السّلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

الحمد لله ربّ العالمين ,
يا ربي لك الحمد حمدا طيبا مباركا فيه يوافي نعمك ويكافئ مزيدك واشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ سيدنا محمدا عبده ورسوله ص ..
في ما اخرج الإمامان البخاري ومسلم رضي الله تعالى عنهما من حديث أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال “بين رجل يمشي في الطّريق فوجد غصن شوك فنحاه عن الطريق فغفر الله له فشكر الله له فغفر له ” ومن أسمائه تبارك وتعالى الشّكور وشكره سبحانه وتعالى عمل عباده الصّالح من مظاهر رحمته الوسيعة المديدة الباسطة وهو الشكور وليس مجرد شاكر .هذا الحديث قد يشكك فيه البعض على انه في الصّحيح . كيف يمكن أن يشكر الله مثل هذا العمل الضئيل فيغفر لصاحبه ما أتاه مذنب وما اقترفه من جرم ؟
هو يفعل لذلك لأنّه الشّكور لا اله إلا هو .
وهذا الحديث مثله كأن يقول قائل : إن رجلا اشترى بجنيه واحد شارع طلعة حرب بالقاهرة أو شانزايليزي بفرنسا
أو الحمراء ببيروت ,هل يمكن هذا؟ هو ممكن مع الله لا إله إلا هو الذي يهب الجزيل ويقبل القليل ويشكر عليه فيجزي عليه بالكثير .هذا ممكن وأكثر منه بكثير .لذلك أمامنا حجة الإسلام أبو حامد الغزالي رضي الله تعالى عليه انتهى في أخر حياته إلى تقرير هذا الاعتقاد العجيب قال”الذي أدين الله به أن معظم خلق الله تبارك وتعالى داخلون في رحمة الله وهذا مأخوذ من قوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه : لا يهلك على الله إلا هالك” لان الله تبارك وتعالى عدّد وكثّر وفي طرق المغفرة وعلاوة على ذلكم فهو يضاعف الأعمال الصّالحة وأدنى التّضعيف ,الحسنة بعشر أمثالها ثمّ بعد ذلك يضاعف لمن يشاء لا اله إلا هو وهذا من رحمته لكنّنا بإذن الله حين نعرض بإسهاب عن رحمات الله تبارك وتعالى سنحاول أن نتعمّق أكثر في هذا المعنى إخواني وأخواتي أظنّكم وقفتم على المقولة المشهورة لمارثن لوثر كينغ”عندي حلم” وأنا كمسلم لديّ حلم وهو أن يأتي يوم يرى فيه غير المسلم ,النّصراني الهندي البوذي و الملحد وغيرهم يوم يرى كل واحد من هؤلاء المسلم فيشعر إزاءه بالآمن والطّمأنينة, يقول إن عُدي علي فهذا سيغيثني وإن احتجت إلى شئ فلن يتأخّر عنّي غدا كان بإمكانه مساعدتي. لماذا؟ لكونه فقط مسلما فيصبح بذلك المسلم رمزا للرحمة والمحبة والسّلم كما كان أصحاب رسول الله والمسلمون الأوائل”كنتم خير أمّة أخرجت للنّاس ” وأعتقد أنّ العامّة يفهمون هذه الآية الجليلة أنّ المسلم هو خير النّاس لكونه فقط مسلما والحقيقة أنّ الصّحابة لم يفهموها على هذا النّحو بل أدركوا مقصودها وهو أنّكم خير النّاس للنّاس يعني أنّ انفع النّاس للنّاس هم المسلمون وارحم الناس بالناس هم المسلمون وأحبهم للناس المسلمون وأبسط الناس أكفّا بالعطيّة وأنداهم يدا هم المسلمون .لذلك الحديث المخرّج في الصّحيحين وهو حديث عليه جلال النّبوّة يقول عليه أفضل الصّلاة والسّلام : يغزو فئام من النّاس فيقال لهم هل فيكم احد ممن صحب رسول الله فيقال نعم فيفتح لهم ثمّ يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم احد ممن صحب أو رأى من رأى رسول الله (أي الّتابعين) فيقال نعم فيفتح لهم ثم يغزو فئام من الناس فيقال لهم هل فيكم احد رأى أو صحب من رأى من رأى أصحاب رسول الله فيقال نعم فيفتح لهم ” وبديهيّ ان هذه المحاورة لم تحدث حقيقة بل إنّ النبيّ هنا يصوّر تصويرا بديعا ويمثل تمثيلا فائقا قاصدا بقوله إن فاتحين في خُلق أصحابي ويتحرّكون بروحيّة أصحابي حقيق أن تفتح لهم قلوب العباد قبل أن تفتح لهم أبواب البلاد لأنهم خير امّة أخرجت للناس وأرحم النّاس بالخلق أعرفهم بالحقّ,فإذا رأيت من يدّعي انه من العارفين بالله وأنّ له أسوة بالله تبارك وتعالى على انه قاس غليظ فاعلم انه صاحب دعوة تالله لو انه عه عرف الله لكان ارحم النّاس بعباده “كنتم خير امّة أخرجت للناس” أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون حلم كل مسلم وان شاء الله تبارك وتعالى يكون حلم أكثر هذه الأمة وعمّا قريب نرى الناس يدخلون في دين الله أفواجا. إخواني وأخواتي نحاول في هذه الحلقة أن نفيض في الجواب عن السّؤال الذي كنّا قد وقفنا عنده في الحلقة الرابعة بعد أن عرضنا إلى فرنسوا فولتير الذي يؤكّد أن مستقبل المسيحية ليس مرهونا بلاهوتها وبمنظومتها العقدية وإنّما مرهون بمنظومتها الأخلاقية . إخواني وأخواتي لابدّ في هذه المقدّمة أن نقف على أهمية الدّين وضرورته والحال ان الكثيرين يعتبرونه آيلا إلى الزّوال فالعصر عصر علم ولا مجال فيه للدّين والذين يتشبثون به رجعيّون متمسّكون ببقايا الماضي ينظرون بأقفائهم وليس بعيون رؤوسهم ويتحركون إلى الخلف وليس إلى الأمام . والحقيقة ان هذا الكلام بالغ السّذاجة . إنّ فولتير بعد أن فرغ من “زلزال لشبونة ” ومن ” كانديد” كتب يقول “إذا كان إثنى عشر صيّادا من الأميّين أقاموا تعاليم المسيحيّة فلماذا لا يقدر اثني عشر فيلسوفا من كبار المفكرين على تقويض دعائمها؟” ويشير بالاثني عشر صيّادا إلى الحواريين أصحاب عيسى عليه الصلاة وأفضل السّلام الذين شاركوا عيسى في بناء تعاليم المسيحيّة , وعلى أثر فولتير سار المؤرّخ الكبير ولعله المؤرّخ الأكبر “ولد يورن” حين كتب في قصّة الحضارة يقول مستلهما من فولتير :”لماذا يبقى الدين عصيّا على الهزيمة والانكسار رغم كل ما فيه من اللاّمعقول وكل الحملات الضّروس والشّرسة التي سدّدت ووجّهت إليه عبر التّاريخ بدءا من أبيقور لوبريتيوس , لوسيان , ميكيافيلي, هيوم,وفولتير , والدّين لا يزال منتصبا صامدا قويّا “.ثمّ يستتلي في موضع آخر يقول :” إنّ أكبر عقل بشريّ يحتاج أن يُمدّ في عمر صاحبه مائة ضعف (فإذا كان متوسط عمر الإنسان 70 أو80 سنة ,فإنّ أعقل النّاس لابدّ أن يعيش 7000سنة أو8000سنة ) لكي يتمكن من الإجابة عن هذا السّؤال جوابا شافيا: لماذا يفرض الدّين نفسه باستمرار؟ ” إنّه سؤال على غاية كبيرة من الصّعوبة .إذ أنّه يستحيل على البشر التّحرّر من شبكة الدّين وسطوته . والقصّة التي سأرويها تسير في هذا المسار: ذلك أنّه اتفق للشيخ الفيلسوف والطّبيب الكبير بن سيناء وحيد دهره وقريع عصره ذات ليلة كان يتهيّأ للنّوم وإلى جانبه تلميذه الفيلسوف بهمنيار بن مرزبان الذي قال له عندي سؤال يؤرّقني وأستحيي أن أطرحه . قال له :سل فقال له: أنت رجل طبيب وفيلسوف ومنطيق وعالم في شؤون علميّ شتّى ,لماذا لا تدّعي النّبوّة؟ فمحمّد كان أمّيّا وادّعى النّبوّة واتبعه خلائق كثيرون(ظنّا منه أنّ الفلسفة يمكن أن تعادل النّبوّة ) فقال له بن سيناء وهو من أذكياء البشر: أجيبك عنه بعد حين لكن الآن لابدّ أن نأخذ قسطا من الرّاحة . وقبيل الفجر,نهض بن سيناء وقال لتلميذه :اقترب موعد صلاة الفجر هلاّ جئتني بماء لأتوضّأ؟ قال له : الجوّ بارد جدّا يا سيّدي والدّفء يناسبني تحت هذا اللّحاف ,اتركني فتركه ,حينا ثمّ عاد إليه يتوسله الماء للتوضؤ فقال له :لا أستطيع الجوّ بارد جدا. إلى أن رُفع النّداء”الله اكبر ,الله أكبر… ” و مباشرة قام بهمنيار .فسأله معلّمه:”إلى أين؟ قال له :” أتوضّأ لأصلّي فقال له ابن سيناء :هذا جواب سؤالك ,فبيننا وبين محمد أكثر من 400 سنة وأنت ألان تسمع نداءه ,اشهد أنّ محمّدا رسول الله فتقوم تلبيه لا تلوي على شيء وأنا أستاذك وشيخك الذي علمتك أفانين العلم لسنين طويلة لكنك لم تلبّني في أمر بسيط ويسير فقال :”حسبي به من جواب يا سيّدي” وأنا سأحاول أن أقارب جواب مسألة “لماذا الدّين” مستندا كتاب ربيّ لذلك أرجّح صحّة جوابي إن شاء الله . لقد صحب الدّين الإنسان منذ فجر البشريّة ومطلع التّاريخ الإنساني وعرفه المتعلمون والأميون والعلماء والفنانون والأدباء والشّعراء والرّجال والنّساء والأغنياء والفقراء والملوك والسّوقة كلّ طبقات البشر عرفوا الدّين كلّ المجتمعات التاريخيّة كما سجل المؤرّخ الرّوماني الكبير بلوتار “يمكن أن تجد مدن بلا أموال بلا أسوار لكن لا يمكن أن تجد مدينة أو مدنيّة بلا معابد ” وهذا على تمام الصّحّة. إذا كانت كلّ طبقات الشعوب وأنماط المجتمعات وكلّ تصانيف البشر عرفت الدّين منذ طوالع التاريخ إلى يومنا هذا,فما معنى هذا؟ معناه أنّ مصدر الدّين ومنبعه ومثاره ومبعثه ليس شيئا في الطّبيعة وليس شيئا في الخارج ليس موعظة تقال من الخارج بل إنّ منبعه فطرة الإنسان وقاع نفسه ووجدانه .وقد قال عزّمن قائل ” وأقم وجهك للدّين حنيفا فطرة الله الذي فطر النّاس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدّين القيّم ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون ” فالدّين ضرورة وسيصحب الإنسان باستمرار . في القرن 19 بلغ العلم الماديّ في الغرب الأوروبي والأمريكي ذروة الميكانيكية أو الآلية التي تظاهرت بالحتمية وتسنى للعالم والفيلسوف “بييرلابلاس” الذي كان معاصرا لنابليون بونابارت أن يقول “لسنا نحتاج إلى فرضيّة الإله فقط أخبرني بالشّروط البدئيّة المتعلّقة بأيّ ظاهرة ويمكن أن أخبرك بما سيجري عليها في قابل الأيام وربّما الى مالا نهاية ” ويعكس القول ثقة مطلق بالعلم ولذلك شاع الإلحاد في القرن 19 في أوروبا وهو قرن الإلحاد , وبدأت حتمية العلم تهتزّ بداية من القرن الـ20 مع ألبيرت انشتاين ومع ميكانيكا الكمّ ودخلنا في عصر اللاّيقين واللاّتحديد واللاّتعيين وعاد السّؤال حول الدّين يطرح من جديد . ولمحمود العقّاد كتاب عميق التحليل اسمه” عقائد المفكرين في القرن العشرين” قال فيه ” كان القرن19 قرن الإلحاد والقرن العشرين هو قرن الشّكّ في الإلحاد وقرن اليقين ” كتب أحد علماء النفس الكبار على المستوى العالمي وهو احد رواد القوّة الثالثة اسمه ابراهام ماسلو يقول : نحن الآن في القرن العشرين نعدّ الذي ينزع نزوعا دينيّا أقرب إلى الإنسان الطّبيعي وأنا أقول في مستقبل الأيام القريب سيعدّ غير طبيعي وشاذا عن السّواء الذي لا يكون متديّنا ” لقد عرف هذا العالم ان المستقبل للروح وللدين وليس للمادة والعلم على إننا لسنا في خصام مع العلم .فالدّين الحقّ لا يمكن أن يمثل إشكالا مع العلم . إنّه لا يمكن للإنسان ان يتخلص من مسألة الدّين إلا إذا تسنى له مفارقة فطرته وانتزاع نفسه منها وفي هذه اللحظة عندما يعاكس الإنسان فطرته في أهم خصائصها وهي البحث عن الله تبارك وتعالى سيكون الإنسان قد بدأ ينتهي . ووزير الثقافة الفرنسي الفيلسوف والناقد الرّوائي الكبير أندري مارّو كتب يقول :القرن الحادي والعشرون سيكون قرن الرّوح وإلاّ لن يكون “فكأنّه يراهن على ذلك. والمؤرخ الانجليزي الكبير آمر ثويمبي كتب أيضا كلاما يؤكّد نفس المعنى : أنّ القرن الحادي والعشرون سيكون قرن الأديان بعد أن قرّر أنّ أكثر الأشخاص تأثيرا في التاريخ البشري هم مؤسسو الأديان الكبرى كموسى وعيسى ومحمد وبوذا … والسّؤال الذي يطرح نفسه :أيّ الأديان هو المرشّح للفوز في سباق المستقبل ؟ يقول فولتير ان المسيحية لن لها حظ في الفوز إلا بمنظومتها الأخلاقية وكذلك الفيلسوف الإنساني والطبيب الألماني الكبير البيرت شفايتسر المتحصل على جائزة نوبل والمتوفى قبل زهاء أربعين سنة يقول :المستقبل سيكون من حظ الأديان التي تثبت أنها أكثر تفوقا من الناحية الأخلاقية وليس الأديان الأكثر تماسكا من الناحية اللاهوتية أو الأكثر صرامة ودقة وشمولية من الناحية التشريعية .ويؤكد هذا العالم أن العلم لم ينقذنا ولم يزودنا بالحكمة اللازمة وهو ليس مرشحا لإنقاذ البشرية فلا بد إذن من عودة الروح وعودة الدين . لكن أي الأديان أكثر أخلاقية؟ وعلى عكس مما يتصوّر أصحاب العقليّات الفقهية فانّ ديننا قادر أن يثبت على أنّه دين أخلاقي بدرجة أولى , والعقلية السائدة اليوم للأسف هي العقلية الفقهية ,فكل شئ ينظر إليه من زاوية فقهية مع أن تعاطي الفقه مع الأمور لابد أن يكون في حدود اقل بكثير فدوره أكثر محدودية مما يظن الناس بل إن الدور الأخلاقي للدين وفي حياة المتدين ينبغي أن يكون أوسع بكثير من الدور الفقهي التشريعي القانوني وإلا استحال الدين الى “جاكيت” من الجبس زنزانة متحركة أو دينا جافا بلا روح ولا حياة بخلاف الدين الأخلاقي القيمي وهو الدين الروحاني .وميزة الإنسان الكبرى انه كائن قيمي أخلاقي صاحب البعد الرابع كما يقول فلاسفة الأخلاق . إنّك إذا قارنت اللاهوت المسيحي باللاهوت الإسلامي أو العقيدة النصرانية بالعقيدة الإسلامية يظهر لك مدى تفوق العقيدة الإسلامية لجهة سائغيّتها فهي بسيطة غير متناقضة غير مرهقة للعقل وهي أيضا غير مرهقة للتصور الخيالي وهذا ما أقرته جماعات كثيرة من دارسي أديان المقارنة . أين الثّالوث في تعقيده الذي احتاج إلى عقل مثل هيجل لكي يبرره فلسفيا بفلسفة مثالية معقدة جدا لا تكاد تفهم من التوحيد الإسلامي ؟ فالتوحيد الإسلامي بسيط ومباشر ومفهوم ويوافق الفطرة والنزوع الإنساني.وإنّ صورة الله في المعتقد الإسلامي وكيفية تعرّف الله إلينا في كتابه العزيز هو ضمانة الأخلاقية الإسلامية بل يوشك أن يكون منبع هذه الأخلاقية ,فما يليق من أخلاقية المسلم بالإنسان تأتي انعكاسا وترجمة وتناغما مع صفات الرحمان سبحانه وتعالى .لذلك كان هو الرحمان الرحيم وكان نبيه رحمة للعالمين وكان شرعه ودينه دين الرحمة وكان المسلم أيضا هو إنسان الرحمة أو ينبغي أن يكون كذلك ,والاعتقاد في الله تعالى انه الرقيب والحسيب والوكيل والقائم على كل نفس بما كسبت هو الذي يمكن أن يؤهل يرشح لانبثاق لضمير يسمى ضمير الإيمان بإزاء ضمير المجتمع , إنّ معظم الناس يتمتع بضمير المجتمع الذي يجعل الإنسان مسالما و محترما وهو نفسه القادر على أن يحوّل الإنسان في لحظة إلى قاتل متوحّش شرس يوم يعطيه المجتمع الضّوء الأخضر يقول له أقتل هؤلاء إنّهم مجرمون يستحقون القتل فينطلق مجرما شرسا متعطّشا للدّماء , أمّا ضمير الإيمان فهو مختلف تماما لأنه لم يتأسّس على مراقبة المجتمع لم يرتبط ولم يرتهن بتفضيلات المجتمع وخياراته بعاداته وتقاليده وأعرافه بل إنّه متأسّس على علاقة صلة مباشرة بربّ الأرض والسّماء بربّ الفرد والمجتمع ,لذلك فإنّ ضمير الإيمان يشقّ له طريقا ويقتعد له مقعدا داخل ضمير المجتمع مركزيّا بحيث يراقب ضمير المجتمع فربما وافق وربما خالف . و دائما يتّهم الصّالحون وطلاّب الحقّ الذين ينصتون لصوت ضمير الإيمان بالزندقة أو الكفر أو…لأنّهم لا يتطابقون مع المجتمعات لانهم متسامحون وسلاميّون لا يقوون إلا بالحقيقة التي يعتقدونها وتغلب عليهم الرحمة والانفتاح والتعدّديّة متناغمين مع خطّة الله في الخلق .وكما قال عيسى عليه السلام : الله تبارك وتعالى هو الذي تشرق شمسه على البرّ والفاجر هوا لذي ينزل غيثه على المؤمن والكافر فكيف يعارض الله في خطّته؟ كل نفس بما كسبت رهينة, لكم دينكم ولي دين .هذا هو ضمير الإيمان وهو الذي حمل شخصا من أصحاب رسول الله , واليكم حكايته كما رواها ابو داوود في سننه : بينما كان الناس يتوجهون إلى الصلاة في فحمة الليل ولعلها صلاة الفجر وكانت من بينهم امرأة ,فيهم بها رجل يتجلّلها بثوبه ويقضي حاجته منها ثمّ انطلق هاربا فصاحت المرأة “أدركوا الرّجل,عليكم به”فانطلق جماعة من الصّحابة متوجهين الى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأمسكوا بالرّجل وأتوا به.قالوا “أهو هذا” فقالت “هو ذاك”فاقتادوه إلى رسول الله وبعد إن فرغوا من صلاة الفجر أتي بالرجل ليقام عليه الحدّ غير أن الرجل أنكر التهمة ويقسم على أنه لم يفعل ذلك لكن أحدا لم يصدقه فقد شهدت عليه المرأة وقبض عليه في الحين غير ان أحدا في المجلس نهض قائلا ” ليس بصاحبها أنا صاحبها” اعترف على نفسه بفضيحة وبالها من فضيحة بين عامة الناس وخاصّتهم فضلا عن انه سيقام عليه الحدّ لقد أقدم على ذلك لان ضميره لم يحتمل أن يأثم مرّتين مرة حين اغتصب ومرة ثانية حين ارتضى لغيره ان يدفع عنه ثمن جريمته ز أرأيت كيف ربّى محمّد أصحابه ؟ فإن تحدثنا عن الإسلام وضمير الإيمان فهذا هو ضمير الإيمان “اللهمّ ارزقنا ضمير الإيمان وعظّم لدينا الإيمان ” هذا هو الإيمان أن تعبد الله كأنك تراه فان لم تره فإنّه يراك قائم على كلّ نفس بما كسبت.ضمير الإيمان هو الذي جعل احد الصّحابة الأجلاء وهو أجمل الصّحابة وجها جرير بن عبد الله البجري الذي يقول”ما حجبني رسول الله مذ أسلمت (كلما استأذن على النبيّ أذن له لكونه طيبا عظيم الخلق راسخ اليقين ) .وفيما يروي الإمام أبو القاسم الطّبراني رحمة الله تعالى عليه يقول “بعث جريربن عبدالله مولاه الى السوق ليشتري له فرسا فاشترى له فرسا بثلاث مائة درهم واتى بها وبصاحبها ليتم عقد البيع فسأله جرير”بكم اشتريت هذا الفرس؟”قال ” بثلاث مائة” فالتفت جرير إلى صاحب الفرس وقال له “يا أخي فرسك تساوي أكثر من ثلاث مائة “قال ذلك إليك يا صاحب رسول الله “قال” أتبيعها بأربع مائة ؟” قال “ذلك إليك يا أبا عبد الله” قال :أتبيعها بخمس مائة؟” قال “ذلك إليك يا ابا عبد الله” فمازال يزيد مائة ومائة حتى بلغ بسعرها ثمان مائة درهم “قال له فرسك تساوي ثمان مائة درهم أتبيعها بثمان مائة ؟”قال نعم وذلك إليك” قال له “خذ مالك بارك الله لك فيه” لقد حدث هذا ومثله مع أصحاب محمد مع الذين رباهم محمد صلى الله عليه ولى اله وسلم وهذه هي أخلاقية المسلم الحقّ. فسُئل جرير ” لم فعلت ما فعلت؟” فقال “إني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم “ونحن بايعنا الله تبارك وتعالى يوم دخلنا إلى هذا الدين يوم اتسمنا بسمات هذا الدين في لباسنا وهيئاتنا لكن اين الالتزام والفعل أين ضمير الإيمان ؟ واسمعوا إلى احد التابعين وهو يبيع نعجة يقول للمشتري قبل أن يتقاضى ثمنها”انتبه هذه الشاة بالت عندي الدم مرة” أمازال في امة محمد أمثال هؤلاء ؟ إن شاءا لله مازال , وانأ اعرف أخا لي في الله من تركمان العراق باع سيارة اتفق مع المشتري أن يكون ثمنها 12ألف يورو لكن سرعان ما عاد وقال هي لا تسوى هذا الثمن فإنّ بها عيب قد يتقاضاك تقريبا 4آلاف يورو فإن شئت فخذها مني بثلاثة آلاف يورو وضميري مرتاح ” وحدّثني احد إخواني وهو تاجر يبيع اللحم قال لي “جاءني نمساوي وقال لي أريد من هذا.فقلت له:هذا ليس حديثا لقد مرت عليه أيام “فقال : هل هو فاسد؟قلت كلاّ ولكن ليس جديدا فإن شئت خذه بلا ثمن لست احتاجه وضميري لا يطمئن لان أبيعه للناس بثمن ” فشكره النمساوي جدا ” إن أمثال هؤلاء الأتقياء ليقومون بدعاية للإسلام أحسن من ألف عالم وألف شيخ يقولون مالا يفعلون ,غير انه كان احد السائحين العرب المسلمين واقفا في الصّفّ شاهد ما حدث فتعجّب وقال مستنكرا :” لماذا فعلت هذا؟” فأجابه البائع “لأنه يجب ان افعل هذا” فقال”وهل تفعل هذا مع الكفّار؟” كأنّه ينكر عليه ذلك ويتّهمه بالحمق. لقد صرنا كالذين نعى الله تبارك وتعالى عليه من أهل الكتاب وقالوا” ليس علينا في ألاميّين سبيلا ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون ” لا يمكن للمسلم آن يقول ليس علينا في غير المسلمين سبيلا وإلاّ كانوا كالذين أنحى الله عليهم باللاّئمة . في بلاغات الإمام مالك بن أنس في موطّئه رحمه الله أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :” إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق” وهذا حصر أو قصر إضافيّ لكن له دلالة كبرى .فكأنّ أصل هذا الدّين أن يكون أخلاقا تامة حسنة .وفي حديث امّنا عائشة رضوان الله عليها أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم قال: ” إنّ من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا ” وأيضا عنها رضوان الله تعالى عليها أنّ رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا قال:” إنّ المؤمن بحسن خلقه ليبلغ درجة الصّائم القائم” وفي حديث نوّاس بن سمعان يقول سألت رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن البرّ والإثم (العلماء يقولون البرّ كلمة يراد بها التّوسّع في وجوه الخيرات والمَبَرّات , فكلّما توسّعت في كل وجوه الخير كان ذلك من البرّ , لكنّ النّبيّ جعل معقد ذلك وأصله ما جاء على لسانه في الحديث)فأجاب :” البرّ حسن الخلق والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع عليه النّاس ” . ولمارثن لوثر المصلح البروتستنتي عبارة شهيرة يقول فيها :”إنّ الأعمال الصالحة لا تصنع رجلا صالحا لكنّ الرّجل الصّالح يقوم بأعمال صالحة ” ومعنى هذا أن الرّجل الصّالح صاحب الضّمير الصالح و النّفس الزّكيّة يعمل أعمالا زكية دون شكّ يراد بها وجه الله , أمّا الأعمال الزّكيّة الصّالحة في الظّاهر فقد تكون رياء وقد تكون نفاقا وقد لا تواطؤ في ظاهرها النيّة في باطنها فلا يعود على العبد منها إلاّ أن يكون من الذين قال الله فيهم ” عاملة ناصبة تصلى نارا حامية ” لا يجني من أعماله إلاّ الخسران.فأصل الدّين نفس زكيّة وقلب طهور . لذا لا بدّ من إعادة استكشاف الإسلام المعاصر أخلاقيّا وإعادة تدريس الإسلام وفهمه وإعادة صياغة الخطاب الإسلامي المعاصر بحيث يكون أخلاقيّا بجدارة وتميّز ,يتخفّف كثيرا من أعباء الفقهيّات والأحكام والّتشريعيّات على أنها مهمة لكن لابد أن تكون الأولوية للأخلاقيّ الذي يتأسّس على النيّة الصالحة والضّمير الصّاحي

السؤال :1 كيف تكون الرّحمة بالضّعيف في المجتمع الأنانيّ؟ يحتاج المجتمع القاسي الغليظ الأنانيّ عديم الرّحمة إلى تربية وإعادة استخراج واستنبات وقد شبه الله هذه الأمة بالنبات إذ قال”كنتم خير امة أخرجت للناس” فهذا المجتمع لا شك يحتاج إلى خطة تربوية وتزكويّة تقوائيّة يحمل لواءها الزّاكون الراشدون من علماء الدّين من أولياء الله في هذه الأمّة غير ان هذا المر يحتاج غالى خطة متكاملة . أما المجتمع الحالي فهو مجتمع ت والأطفال برأ منه ذمّة الله,مجتمع لا يعتني بحقوق المسنّين والعملة والخدم خاصة منهم الوافدين من الخارج والأرامل والمطلقات ,بحقوق النساء عموما .وقد قال مولانا رسول الله :” اللهمّ إنّي أحرّج حق الضّعيفين(أضيّق فيه وأشدّد ولا أتسامح) المرأة والمسكين (وفي حديث آخر المرأة والصّغير) وقال صلى الله عليه وسلم ” أيّما أهل محلّة يبيتون وفيهم جائع إلاّ وبرئت منهم ذمّة الله ” كأنّ الله يرفع يده ورحمته عنهم كأنّه يتبرّأ منهم ماداموا قد ارتضوا أن يبيت فيهم جائع .والنبيّ يقول:” أَبْغوني ضعفاءكم ” وفي رواية أخرى “أُبْغوني في ضعفائكم هل تنصرون وترزقون إلاّ بضعفائكم بصلاتهم واستغفارهم ” إنّه نبيّ الضّعفاء , إنّ للضّعفاء أهمّيّة خاصّة في دين الله تبارك وتعالى لذلك ينبغي ألاّ نضيّع حقّهم لأنّهم أحوج النّاس إلى الرّحمة فما من ضعيف إلاّ وهو في حاجة إلى أن يكون مرحوما .ومثل هذا المجتمع الذي لا يحترم حقوق الضّعفاء ولا يرحمهم مجتمع غير ربّانيّ برأت منه ذمّة الله السّؤال 2 هل تماثل رحمة الله رحمة الإنسان ؟ الجواب: نتبسّط في الإجابة عن هذا السّؤال خلال الحلقة التاّلية حين نشرع في معالجة جوهر الموضوع بعد هذه المقدّمات التّمهيديّة التي أجابت عن السّؤال ـ لماذا رحمة للعالمين؟ـ إنّنا نريد أن نؤسّس لفقه الرّحمة ونرحمن الخطاب الإسلامي وهذا جزء من حلمي ولا يمكن أن يتحقق الحلم الأول وهو أن يصبح المسلم إيقونة رحمة ورمزها إلاّ إذا أعدنا بناء الفهم الإسلامي وبالتالي صياغة الخطاب الإسلامي بحيث يكون خطابا رحمانيّا ولسنا نقصد بذلك أنسنة الخطاب الإسلامي لان كلّ ما هو مؤنسن بعيدا عن الرّحمان لا اله إلاّ هو بعيدا عن ضمانة الرحمان وضمانة التّديّن الرّوحاني له نقطة انهيار وتلاش واضمحلال وانكسار لكن نريد أن نرحمن الفهم الإسلامي وهذا ليس له نقطة انكسار وتلاش بإذن الله تبارك وتعالى بل له نقطة تدعيم دائمة لأنّه يستند إلى الباقي لا إله إلاّ هو وما استند إلى باق يبقى باقيا. كيلكيجور الدانمركي أبو الوجودية المؤمنة قال مرة ” مقتبسا من فيثاغورسي الذي كان يقول: لو تمكنت من نقطة ارتكاز خارج الأرض لاستطعت أن ارفع الكرة الأرضية ” وكيلكيجور:” ولو وصلت إلى نقطة ارتكازي لفعلت المستحيل” وأنا أقول له :كلّ مؤمن حقّ بالله الحق لا إله إلاّ هو له نقطة ارتكاز وهي إيمانه بالله “وعلى الله فليتوكّل المؤمنون” فالله وكيلنا هو مرتكزنا لا إله ألاّ هو لذلك فانّ أخلاقيّتنا ورحمانيّتنا لا يمكن أن تتلاشى بل تتدعّم وتتعزّز باستمرار لذلك عدلت عن استخدام مصطلح “انسنة الخطاب الإسلامي ” وقد أطلقته على وجه الخطإ وأعتذر عن ذلك واستبدلته بمصطلح “رحمنة الفهم الإسلامي ورحمنة الخطاب الإسلاميّ .وسوف نرى إنشاء الله أنّ للإنسان حظّ في مجمل وجوه رحمة الله لكن بعض الوجوه ليس له مُدخليّة فيها إنها من اختصاص الرّحمان الرّحيم لأنّه لايقدر عليها إلا هو فأنت لا تستطيع أن ترحم أحدا فتهديه هداية توفيق . وقد قال تبارك وتعالى لخيرة خلقه رسول الله صلى الله عليه وسلّم :” إنّك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء ” لكن في المقابل تستطيع ان تهدي هداية بيان فتبيّن له طريق الهدى بالإرشاد والنصح والتوجيه فقط وهداية البيان يقوم بها الأنبياء وورثتهم من الصّالحين والوعّاظ والعلماء ودعاة الخير أمّا هداية التّوفيق وعكسها الخذلان لا يملكها إلا الله تعالى ومن الرّحمة الهداية فأنت لا تستطيع ان ترحم عبدا فتهديه هداية توفيق فهذا لله ومن الرّحمة أن تدخل العبد في رحمة الله وفسّرت بالجنّة وةهذا ليس الينا لا نمتلكه انما هو لله اللهم اجعلنا من اهل رحمتك ” ففي رحمة الله هم فيها خالدون ” وليس للعبد ولا للأنبياء مُدخليّة في بعض مظاهر رحمة الله إنّما هي اختصاص الهيّ صرف ولنا في سائرها حظوظ . السّؤال 3 ما هو مصير من لم تصل له رسالة الإسلام ومات على الكفر ؟ الجواب: لقد عالج هذه المسألة الكثير من العلماء من زوايا مختلفة وأعتقد ان من أحسن من تناوله شيخ الإسلام أبو محمد بن قيّم الجوزيّة في كتابه “طريق الهجرتين” عالج باسهاب هذه المسألة” ما مصير من لم تبلغه دعوة الاسلام” وتجدر الإشارة هنا الى انه لا يكفي ان يسمع احدهم بالإسلام فالسماع وحده بالاستلام لا يكفي والسّماع على أيّ وجه لا يكفي بل لا بدّ ان تبلغ دعوة الإسلام من تبلغه بلاغا مبينا لأنّ الله تبارك وتعالى ناط بالنّبيّ البلاغ المبين أي أن تبلغ دعوة الإسلام بالبيان الذي بمثله تقوم الحجة على مثل المُبَلَّغ لنفترض مثلا أنّنا نبلغ الإسلام لفيلسوف كبير قرأ ألوف الكتب ويعرف عشرات الفلسفات وقد يكون اطلع على الإسلام ويعرفه لكن لم يفهمه جيّدا لا يمكن لهذا الفيلسوف أن يقنع بما يقدّمه له واعظ بسيط متواضع المعرفة وليس لهذا الواعظ أن يدّعي أنّه قد بلّغ وأقام الحجّة على هذا الفيلسوف ذلك انه لا يمكن أن يقيم عليه الحجّة إلاّ أمثاله من أصحاب الثّقافة الفلسفيّة العملاقة من علماء المسلمين الكبار وقد كثّر الله من أمثالهم .وقد أفتى العلماء من قديم أنه يجب أن يكون في مرحلة قصر صلاة ,فالصلاة تُقصر تقريبا في نحو 80 كلم وقد قال العلماء بوجوب انتصاب عالم في الأصول في كل مسافة 80كلم ليجيب عن الشبهات ويردّ التشغيبات ويكشف التّشكيكات ويقيم الحجة على عباد الله وإلاّ فالحجّة لا تقام إلاّ بأمثال هؤلاء ومثل هذا الفقه من رحمة الله تبارك وتعالى .أبو حامد الغزال في القصاص المستقيم في فلسفة التفرقة على ما أظنّ ذكر أنّ من بلغته دعوة الإسلام بطريق محرفة كأن يقال له أن محمدا كان قتّالا وأنّه كان عابد وثن وانه كان زير نساء ,قال لا تقوم الحجة عليه بهذا .لأنه حريّ بالإنسان العاقل أن يكفر بهذا الإسلام إن عرض عليه بهذه الصّورة المحرّفة .فالحجة لا تقام إلاّ على من بلغه الإسلام على وجهه . وحكم من لم يبلغه الإسلام المبين أن يُختبر في عرصات القيامة فإمّا نجا وإمّا هلك . ونحمد الله على فضله وتوفيقه ونشكره الشّكر الجزيل.
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اعداد : نادية غرس الله /تونس

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: