تفسير القرآن الكريم ۞ سورة سبأ، الآيات 23: 33 ۞ الحلقة 5

video
الحلقة الخامسة من برنامج تفسير القرآن الكريم والتي استمر فيها الدكتور عدنان إبراهيم تفسير سورة سبأ الآيات 23 -33

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومَن والاه. اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا فقهاً وعلماً ورشداً.

إخواني وأخواتي:

نُتابِع تفسير سورة سبأ، ونبدأ – إن شاء الله في البداية – بتلاوة الصفحة التي نُريد – بعون الله – تفسيرها.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ۩ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ۩ قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۩ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ۩ قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ۩ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ۩ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ۩ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ۩ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم.

 

۞ وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ۞

 

وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ ۩، لا إله إلا هو، إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۩، الشفاعة في أصلها من الشفع كما تعلمون، أن يأتي واحد وآخر معه، فيُصيّره ماذا؟ شفعاً. لأنه إن أتى برأسه فهو ماذا؟ وتر. مُفرَد! فيأتي معه آخر، فيصيرا ماذا؟ اثنين. شفعاً! ويُراد بها في الاصطلاح أن ينتدب نفسه مَن له مقام أو سُلطة أو مثابة عند صاحب القضية في مشفوعٍ فيه. فيقول – مثلاً – هذا لا يهم، ضعها عنه، سامحه، تجاوز عنه، اجعلها في وجهي. إلى آخره! هذا في حال الدنيا، وأما في الآخرة فأن يشفع مَن يأذن له الله – تبارك وتعالى -، من ملك أو نبي أو صالح المُؤمِنين، فيمَن استحقوا العذاب، لا بكفرهم، لأن الكفّار ليس لهم هذا، ومَن يلقى الله بالكفر فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ ۩، إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ ۩، إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۩، إذن الشفاعة تكون فيمَن؟ فيمَن لم يستوجب الخلود في النيران بالكفر والشرك، أي مُؤمِن مُوحِّد عصى الله – تبارك وتعالى -، خفت موازينه، لأن طبعاً يُمكِن أن يكون هذا مُؤمِناً وخفت موازينه، هناك حسنات في كِفة، وهناك سيئات في كِفة، فشالت كِفة الحسنات، أي طاشت، شالت! ولا تشيل ولا تطيش إلا وماذا؟ إلا وهي أخف من أختها. هذه ثَقُلَتْ ۩ بها، كِفة – اسمها كِفة، وليس كَفة، كِفة بالكسر – السيئات ثقلت بكِفة الحسنات، فطاشت! والنبي عبَّر بهذا التعبير، قال لك طاشت. ارتفعت كِفة الحسنات، إذن هذا ماذا؟ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ۩. سيذهب إلى جهنم – والعياذ بالله -، ويُمكِن أن تكون هناك شفاعة، ولن نتحدَّث عن أنواع الشفاعة وضروبها، فهذا الموضوع موجود في كُتب العقائد بالتفاصيل، ولكن نتحدَّث بما له علاقة بالآية.

قال – عز من قائل – وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ ۩، لا إله إلا هو، إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۩، الاسم الموصول هذا (مَنْ ۩) – أي إلا للذي أذن الله له – يعود على مَن؟ تقول لي يُمكِن  أن يعود على الشافعين. صح! ويُمكِن أن يعود على المشفوعين، والقرآن أتى بالأمرين، أي لابد وأن يكون هناك إذن في الاثنين، لا إله إلا الله، يا الله! شيئ مُخيف، بمعنى أنه لا يُمكِن لأحد ولا حتى لمحمد – صلوات ربي وتسليماته على محمد كلما ذكره الذاكرون وكلما غفل عن ذكره الغافلون – أن يتقدَّم من تلقائه، ولا محمد يستطيع أن يتقدَّم من تلقائه، ويقول يا رب أُريد أن أشفع. مُستحيل! لا يستطيع، ولا جبريل ولا ميكال، ولا أحد! الكل واقف وخائف، حالة فزع، حالة رهيبة.

إذا أذن الله – لا إله إلا هو – وإذا أطلق الإذن، وقال ليشفع الأنبياء. فإنهم يتقدَّمون فيشفعون. إذا إذن! إذا قال لتشفع الملائكة. فإنها تتقدَّم وتشفع. إذا لم يأذن، فلن يتجرَّأ أحد يتجرَّأ هذا المقام. إذن يُمكِن أن يكون المُراد بالاسم الموصول في إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۩، أي من الشفعاء، أو من الشافعين. كما قال أو على حد قوله – تبارك وتعالى – في البقرة، وتحديداً في آية الكرسي مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ ۩، ليس يُشفَع فيه، لا! يَشْفَعُ ۩، مَن الذي يقدر على أن يشفع من ملائكة أو رُسل أو صالح المُؤمِنين؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۩، أي إذا أذنت له، عدا ذلك لا يستطيع، وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ ۩، وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۩، لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۩ – تبارك وتعالى -.

ومُمكِن أن يكون المقصود مَن يُشفَع فيه، هذا النظم الكريم يُمكِن أن يُعطي هذا، إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ۩، لِمَنْ أَذِنَ ۩ أن يُشفَع فيه، والأمران مُمكِنان، وهذا أحسن وأبلغ طبعاً، الأمران! الله يُريد هذا ويُريد هذا، لأن القرآن أتى بهذا وأتى بهذا، على حد قوله في الأنبياء وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ۩، وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ ۩، إذن الكلام في مَن؟ في المشفوع فيهم. الله يقول الملائكة – الكلام عن الملائكة طبعاً في الأنبياء – بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ ۩ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ ۩، إلى آخره! قال وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ ۩، قال هذه الملائكة لا تشفع إلا لمَن رضينا أن يُشفَع. إذن ليس كل واحد يُشفَع فيه، مَن يُريده الله، الذي يرضى الله أن يُشفَع فيه. اللهم اجعلنا مِمَن تشفع فيهم الملائكة والأنبياء والرُسل وصالح عبادك المُؤمِنين يا رب العالمين، ولا تُخزنا ولا تكسر بخاطرنا.

قال وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ۩، لا إله إلا الله! قلت لكم هذا شيئ مُخيف. لا إله إلا هو! حَتَّى ۩ هذه مُنبئة بفترة انتظار، غاية هذه، غاية! غاية بما فُهِم مما قبلها. إذن هناك انتظار، هذه الكلمة تُفهِمك أن هناك فترة انتظار، وفيها فزع شديد وخوف، الملائكة في خوف، والأمر نفسه مع الرُسل، الأنبياء، المُؤمِنين، العُصاة، كلهم في حالة خوف، لماذا؟ ينتظرون أن يُطلَق الإذن من الملك – لا إله إلا هو -، هل يُطلِق الإذن أو لا يُطلِقه؟ هل يأذن أو لا يأذن؟ ويأذن لمَن وفيمَن؟ يأذن لمَن (من الشفعاء) وفيمَن (من المشفوع فيهم)؟ حالة فزع!

الله يقول حَتَّى إِذَا فُزِّعَ ۩، صيغة تفعيل، تضعيف! والتضعيف في الصرف له أغراض كثيرة، من بين أغراضه الإزالة، أي أُزيل الفزع، ارتاحوا! حَتَّى إِذَا فُزِّعَ ۩، تفعيل، بمعنى إزالة، التضعيف هنا للإزالة، حتى إذا زايلهم الفزع، تعرفون مثل ماذا؟ مثل تمريض. أي Nursing، تمريض. يقول لك، تمريض! ما معنى تمريض إذن؟ إزالة المرض. نعم! الطبيب أو المُمرِّض بالذات أو المُمرِّضة يُحاوِلون أن تحسن صحتك – بإذن الله -، ويُزايلك المرض، بمجهوداتهم وما يُقدِّمون – ما شاء الله – لك، فهذا اسمه تمريض، إزالة المرض، مثل تعشيب، يقولون لك يُعشِّب، يُعشِّب بُستانه. أي يُزيل الأعشاب الضارة، فهنا هذه الصيغة من التضعيف (تفعيل) يُراد بها ماذا؟ الإزالة. الإزالة! إذن التفزيع إزالة ماذا؟ الفزع. يرتاحون! ومتى يُزايلهم الفزع؟ حين يُطلِق ملك الملوك ومالك يوم الدين – لا إله إلا هو – الإذن. يقول أذنت، أذنت للشفعاء من طبقة كذا وكذا وكذا بأن يشفعوا في كذا وكذا أو فيمَن هم كذا وكذا وكذا. يرتاحون!

حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ۩، ومن شدة الفزع والخوف: قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۩، بماذا أذن الله؟ قَالُوا الْحَقَّ ۩، أي قالوا القولة الْحَقَّ ۩. إذن الْحَقَّ ۩ صفة لمفعول به محذوف، تقديره القولة، قَالُوا ۩ الله قال القولة الْحَقَّ ۩، و: قَوْلُهُ الْحَقُّ ۩، كما في الأعراف قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ ۩، قال قَوْلُهُ الْحَقُّ ۩، إذن المفعول به محذوف،  الْحَقَّ ۩ صفة لمفعول به محذوف.

في جامع الترمذي أو سُنن الترمذي عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، قال قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانًا لقوله، كسلسلة على صفوان. الله يقضي – مثلاً – بكذا، يقول ليكن كذا، ليحدث كذا أو كذا. كأن يُعز أو يُذل أو  يرفع أو يضع أو يبُدئ أو كذا. لا إله إلا هو! وكله طبعاً بأمره، كل شيئ يحدث في الأكوان بأمر الله، كله! بالكلمات التامات التكوينية، كلمات القدر من الله – عز وجل -، كل شيئ! ولذلك النبي كان يستعيذ بكلمات الله التامات، التي لا يُجاوِزها بر ولا فاجر، لا يقدر أحد على ذلك، الكل رُغماً عنه يخضع لها.

فقال لك إذا قضى الله الأمر في السماء، ضربت الملائكة بأجنحتها – تضرب! فهي مُجنَّحة -، خضعاناً لقوله – لأمر الله -، كسلسلة على صفوان. من شدة الخوف! تعلم أن الله قضى بالأمر، فتضرب وتضرب وتضرب، صوت رهيب، مثل سلسلة من حديد على حجر صفوان، زلط كبير، كيف سيكون حجم الصوت؟ خضعاناً لأمره. حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ ۩، يرتاحون، يُزايل الفزع الملائكة، وهذا لا يزال قضاء لأمر في الدنيا، وليس في الآخرة، أي في فصل الحساب. اللهم أعنا يا رب، وابعثنا آمنين، ومن فزع يومئذ آمنين ابعثنا يا رب العالمين – إن شاء الله -، اللهم ذلك بفضلك ومنّك يا الله وكرمك وسابق ما كتبت لنا من السعادة عندك، اللهم آمين.

حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا ۩، الملائكة، مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ ۩، الملائكة تتساءل، بماذا قضى؟ ماذا يُريد الله – عز وجل -؟ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ۩، قال قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ۩.

 

۞ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ۞

 

قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ۩، طبعاً واضح، قُلِ اللَّهُ ۩، قُلِ ۩ لهم يا محمد، اسألهم ثم أجِبهم، وَإِنَّا ۩، وقل لهم أيضاً وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ ۩، لماذا لم يقل وإنا وأنتم؟ لا! لأن هذه إن، واسمها دائماً منصوب، إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ۩، إن محمداً رسولٌ، إِنَّا ۩، (إِنَّ + ا) ۩، إذن اسم إن هذه الألف، أليس كذلك؟ طبعاً! مبنية على السكون، في محل نصب، اسم إن. أَوْ ۩، هذا حرف عطف، مثل الواو، ولكن هنا هذا لماذا؟ للتنويع. وعندها أربعة معان مشهورة، ولكنها هنا للتنويع، إما نحن أو أنتم، إما نحن أو أنتم! وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ ۩، فتكون معطوفة على ماذا؟ على اسم إن. ولذا ستكون إِيَّاكُمْ ۩، لأن أنتم ضمير رفع، ضمير مُنفصِل للرفع، وضمير النصب منه ما هو؟ إياكم. أنتَ: إياكَ، أنتِ: إياكِ، هم: إياهم، وهن: إياهن. وهكذا! أنت عندك اثنا عشر ضمير، وهي تكون للرفع، أي المُنفصِلة هذه، والنصب منها مثل هذه، إياي، إيانا، إياكَ، إياكِ، إياكما، إياكم، إياهم، إياكن. هذه هي! وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ ۩، لا تقل وإنا أو أنتم. غلط! غلط هذه، ليست مرفوعة، منصوبة! وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ ۩، أي إما نحن وإما أنتم، إما نحن وإما أنتم، لأن يُوجَد حرف إن، إما نحن وإما انتم، لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ۩. واحد منا مُهتدٍ والثاني ضال، يُمكِن أن نكون المُهتدين، ويُمكِن أن نكون الضالين، ويُمكِن أن تكونوا المُهتدين، ويُمكِن أن تكونوا الضالين. قد يقول لي أحدكم كيف هذا؟ طبعاً! انظر إلى هذا، انظر إلى أدب القرآن.

علَّمه الله – علَّم خيرته من خلقه وحبيبه من عباده – أن يقول لهم هذا القيل على جهة المُساهَلة في المُحاجَة، استئلافاً لهم، واستدناءً لهم، وكسراً لحُميا جحودهم ومُكابَرتهم. لم يقل لهم نحن وكذا. مع أن النبي عارف هذا طبعاً، والنبي لا ريب عنده فيما أُوحي إليه، ولا في نفسه، ولا في ربه، ولا في قرآنه، لا يُوجَد هذا، وهو أهل اليقين كله – صلوات ربي وتسليماته عليه -، ولكن الله قال له هذا، لكي تتساهل معهم وتتسامح وتستألف قلوبهم.

والعجب للأسف مِمَن قال مِن علمائنا منسوخة. لماذا؟ بماذا منسوخة؟ قال لك بآية السيف. منسوخة! وأيضاً بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۩؟ قال لك منسوخة. ما غير المنسوخ؟ الذبح عندهم. حسن! لا نرتاح لهذه الأقوال أبداً، والله أعلم. نعلم أنها باطلة، هذا باطل من القول، ولن نتكلَّم فيه، وقضية النسخ كلها أصلاً محل نزاع، أليس كذلك؟ ولا نُسلّم بها نحن، لا يُوجَد هذا، القرآن كله مُحكَم، كتاب مُحكَم وآياته مُفصَّلة، لا يُوجَد فيه منسوخ، والكلام عن النسخ فيه يتعلَّق بالآيات الكونية، بالمعاجز (معاجز الأنبياء)، وليس بالآيات الشرعية، فقط! والقضية كبيرة.

إذن وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ ۩، هذه مثل قوله لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ۩، كل آيات المُهادَنة والمُتارَكة والمُساهَلة والعفو والسلام إنما كانت من أجل ماذا؟ الاستئلاف، والاستدناء، وكسر شوكة وحدة الكفر والعناد والكبر. فقط! هذه هي، وهذا ثابت مُحكَم إلى يوم الدين – بإذن الله تبارك وتعالى -.

والقرآن جلى لنا صفة مُلازِمة لدُعاة الهُدى، لأئمة المُهتدين، وهم الأنبياء والمُرسَلون، حقيق وجدير بكل مَن انتصب لدعوة غيره إلى الدين وإلى طاعة الله أن يكون له حظ منها، وهي محبة الخير للخلق جميعاً، والنُصح لهم، مع ماذا؟ الشفقة التامة، والرحمة الوافرة. ليس بالغضب، ليس بالحقد، ليس بالسب، ليس بالطعن في الناس. أبداً! بمحبة شديدة، ورأينا ما قاله إبراهيم – عليه السلام -، يجادل عن قوم لوط، في آخر لحظة، بعد كل ما حصل، أليس كذلك؟ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ ۩ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ۩، وحتى لوط أيضاً كان كذلك، ورأينا عيسى، ورأينا الأعظم من الكل، وهو محمد، وذكرنا هذا مرات عديدة، فهذا كلام غير منسوخ، هذا ثابت، وهذه حال الأنبياء، هذه حال أئمة الهُدى، وهم أئمتنا ونحن نتقيَّل طريقتهم، ونأخذ أخذهم، ونحتذي حذوهم. لا تقل لي هذا منسوخ. غير منسوخ هذا، والشيئ نفسه يُوجَد الآن، انظر إلى المُوالية، انظر إلى الآية المُوالية.

 

۞ قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ۞

 

قُل لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا ۩، قال توحيدنا لله، عبادتنا لله، دعوتنا التوحيدية هذه وطريق الأنبياء، اعتبروها جريمة، ولن تُسألوا عنها، لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ۩،  وانظر إلى هذا، عبَّر عن فعله وعن حاله – أشرف وأنبل حالة، من التوحيد والإيمان – بأنها ماذا؟ جريمة. قال إن كان هذه جريمة، فإذن جريمتنا وما اجترمناه معرتنا ومغبته علينا، لا عليكم. قُل ۩ لهم يا محمد، لّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا ۩… تُجرِمون؟ لا، عَمَّا تَعْمَلُونَ ۩. أرأيت؟ ومرة أُخرى مُساهَلة، هل هناك مُساهَلة أكثر من هذا؟ هل هناك مُلاينة أكثر من هذا؟

اليوم بعض الناس لا يُريد أن تقول نقول لإخواننا العُصاة، لإخواننا النصارى، لإخواننا الملاحدة. يقول إخوانك؟ ويغضب. طبعاً! والإمام عليّ يقول الناس إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق. لماذا في القرآن الكريم إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ ۩، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ ۩، أَخُوهُمْ ۩… أَخُوهُمْ ۩… لماذا إذن؟ وهم كفّار! يُعلِّمنا هذا، تساهل مع الناس، وتأدَّب مع الناس، المُلحِد أخي في الإنسانية، وفي الوطن، ربما أكون أنا مصري وهو مصري، إذن أخي في الوطن أيضاً، وأخي في الإنسانية، أخي وأُحِب له الخير، وسأتساهل معه وسأتكلَّم معه بأدب ولُطف، لأني أحِب له أن يعود إلى فضاء الإيمان – بإذن الله تعالى -، وأن يُختَم له بالتوحيد. أُحِب له هذا الخير، ولا أُحِب أن يكون فحمة في جهنم، أعوذ بالله! وأنت ما الذي ضرك؟ ما الذي أغضبك يا أخي؟ ما هذه القسوة على الناس؟ هناك قسوة، هناك قسوة! يقولون لا، وكذا. للأسف.

 

۞ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ۞

 

قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا ۩، الفتح تعرفون ما هو؟ الحُكم بالعدل. القضاء بين الناس وفصل الخصومة بالعدل اسمه الفتح، هذا معنى الفتح! أي يحكم بيننا بالعدل والقسطاس. يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ۩، لم يقل الفاتح العليم، قال الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ۩، الْفَتَّاحُ ۩ مُبالَغة، صيغة مُبالَغة!

 

۞ قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۞

 

قُلْ أَرُونِي ۩، يا خيرتنا ويا حبيبنا، قُلْ ۩، لهم، الله يُلقِّنه حُجته، قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء ۩، أَرُونِي ۩ هنا الأرجح – فهذا عليه جمهور المُفسِّرين – أنها من الرؤية العلمية، أي الرؤية القلبية، عرِّفوني، أوقفوني، فهِّموني، وليست أَرُونِي ۩ البصرية، أي بالباصرة، هل هذا واضح؟ الأرجح!

وهذه هنا لها ثلاثة مفاعيل: أول مفعول الضمير المُتصِل، أي الياء، أَرُونِ(ي) ۩، ضمير مُتصِل، مبني على السكون، في محل نصب مفعول به أول للفعل أري، أري! أي (ورجيني)، (شوفني). سوف تقول لي وماذا عن النون؟ للوقاية، هذه نون الوقاية. من غير سوف تقول لي ماذا؟ هل ستقول لي أروي؟ لا تقدر على أن تقول أروي. هل ستقول ضربوي؟ ستقول ضربوني، أعطوني. هذه نون الوقاية، هل هذا واضح؟ ولكن هناك إنني، تقدر على أن تقول إني، أي تحذفها، تأتي هذه هنا، إني وإنني. سوف تقول لي وما الفرق بين إني وإنني؟ هذا الشيئ نفسه، ولكن إنني معها نون الوقاية، وهذا ينفع، ولو قلت إني، فسيجوز هذا، وهو الأكثر في الاستعمال، ولكن في هذه لابد من نون الوقاية.

إذن أروي، أَرُونِي ۩، المفعول به الياء، الضمير المُتصِل هذا، هل هذا واضح؟ هذا الأول. أَرُونِي الَّذِينَ ۩، الاسم الموصول هذا المفعول به الثاني، أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء ۩، شركاء المفعول به الثالث، أي هذا إذا أخذنا أَرُونِي ۩ على أنها الرؤية العلمية، القلبية! (ورجوني)، عرِّفوني، عرِّفوني، أوقفوني، هل هذا واضح؟ إن أخذتها على أنها الرؤية البصرية، أي (ورجيني) إياهم، و(شوفني) إياهم، فستكون شُرَكَاء ۩ منصوبة على الحال، ولها المفعول هذا، وهذه الحال، والله أعلم.

قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء ۩، ما معنى هذا؟ تتميمة للحُجة هنا، هذا تتميم للحُجة. رجع الله وقال له قُلْ ۩ لهم يا محمد أنتم تزعمون في كذا وكذا وكذا – سواء من الملائكة أو الإنس أو الجن أو الخشب أو الحجارة والأصنام – أنها شُرَكَاء ۩ لله، عرِّفوني، وأوقفوني، أثبتوا لي، بيّنوا لي، أقنعوني، أن هؤلاء فعلاً شُرَكَاء ۩؟ كيف هم شُرَكَاء ۩؟ (ورجوني)، في ماذا شاركوا الله؟ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا ۩، في سورة الأحقاف، المعنى نفسه! (ورجوني) هذا، يقول لهم هذا، الله يقول لهم (ورجوني)، أين هذا؟ متى خلق الصنم الخاص بك هذا شيئاً؟ ألا تقول لي عن عيسى إنه ابن الله وإله؟ إذن (ورجيني)، كيف خلق عيسى شمساً أو قمراً أو حتى شجرة أو أي شيئ؟ ما خلق أي شيئ، هو نفسه مخلوق ومُتولِّد من مخلوقة – عليهما السلام -، (ورجيني)، (ورجيني) شيئاً زُعِم فيه الشراكة مع الله خلق شيئاً من دون الله. هذا معنى الآية، حُجة قوية يا أخي. سوف تقول لي والله الأمور واضحة. والله أوضح من الواضح يا أخي، ولكن هذا هو، هذه غباوة الإنسان – والله العظيم -، غباوة الإنسان! الغباوة وإرادة العناد، أي هذا يدّعي أنه كذا وكذا، ويقول لا، أُريد أن أناقِش، وأُريد أن أرد على محمد وعلى موسى. مَن أنت يا رجل؟ الأمور كلها تشهد ضدك، لا يُوجَد شيئ يشهدك معك، والأنبياء كل الأدلة في صفهم – عليهم السلام -، كل ما في الوجود يشهد لهم ومعهم – بفضل الله تبارك وتعالى -، القضية واضحة!

قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُم بِهِ شُرَكَاء كَلاَّ ۩، الله يقول لا، هم ليسوا شركاء، ولا أصلاً يتأتى هذا، ولا يستأهلون مثابة الشرك إطلاقاً. كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ۩، الله – تبارك وتعالى – هو المُنفرِد بكل شيئ، بلا شريك ولا ظهير ولا مُعين ولا وزير، لا إله إلا هو!

 

۞ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ۞

 

وَمَا أَرْسَلْنَاكَ ۩ يا محمد، يا خيرتنا، إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ ۩، هذه الكافة مُشكِلة، واختلف فيها المُفسِّرون اختلافاً كبيراً، بعضهم أراح نفسه، وقال لك على التقديم والتأخير، هذه قُدِّمت وحقها تأخيرها، فيصير معناها وما أرسلناك إلا للناس كافة. أي للناس جميعاً! كما قال – تبارك وتعالى – في التوبة، في الآية التاسعة والعشرين وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ۩، لم يقل وقاتلوا كافةً المُشرِكين. لا! قال وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۩، مع أن طبعاً وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ۩ تحتمل معنيين: قاتلوا المُشرِكين كلهم،وهذا المعنى غير صحيح وغير دقيق، والقرآن يُكذِّبه، سورة التوبة نفسها تقول غير صحيح، هناك أُناس اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۩ وكفوا عنهم، إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ۩. إذن معناها أنه لا يُمكِن لك أن تقول لي قاتل كل المُشرِكين. كما يقول المُستشرِقون الآن وأذنابهم ومَن عندهم نزعة قتالية فقط في الإسلام، كل شيئ قتال قتال قتال، ولا يُحِبون أي شيئ له علاقة بالسلام، لا يُحِبون! هم لا يفهمون حتى اللُغة، وهذا غير صحيح.

إذن معناها – وهذا الذي رجَّحه شيخ المُفسِّرين أبو جعفر بن جرير في التوبة – وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ۩، أي مُجتمِعين، مصداق قوله إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا ۩، ومصداق قوله وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۩ في الأنفال. فإذن هذا هو، هذه تُفسِّرها آية الأنفال، وآية ماذا؟ وآية الصف. إذن وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً ۩، أي مُجتمِعين. أي ليس مُتفرِّقين، أوزاعاً متُخالِفين مُتنازِعين مُتشعِثين. كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۩، والتاريخ يقول ليس كل المُشرِكين قاتلوا المُسلِمين، خُزاعة – مثلاً – كانت على شركها وفي حلف رسول الله، أليس كذلك؟ خُزاعة! إذن معناها كما يجتمعون هم إذا قاتلوكم على قتالكم، يُوحِّدون صفوفهم ويُنظِّمون جيشهم. هذا هو، هذا الصحيح، هذا التفسير الذي تُؤيِّده السيرة والوقائع والفهم والقرآن الكريم.

نرجع إلى كَافَّةً ۩ هنا، هذه الكافة فيها مُشكِلة إذن، لماذا؟ قال وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً ۩، أي أرسلناك كافة، ليس للناس كافة. فالتفسير الأول قال لك لا، هذه حقها أن تُؤخَّر. ولا نرتاح لهذا التفسير، لا نرتاح! أنت لا تُؤخِّر ما قدَّم الله – أطال الله علمك -، هذا نوع من الجرأة، أي هذا فيه شيئ من الجراءة، فقال لك لا، هي وما أرسلناك إلا للناس كافة، أي للناس جميعاً. لا! لا نستروح لهذا التفسير، فماذا عن التفسير الثاني؟ أرسلناك كافة، انتبه! وليس للناس كافة، كَافَّةً ۩! قال لك وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَافَّةً ۩، أي كافاً، بمعنى أنها من كف يكف، كفه يكفه كفاً، أي منعه، والنبي قال المعنى نفسه، قال أنا أحول بينكم وبين أن تتهالكوا في جهنم. أنتم مثل الفراش الذي يقع في النار، وأنا آخذ بحُجزكم، أن تتساقطوا في نار جهنم. أدلكم وأقول لكم لا، انتبهوا، الطريق ليس من هنا، هذا طريق النار، هذا طريق الجنة، هذا طريق السعير، هذا طريق الفردوس. إذن هو بعثه الله وأرسله الله لكي يكفهم عما يُهلِكم ويُرديهم في دنياهم وأُخراهم بالذات، هل هذا واضح؟ ويُسعِدهم ويُنجيهم، يدلهم على ما يُسعِدهم ويُنجيهم. سوف تقول لي وماذا عن التاء هذه في كَافَّةً ۩؟ للمُبالَغة، يُسمونها تاء أو هاء المُبالَغة، ولكن هي تاء على كل حال. مثل ماذا؟ مثل علّامة، نسّابة، بحّاثة. مثل داعية، هو داعٍ، ولكن يُقال لك داعية. مثل بحّاثة، وهو بحّاث. مثل علّامة، وهو علّام. للمُبالَغة! أي الآية معناها وما أرسلناك إلا كافاً للناس، أي تكفهم عما يُرديهم ويُهلِكهم. وقيل كَافَّةً لِّلنَّاسِ ۩ بمعنى جامعاً للناس، تجمعهم على الخير. يأتي من معاني الكف الجمع أيضاً، يأتي من معانيه ماذا؟ الجمع.

ثلاثة تفسيرات مشهورة، ولكن أضعفها الأول في الحقيقة، والله أعلم. كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ۩.

 

۞ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۞

 

وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، الكفّار يسألون مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ۩؟ وما المقصود بالوعد؟ يوم القيامة. دائماً يكون هذا، لأن الكلام كله عن البعث، الكلام كله عن البعث والحساب والشفاعة، وإلى آخره! يقولون لك متى؟ متى تقوم القيامة؟ ودائماً دائماً ما يسألون عنه، دائماً ما يسألون هذا السؤال في كتاب الله – تبارك وتعالى -، وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، فهذا في أكثر من سورة، منها المُلك، وغير المُلك، هل هذا واضح؟

مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ ۩، أيها المُسلِمون، يا أتباع وشيعة محمد، إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، في هذا القول، مَتَى ۩؟

 

۞ قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ۞

 

قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ ۩، من وعد يعد ميعاد، موعاد! في الصرف هذه أصلها مفعال، موعاد! حلوة موعاد؟ سيئة كثيراً، أليس كذلك؟ لا يُوجَد موعاد، صعب! انظر، الواو في اللُغة العربية قد تكون ساكنة، وما قبلها مضموماً، فهي الواو المدية، قالوا، رسموا، انتظروا، عملوا، صلوا. إلى آخره! هذه الواو المدية، كثيرة جداً جداً هذه وجميلة. والواو قد يكون ما قبلها مفتوحاً، فهذه اللينة، والياء طبعاً مثلها، يُسمونها ماذا؟ واو اللين، أو الواو اللينة. في علم التلاوة يُسمونها ماذا؟ واو اللين. في علم اللُغة العربية وكذا يُسمونها ماذا؟ الواو اللينة. في النحو والصرف اسمها الواو اللينة، مثل خوف، موت، فوت. أليس كذلك؟ مثل صوت. هذه هي! ها هي التي قبلها مكسور، وفقط التي قبلها مكسور تكون نادرة جداً، وهي في أبواب مُحدَّدة في علم الصرف، وإن جاء مَن قبلها مكسوراً، مُباشَرةً تُقلَب هي إلى ياء، تصير الواو ياء، مع أنها هي في الأصل وعد، أليس كذلك؟ أليست هي وعد؟ وعد! إذن انتهى، الواو هذه تصير ياء، وهي في الأصل موعاد، قال لك لأن هذه ستُصبِح ثقيلة، فتُكسَر لمُناسَبة كسرة ما قبلها. ما قبلها مكسور، من أجل مُناسَبة الكسرة ستُحوَّل إلى ياء، ستُحوَّل إلى ياء لمُناسَبة الكسرة قبلها، فتصير ميعاداً، جميل، حلوة، وسهلة. ميعاد مقبولة، ولكن موعاد صعبة كثيراً.

إذن قُل لَّكُم مِّيعَادُ ۩، وهو الوقت المُؤقَّت، الوقت المضروب المُؤقَّت، الذي لن تتجاوزوه – بحول الله -، يَوْمٍ لّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ۩، وطبعاً بعض المُفسِّرين قال لك هذا الوعد ليس فقط يوم القيامة، يُمكِن ألا يكون كذلك، يُمكِن أن يكون وعد عذابهم، وعد هزيمتهم، وعد لقاء الله، ووعد كذا. ولذلك بعضهم طبعاً بناء على هذا ذهب وفسَّر، فقال قُلْ لَكُمْ مِيعَاد يَوْم ۩ بدر، هزيمتهم في بدر، أو الموت، ومن ثم الورود على الله، أو الخروج من القبور يوم البعث والنشور، وهذا الأظهر، هذا الأظهر! قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لّا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ ۩.

 

۞ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ۞

 

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ۩، الأرجح أن المُراد بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ۩ الكُتب الإلهية السابقة من التوراة والإنجيل والزبور، إذن فلماذا؟ لماذا هم قالوا هذا؟ انظر إلى هذا، هم كابروا، قالوا لك ليس القرآن فقط، بل وكل الكُتب هذه لن نُؤمِن بها، نحن كفرنا بها جميعها. لماذا؟ وهذا طبعاً معقول، قال لك لأنهم لما علموا أن هذه الكُتب فيها البشارة والتبشير بمحمد ودينه وكتابه ومولده ومُهاجره وأصحابه بل وصفة حتى أصحابه، قالوا هو هكذا؟ فإذن نحن لا آمنا لا بالقرآن ولا بالكُتب هذه. انظر إلى الملاعين، أغبياء بشكل عجيب، معقولة؟ معقولة أن  تقولوا هذا في الرجل الذي هو منكم؟ وهو عربي، ورحم لكم، وبُعث فيكم، وهذه كُتب أُنزلت على الأنبياء قبله بمئات السنين ومئاتها، وبشَّرت به، وذكرت أوصافاً وأشياء دقيقة تتعلَّق به وتختص به، أهذه مُؤامَرة؟ هل هناك مُؤامَرة؟ أي هل هناك مُؤامَرة كونية عليكم؟ لماذا؟ لماذا الكبرياء هذا؟

وفعلاً أنت تستغرب الآن، أليس كذلك؟ تستغرب! وعلى فكرة لا ينبغي أن تستغرب، لا تستغرب وأجل النظر في أكثر مَن حولك مِن البشر، تجد مُعظَم البشر لا يبخعون لحقيقة ولا يُريدون حقيقة، الناس تُريد تثبيت ما عندهم. عندي شيئ اقتعنت به، وأُريد أن أُدافِع عنه لآخر لحظة. فماذا لو تبيَّن لك أن هذا الشيئ باطل؟ وخاصة مَن ينتمي إلى العلم والبحث والفكر والتفلسف والتبشير بالدين وكذا، وقد قضى عمراً فيما اقتنع به، له عشرون أو ثلاثون أو أربعون سنة في هذا، يأتي ويقول لك بعد العمر هذا كله تقول هذا؟ لم يبق شيئ إذن، انتهى! المُخ حتى جمد، القريحة جمدت، تكلست، بعد هذا تُريد أن تُفهِمني أنني كنت على غلط؟ لا، لن أقتنع، العالم كله على خطأ، وأنا على صواب. غلط، لا يُمكِن هذا أبداً، وهذا الإنسان المُتألِّه، هذا الإنسان المُتوثِّن، أصبح وثناً، هو نفسه صار وثناً. نحن لسنا أوثاناً، نحن بشر، مخلوقون من تراب، وإلى تراب، وضعاف، وهشون، و(غلابة)، ومُتسعجِلون، و… وكل أسباب النقص فينا، بالعكس! نحن عزنا وشرفنا أن نخضع للحقيقة، ولو في آخر لحظة، لو عرفنا الحقيقة، فإننا سنقول نعم هذه هي والله، ونستغفر الله، كنا مُخطئين، كنا ضالين، كنا تائهين، وانتهى الأمر، سنصير إلى الحقيقة، ثبتت بالدليل؟ إذن هي (على العين والرأس). هذا البشر، هذا تواضع الإنسان، هذا الذي يليق بالإنسان، أما الحقيقة الكاملة والمُطلَقة والتي لا تلجلج ولا ارتياب ولا شك فيها، فهذه فقط ملك لواحد، لواحد! هو رب العالمين – لا إله إلا هو -، فقط رب العالمين، هذا هو، لكن نحن البشر لسنا كذلك، نتعلَّم، وهذا حتى مع الأنبياء، ماذا قال للنبي؟ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ۩، وحين كان يغلط كان يُصحِّحه القرآن مُباشَرةً، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۩، وهذه أُخرِجت مخرج السؤال في قول، ويبدو أن الأمر هكذا، بحذف الهمزة طبعاً، أي أ: تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۩؟ لا يجوز. قال له، فصحَّحه مُباشَرةً، وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ۩، عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ۩، مُباشَرةً التصحيح، عَبَسَ وَتَوَلَّى ۩، هذا إن صحت أنها نزلت فيه، لأنها قد لا تكون نزلت في رسول الله، وهكذا على كل حال.

إذن وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ۩، هذا آخر الآية، فأين الجواب؟ محذوف. أي وَلَوْ تَرَى ۩ لرأيت أمراً مهولاً مُفظِعاً. والكلام طبعاً المُخاطَب به محمد، والمُراد أمة محمد جميعاً. الله يُخاطِبنا، لو ترون، لو ترون ما الذي سيحصل لهم يوم القيامة هؤلاء، أي للمُكابِرين المُعانِدين الذين ركبوا رؤوسهم.

وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ ۩، إِذِ ۩ بمعنى حين. حين، ساعة، وقت! إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ ۩، أي محبوسون فصل القضاء، لأنه سيُحاسِبه إذا وقفه. وحتى الآن يقولون لك التوقيف. أنت مُوقَّف، أي Arrested. يقولون أنت مُوقَّف، أنت موقوف، استدع مُحامياً. أي هذا الموقوف معروف أنه سيُقاد ويُحط في التخشيبة. فقط! ولذلك فُسِّرت بمحبوسين، قال لك مَوْقُوفُونَ ۩ أي محبوسون، لفضل القضاء فيهم. وهم ينتظرون، وهم يعرفون أنفسهم ويعرفون إلى أين سيذهبون طبعاً، يعرفون هذا، وهو واضح، نعم! مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ۩، بيَّض الله نواصينا ووجوهنا، يوم القيامة يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ ۩، في أول يوم نُبعَث سيعرف كل واحد منا بنفسه إلى أين سيذهب، سوف يرى أُناساً وجوههم كالأقمار، وهؤلاء كانوا يستهزئ بهم ويسبهم ويقول إنهم الأغبياء والدراويش والمُسلِمون والكفرة والإرهابيون. إلى آخر ما لا أعرف، يُسميهم هكذا، يرى وجوههم كالنور، فيقول لك ماذا؟ سوف تجد هنا واحداً – مثلاً نفترض – غربياً، جارك – مثلاً – لويس Louis هذا أو جون John، الذي كان يبصق عليك، ويقول لك يا مُسلِم يا إرهابي، يا وسخ، يا حقير، أنت ونبيك كذا، ودينك كذا. يوم القيامة وجهك سيكون هكذا يشع نوراً، وهو وجهه سيكون أسود، أسود! عرف المسكين مصيره، سيرى كتابك بيمينك مع الاحترام والتجلة، ولكن هو سيأخذون يده اليسرى هذه ويكسرونها، ثم سيُخرِجونها من بطنه، بعد أن تمر من ظهره، وهم يقولون له خُذ كتابك. فيعرف هو، عرف! هو عرف وانتهى الأمر، انتهى!

فطبعاً هم الآن محبوسون، وطبعاً يتراجعون الملامة، يلوم بعضهم على بعض، يتلاومون، أنتم كذا. لا، أنتم كذا. لا، أنتم كذا. طبعاً! الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۩، تنقلب الخُلة إلى ماذا؟ إلى عداوة. إِلَّا الْمُتَّقِينَ ۩، قال إِلَّا الْمُتَّقِينَ ۩.

مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ۩، يتراجعون الْقَوْلَ ۩، هذا يقول وهذا يرد عليه، وهذا يقول وهذا يرد عليه. يترادون، يتراجعون، يتلاومون. يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ۩، وعلى فكرة هذه الخيبة الكُبرى – والله العظيم -، أي المُستكبِرون من الكفّار فازوا بأشياء في الدنيا، على الأقل بأشياء معنوية، أن لهم قيادة الكفر، هذا رئيس حزب الكفّار، أليس كذلك؟ كان يُعطيهم مُحاضَرات، كان يُؤلِّف لهم كُتباً، وكان يتفلسف عليهم، أليس كذلك؟ لسانهم الناطق، ويُمكِن أن تأتيه فلوس طبعاً، يطبعون كُتبه هذه ويُعطونه فلوساً، ومُحاضَراته بفلوس، وبرامجه في التلفزيون Television بفلوس، ومقاطع اليوتيوب YouTube وكذا بفلوس. ولكن أتباع هؤلاء مُصابون بالهبل، مَن الذين ضاع عليهم كل شيئ؟ المُستضعفون، أذناب الكفّار والملاحدة والمُشكِّكين. يقولون نعم، نعم، أرأيتم؟ بارك الله فيك – وهم لا يقولون بارك الله فيك، هم يقولون هذا في بعض المرات -، أحسنت، مُمتاز، لقد قصفت جبهته، نعم. إلى آخره! أحس الواحد منهم بأن هذا كلام لشخص مُلحِد فشعر بانبساط. انبسطا معاً يا أهبل، هو كبير وعلى الأقل له مُستوى عال، لكن ماذا عنك أنت؟ مَن أنت؟ أنت تُصفِّق وتذهب وتجري لماذا؟ إلى أين أنت ذاهب؟ يوم القيامة هذا المُستضعَف ماذا سوف يقول للمُستكبِر الذي كان يتعامل معه على أنه قيادة في الفكر والإلحاد والكفر والشرك؟ لَوْلا أَنتُمْ ۩، أَنتُمْ ۩ السبب، لعنكم الله، أخزاكم الله، أبعدكم الله، كذا وكذا بكم، فعل الله وفعل. لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ۩، أَنتُمْ ۩ السبب.

 

۞ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ۞

 

قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا ۩، وهؤلاء طبعاً يُريدون أن يُجيبوا عن أنفسهم، لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ ۩، هذا السؤال استفهامي إنكاري، أي هم الآن قناعتهم أننا ما صَدَدْنَاكُمْ ۩، مثل إبليس، حالهم إبليسية، إبليس يوم القيامة سيقول هذا، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ ۩، صدق هنا، صدق اللعين، وكذب حين وعدهم، وطبعاً هو قال لك أنا كذبت، وعدتكم وكذا، ووعدي كله اتضح أنه غلط وكذب، ولكن أنا لم يكن لي عليكم أيضاً سُلطان بصراحة، أنا ما وضعتكم في الحديد، ولا وضعت رقابكم في الأغلال، ولا حبستكم عندي، ولا جلدتكم، ولا منعت عنكم الرزق حتى تتبعوني. كنت أُزيِّن وأُوسوس، وأقول لك هذا كذا والحُجة كذا وهذا برنامج وثائقي وهذا كذا. وأنت كنت تجري، تجري! ولم تستخدم مُخك، أتيت فقط وأن تُريد أن تغيظ المُؤمِنين، لأن عندك مُشكِلة مع هذا ومُشكِلة مع هذا ومُشكِلة مع هذا الشيخ، ومن ثم أردت أن تغيظهم، فقلت أنا كفرت، وأتحداكم أيها المشايخ وأيها الرجعيون. نعم، حلو! وهذا كله لن ينفعك.

فإبليس يقول الشيئ نفسه، يقول لهم وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۩، ووالله – قال لهم – أنا لا أقدر على أن أُساعِدكم ولا على أن أُنقِذكم. مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۩، هذا أنا لا أعترف به، وهؤلاء يقولون الشيئ نفسه، يقولون نحن لم نصدكم، نحن لم نصدكم ولم نأطركم على أن تكفروا، نحن تكلَّمنا ودعونا وقلنا، وأنتم سارعتم في دعوانا. أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۩؟ نحن صددناكم؟ هل وضعنا لكم حواجز هكذا؟ أبداً! نحن كنا نتكلَّم بكلام ونُؤلِّف كُتباً ونعمل مُحاضَرات، وكنا نفرح بها، وأنتم كنتم تجرون خلفنا، فماذا نفعل لكم؟ وأيضاً صدقوا جُزئياً، أليس كذلك؟ هم صدقوا جُزئياً، أي هم لم يأطروهم أطراً، بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ۩، انظر إلى هذه، هذه أيضاً آية لها علاقة بالمقام، أنتم أهل الإجرام، أنتم تُحِبون السرقة والزنا وعمل قوم لوط والكذب والاستهزاء بالناس والافتراء على الناس والسُخرية بالأنبياء وبالرُسل وبالصالحين، أنتم تُحِبون هذا، سلوك إجرامي، نفسية إجرامية مُتفلِّتة، أنتم كنتم تُحِبون هذا. وصح! هذا صحيح، هذا الكلام صحيح، لكن لا يقوم عُذراً لدُعاة الكفر، بالعكس! هؤلاء رؤوس، هؤلاء يحملون أوزارهم ومن أوزار الذين أضلوهم بغير علم، لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۩، نعم! الواحد منهم يحمل الضعفين طبعاً، أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ۩.

 

۞ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۞

 

وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا ۩، لم يسكتوا هؤلاء، أي هؤلاء المُستضعَفون الخائبون، وهؤلاء هم الخائبون على فكرة، هؤلاء أغبن الناس صفقة، لا دنيا ولا آخرة! وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۩، قالوا لهم لا، الأمر ليس هكذا، ليست الحكاية كما قلتم، أنتم كنتم تستنفذون وسعكم وجُهدكم لكي ماذا؟ تخدعون عن الحقيقة. تمكرون بالليل وبالنهار، ما الإضافة هذه؟ بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۩، أي هل الليل كان يمكر؟ لا. هم يمكرون، المُستكبِرون كانوا يمكرون، متى يمكرون؟ في الليل. متى يمكرون؟ وفي النهار. هذا يُسمونه مجاز عقلي، ويدور على الإسناد، يدور على الإسناد وعلاقته ظرفية، ظرفية زمانية، مَن قرأ المجاز في البلاغة يعلم هذا. كما يقول الشاعر:

نهارك هائم، وليلك نائم               كذلك – الأبعد – على الأرض تعيش البهائم.

فما معنى هذا؟ ماذا يقول لك؟ نهار هائم، وليل نائم. أي نهار يُهام فيه، أي صاحبه هائم فيه. وليل صاحبه نائم فيه. أو نهار صائم، وليل قائم. اللهم اجعلنا من أصحاب هذه النهارات، ومن أصحاب هذه الليالي. نهار صائم، وليل قائم. مجاز عقلي، باعتبار الظرفية الزمانية، هل هذا واضح يا إخواني؟ كما نقول الآن نحن المسجد مُضيء، المسجد لا يُضيء. أو الغرفة مُضيئة، الغُرفة لا تُضيء. يُضاء فيها، الغُرفة يُضاء فيها سراج، فحين تأتي أنت وتقول غُرفة مُضيئة، يكون هذا أيضاً مجازاً عقلياً، باعتبار الظرفية المكانية، المكان الذي يُضأ فيه، فنقول هذا مكان مُضيء، وهو غير مُضيء على فكرة، مُضاء فيه، مثل ليل نائم، لا! يُنام فيه. ليل قائم، يُقام فيه. وهكذا.

إذن بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ۩، وفعلاً هذه – سُبحان الله العظيم – تستغرب منها، فجرِّب أن تقوم بعمل مقطع هكذا لمُدة رُبع ساعة – هذا دليل مثلاً – عن صحة النبوة، صحة الرسالة، وجود الله. وطبعاً ليس كل ما عندك هو هذا المقطع، يُمكِن أن تتكلَّم بحسب ما فتح الله عليك، ويُمكِن أن تعقد في هذه القضايا ألف مُحاضَرة، ويُمكِن أن تتكلَّم ألف ساعة (بالراحة)، (بالراحة، بالراحة، بالراحة)، نحن لكي نُزيِّف شُبهة الانتخاب الطبيعي ونقول إن هناك مُصمِّماً حقيقياً، وليس أن الانتخاب الطبيعي هو المُصمِّم. لابد وأن نفهم التطور ونرد عليه، وهذا يقتضينا على الأقل – على الأقل، تخيَّل – مائة ساعة، مائة ساعة! لأن هذا الموضوع كبير، هذا ليس لعباً، هل أتيت أنت لكي تلعب بقضية وجود الله؟ ليس لعباً هذا، هذا موضوع جد، هذا كل الجد، أضخم قضية على الإطلاق. فكيف حين تُواصِل بعد ذلك في سائر البراهين وتفنيادتها وتفنيد التفنيدات وإقامة البراهين على سوقها؟ قصة كبيرة وعميقة، ولكن أنت جرِّب أن تسلفهم شيئاً مما عندك هكذا، لمُدة ربع ساعة أو نصف ساعة، سوف تجد في نفس اليوم بعض الملاحدة الذين سيردون عليك. سيقولون لا، هناك كذا وكذا. ما شاء الله، لا ينامون، حلو! فالله قال لك هذا، هؤلاء لا ينامون، لا في الليل ولا في النهار. ما قضيتهم؟ أنا أقول لك إنهم يفعلون هذا لأنهم خائفون، خائفون جداً على فكرة! المُلحِد أخوف الناس، أخوف الناس من ماذا؟ من أن يتضح في النهاية أن قضيته خاسرة تماماً، وأن يتضح أن هناك إلهاً وأن هناك آخره، ومرجعه إلى الله، والحكاية ستكون على أسوأ ما يكون. فيُريد هذا المسكين أن يُطمئن نفسه، ويُريد أن يُكثِّر حزب المُلحِدين، وكلما صفقوا له شعر بالارتياح، هل تعرف لماذا عمل ذلك؟ ليس لأنه قدر على أن يُزيِّف حُجتك، ولا لأنه مُقتنِع بما يقول، بل هو ربما حتى غير مُقتنِع، ولكنه يُريد منهم أن يُصفِّقوا له، وأن يقولوا له برافو Bravo عليك، قصفت جبهتم، مُمتاز. فيفرح هو، ويقول لك نعم إذن، هذا مُمكِن، مُمكِن أن أكون مُحِقاً. هو يُريد هذا، يُريد هذا المسكين أن يطمئن.

على كل حال قالوا لهم بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ۩، سوف تقول لي كيف أَسَرُّوا ۩؟ مُراجَعة ومُلاوَمة وأنت ونحن وكذا، أكيد أظهروها! طبعاً، وهذا المُراد، المُراد بــ أَسَرُّوا ۩ أظهروا، أظهروا الندامة، يا ويلنا، يا ويلتنا، يا حسرةً علينا، يا أفٍ لنا وتُف، يا ويلنا، يا ثبورنا، يا سعيرنا، يا… يا… يا… ينادون كل هذه الأشياء، يا… يا… يا… يُنادونها، تعالي، هذا وقتك. هذا معنى يا حسرةً، تعالي يا حسرة، هذا وقت التحسر، تعال يا الويل ويا الثبور، هذا وقتك، تعالي يا الندامة، هذا وقتك، يا ندامتي هذا وقتك. هذا معنى يا حسرتنا، يا ويلتنا، يا كذا. تعال وتعالي، فهذا وقتك وهذا حينك وزمانك. هذا وقت الندامة! ولكن سوف تقول لي كيف أَسَرُّوا ۩؟ هذا من ألفاظ الأضداد، والهمزة فيه للإثبات والسلب. أي أسر بمعنى ماذا؟ أخفى. وأسر بمعنى ماذا؟ أظهر. فالهمزة تصلح للإثبات، وتصلح للنفي، أي للسلب. هل هذا واضح؟ أسر، مثل أشكى، يقول لك فقلت له كذا وكذا، حتى أشكيته – أو فأشكيته -. أي جعلته يشكو، سببت له الشكوى، جعل يشكو مني، كسر بخاطري وقال لي كذا وصفَّر وجهي وأهانني وكذا وكذا. وأشكيته أزلت شكواه. جاء فلان يشكو إلىّ فلاناً وما صنعه به، فأشكيته. أي طيَّبت خاطره وقلت له كلاماً حلواً وقلت له لا يهمك هذا وسوف أنتصف لك. فمعنى أشكيته أزلت شكواه، فأسر من ألفاظ الأضداد، مثل أشكى، تصلح للمعنيين، أشكى حمله على الشكوى، تسبب في ماذا؟ في شكايته. وأزال شكواه. وأسر بمعنى ماذا؟ أخفى. وأسر بمعنى ماذا؟ أظهر. وهنا بمعنى ماذا إذن؟ أظهر. والهمزة – كما قلت لكم – تصلح للسلب، وتصلح للإثبات.

وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ ۩، نعم! وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا ۩، قد يقول لي أحدكم هذه أشياء بسيطة! طبعاً أشياء بسيطة، ولكنها مُهِمة جداً جداً جداً، فلا يأت واحد لا يعرف لُغة العرب ثم يقول لك وَأَسَرُّوا ۩، لماذا أخفوا؟ وكيف أخفوا؟ قبل أن تعرف وتقضي نفساً طويلاً في تفسير هذا الإصرار والإخفاء، اذهب وافهم اللُغة العربية، وهذه القرآن لم يبتدعها، هو نزل بها، أليس كذلك؟ العرب كانت تتكلَّم هكذا، وعندها ألفاظ الأضداد، وعندها أشياء كثيرة، تعلَّمها كما هي، ولا تتفلسف عليها، هذه لُغة على فكرة، تُؤخَذ كما هي، انتهى! هم هكذا وهم أحرار، فلا يُمكِن أن تقول لي لا يا أخي، كيف؟ كيف تُوجَد همزة للسلب وللإثبات؟ هم هكذا، لُغتهم هكذا، وكانوا يُعبِّرون هكذا، احترم هذا الوضع، أليس كذلك؟ احترم أنت هذا، وبعد ذلك ائت وفسِّر القرآن بهذه اللُغة، حينها تكون أصبت المحز – إن شاء الله -، أصبت المحز والمفصل كما تقول العرب.

وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ ۩، هناك الغُل، الأَغْلالَ ۩ جمع طبعاً الغُل، والغُل هو الذي يُوضَع في العُنق، اسمه ماذا؟ الغُل. إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا ۩، هل هذا واضح؟ فالغُل الذي يُوضَع في العُنق، وعموماً يكون من الحديد، فهو ثقيل ومُؤذٍ جداً، وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩، قال هذا عملكم، لم أظلمكم، ولم أتحيف عليكم، بل تحيلت عليكم مُدة بقاءكم وتعميركم في الدنيا. أي والله، والله العظيم هذا من أكثر ما يُؤثِّر في القرآن الكريم حين تقرأه – وأختم بهذا، لأن وقتنا انتهى يا إخواني -، من أكثر ما يُؤثِّر أنك ترى في القرآن من أوله – هي تضرب فيه من أوله إلى آخره – صوراً وأنماطاً ووجوهاً من التحيل والاحتيال والافتعال من رب العزة والجلال – لا إله إلا هو -، على عباده المدعوين، من أجل ماذا؟ من أجل أن يستدنيهم إليه، ومن أجل أن يُقنِعهم، ومن أجل أن يُلهِمهم. أساليب عجيبة! ويُمكِن على فكرة أن تنظر في الدنيا، انظر في الدنيا إلى أي واحد مُسلَّط، لن أقول لك هذا ملك أو كذا، لا! رجل مُخابَرات في دولة ديكتاتورية عالم ثالثية، ليس عنده لُغة الطلب وكذا، عنده لُغة الأمر دائماً، أليس كذلك؟ والأمر القاهر، بالعبارات الضيقة اللاذعة الحارة القصيرة. (كلمتين ورد غطاهن) كما يُقال، وانتهى الأمر بالنسبة لك، تُريدك أن تُخلِّص نفسك، أليس كذلك؟ فماذا عن رب العزة هذا؟ لا إله إلا هو، مالك المُلك، الغني عن خلقه جميعاً! يتلطَّف بهم، ويُناديهم، وينسبهم إليه، يَا عِبَادِيَ ۩، انظر إلى هذا، يَا عِبَادِيَ ۩، الله يقول يَا عِبَادِيَ ۩، يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ ۩، يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ ۩، انظر إلى هذا.

نحن مُقبِلون على رمضان – بلَّغنا الله رمضان -، انظر إلى رمضان، قال لك هذا مكتوب، عليك أن تصومه، أنا كتبته، أنا أُريده وفرضته. لما قال لك هذا ماذا قال أيضاً؟ قال – هذا أول تلطف – كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ۩. أنتم لستم أول الناس، هناك أُناس قبلكم، صُلحاء وطيبون، أخذوا بهذه العبادة، واستفادوا منها، وكذا، فأنتم إذن لستم أول الناس. انظر! لأن الحشر مع الجماعة عيد. والأمر إذا عم التكليف به قل، وقلت مؤونته ومشقته على الناس. أليس كذلك؟ لو جاء أستاذ وقال للطلّاب هيا، قوموا ونظِّفوا الفصل. فإن هذا سيكون عادياً، وبالتالي سيقومون وما إلى ذلك. لو قال لواحد فيهم قم ونظِّف الفصل، فإنه سيراها ثقيلة جداً، لماذا أنا؟ لماذا أنا من دونهم؟ أليس كذلك؟ ولكن هذا مع الكل، الحشر مع الجماعة عيد. تخف! تخف المؤونة بلا شك، فالله قال أنتم لستم وحدكم، قبلكم أهل الكتاب، فرضت هذا عليهم وعلى أمم أُخرى، وأنتم أيضاً تجرون في هذا المهيع الواسع. جيد!

كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ۩، وقال هذه وسيلة تجعلك تتقي الله، وبالتالي تتقي عذابه وسخطه، وتقرب من مرضاته. ثم ذهب أيضاً وقال لك ماذا؟ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۩، قال لك هذه الأيام معدودات، أي هي ليست كثيرة، ليس سبعين أو ثمانين يوماً، فقط هناك تسعة وعشرون يوماً أو ثلاثون يوماً، وهذه الأيام تمر بسهولة، تمر! هذه سهلة. قال لك، يا الله! يا رب ما هذا التلطف؟ لكي يُسهِّل عليك هذا، ويقول لك لا، انتبه ولا تُقصِّر، وانتبه ولا تستهول هذه العبادة، فهذه كلها من أجلك، وهذه كلها أيام معدودات.

تعرف أنت المُؤمِن المُوفِّق، المُؤمِن المُوفَّق يرى الدنيا كلها أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۩، والله العظيم! إذا الله وفَّقك، فإنه سيجعلك تنظر إلى الدنيا نظرة زوالية، أنت لا ترى أنك مُخلَّد، ولا تقول أنا سأعيش كذا وكذا. أبداً! ترى أن عمرك كله معدود، وأنت عمرك عشرون سنة، تقول إذن أنا عمري عشرون سنة، فكم سأعيش؟ مائة؟ تبقى لي ثمانون، وضاع عشرون. في ثانية يُمكِن أن يذهبن، فإذن التزم، التزم! كما كانوا يقولون قديماً الدنيا ساعة، فاجعلها طاعة. ساعة وهي سوف تذهب، نهار وسوف يذهب.

أعتقد أن أحمد بن أبي الحوارى – وهذا ضبطه الصحيح، وليس الحواري – لقيَ شيخه أبا سُليمان الدارني، في طريق الشام – وهما الاثنان كانا من الشام -. وكان يلبس عباءة هكذا، أكمامها وأطرافها مُهترئة ومُتآكلة. وهذا لباس لا يليق بإمام كبير مثل هذا، إمام في العلم وفي الحال وفي السلوك. قال له يا شيخ ما هذا اللباس؟ قال له يا أحمد إنما هو أكل قليل – ماذا تُريد أنت؟ أكل قليل -، وشرب قليل، ولباس قليل، وإنما هي ساعة، وتنقضي عنك أيام الدنيا. سنذهب. قال له، سنذهب – قال له – نحن، لن نُطوِّل. ومن أين تعلَّموا هذا؟ من أين تعلَّموا النظرة هذه والكلام هذا؟ من رسول الله.

عمر يدخل عليه يبكي، فيستيقظ الرسول، لأن كان نائماً في القيلولة، أي النبي، فيقول له ما لك يا عمر؟ قال له يا رسول الله ذكرت فارساً والروم. وما هم فيه من العز والنعيم والبذخ وكذا، قصور وحور وخدم وكذا، وأنت أثر الحصير بجنبك يا رسول الله. قال له ما هذا؟ ما هذه الحالة؟ وأنت قادر على أن تعيش في رفاه! قال له يا عمر ما لي وللدنيا؟ أولئك قوم عُجِّلت لهم دُنياهم، عُجِّلت لهم النعمة والجزاء في الدنيا، نحن لنا الآخرة. وأيضاً في حديث آخر أبلغ ماذا قال؟ قال ما لي وللدنيا؟ إنما مثلي ومثل الدنيا كمثل راكب، في يوم قائظ، شديد الحر، نزل فقال تحت شجرة ساعة من نهار، ثم قام وتركها. يا الله! أي الرسول كان يرى كل عمره وكأنه ساعة، ساعة! لذلك هذا الجد والمُواصَلة في العبادة وقيام الليل، وفي صحيح البخاري عن عائشة إذا سمع الطارق وثب، النبي ينام – ومتى نام هو؟ يذهب إلى المسجد ويُصلي، وبعد ذلك يغفو قليلاً – وحين يسمع صوت الديك يثب. إذا سمع الطارق، وثب. لا يقوم هكذا ببطء وهو يقول اللهم كذا وكذا. لا! يثب مُباشَرةً، يخشى أن يفوته ماذا؟ قيام الليل. يذهب إلى القِربة ويجلس بعد ذلك ويبكي وكذا، حتى تفطرت قدماه. فمن أين هذا كله؟ لأنه يرى الدنيا ساعة، أليس كذلك؟

أنت الآن لو بقيَ من عمرك فعلاً ساعة ماذا سوف تعمل؟ سوف تقول لي خل عني يا عدنان، حتى درسك لا يُلزِمني. سوف تذهب إلى مكان ما، وتقرأ القرآن، وتُصلي، وتبكي، وتقول يا رب اغفر لي، وتكتب وصيتك. تقول لفلان كذا. وتقول لإخوانك سامحوني يا إخواني، أنا غلطت فيكم. وتبكي. ما شاء الله، سوف تكون على أحسن حال، فكيف لو كنت دائماً ترى دنياك ساعة؟ توفيق! مُوفقية كبيرة هذه، موفقية عظيمة – اللهم وفِّقنا يا رب -، موفقية عظيمة أن ترى حياتك كلها ساعة، فتجعلها طاعة.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُوفِّقنا بلُطفه الخفي إلى ذلك، وأن يجعلنا من أصحاب الهداية التامة والنور التام في الدنيا والآخرة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والحمد لله رب العالمين.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: