزت طيور الفنشيز Finches، ولن نترجمها كما قلنا بالشراشير أو الحساسين أو البراقش أو الطيور المُغرِّدة كما قال بعضهم، وإنما سوف نقول الفنشيز Finches أو داروينز فنشيز Darwin’s Finches لأنها نُسِبَت إليه، فهو كان على الأقل أول مَن أتى بعينات منها وتساءل بصددها في بلده وفي أوروبا عموماً فنُسِبَت إليه، وكانت تقريباً ثلاثة عشر أو أربعة عشر نوعاً كما أفاده العالم المُتخصِص في الطيور جون جولد John Gould حين قال له “هذه أنواع وليست مُجرَد اختلافات بسيطة”، فلماذا إذن؟ لأن تشارلز داروين Charles Darwin حين نشر أصل الأنواع في ألف وثمانمائة وتسعة وخمسين وتحدث عن التباينات بين الحيوانات الداجنة ومن ثم التباينات بين الحيوانات في البرية – Wild – أيضاً – علماً بأن أي حيوان غير داجن وغير مُستأنَس وغير مُدجَن يُسمى حيواناً برياً، سواء كان يعيش في نهر أو يعيش في بحر أو يعيش في مُحيط أو يعيش في صحراء أو يعيش في دغل Jungle، فهذا إسمه حيوان بري، وبالتالي يجب أن ننتبه إلى أن هذا هو المقصود، فكلمة البرية لا يعني أنه يعيش في الصحراء فقط، وعلى كل حال هذا هو مُصطلَح الحيوانات البرية في علم البيولوجي Biology –
قال العلماء إلى وقت نشر أصل الأنواع أنه لا مُشكِلة لأن هذه التباينات موجودة ونحن لمسناها ووصفناها أو بعضها، ولكنها تباينات يسيرة طفيفة ولا ينبني عليها كبير مُهِم، فقال لهم داروين Darwin “أخطأتم، بالعكس هذه التباينات خطيرة جداً، وهذه في زمنية طويلة سوف تُفضي إلى انتواع، أي ظهور أنواع جديدة، كما أن هذه الأنواع التي تلحظونها الآن لم تكن قبل عشرات ومئات من السنين هى هى، فكانت شيئاً أخر مُختلِفاً على مُستوى التصنيف”، وطبعاً هذه التغايرات حين تتراكم وفق داروين Darwin تُحدِث اختلافاً في كل الفئات التصنيفية مثل العائلة والرُتبة والفصيلة وتُحدِث اختلافات على مُستوى النوع طبعاً وعلى مُستوى الجنس، فكله يُحدِث ولكن بحسب التطور على سُلَم الزمان.

فالفنشيز Finches أصبح الآن مُفسَّراً لداروين Darwin، وواضح أنه حين أتى أول سرب من هذه الطيور إلى هذه الجُزر ” الجلاباجوس Galápagos   ” كان مجموعة أفراد من نوع واحد، وطبعاً يُمكِن جداً أن تأتي الطيور إلى جُزر مُحيطية، فهذه جُزر بركانية مُحيطية، وذلك لأنها تطير، فالطيور تطير وبالتالي لا يُوجَد عندها مُشكِلة، لكن الحيوانات التي ينبغي أن تأتي سابحةً لا تُفلِح كلها في أن تأتي، أما الطيور تأتي بدون أي مُشكِلة، فهى قد تأتيك على جزيرة قارية وعلى جزيرة مُحيطية لأن الطيور كلها تطير، وعلى كل حال هو قال “حين أتى أول سرب منها كان مجموعة أفراد من نوع واحد”، وكما شرحت لكم في الحلقة السابقة بحكم تغيرات في البيئة وصراع على الموارد الغذائية التي بدأت تنضب وتُصبِح غير كافية للإسراف في التكاثر، حيث لم تكن هناك ثمة مُفترِسات Predators ولم يكن هناك ثمة مُفترِسات لطيور الفنش Finch أو الفنشيز Finches – أي البرقشيات أو الشراشير – بدأ الآن الانتخاب الطبيعي يعمل على استغلال التباينات، فهناك تباينات كثيرة، فالذي يتوفر على مُنقار غليظ وقوي قادر على تكسير البذور الكبيرة عنده فرصة الآن لكي يستجيب استجابة جديدة مُطوِّراً استراتيجية غذائية أو تغذوية جديدة، لأنه سيترك البذور الصغيرة وسيترك الديدان ويشتغل على البذور الكبيرة، وبعد حين سوف نرى مجموعة هذه البراقش أو الشراشير أو الحساسين ذوات المناقير الكبيرة الغليظة القوية قد انحازت إلى بعضها البعض وتكاثرت مع بعضها البعض، وبعد فترة طويلة من الزمن سوف نرى أننا بإزاء نوع مُنفصِل من البرقش مع أنه في الأصل هو طائر فنش Finch، وهكذا مع الثاني صاحب الأنف الدقيق الرفيع الذي لا يصلح إلا للبحث عن ديدان الأرض مثلاً أو الدود أياً كان، وهكذا مع صاحب الأنف الوسط الذي سيتخصص في الحبوب الصغيرة والبذور الصغيرة، وهلم جرا!

إذن نجد كما يُؤكِد بعض علماء التاريخ الطبيعي في مجموعة جُزر حوالي ثلاثة عشر أو أربعة عشر نوعاً من الفنش Finch أو من طائر الشرشور، وهذا أصبح الآن الأمر مُفسَراً، لكن قبل ذلك كان الأمر مُستغلِقاً تماماً وغير مفهوم ما الذي يحصل، وكان يُقال لماذا هذا طائر واحد لكنه يختلف كل هذا الاختلاف؟ لكن بحسب مبادئ النظرية الأمر أصبح واضحاً ومُفسَراً تماماً.

جورج كوفييه Georges Cuvier
جورج كوفييه Georges Cuvier

 تبقى نظرية انقراض الحيوانات، ففي انقراض الحيوانات يُوجَد انقراض دون أن يُخلِّف أشباهاً وأمثلة لكن تختلف مورفولوجياً، ويُوجَد انقراض مُعاكِس، حيث ينقرض الحيوان ويُخلِّف أخلافاً له تختلف من ناحية مورفولوجية، علماً بأن أي خلاف في الشكل وفي الحجم وفي البنية يُقال أنه خلاف مورفولوجي، فهذا هو علم المورفولوجيا Morphology الذي أسس له الفرنسي كوفييه Cuvier، فمثلاً نحن رأينا كسلان الأرض الضخم العملاق الذي عثر تشارلز داروين Charles Darwin على أحفورته – Fossil – ولكن إلى اليوم هناك كسلان الشجر الصغير، فذاك انقرض وهذا بقيَ، فلماذا إذن؟ ونفس الشيئ يحدث في سائر الحيوانات التي خلفت أخلافاً صغيرة لها، فلماذا حصل هذا؟ يقول لك “لأن ذاك العملاق لم يعد مُلائماً للبيئة بعد أن طرأ عليها تجددات وتغيرات جديدة – لا ندري ما هى – فلم يعد مُلائماً ومن ثم انقرض” أي أن هذا يحدث في ظل تغيرات مُعيَّنة وطبعاً داروين Darwin لم يكن ليتحدث عن الطفرات، لكن منشأ التغيرات – كما قلنا لكم – يُعَد لغزاً كبيراً في النظرية وثغرة لم يسدها داروين Darwin لكن ستُسَد بعده وسأشرح لكم هذا الليلة كيف تم سد هذه الثغرة المُتعلِّقة المُتعلِّقة بمنشأ التغيرات، فمن أين تأتي التغيرات؟ وكيف تنشأ التغيرات؟ علماً بأن نظرية لامارك Lamarck غير صحيحة هنا وغير كافية في تفسير نشأة التغيرات وتوريثها معاً طبعاً، وعلى كل حال حدثت هذه التغيرات وسيشتغل عليها الانتخاب الطبيعي، فالانتخاب الطبيعي سيقول “حيوان بهذا الحجم يُناسِب البيئة أكثر”، علماً بأن ليس الانتخاب الطبيعي وحده هو الذي سيقول هذا، ولا يُوجَد شيئ إسمه انتخاب طبيعي أصلاً، لكن هذا الذي يحدث في الواقع، فهناك نوع مُلاءمة بين الحيوان بالتغير الحادث وبين البيئة وشروطها، فقط هذا هو، وهذا يُعبَّر عنه بأن الانتخاب تدخل، ولكن هذا كله كلام مجازي -Metaphoric – على كل حال، وداروين Darwin كان واعياً بهذا ونبه عليه تماماً وإن أَسِفَ له لأنه أيضاً أوجب سوء الفهم للنظرية، علماً بأن إلى اليوم هناك مَن يتحدَّثون – وخاصة من رجال الدين – وكأن هناك فعلاً شيئ إسمه الانتخاب الطبيعي، وكأنه كائن عاقل ما أو قوة في الطبيعة ما، ويبدأون يُوجِّهون سهام النقد للانتخاب الطبيعي ويقولون أين ذكاء الانتخاب وأين كذا وكذا، والأمر ليس على هذا النحور بالمرة، وهذا الكلام كله عبارة عن أسهم مُوجَهة في الهواء وفي الفراغ، فلا تقتل ولا تُدمي، لأن الانتخاب يعمل بطريقة مُختلِفة عما ظن هؤلاء!

إذن كيف تم الانقراض ولماذا؟ لهذا السبب، فهناك حيوانات انقرضت ولم تُخلِف لها أو لم تخلُف منها أخلاف صالحة للبقاء إلى اليوم، وهذه كثيرة جداً جداً وهى الأكثر كما قلت لكم، فهناك حيوانات انقرضت بالملايين بل يُقال أنها بالملايير في الحقيقة، وقلت في حلقة سابقة أن بعضهم يٌقدِّر أنها أربعة مليارات نوع، أي أربعة مليارات نوع تم انقراضها وهذا شيئ عجيب، في حين أن الأنواع العائشة اليوم والتي تعمر الأرض اليوم يتراوح عددها بين عشرة ملايين ومائة مليون نوع، فإذا قرأت الآن أي كتاب أو أي ورقة علمية أو شاهدت أي فيلم وثائقي وقيل أن الأنواع ربما تصل إلى عشرين مليون فلا تقل هذا غلط لأنه كلام صحيح، فقد تصل إلى ثلاثين مليون وخمسين مليون وتسعين مليون، وهى تتراوح بين عشرة ومائة مليون، ولكن انقرض زهاء أربعة آلاف مليون أي أربعة ملايير، وهذا عدد هائل جداً جداً، ولكن قال داروين Darwin “نظريتي تُفسِّر انقراض الأنواع في المرتين في حين أن نظرية الخلق الخاص المُستقِل لا تُفسِّر هذا، فليس من الحكمة – أي أن داروين Darwin يقول أين هى الحكمة؟ – أن يخلق الرب كل هذه الملايين من الأنواع ثم يسمح لها بأن تنقرض وكأنها لم تكن، فلماذا خلقها إذن؟ هنا يُوجَد شيئ غير مفهوم وشيئ غير واضح، أما حين نتبنى المنظور الذي أُقدِّمه والذي أقترحه وهو أن هذه الأنواع تنشأ ويُوجَد صراع على البقاء وصراع على الموارد – كما رأينا – وبالتالي هناك كائنات تتيكف وكائنات تفشل أن تتكيف فطبيعي جداً أن كل من لا يتكيف ينقرض ويُستبعَد، ففي ملايين السنين أيضاً سوف يُستبعَد تحت شروط مُختلِفة، والذي يُفلِح أن يتكيف سوف يبقى”، ولذلك قلت لكم مرة في حلقة سابقة انتبهوا، فنحن خاصون جداً جداً جداً،ولا أقصد البشر وإنما كل الأنواع، فكل الأنواع التي تُوجَد وتعيش اليوم وتعمر الأرض هى أنواع خاصة بل في مُنتهى الخصوصية Very Very Very Very Special، لكن لماذا؟ لأنها الأنواع التي أفلحت أن تعيش وتبقى مُستمِرة في حين انقرض – كما قلت لكم – أربعة آلاف نوع، فنحن أبناء المُنتصِرين في السباق.

ريتشارد دوكنز
ريتشارد دوكنز

سوف نشرح لكم فيما بعد أن موقِف التطوري الكبير طبعاً ريتشارد دوكنز Richard Dawkins ليس هو موقِف داروين Darwin نفسه، وإنما هو موقِف النظرية التطورية التركيبية المُعاصِرة في النُسخة الصلبة منها، وسوف نشرح هذا بعد أن نفهم ما هى التركيبية التطورية المُعاصِرة، فهو يتبنى التركيبية التطورية المُعاصِرة التي أسس لها الألماني أوغست وايزمان August Weismann – والأمريكي العظيم إرنست ماير Ernest Mayr ودوبزانسكي Dobzynski وإلى آخره، فسوف نشرحها بالتفصيل إن شاء الله، علماً بأن لها مبادئ عشرة تُلخِص هذه النظرية، أي أن هناك عشرة مبادئ، في حين أن تطور داروين Darwin له ثلاثة مبادئ، لكن التركيبية المُعاصِرة لها عشرة مبادئ حتى نفهمها، وهى النظرية الشاملة في التطور طبعاً، فلا ينبغي لك حين تنتقد أمثال دوكنز Dawkins أن تقرأ أصل الأنواع ومن كتب ضده ثم تبدأ تنتقض، لا ينبغي أبداً فقد تم سد ثغرات كثيرة وتمت مُعالَجات كثيرة، أي جرت مياه كثيرة جداً جداً جداً في نهر هذه النظرية بعد داروين Darwin، واشتغل عليها عشرات كبار العباقرة وسدوا فيها هذه الثغرات، وهى دائماً إلى الأحسن، وعلى كل حال من عادة

أوغست وايزمان August Weismann
أوغست وايزمان August Weismann

دوكنز Dawkins – ريتشارد دوكنز Richard Dawkins – الدائمة أنه يسأل تلاميذه مَن منكم اتفق أن مات جده أو جدته في فترة الطفولة؟ فبعضهم يرتبط في البداية ثم بعد قليل يلوح لهم أنهم كانوا مُستغفَلين لأن هذا لا يُمكِن أن يحدث، فكيف يموت جدي في فترة الطفولة؟ هذا مُستحيِل، فلو مات جدي في فترة الطفولة صغيراً لما أتيت أنا، فلا يُوجَد أي أحد منا مات جده صغيراً، هذا مُستحيل، فكل أجدادنا عاشوا وكبروا وتزوجوا وخلَّفوا من أجل أن يأتوا بآبائنا، وآباؤنا أتوا بنا، لكن في البداية سيبدو لك أن هذا السؤال يُعَد منطقياً وعادياً وقد تبحث هل مات جدك وهو صغير أم لا، لكن في الحقيقة هذا مُستحيل، فكيف مات جدك صغيراً وأنت الآن موجود؟ وهذا هو معنى أننا أبناء المُنتصِرين، فنحن أبناء المُنتصِرين وأبناء الذين فازوا في سباق الوجود وفي صراع الوجود، فنحن الأصلح أو نحن من الأصلح وهى فئة ضئيلة ونحيفة جداً جداً – Very Very Slightly – وتشتغل على نحو ضئيل!

إرنست ماير
إرنست ماير

نرجع إلى موضوعنا الرئيس، فتشارلز داروين Charles Darwin لم يكتف طبعاً بأن فسَّر هذه الأشياء، فكان لابد أن يدعم نظريته بمزيد من الأدلة ومزيد من الشواهد، فهو فك الأحاجي وأجاب عن بعض الألغاز التي صدعته ولكن هذا لا يكفي لبناء نظرية، ومن هنا لكي نفهم نحن الحدود الحقيقية لعمل هذا الرجل الكبير أو العالم الكبير سنستعرض أصل الأنواع بشكل سريع جداً وبسرعة شديدة جداً وقد تكون مُؤذية لقمية الكتاب ومُساهَمة الكتاب لنعرف ماذا قدم داروين Darwin في هذا الكتاب، وسوف نجعل عرضنا للطبعة الأولى من أصل الأنواع، فلماذا إذن؟

تمثال تشارلز داروين فى ساحة متحف التاريخ الطبيعى بلندن
تمثال تشارلز داروين فى ساحة متحف التاريخ الطبيعى بلندن

طبعاً التطوريون إلى اليوم يأسفون للمصير الذي انتهى إليه داروين Darwin، والمصير هذا تعرضه الطبعات المُختلِفة لأصل الأنواع، حيث التراجعات التي عانى منها، ففقد الثقة في نظريته أحياناً وفقد الثقة أحياناً حتى في الانتخاب الطبيعي، ونظرية التطور بغير انتخاب طبيعي تُساوي صفراً، فهى لا تفعل شيئاً ولا تُفسِّر شيئاً ولا تُقدِّم شيئاً، وكل ما شرحناه هو مادة خام يشتغل عليها الانتخاب الطبيعي، وفي النهاية الناتج هو التطور Evolution والتغير أو التغيرات Changes والتحولات Transformations، فبغير انتخاب طبيعي لن يكون عندك أي شيئ، هذا كله كلام فارغ، لكنه شك حتى في الانتخاب الطبيعي وتردد كما سوف يأتي، وقد قلت لكم أنه ارتد إلى اللاماريكية Lamarckism، ولذلك حين استهلت سنة ألف وتسعمائة وتسع – أي بعد خمسين سنة سنة بالضبط من أصل الأنواع، لأن أصل الأنواع كان في ألف وثمانمائة وتسع وخمسين، وهنا ألف وتسعمائة وتسع، فهذه خمسون سنة أو نصف قرن، أي بعد خمسين سنة على أصل الأنواع – أقام علماء التاريخ الطبيعي والأحياء في المملكة المُتحِدة معرضاً كبيراً للداروينية Darwinism في متحف التاريخ الطبيعي حيث نُصِب تمثال أو نُصُب تذكاري لتشارلز داروين Charles Darwin، علماً بأنني حدثتكم عنه في الحلقات الأولى، وطبعاً هذا التمثال في النهاية أُخِذ من الأمام ومن مواجهة أومن واجهة المتحف ووُضِعَ في مركز الصالة الرئيسة – Main Hall – بدل تمثال مُؤسِس المتحف ومُديره الأول ريتشارد أون Richard Owen، لكن متى هذا؟ بمُناسَبة مرور مائتي سنة على ولادة تشارلز داروين Charles Darwin في سنة ألفين وتسعة، لكن في الأول كان موجوداً في مُدخل المتحف، والعجيب والمُؤسِف أن في معرض

أدركني الوقت مرة أخرى، إلى أن ألقاكم في حلقةٍ مُقبِلة أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.

(تمت المُحاضَرة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: