تعقيبا على سلسلة المحاضرات حول معاوية بن ابي سفيان والتي لاقت قبولا كبيرا من المتابعين لها، والتي نسعى جاهدين لإيصالها إليكم عبر هذا الموقع المبارك، وجهت لشيخنا الفاضل حفظه الله أسئلة واستفسارات كثيرة حول معاوية كونه خال للمؤمنين ولماذا الطعن فيه حال كونه من كتبة الوحي. فأجاب مشكورا على هذا السؤال بعجالة على أن يفصّل القول في محاضراته القادمة إنشاء الله وهذا هو جوابه :

شكر الله لك أخي السائل و أنار قلبك بمعرفته

و جوابا عن سؤالك أقول :

سأخصص الجواب عن هذه الشبهة بمحاضرة برأسها بعون الله تعالى، و لكن الى ذلك أختصر الجواب فيما يلي:

1ـ هل ثبت أصلا أن معاوية كان كاتبا للوحي؟ الظاهر ان هذه إحدى كبريات الاكاذيب في تاريخنا والتي خالت على معظم الناس بفعل التكرار وإرسالها إرسال المسلَّمات، وكما قيل بحق: إكذب واكذب واكذب، وفي النهاية سيصدقك الناس، فليس بين أيدينا البتة نص صحيح صريح أن معاوية كتب الوحي لرسول الله عليه وعلى آله الصلاة والسلام، بل كل ما لدينا أنه كان كاتبا للرسول، ومن المعلوم أن كاتبيه عليه الصلاة والسلام كانوا أنواعا شتى وطبقات، فمنهم كتاب الوحي، ومنهم كتابه الى الملوك والامراء، وكتاب معاملاته ومداياناته، وكتاب الى امرائه وسراياه وبعوثه، واخرون كتبوا معاهداته وصلحه, و كتاب للصدقات وخرص النخل، الى غير ذلك

فمن أي هؤلاء كان معاوية؟

ورد في سير اعلام النبلاء للذهبي: ونقل المفضل الغلابي عن أبي الحسن الكوفي قال: كان زيد بن ثابت كاتب الوحي، وكان معاوية كاتبا فيما بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين العرب.

وورد في الاصابة للحافظ ابن حجر : قال المدائني: كان زيد بن ثابت يكتب الوحي وكان معاوية يكتب للنبي (صلى الله عليه وآله) فيما بينه وبين العرب.

و لم يُصَرَح بكتابته للوحي الا في حديث لابي عوانة و هو غلط كما سأبينه تفصيلا بعون الله في المحاضرة.

و لو استظهر الزاعمون كتابةَ معاوية للوحي بالثقلين ليثبتوا ان معاوية كتب آية واحدة ـ لا سورة كاملة ـ لرسول الله عليه الصلاة و السلام ما إستطاعواو لا قدروا.

2ـ ثم إن رسول الله عليه السلام واله لم يختر معاوية ليكتب له إبتداء حتى يقال: ما اختاره عليه السلام الا لما علم من فضله وخيره, بل وافق عليه السلام على إلحاقه بكاتبيه تلبية لطلب ابيه ابي سفيان بن حرب و تألفا له , كما ورد في صحيح مسلم عن ابن عباس : كان المسلمون لا ينظرون الى ابي سفيان و لا يقاعدونه (اي بعد اسلامه), فقال للنبي صلى الله عليه واله و سلم : يا نبي الله ثلاث أعطنيهن , قال : نعم …قال: و معاوية تجعله كاتبا بين يديك , قال عليه السلام : نعم … وقال ابو زميل : و لولا أنه طلب ذلك من النبي عليه السلام ما أعطاه ذلك , لانه عليه السلام لم يكن يُسأل شيئا الا قال : نعم.

3ـ ومن المعلوم ان الذين كانوا يتقنون الكتابة و القراءة في زمن الرسول كانوا قلة وندرة, فكانت تمَسُّ الحاجة الى توظيف من يتقن ذلك لا لميزة خاصة فيه , فلو كان الذين يحسنون الكتابة والقراءة كثيرين واختار الرسول من بينهم اناسا باعيانهم لصح ان يقال: انه ما اختارهم و لا آثرهم على غيرهم الا لفضل اختصوا به.

4ـ ثم ان كاتبيه عليه الصلاة و السلام غير واحد او اثنين او ثلاثة , فقد عدّهم بعض العلماء ثلاثة عشر, بينا بلغ بعدتهم آخرون ثمانية و اربعين كاتبا على اختلاف تخصصاتهم . وفي رأسهم الخلفاء الراشدون الاربعة رضوان الله عليهم, و أبي بن كعب, و الزبير بن العوام وخالد بن سعيد بن العاص وقيل: هو اول من كتب للنبي, وزيد بن ثابت الذي قال غير واحد : انه الزمهم لهذا الشأن و اخصهم به.

ومن المعلوم ان القرآن محفوظ اصلا في الصدور قبل ان يحفظ في السطور ولذا كان اشهر اسمائه القران يتلوه الكتاب, اشارة الى محفوظيته في الصدور والسطور, فما كان بوسع كاتب كائنا من كان ان يحرف حرفا مما يكتب, لان ذلك لن يجديه شيئا, والله تعالى قد امننا ان يضيع شيئ او يتحرف من كتابه العزيز (انا نحن نزلنا الذكر و انا له لحافظون) وسيأتي ان بعض كتاب الوحي قد ارتدوا فما ضرّ ذلك القران شيئا.

5ـ و لعل أهم ما ينبغي فهمه وتقريره هو ان الكتابة للرسول حتى لو كانت كتابة للقران العظيم لا تعني العصمة لصاحبها ولا المحفوظية بدليل ان هناك من كان كاتبا للوحي ثم كفر وارتد و سخر من رسول الله عليه الصلاة والسلام واله , قال الحافظ العراقي في الفية السيرة:

وذكروا ثلاثة قد كتبوا وارتدّ كل منهم و انقلبوا

ابن ابي سرح مع ابن خطلِ واخر مبهم لم يسم لي

ولم يعد منهم الى الدين سوى ابن ابي سرح و باقيهم غوى

وهذا الذي أُبهم, ذكر قصته البخاري و مسلم في صحيحهما عن انس بن مالك قال : كان منا رجل من بني النجار قد قرأ البقرة وآل عمران وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم (قال ملا علي القاري في المرقاة والهرري في الكوكب الوهاج : اي الوحي), فانطلق هاربا حتى لحق باهل الكتاب, قال: فرفعوه, قالوا: هذا كان يكتب لمحمد, فأعجبوا به, فما لبث ان قصم الله عنقه فيهم ( اي مات ) فحفروا له فواروه فاصبحت الارض قد نبذته على وجهها, ثم عادوا فحفروا له فواروه فاصبحت الارض قد نبذته على وجهها, ثم عادوا فحفروا له فواروه فاصبحت الارض قد نبذته على وجهها, فتركوه منبوذا. و هذا لفظ مسلم, واخرجه ابن حبان و فيه ان النبي اخبرهم ان الارض لن تقبله.

6ـ ثم ما هذا الكاتب البار الفاضل (اعني معاوية) الذي يرسل اليه النبي مرتين في حاجة له ـ يظهر من سياق الحديث تعلقها بالكتابة ـ فلا يجيبه و يتعلل بأنه يأكل, حتى دعا عليه النبي عليه الصلاة و السلام: لا أشبع الله بطنه, فما شبع بعدها وكان يأكل في اليوم سبع مرات ويقول: لا أشبع و لكن أعيا,اي اتعب, كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير في تاريخه, والحديث صحيح اخرجه مسلم وغيره, وقد فصلتُ القول فيه في محاضرة يسّر الله انزالها على الشبكة قريبا. ومن المعلوم ان الرسول لو دعا احدا من اصحابه وهو في صلاة للزمه ان يلبيه كما ورد في قصة ابي سعيد بن المعلى في صحيح البخاري من روايته, وقصة ابي بن كعب عند الترمذي من رواية ابي هريرة.

7ـ وأخيرا نؤكّد ما قررته قواعد الشريعة المطهرة المعلومة لعموم المسلمين على اختلاف الازمان ـ والمشيدة على اسس من ايات الكتاب الاجل و ما تواتر معناه من حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام ـ من أن العبرة بالعمل الصالح مع النية الصادقة والقصد الخالص وما يموت عليه المرء فانما الاعمال بالخواتيم , لا بالالقاب و لا بالانساب و لا بالدعاوى , فمن أحب ان يقف على حقيقة امر معاوية فلينظر في سيرته وأعماله ومأتياته و ليزنها بميزان الشرع المطهر, بعيدا عن الشعريات والعواطف الساذجة التي يُشغب بها بقصد تغطية الحقائق الصارخة و طمس الادلة الواضحة القاهرة .

اللهم ارنا الحق حقا و ارزقنا اتباعه وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه, و احسن ختامنا, اللهم امين, واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: