تفسير القرآن الكريم ۞ سورة فاطر، الآية 18 ۞ الحلقة 13

video

قراءة مُبارَكة للآيات 19: 30، والتي سيُكمِل فضيلته تفسيرها في قابل الحلقات

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ۩ وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ ۩ وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ ۩ وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاء وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاء وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ۩ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ۩ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيهَا نَذِيرٌ ۩ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ۩ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۩ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ۩ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ۩ إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ ۩ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً. تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالسعادة آجالنا وبالباقيات الصالحات أعمالنا، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، يا مولانا، يا بر، يا كريم، يا عفو، يا غفور، يا رحيم، يا رب العالمين.

۞ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ۞

إخواني وأخواتي:

وقفنا عند قوله – تبارك وتعالى – من سورة فاطر وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩، وتكلَّمنا عن هذا الجُزء الكريم، وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ۩، أي نفس مُثْقَلَةٌ ۩ بذنوبها وأوزارها، إِلَى حِمْلِهَا ۩، أي أوزارها، لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ۩، وطبعاً هذه النفس المُثقَلة قد تكون مُثقَلة بأوزار نفسها، وقد تكون مُثقَلة بأوزار نفسها علاوة على أوزار غيرها مِمَن أضلتهم، ولذلك لا مُنافاة إخواني ولا تعاكس ولا تعارض بين الآيات التي تقول وتُخبِر بأن أنفاراً وأصنافاً من الناس يحملون أوزارهم وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ۩ وبين قوله – تبارك وتعالى – في القاعدة الكُلية وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩، هذه القاعدة كُلية في العقيدة، في عدالة الله – تبارك وتعالى -، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۩، قاعدة كُلية في عدالة الله! لا مُنافاة بينها وبين الآيات التي تقول وتُخبِر بأن أنفاراً وأصنافاً من الناس يحملون أوزارهم وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ ۩، لا مُنافاة! لأن قد يقول قائل إذن هؤلاء حملوا أوزار غيرهم، مع أن القرآن يقول وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩. هل هذا واضح يا إخواني؟ لا مُنافاة البتة. لماذا؟ لأن من أوزار أئمة الضلال أنهم أضلوا غيرهم، فكُتب عليهم مثل أوزارهم من غير أن ينقص من أوزار الذين ضللوهم (أي المُضَلين – إن جاز التعبير -، أعوذ بك أن أضل أو أُضل، مُضِل ومُضَل) شيئ، لا ينقص من أوزار المُضَلين شيئ! أوزار المُضَلين (أي المُضلَّلين) أوزارهم، ومثلها هي أوزارها المُضِلين، لأنهم أحدثوها وتسببوا فيها، وكانوا أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ۩، كانوا أئمة! وهذا من كسبهم، وهذا من أوزارهم. هل هذا واضح يا إخواني؟ لا مُنافاة – بفضل الله -.

قال وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ۩ المدعوَ، وَلَوْ كَانَ ۩ المدعوَ، وطبعاً بعضهم جوَّز على طريقة النُحاة، وقال ولو كان ذو قُربى، على أن كان تامة، ليست ناقصة، ليست ناقصة! الناقصة تحتاج إلى اسم وخبر، التامة ليست كذلك، لا! تحتاج إلى واحد، اسم واحد وينتهي الأمر، كافٍ! لا تحتاج ماذا؟ الاسمين. على كل حال وَلَوْ كَانَ ۩ المدعو ذَا قُرْبَى ۩، أي من قراباته، حتى ولو كان أمه، وقد ورد في بعض الآثار أن الأم تأتي إلى ابنها في عرصات القيامة، تقول له أي بُني ألم أكن وأكن وأكن وأكن؟ ألم يكن بطني لك حواء وثديي لك سِقاء؟ وهكذا! فيقول بلى. فتقول له فأعطني حسنة. حسنة! تُريد حسنة. حين تقول اللهم صل وسلم وبارك على رسول الله، تحصل الآن عشرات الحسنات، بمُجرَّد أن تُصلي هكذا، بمُجرَّد أن تقول أستغفر الله أو سُبحان الله. حسنات! يوم القيامة الأم بأمس وأحق الحاجة إلى حسنة واحدة، الأم! ولا يُوجَد مَن هو أعز من الأم طبعاً، الإنسان يفدي أمه بروحه طواعيةً وسماحاً.

فيقول لها أي أمي إني في مثل ما أنتِ فيه، فإليكِ عني. أنا في الخوف نفسه، في الرعب نفسه، وفي المُصيبة نفسها. ابعدي عني! وكذلك تقول الأم لابنها، يذهب يسألها، فتقول له اذهب. والأب لابنه، والابن لأبيه، والزوجة! وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ۩، قيل الفصيلة هي في الأرجح العشيرة. أي والعشيرة أيضاً لابنها، وهكذا! لا أحد يتعرَّف على أحد، والله موقف عظيم، والله العظيم موقف عظيم ومُخيف يا إخواني، مُخيف!

ولذلك في الدنيا احرص أن تكون صالحاً مُصلِحاً مُستقيماً، ولا عليك من الناس، إياك أن تُغضِب الله لإرضاء الناس، لن يُغنوا عنك، حتى ولو كان مَن أغضبت الله بإرضائه أباك أو أمك، لن يُغني عنك، أليس كذلك؟ لن يُغني عنك. فلا تُغضِب الله من أجل أي إنسان مهما كان، ارض الله، وأعط الناس حقوقها، صاحب آباك وأمك بالمعروف، عامل الناس بالحُسنى، ولكن في مرضاة الله، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وطبعاً هناك ما هو أولى من هذا بكثير، أعني النفس الملعونة هذه، أقدرنا الله عليها، وحكَّمنا فيها، وعبَّدها لنا، حتى تُصبِح قناً عبداً مُسخَّراً لنا، اللهم يا رب. أي والله! نُريد أن نتحكَّم فيها، حتى تُصبِح النفس المُطمئنة، انظر إلى هذا، ما أجمل التعبير!

هل تعرفون ما هي النفس المُطمئنة؟ هي النفس التي تطمئن بالخير، تُحِب الصلاة والصدقة والذكر والقرآن والعبادة. وتكره المعاصي وتكره الكذب والغيبة والنميمة والسرقة والنظر إلى ما حرَّم الله، وتكرهه وتتقذر منه. سُبحان الله! اللهم أعطنا نفساً مُطمئنة، هذه النفس المُطمئنة، تتطمئن فقط بالخير، لا تطمئن بالسوء. لا إله إلا الله! متى تأتي هذه النفس؟ بالمُجاهَدة. مُجاهَدة، مُجاهَدة، مُجاهَدة، مُجاهَدة، مُجاهَدة، وعمل واجتهاد وضراعة وابتهال وإقبال على الله وبكاء في الليل والنهار، ومن ثم الله يُعطيك، بعد سنوات من المُجاهَدة يُعطيك نفساً مُطمئنة، مُفتَّحة لها أبواب الرضوان، مُفتَّحة لها – بإذن الله – أبواب رضوان الله، لا إله إلا هو! يُحِل عليها رضوانه، فلا يغضب أبداً. اللهم اجعلنا على صفة هذه النفس.

على كل حال أحبتي بالأمس ختمنا الدرس – إخواني وأخواتي – بهذا التساؤل المُهِم، قد يقول قائل ما الزيادة في قوله – تبارك وتعالى – وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ۩ بعد قوله وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩؟ المعنى نفسه! الله قال وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩، وهنا قال وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ ۩. لا! تُوجَد زيادة، يُوجَد فرق كبير. قوله – عز من قائل – وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩ – كما قلت آنفاً – بيان وتقرير لقاعدة كُلية في عدالة الله، وهذه العدالة غير موجودة في الأرض، هذه عدالة سماوية إلهية، وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ۩، كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩،  كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ۩، جميل!

ذكرنا قوله وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ ۩، إذن الأولى في ماذا؟ في نفي ماذا؟ نفي الظلم، وتقرير العدل. وتقرير العدل! حسنة بحسنة، سيئة بسيئة، أو يتفضَّل المُتفضِّل المُنعِم المُحسِن المُجمِل البر الكريم الرحيم – لا إله إلا هو – فيعفو عما شاء من الذنب، وهذا في حق المُوحِّدين، انتبه، الكافر ليس له شيئ، لا! انتهى هذا، في حق مَن لقيَ الله على التوحيد والإيمان الخاص، اللهم اجعلنا كذلك. فيعفو عما شاء من الذنب، ويضع ما شاء من الأزوار، ويضع ما يشاء! الأمر في قيد المشيئة، الأمر في قيد المشيئة الإلهية، جميل!

الآية الثانية تنفي الغوث، في الدنيا قد يُوجَد عدل أحياناً وهو نسبي، أحياناً تُوجَد محاكم، يُسمونها في اللُغة الفقهية الحكومات، وهي القضايا، تُسمى الحكومات، أي هذه القضايا، الــ Cases. في حكومات كثيرة – ونحن الآن نقول في المحاكم أو في القضايا – يُقبَل الغوث، تُقبَل الفدية، أليس كذلك؟ تُقبَل الكفالة. ادفع مالاً! أو تُقبَل حتى أشياء أُخرى، في الآخرة لا يُوجَد غوث، لا يستطيع أحد أن يُغيثك، ولا أبوك ولا أمك ولا أي واحد. والنبي – عليه السلام وآله – قال يا فاطمة بنت محمد اعملي لنفسكِ، لا أُغني عنكِ من الله شيئاً. الله أكبر، أف!

بعض الناس يتكل على ماذا؟ يتكل على أن أبيه كان إنساناً صالحاً. ما هذا؟ مسكين أنت! قال أبي كان صالحاً. ما معنى هذا؟ إذا لم تعمل لنفسك، فبماذا سوف ينفعك أبوك؟ بعض الناس يتكل على شيخه، يقول أنا عندي شيخ، وأخذت منه طريقة وأعطيته بيعة. ما هذا؟ لابد وأن ينفع نفسه في الأول، مسكين أنت، لا أحد يُغني عن أحد شيئاً، هذا كأصل، وهناك استثناءات بعد ذلك تتعلَّق بمقام الشفاعة، لكن حتى نصل إلى الشفاعة ستكون تفطرت القلوب، تقطعت من أنواطها ونياطها، من الخوف! وذكرنا هذا في تفسير سورة سبأ، حَتَّىٰ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ۩. الملائكة في فزع، الأنبياء في فزع، البشر كلهم في فزع. فزع مُخيف! في انتظار هل يأذن بالشفاعة أو لا يأذن؟ هل يُطلِق الأمر أو هل يُطلِق الإذن بالشفاعة أو لا يُطلِق؟ فزع! حتى إذا أذن الله، لم يفهموا ما الذي حصل، فيقولون ماذا قال؟ ما الجواب؟ ماذا كان؟ فيأتيهم الجواب: الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ۩، أذِن، أطلق الأمر بالشفاعة. لا إله إلا الله! شيئ مُخيف، فهل نحن نتحمَّل هذا الكلام؟ لا نتحمَّله، نحن لا نقدر على حمل هذه الأشياء يا إخواني، نحن لا نقدر على حمل كل هذا الرُعب وكل هذا الخوف.

هذه الاستثناءات تأتي بعد ذلك، أي مُؤمِن عملت له صالحاً، صنعت له معروفاً، يشفع فيك يوم القيامة، وورد في البخاري هذا، في الصحيح! الأنبياء تشفع، الشهداء يشفعون، وكذلك العلماء، الأولياء، والذين لهم كرامة، الملائكة تشفع أيضاً في المُؤمِنين، هناك شفاعات وهي أنواع، لا نُنكِرها، ولكن بإذن الله، وأيضاً وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنْ اِرْتَضَى ۩، ليس كل واحد يُمكِنه أن يشفع، وليس كل واحد يُشفَع فيه أيضاً، مَن رضيَ الله عليهم ورضيَ أن يُشفَع فيهم فقط، أليس كذلك؟ فلا يُمكِن لواحد أن يُخادِع الله، فيقول لك ماذا؟ أنا أعمل ما أُريد، وهناك شفاعة. لا تلعب مع الله هكذا، والله لا يُعامَل بهذه الطريقة، أي هل أنت أتيت وتُريد أن تقطع عليه الخط (على الله)؟ أتُريد أن تسبق الله إذن؟ أتُريد أن تسبقه وأن تُعاجِزه؟ تقول أنا أتحيل عليه، وأعمل ماذا أُريد، وأحطب في حبل المعاصي، وأُشبِع شهواتي في الحلال وفي الحرام، ويوم القيامة هناك شفاعة، ونبيي سوف يشفع لي. لا! لا تلعب على الله هكذا، يُمكِن أن يستثنيك أنت بالذات، ويقول لك لا، أنت لا، أنت كنت خبيثاً وكنت مكّاراً وكنت تُخادِعني، وأنا لا أُحِب المُخادِعين، أنا أُحِب الطيبين الوادعين البُسطاء، الذين إذا غلطوا، لم يصروا. وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا ۩. لا تُصر على الذنب!

على كل حال إذن هذه تنفي ماذا؟ تنفي الغوث. إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، الله! هذه الآية واضح أنها ليست في تخصيص النذارة بالخاشين لله، لأن النبي أنذر الخاشين وغير الخاشين، أليس كذلك؟ النبي أنذر الخاشين وأنذر حتى الكافرين، أي هو بشير للمُؤمِن بالذات، وخصوصاً هو للكافرين ماذا؟ نذير. بشير للمُؤمِنين ولمَن أطاع الله بالجنة، ونذير لمَن عصى وكفر بالنار. هذا معنى أنه بشير نذير، بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ۩، وهنا قال إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، هذه الآية ليست في تخصيص النذارة بالخاشين ربهم بالغيب، أبداً! إذن في ماذا هي؟ ما المقام هذا؟

هذه الآية في بيان أنه لا ينتفع بالنذارة إلا أهل الخشية. هذا مُهِم لكي نفهم القرآن،  فلا يُقال لنا غير هذا، هذه في بيان أنه لا ينتفع بالنذارة إلا أهل الخشية، ويا الله، كم هذه الآية عظيمة! ولها نظائر وأمثال في كتاب الله، كم هي آيات عظيمة! نحن في غفلة عظيمة منها وعنها، كيف؟ انتبه، مُهِم جداً هذا الكلام الذي سأحكيه الآن، من أهم الكلام يا إخواني.

وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ۩ في سورة مُؤمِن، أي غافر. وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَن يُنِيبُ ۩، أهل الإنابة، فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ۩، مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ۩، نقرأها بالروم هكذا، أي لكي تفهموا أنها وعيدي، أي ليست وعيداً أو وعيده، وإنما هي وَعِيدِ ۩. إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، وسوف نقول ما معنى الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، ولكن ما الكلام المُهِم هنا يا إخواني؟ الكلام المُهِم سوف نقوله باللُغة البسيطة الواضحة.

قد يُضيِّع أحدنا أوقاتاً كثيرة في الكلام في الدين، وفي الحقيقة أنا لاحظت أننا جميعاً – ولا أستثني حتى نفسي – في هذه الدورة من تاريخ أمتنا، وفي هذا العهد، وفي هذه الحقبة التي نعيش، ضيَّعنا ونُضيِّع وما زلنا نُضيِّع أوقاتاً كثيرةً جداً جداً جداً جداً جداً في الكلام في الدين وعن الدين، بغير ماذا؟ بغير أن نستفيد من الدين، بغير أن نتدين.

ترى مُحاضَراتنا وخُطبنا ودروسنا وكُتبنا ومُؤلَّفاتنا وقصائدنا ونثرنا وشعرنا: دفاع عن الإسلام، والإسلام أعظم الدين، والإسلام أحسن دين، وهم قالوا ونحن نقول، ويُغالِطونك ونحن نُجاوِبهم، وهذه الشُبهة وتلك الشُبهة، وكذا وكذا… إلى آخره! وما شاء الله، ومدح وشعر في الإسلام، ولا يُوجَد عمل، ولا تُوجَد خشية، ولا تُوجَد توبة، ولا تُوجَد إنابة، ولا تُوجَد عبادة! لا تُوجَد عبادة حقيقية، ولا يُوجَد بكاء، ولا يُوجَد إقبال على الله، ولا يُوجَد حال مع الله. كلام وكلام في كلام وفي كلام، ونحن فرحون بالكلام، ونحن نُحِب الكلام. ورجاءً يا فلان أجِبنا عن هذه الشُبهة، ورجاءً كلِّمنا عن الموضوع الفلاني، وهناك الموضوع الفلاني في الأسترونومي Astronomy، وهناك الموضوع الفلاني في الفيزيكس Physics، وهناك موضوع لا أعرفه في الكذا، وهناك موضوع في الإلحاد. خمسون يفتحون لك كل باب، والله العظيم! كل باب يفتحونه، ويقولون لك تكلَّم ودافع عن الإسلام. وهم فرحون، يقولون نعم، مُمتاز، وهذا نُريده، وهكذا يكون عقلانياً، وهذا صحيح، وهذا مقبول، وهذا نقبله. وماذا بعد؟

وفي الحقيقة أمس سألت أحد إخواني الذين أعتقد مودتهم وصدقهم، وقلت له يا فلان بصدق وأنت لك معارف كثيرون هنا وهناك في بلدك، لو لديك مبلغ من المال، مائة ألف – مثلاً – يورو، وتُريد أن تستثمره، كم من معارفك وإخوانك مَن تعتقد أمانته ويُمكِن أن تُودع عنده هذا المال، بحيث يسثتمره؟ مُباشَرةً بدهني – وهو رجل سكيت إلى حد بعيد، هو قليل الكلام وحكيم كما أراه حقيقةً -، وقال ولا واحد. قلت له شيئ مُخيف. قلت له أنت صادق، وجوابك هذا جواب مُعظمنا على الإطلاق، تحقَّق في هذه الأمة! وعلى فكرة هذا متى حصل ومتى يحصل؟ في الفترة التي نحن نقول فيها بفرح وافتخار إنها الصحوة وصحوة إسلامية. وحقيقة هذا ما سيظل يحصل إذا أردت أن تُعرِّف على الإسلام على أنه نقاب الأخوات وحجاب الأخوات ولحى الناس والدشاديش والعمائم والزي الإسلامي وامتلاء المساجد والحج والعمرة بالملايين، فنعم طبعاً! في آخر ثلاثين سنة حصل هذا، الأمة من مائة سنة أو مائتي سنة أو ثلاثمائة سنة لم تكن مثل الآن، ما شاء الله الأخلاق صفر، التدين صفر. افهموا كلامي، وهو كلام خطير، أُقسِم بالله! وأنا أُحِب أن أحكي الحقيقة كما هي وكما أراها، لا أُحِب التزويق والزخرفة والكذب، لا ينبغي أن نكذب على أنفسنا. الموضوع جد خطير ومُخيف إذن.

إذن ما الذي يحصل؟ وما الذي حصل؟ فأين كل هذا العلم وهذه المشيخة وهذه الدعوى وهذا الالتزام وهذا الحجاب والنقاب واللحى والقرآن والحفظة؟ أطفال صغار يحفظون كتاب الله، وصاروا بالملايين في كل مكان، وهم مُجوِّدون وكذا، فأين كل هذا؟ ما الذي يحصل؟ ولا تأمن على طفلك، ذكراً كان أم أنثى، صرت تخاف حتى أن تضعه في مسجد، وتسمع قصصاً عجيبة، يشيب الرأس منها، في كل مكان! ما الذي يحصل؟ وصعب أن تأمن واحداً على عِرضك، وصعب أن تأمنه على مالك، وصعب أن تأمنه على سرك، حين تقول له سراً يفضحك، غداً أنت سوف تكون مفضوحاً، سوف تكون مفضوحاً في العالم كله، وهو أخ!

ولا يُوجَد الصفاء والمودة، إذا صار عندك القليل من الدنيا هكذا، فأنهم يكرهونك، ويطلعون فيك خوازيق الدنيا، بالحق وبالباطل! ويفعلون هذا على أساس أنهم يُدافِعون عن الحق، وهم لا يُدافِعون عنه، هم حسدوك، أي كيف صار عندك مال؟ وهم لا يعرفون من أين جاءك المال هذا؟ يُمكِن أن تكون ورثته، يُمكِن أن يكون أُهديَ إليك من طرف آخر، وهم يتهمونك، ويقولون لا، من أين جاءك؟ حسد، اقتتال، وتنافس شرس على الدنيا! أما الدين، فهم يتركونه، يتركون الدين كله لك، خُذ الدين كله، ولا يهتمون، والله العظيم! لا يغارون أن هذا يقوم الليل وهذا يفعل كذا وكذا، لا يغارون أبداً، يغارون من الدنيا يا أخي، ويظهر عليهم، سُبحان الله! وتشعر أن المساجد كما قال الحسن البِصري مليئة لكن القلوب خربة من التقوى. قال مساجدهم مليئة بهم، وقلوبهم خربة من التقوى. يقفون بجوار بعضهم، وهم يكرهون بعضهم! وأنا لا أُريد أن أحكي لكم أكثر، لا أُريد أن أحكي ما هو أكثر من هذا. أي واحد فيكم إذا كان من أهل الاستنارة والصفاء، سيلحظ هذا الشيئ. أنا أُريد أن أحكي لكم شيئاً آخر، وهذا من العيب أن أحكيه ومن الصعب أن أحكيه، ولكن لابد وأن أحكيه، حتى أعطيكم نموذجاً لما يحصل.

انظر وانتخب من إخوانك أهل الله، انتخب من إخوانك هؤلاء، وأكيد أنت تعرف أن منهم يُوجَد اثنان أو ثلاثة على هذا النحو، هؤلاء من أهل الله، أهل الاستقامة والصدق والصلاح والصفائية. انظر حين تكون جالساً معهم، كيف تكون أحوالك؟ القلب ليّن، الدمعة قريبة، البدن يقشعر بين الحين والآخر. هناك صدق، انظر! هناك ربانية، هناك صفاء، وهناك حُب. أُناس تفعل هذا لله، تجتمع على الله، تلتقي على الله، وتتكلَّم عن الله – عز وجل -. تشعر وأنك صرت ملائكياً، أليس كذلك؟ قارن هذه الحالة، وهي تحدث مع كل واحد فينا، بحالتك حين تأتي إلى المسجد، أول ما تأتي تصير عندك قسوة في القلب، كيف إذن؟ لماذا يا رب؟ لماذا؟ لماذا القسوة في المسجد؟ وهذا بيت الله!

لأن الذين أتوا والذين وقفوا – ليس الكل طبعاً، ولكن منهم على الأقل – ليس عندهم صفاء، وليسوا نظيفين. وهم أهل حقد، وأهل غش، وأهل حسد. ولذلك إن كانوا هؤلاء يعرفون الله حقاً، فعليهم – والله العظيم – أن يرحمونا ويرحموا أنفسهم بألا يأتوا إلا بعد أن يتنظفوا. النبي قال مَن أكل ثوماً أو بصلاً، فلا يقربن – أو فلا يقرب – مساجدنا. بسبب رائحة الثوم والبصل! يا سيدي نحن نتحمل رائحة الثوم والبصل والكراث وكل شيئ، ليس عندنا مُشكِلة! ولكننا لا نتحمل الغش والكره والحقد والسواد الداخلي، لأنه يجعل قلوبنا تقسو ونحن بين يدي الله، وهذا يسد علينا الأبواب، تُسكَّر الأبواب كلها! اتقوا الله، اتقوا الله في أنفسكم وفي بيت الله وفي مساجد الله. هل هذا واضح؟

نحن في محنة كبيرة، وما زال هناك مَن يقول لك لماذا الله يرفع يده عن الأمة هذه؟ الله غضبان علينا. والله! أنا ألقى الله بهذا، الآن سأقول له لو مت يا رب أنا أعرف هذا، وأنا أقوله، أنت غضبان على الأمة هذه. وواضح أنه غضبان! ومُستحيل أن يكون كل ما يحصل معنا في سوريا وفلسطين والعراق واليمن وكل بلادنا علامة رضا، لا والله! إنها علامة سخط وغضب، الله غضبان، ويُنزِل غضبه علينا، لأننا كذّابون، نحن كذّابون، باستثناء مَن صدق الله وأخلص لله، نلعب بالدين، والله هنا قال لك إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩.

القُطب أحمد الرفاعي – سيدي أحمد الرفاعي، قدَّس الله سره – يقول مَن رأى نفسه مُساوياً لجليسه، انقطع عنه المدد. فقالوا يا شيخنا هذا في المُساوي – أي إذا كنت ترى أنك مثل أخيك، أنا مثله، ولست أقل منه! قال هذا في المُساوي -، فكيف بمَن رأى نفسه أفضل من أخيه؟ قال هذا لا يصل إليه ذرة من مدد الله. ولا تحلم به، أي المدد الرباني. أتظن أنك مفتوح عليك؟ لست مفتوحاً عليك. على فكرة إذا كنت مفتوحاً عليك، فسوف تنقلب حالتك، وأنت تعرف أن حالتك لم تنقلب، سوف تنقلب انقلاباً كبيراً جداً جداً جداً، أنت سوف تُصبِح شخصيتين: قبل الانقلاب، وبعد الانقلاب. شيئ مُختلِف تماماً، هذا ليس بيدك، هذا لُطف وإنعام من الله – تبارك وتعالى -، هذا لما أخلصت لله الدين، ولكن أنت حالتك غير مقلوبة، وحالتك مثلما هي، وتمشي مثل السيارة التي تنتع، تقف وتنتع وتقف، وهكذا هي حياتك كلها، وأنت قضيتها هكذا! حياتك كلها ذهبت هكذا، وأنت تضحك على نفسك، تقول ونحن وكذا. ليس هذا الدين! ليست هذه الحالة الربانية التي يُريدها الله لنا يا إخواني.

فقال لك إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ ۩، هؤلاء الذين تنفعهم النذارة، هؤلاء تنفعهم ماذا؟ النذارة. ما معنى هذا يا إخواني – أطال الله أعماركم -؟ هذا الذي نُحاوِل – بعون الله – أن نتعاون عليه حين نمشي في هذه الطريق – بإذن الله تبارك وتعالى -، المساجد المفروض أن تكون فقط للتذكير بالله، المفروض حين يجتمع هنا ألف واحد، لا يسمع أي واحد كلاماً يحز في نفسه، مَن أراد أن يسمع كلاماً، فليسمع كلاماً يُذكِّره بالله، يجعله يحزن من نفسه. يقول والله أنا تعبان، وأُريد أن أتوب إلى الله. نعم! حلو، فقط. ولكن حين تأتي وتقول الرئيس الفلاني كذا وكذا. هذا سوف يصفق لك، لكن الآخر سوف يقول لك كذا فيك، لماذا؟ هذا أحسن واحد، أنتم الذين كذا وكذا. شققت المسجد أنت، شققت الناس، قسمت الناس! وهذا الذي كنا نغلط فيه، نحن وغيرنا، ولكن هذا بقدر – والحمد لله -، ولكن أيضاً تورطنا. هذا غلط! نزهوا الدين، ونزهوا القرآن، نزهوه عن كل هذه الشؤون، خلوا الدين لجمع الأمة، لتجميع القلوب، للتحزيب على الله ورسوله، فقط! وللتحبيب في الله يا إخواني. وخلوا الكلام لله، فقط! ليس لأي غرض آخر، إذا دخل غرض – أي غرض، والله العظيم، سواء نفساني، سواء سياسي، حزبي، قبلي، عشائري، مصلحي، أياً كان – في الكلام الديني، فإنه يُفسِده، إن دخل الغرض، يفسد الكلام مُباشَرةً، كما يُفسِد الحنظل العسل. عندك كيلو عسل، ضع فيه فقط قطرة حنظل، يفسد كله ولا يُؤكل، كلامك كله يصير مثل هذا.

هل فهمتم ما قصدته؟ فيا ليتنا نتعاون على هذه الطريق يا إخواني، ويا ليتنا نتوقَّف عن هذا طبعاً. وأنا قلت لأخي هذا، قلت له تعرف ما مثلنا؟ وضربت له مثلاً، مثلنا كمثل قوم مُصابين – مثلاً نفترض – بالسرطان، مرض مُهلِك خبيث! وبعد ذلك هناك دواء تم اختراع وتصنيعه، وهو – ما شاء الله – ناجع جداً في علاج السرطان. فجلسوا هؤلاء القوم وهم عشرة أو عشرون، وكان عندهم – ما شاء الله – أبحاث وخُطب ونثر وشعر في أهمية الدواء وقيمة هذا الدواء ونفاسة هذا الدواء وكم هو مُتميِّز! وكم هو مُتفرِّد ومُجرَّب ومُمتاز! ومكثوا على ذلك ستة أشهر، ثم سنة، وكانوا يعملون مواقع إلكترونية – أي Websites – وأشياء، ويعقدون مُحاضَرات ونقاشات، ويقولون لا، الدواء ذاك ليس بالجيد، لا يرقى، هذا الدواء أفضل، وهذه مزاياه، وكذا وكذا وكذا. فإذا بهم وقد هلكوا من عند آخرهم، لماذا؟ لأن أحداً منهم لم يتناول الدواء. يتكلَّمون عن الدواء فقط! وهذا الذي تفعله أمة محمد اليوم تقريباً بطريقة أو بأُخرى، ما رأيكم؟ تكلَّم عن الدين، دافع عن الدين، هذه شُبهة، هذه ما لا أعرف، قل، ولا تقل، وكذا وكذا وكذا، وكلام وكلام وكلام. وماذا بعد؟ وماذا بعد؟ لا أحد يعمل بالدين! إذن ضاع عليكم كل هذا، أضعتم أنفسكم، والله لا يُريد هذا.

ولذلك أنت ترى في العوام – سُبحان الله – الآتي، ترى واحداً عامياً – هذا عامي، من العوام، ليس مُتعلِّماً، وليس شيخاً، وليس عنده شهادات – عنده صلوات، يهتم بقيام الليل، بالضُحى، عنده تطوعات، صدقات، تسبيحات، أوراد، صلوات على النبي، يقوم بفعل الخير، يُصلِح بين الناس، يُساعِد المُحتاجين. وتجد فيه نوراً، وهو رباني، وحين تقترب منه، تجد أنه مُستجاب الدعوة! حين تقترب أكثر، تجد أنه يرى النبي كل أسبوع أو كل عشرة أيام أو كل شهر، فتقعد وتبكي على نفسك، وتقول كيف إذن؟ على أساس أنا شيخ وعندي شهادة وعندي كذا، وقرأت كُتباً وعندي مكتبة في البيت فيها أكوام من الكُتب، وأدخل على الفيس Face وأدخل في نقاشات عن الإسلام. وحتى الصبح لا تُصليها في بعض المرات، أليس كذلك؟ تفوتك صلاة الفجر. تضيع عليك وأنت فرحان بنفسك لأنك – ما شاء الله – داعية، ضائع أنت وتائه، وليس عندك أي علاقة حقيقية مع رسول الله، لا تراه ولا يأتي إليك ولا تعرف شكله الكريم، أليس كذلك؟ لم تتنوَّر بهذا الشيئ، ألست حزيناً على نفسك؟ ألم تتساءل لماذا وما سر المسألة هذه؟

هناك داعية سوري اسمه الدكتور محمد خير الشعال، وقد نصحتكم أن تستمعوا له من بين دُعاة طيبين وادعين هكذا، وأسلوبهم جميل ويُذكِّرون بالله بصراحة بصدق، وأنا أحسبهم كذلك – إن شاء الله -. يحكي عن رجل اسمه أبو هشام، السيد سليم، يُصلِح كراسي وأشياء. هو إنسان – قال – عامي بسيط جداً، لا يعلم من الدين إلا ما يُقيم به فرائض الوقت. أي يعرف كيف يصوم وكيف يُصلي، وفقط! لا هو عالم ولا كذا، جميل؟

قال جاءني مرة وحصل الآتي. وقال أنا أُلاحِظ أنه رجل عليه سكينة هكذا، وعنده أوراد، دائماً عنده أوراد! صلاة على النبي وذكر واستغفار، أي يلهج بذكر الله. والنبي حين أوصى حبيبه مُعاذ – مُعاذ! انظر إلى هذا، إمام العلماء يوم القيامة – أخذ يده وقال له يا مُعاذُ والله إني لأُحِبك… هنيئاً لمُعاذ، حلف له! هنيئاً له، يُحِبه من كل قلبه النبي، لأنه عالم صادق، مُعاذ عالم عامل، فهو يُريد أن يُوصيه، هل تعرف ماذا قال له؟ قال له لا يزال لسانك رطباً بذكر الله. لأنني أُحِبك وأُريد أن أُوصيك بالوصية هذه، خل لسانك باستمرار رطباً بذكر الله، وليس بذكر الناس! بذكر الله دائماً، اذكروا الله حتى يقولوا مجنون. النبي قال هذا! اذكروا الله حتى يقولوا مجنون. أي ما هذا؟ ما له هذا؟ دائماً ما يذكر، يظنون أنك جننت، وأنت لست كذلك، لا! أنت تُحِب ذكر الله باستمرار، باستمرار، باستمرار، باستمرار، تُريد أن تكون من المُكثِرين من الذكر.

ذات مرة رأى أحدهم أحد الصالحين، فقال ما به؟ أمجنون؟ فسمع هو، قال يا ابن أخي ليس بالجنون، إنه الفتون. قال له أنا مفتون بحُب الله. مفتون – قال له -. مثلما يُفتَن واحد بحُب فتاة، هذا قال له أنا مفتون بحُب الرب – لا إله إلا هو -، غير قادر! ومَن أحب شيئاً، أكثر من ذكره. قال له أنا أذكر لأنني مفتون بالحُب الإلهي. لا إله إلا الله! هل هذا واضح يا إخواني؟

المُهِم قال جاء مرة، وأصلح لي كُرسياً في العيادة. وهو طبيب، أي الدكتور الشعال، بارك الله فيه، وأطال عُمره في خير وعافية، وجميع علمائنا الصالحين الطيبين والدُعاة الوادعين المُبارَكين في الأمة الإسلامية، وما أكثرهم! والحمد لله، موجودون بفضل الله، ولكن بصراحة لم يأخذوا وقتهم ولم يأخذوا حظهم في الاستماع، الأمة أضاعت وقتها في آخر أربعين سنة في الاستماع إلى مَن مزَّق الأمة، وهؤلاء كذا فيهم، وهؤلاء الله فعل بهم كذا وكذا، وهؤلاء حكّام، وهؤلاء محكومون، وهؤلاء شيعة، وهؤلاء سنة، وهؤلاء إباضية، وهؤلاء كذا، وهؤلاء كذا! ما هذا؟ ما هذا؟ وقال لك دين! دمَّرونا، ودُمِّر الدين كله أصلاً، ونحن دُمِّرنا، ودُمِّرت نفوسنا وعقولنا. والناس التي تُذكِّر بالله بوداعة وبكذا لا يسمع لهم أحد ولا يطرق بابهم أحد، وهم موجودون بفضل الله، موجودون في مصر والعراق وسوريا وفلسطين وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وفي العالم كله، والله موجودون، وأنا أقدر على أن آتي لك من كل دولة مثل هؤلاء الدُعاة، وهم على الرأس من فوق، وهم علماء وصُلحاء وأولياء، وعلماء، أهل علم! أي هم ليسوا هكذا مثل أي ناس، أهل علم حقيقي، أعلم بمراحل مِمَن مزَّقوا الأمة، وحين تُتابِعونهم ستعرفون هذا، أنهم أعلم بمراحل، حتى حين يتكلَّمون تكون لُغتهم العربية قويمة، وهؤلاء كل كلامهم غلط، لا يعرفون لا النحو ولا الصرف، ويدّعون أنهم علماء، وهؤلاء المساكين لا أحد يسمعهم، ولا يتدخلون في كل القضايا هذه، هؤلاء يدلونك على لله وفقط، وفقط. ما أحلاهم! ما أحلاهم وما أطيبهم! وحين تععرَّف عليهم، ستعلق بهم، ستعشقهم، وستتقرَّب إلى الله، من كثرة ما تسمع لهم.

المُهِم أنه قال بعد أن أصلح لي كرسياً وأنهى الأمر، قال لي يا دكتور أنا أُريد أن أحكي لك شيئاً. الله ألهمه أن يحكي هكذا! قال له تفضَّل يا عم أبا هشام، تفضَّل يا عم أبا هشام. قال له أنا رأيت الرسول. ويبدو أنه رآه قبل فترة، وقد يكون هذا حتى وهو صغير. قال له كيف؟ ما شاء الله عليك! وطبعاً العلماء الربانيون يفرحون كثيراً بالقضايا هذه، كثيراً كثيراً كثيراً، لكن الآخرون – ما شاء الله عليهم – ليسوا كذلك، وأنا أعرف منهم مَن يُنكِرون حتى رؤيا الرسول في المنام، هناك مَن قال لك لا، لا، غير موجود، لا يُوجَد شيئ من هذا. كيف يا فلان؟ قال لك رؤيا الرسول في المنام فقط للصحابة، أيام الصحابة! بعد الصحابة لا يُوجَد شيئ اسمه رؤيا الرسول. بالله؟ هم ليسوا محرومين وفقط، وهم أيضاً مغرورون، هذا اسمه الغرور، الجهل بالله وبالرسول، وماذا عن ملايين العلماء والأولياء الذين رأوه وتحققت برؤيتهم له خيرات وبركات عميمة، وجاءهم بالأخبار الصادقة؟

فاليوم من ضمن الذي ذكرناه على المنبر قصة أبو بكر بن مُجاهِد، أليس هذا خبراً صادقاً؟ ثم إنه جاءه وقال له اذهب إليه بعلامة كذا وكذا. هذا كله صار كلاماً فارغاً؟ ومثل هذه القصص بالملايين في هذه الأمة المرحومة الطيبة – بفضل الله -، كانت ولا تزال، هذه كلها لم تحصل؟ هل تعرفون لماذا؟ لأنه لم ير في حياته الرسول، هذا رجل صار عمره خمسين سنة، وهو داعية، طيلة حياته وهو داعية – ما شاء الله -، وعنده مُؤلَّفات ومُجلَّدات، أو وصل إلى ستين سنة، ولم ير في حياته النبي، فيقول لك لا يُوجَد شيئ اسمه أن ترى النبي. لا إله إلا الله! معناها أنك هكذا قطعت الطريق على نفسك وفعلاً لن تراه إلى أن تموت، ضاع عليك هذا، أرأيتم إلى أين بلغ الغرور والجهل؟ وأنا أحكي لكم عن حقائق طبعاً للأسف.

الناس الصالحون على العكس من هذا، مثل رسول الله، رسول الله كان يفرح، رسول الله بعد صلاة الفجر كان يسأل عن الرؤى، وهذا في الصحيح، بعد كل فجر كان يُسبِّح، وكان يقول ماذا؟ هل أصبح أحد منكم رأى رؤيا؟ يُحِب الرؤى الصادقة أيضاً، النبي! وهذا في الصحيح، هذه ليست أحاديث ضعيفة، فيرفع واحد أو اثنان يده، ويقول أنا يا رسول الله. فيقول له قل رؤياك. لأن النبي يستبشر بالرؤى، وهو قال ذهبت النبوة ولم يبق إلا المُبشِّرات. ما المُبشِّرات؟ قال الرؤيا الصادقة، أو قال الصالحة، يراها المُؤمِن أو تُرى له. تراها أو يرى لك أحدهم رؤيا، شيئ عظيم هذا! فالنبي كان كل صباح يهتم بهذا، وهؤلاء لا يهتمون، يقولون لك ما الرؤى وغير الرؤى والمُكاشَفات والمُنازَلات وما إلى ذلكم؟ يا سيدي دع هذا. فماذا تُريدون أنتم إذن؟ هل تعرف هم خلوا الدين كله ماذا؟ خلوه كأنه فلسفة وأيديولوجيا وأفكار والكلام الفارغ هذا، وذهبنا إلى داهية طبعاً، وانتهينا نحن بالطريقة هذه.

المُهِم قال له تفضَّل يا عم أبا هشام، ماذا رأيت؟ وكيف؟ قال له والله يا دكتور رأيته مرة في المنام، وقال له يا سليم – وهو اسمه سليم، أعني أبا هشام – جهّز نفسك، ستكون معي في الجنة. قال فلما قال لي هذا انفجرت بالبكاء. هنيئاً له، هنيئاً له! وأعطانا الله مثل ما أعطاه. قال انفجرت بالبكاء، وقلت له يا رسول الله كيف أجهز نفسي؟ أي ماذا أفعل؟ بماذا تُوصيني إذن؟

أنت سوف تكون معي، في مقامي، في الجنة! أنت – قال له – رجل صالح. قال فقال لي يا دكتور محمد، قال لي يا بُني إن استطعت أن تُصبِح وتُمسي وليس في قلبك غش لأحد من المُسلِمين، فافعل. فإن ذلك يا بُني من سُنتي. قال له وأنا يا دكتور من تلكم اللحظة أجتهد ألا يكون في صدري أي غش على أحد من المُسلِمين. وقمت – قال له – ودموعي على خدودي، وكانت الوسادة غارقة بها. كان يبكي، طيلة الرؤيا وهو يبكي، أي لما رأى الرسول. قال له وأنا من ذلكم اليوم – بفضل الله تبارك وتعالى – أجتهد ألا يكون في صدري أي غش على أحد من المُسلِمين. والدكتور الشعال يقول وهو فعلاً كذلك، طبعاً الشعال حين رآه – سُبحان الله – وجد أنه طيب، طيب وادع حبّاب. يُحِب الخير للناس، مُتسامِح، هيّن، ليّن، لأنه رفيق الرسول في الجنة! ليس مثل مَن قلبه أسود، هذا لن ينفع!

يقول الدكتور الشعال تذهب الأيام وتجيء الأيام – لا أعرف هل قال ثلاثة أشهر أو ستة أشهر – ويحدث الآتي. قال وأنا جالس أنتخب سبعمائة حديث من سُنن الترمذي – كان ينتخب هذه الأحاديث، يضعهم في كتاب هكذا وما إلى ذلك – إذا بي أقرأ عن أنس بن مالك أن رسول الله قال له الآتي. وطبعاً أنتم تضحكون، لأن هذا الحديث ذكرته مائة مرة، وهو من الأحاديث التي تأثَّرت بها كثيراً مُذ كنت صغيراً، هذا الحديث أعرفه وأنا تقريباً ابن بضع عشرة سنة، وتأثَّرت به كثيراً جداً، ودائماً أضرب به المثل، أقول أتُريد أن تتسنن؟ هذا هو التسنن. التسنن لا يعني أن تضع عمامة، ما هذه؟ هذه ثمنها يورو، يُمكِن أن أعملها في لحظة هذه، أبو أنس عمل لي هذه في لحظة الآن، اللحية هذه في أسبوعين تكبر وتصير طويلة، ليس هذا هو، والدشداشة هذه بخمسة يوروات، ليس هذا الدين، وليس أن تحمل لي مسواكاً وتدّعي أنك صالح، ليس هذا! وليس أن تحفظ القرآن فقط، يحفظونه في شهر وفي شهرين، ليس هذا! السُنة الحقيقية تجدها حين تُحاوِل أن ترث أحوال رسول الله، طهارة روحه، عِظم نفسه، استنارته الباطنية. هذه السُنة! ليس سُنن الظواهر فقط، هذه تأتي فيما بعد، هذه زُخرف، أنت حين تبني بيتاً، ما أهم شيئ ينبغي أن يُوجَد في البيت؟ الأُسس والأعمدة والبناء وكذا. وآخر شيئ يأتي هو التزاويق، أليس كذلك؟ إذا كان هناك مَن لا يهتم بالأُسس والأعمدة والبناء، ويهتم فقط بالتزاويق، فسوف يبني بيتاً من كرتون، سوف يقع وسوف يُدمِّره هو وأهله وهم فيه، أليس كذلك؟ ونحن – ما شاء الله علينا – باسم السُنة نهتم بالتزاويق، السُنة والسُنة واللحية وكم قبضة وما إلى ذلك، وترفع يديك هكذا في الصلاة وتضعها هكذا أو هكذا أو هكذا وانتبه وما إلى ذلك. أهذه هي؟ أهذه الصلاة؟ أهذا الدين الخاص بكم؟ سُبحان الله. أصبحنا مثل بني إسرائيل على فكرة غداة بعثة عيسى فيهم.

المُهِم قال وأنا أقرأ في الترمذي وجدت عن أنس – رضوان الله عليه – أنه قال، قال لي رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم، صلوا عليه – يا أنس، يا بُني، إن استطعت – هذه الكلمة نفسها – أن تُصبِح وتُمسي وليس في قلبك غش لأحد من المُسلِمين، فافعل. يا بُني فإن ذلك من سُنتي، يا بُني ومَن أخذ بسُنتي فقد أحبني، ومَن أحبني، كان معي في الجنة. قال أنا قرأت هذا الحديث – أي الدكتور الشعال – وصُدمت. الله! الحديث نفسه قاله لهذا الإنسان العامي. قال (فرفعت له سماعة)، وقلت له السلام عليكم يا عمي أبا هشام. قال أهلاً دكتور، وكذا! قلت أُريد أن أقص عليك هذا الحديث، قرأته في جامع الترمذي. قال له تفضَّل يا شيخنا. قال له قال أنس قال لي رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – كذا وكذا. قال فجعل يبكي، مُباشَرةً! يا الله، نفس الكلام. قال والله يا دكتور محمد لم أسمع بهذا الحديث من قبل، والمرة الأولى التي سمعته فيها من رسول الله في المنام.

وعلى فكرة هذا حصل مع الكثير من العلماء والصالحين، لن نحكي بالتفصيل حتى لا يكون هناك ما لا نُريده، لكن هناك مَن سمعوا مِن رسول الله أحاديث ما سمعوها ولا قرأوها ولا مرت عليهم في كتاب، وذلك في الرؤيا، بشكل واضح، وأصبحوا يحفظون تماماً الحديث، لم تمض إلا أيام معدودات، ويقرأ أحدهم في كتاب، وإذا بالحديث بنصه، أُقسِم بالله! شيئ عجيب، لكي تعرف أن الرسول قال فعلاً مَن رآني في المنام، فقد رآني حقاً. وهنيئاً لك، هل تعرف أنك حين ترى الرسول في المنام ويُحدِّثك بحديث، تصير وكأن فعلاً السند بينك وبينه معدوم؟ تسمع منه مُباشَرةً! أي كأن صار لك مقام الصُحبة، ونحن نتحسَّر، نتحسَّر لأننا لم نلحق زمان النبي، لسنا أصحاباً له، هو قال أنتم لستم أصحابي وفقط، أنتم أحبابي، أنتم إخواني. في صحيح مُسلِم ذات مرة جلس على شفير قبر هكذا بعد جنازة وجعل يبكي، يا رسول الله ما الأمر؟ قال اشتقت إلى إخواني. قالوا ألسنا إخوانك؟ قال أنتم أصحابي، إخواني أُناس من أمتي، يأتون من بعدي، يُؤمِنون بي، ولم يروني. وفي رواية يود أحدهم لو كان رآني بأهله وماله. يقول لا أُريد أهلي ولا أُريد زوجتي ولا أولادي ولا أموالي، أُريد فقط أن أكون في زمان الرسول وأحظى به لحظة. قال هؤلاء إخواني. قال وأنا اشتقت إليهم. قال أنا أُحِبهم. وهو يأتي إلينا على فكرة، يأتي إلينا! نحن إخوانه وهو يأتي إلينا، إذن يجب أن نشتاق إليه، ونُكثِر الصلاة عليه، ونمشي على دربه. انتبهوا! نمشي على دربه، نُرضيه، نمشي على دربه كما يُريد، ومن ثم سوف يأتي إلينا. سوف يأتي إليك، سوف يأتي إليك في مرة ومرتين وعشرة وعشرين ومائة ومائتين، وفي ألوف المرات – بإذن الله -، هذا إذا استمريت على ذلك، افعله وباستمرار! فهناك أُناس لا يغيب عنهم الرسول كل ليلة.

وعلى ذكر العلماء الذين أنصحكم أن تسمعوا لهم، هناك عالم… آخ، يا حسرة! أي ماذا أقول لك؟ مَن عنده نور، يفهم – بعون الله – الأمر هذا، وإن شاء الله كلكم من أهل النور، وسوف ترون الأمر هذا. هناك عالم شامي، عاش سبعاً وتسعين سنة، وهو المرحوم العلّامة القاضي الكبير – كان أكبر قاض في سوريا – والصوفي المُتألِّه محمد بشير الباني، هذا عالم، فقيه قاضٍ صوفي ذاكر، اكتبوا اسم الشيخ الدكتور محمد بشير الباني على النت Net، وسوف تجدون له الآن – بحمد الله – كنزاً، هذا بالنسبة لي كان كنزاً، هناك حوالي خمسين مقطعاً، مُدد هذه المقاطع كلها تتراوح بين دقيقتين وثلاث أو أربع دقائق، وما إلى ذلك، للأسف لا تُوجَد مُحاضَرات، وإن شاء الله سوف نجد فيما بعد مُحاضَرات كاملة.

لا تنتبه أنت إلى الكلام فقط، يُمكِن أن يكون مُعظَم الكلام معروفاً لك، يُمكِن أن تكون سمعته وتعرفه، لكن انظر إلى الروح، انظر إلى الرجل حين يتكلَّم، ما هذه الروح التي فيه؟ ما هذا السر الذي فيه؟ ما هذا النور الإلهي؟ كيف ستتأثَّر بكلامه وهو يقوله بهون؟ يقوله هوناً، يُرسِله هيّناً، هكذا الكلام يخرج بسيطاً سهلاً، فيه نور، الكلام فيه نور، فيه تنوير، يمس شغاف قلبك مُباشَرةً. ذهبت وبحثت عنه، فأحببته وعشقته، ورأيته في المنام بصراحة، صار بيني وبينه شيئ، وسعدت جداً بهذه الرؤيا، جداً! ذهبت وبحثت عنه، فوجدت أنه عجب من العجب، أي الشيخ هذا، اسمه محمد البشير الباني، عاش سبعاً وتسعين سنة، أعطانا الله مثل ما أعطاه.

حين تراه تجد ما ذكرته، في السنة التي توفاه الله فيها – تُوفي عن سبع وتسعين سنة – كان يُصلي صلاة التراويح في الصف الأول، خلف الإمام، وكان يُصلي خلف الأئمة الذين يقرأون في كل صلاة بجُزء، وعمره كان سبعاً وتسعين سنة! يا الله على التوفيق، أرأيتم التوفيق؟ حين يصل بعضنا إلى ثمانين سنة يشعر بالهلاك، أليس كذلك؟ هذا عمره سبع وتسعين سنة، ويقول لك لا، أنا سأُصلي بجُزء، سأُصلي خلف مَن يُصلون بجُزء كامل. يُحِب أن يُصلي هكذا، هذا الشيخ محمد بشير الباني، يا الله، ما أحلاه! يا الله، ما أطيبه! يا الله، ما أنوره! سبع وتسعون سنة.

وحين ذهبت لأبحث عنه، وجدته عجباً، هذا الرجل عجب، عجب في ورعه، في تقواه، في علمه، في صلاحه، في تنوره، يا أخي أين هؤلاء؟ أين العلماء هؤلاء؟ لماذا الأمة غائبة عنهم؟ لماذا الأمة لم تتبارك بهم؟ ولماذا لم تُشاهِدهم؟ وقد قلت لكم إننا ضعنا في اتجاهات أُخرى، ظلامية! فعلاً ظلامية، وأظلمت علينا كل شيئ.

الشيخ محمد بشير الباني يا إخواني – تستغربون أنتم من هذا الرجل، العلّامة الكبير هذا – كان من تَلاميذ الشيخ أحمد كفتارو، مُفتي سوريا، الرجل الصالح، العلّامة الكبير، ولي الله، الذي تكلَّمنا عنه كثيراً واغتبناه وقلنا إنه مُفتي الأسد. من أولياء الله الكبار، من أهل الله، كان شيئاً كبيراً – قدَّس الله سره الكريم -، نور! ونحن لا ندري، مُصابون بالهبل، نحن مُغفَّلون، نظن أن الحكاية هكذا بالكلام والفلسفة والإعجاز وما إلى ذلك، ونقول إن هذا هو. ولا نظن أنه طريق إلى الله وحال. فهو كان تَلميذه مع أنه تقريباً في سن الشيخ كفتارو، والاثنان كانا من تَلاميذ أبي الشيخ كفتارو، وهو مولانا وسيدنا الشيخ محمد أمين – قدَّس الله سره -، وبعد ذلك لما مات الشيخ محمد أمين، الشيخ الباني قال للشيخ أحمد أنا تَلميذك أنت الآن. لم يقل أنا مثلي مثلك، وأنا في مثل سنك. أبداً أبداً! وبقيَ تَلميذاً ومُريداً للشيخ أحمد كفتارو حتى لقيَ الله، وصل إلى ستين سنة وكان من أكبر علماء سوريا، كان من أكبر علماء سوريا، وكان أكبر قاضٍ في سوريا، تخيَّل! وكان يجلس دائماً بين يدين الشيخ أحمد وكأنه تَلميذ صغير، وعنده علم وعنده كذا، وقال أنا تَلميذه وهو شيخي، هو أفضل مني وهو شيخي. شيئ عجيب!

الشيخ هذا – أي محمد بشير الباني طبعاً، رضوان الله عليه – يقول أحد تَلاميذه كنا ذات مرة معه في معهد الفتح، وكان الشيخ يُريد أن يُلقي مُحاضَرة، فأتوا له – وهو ضيف، أليس كذلك؟ – بكوب لبن. أي Joghurt، في سوريا هل تعرفون كم ثمنه؟ خمس ليرات. واليورو بخمسمائة وسبع وعشرين ليرة. أي هذا ليس بشيئ، لا يُساوي سنتاً، لا يُساوي سنتاً! هذا خُمس السنت، ليس له أي قيمة، على الأقل في أيامها، كان من المُمكِن أن يُساوي أكثر من هذا، ولكن في أيامها كان بخمس ورقات.

فأخذ الكوب هكذا، وكانت الحرارة مُرتفعة، وأي واحد يُريد أي شيئ يُطفئ به لهيب الحر، وهذا يُطفئ طبعاً، الــ Joghurt هذا يُطفئ لهيب الحر، فقال من أين هذا؟ أي من أين جاء الــ Joghurt؟ قالوا من المقصف. قال من مقصف الطلّاب؟ قالوا نعم. قال لا، لا أشربه. فهذا مُعد للطلّاب، شرعاً هذا لا يكون لنا، ممنوع! يا شيخنا – قال له أحدهم – لا تُحرِجنا وكذا، أنا سأدفع ثمنه. قال له ستدفع ثمنه أنت؟ قال له نعم. قال له مُتأكِّد؟ قال له أنا والله سأدفع ثمنه، سأدفع خمس ورقات. قال له إذا كنت ستدفع ثمنه، فأنا سأشربه. ثم قال بسم الله. قال لما طلعنا أخذني وقال له دفعت؟ فقال له دفعت يا سيدي. فقال له بارك الله فيك.

المُهِم قال أوصلته إلى البيت، وكان أمامنا باب العمارة، وحين أراد أن يدخل، لم يفعل، انحرف ثم ذهب ولف، لف بضعة مئات من الأمتار، ودخل من الباب الآخر للعمارة. قال فقلت له يا سيدي لماذا؟ هذا باب العمارة! قال له ما دمت سألتني، فسوف أُجيبك. رأيت قطةً – رأى قطاً أو قطةً – تشرب من ماء موجود هناك، فخشيت إن اقتربت أن أُزعِجها فتهرب. ولذا قام باللف من جهة أُخرى! ما الرحمة هذه؟ وما الأخلاق هذه؟

تتخيَّل أنت أن رجلاً مثل هذا يُمكِن أن يأتي ويكسر خاطرك؟ يستحيل. يسبك؟ يُكفِّرك؟ يسلخك؟ يذبحك؟ يُحرِّض عليك؟ يقول اقتلوه، الكافر، الزنديق، الشيعي، السُني، الوهابي، الأشعري، الإباضي؟ مُستحيل. وفعلاً هم كانوا هكذا، مُستحيل!

جاءه ذات مرة واحد من تَلاميذه، وأعطاه سلة تفاح. وهذه الآن يُبيعونها في الــ Hofer والــ Billa بأربعة يوروات، أليس كذلك؟ هذه بأربعة يوروات، أربعة يوروات! وأكيد ثمنها في سوريا أقل طبعاً، أكيد! أكيد لن يكون سعرها نصف يورو، أخذها الشيخ – بارك الله فيه -، لأنه حيي، كان حيياً ومُؤدَّباً جداً، وبعد ذلك قال لواحد من تَلاميذه إعدها إليه. فأخذها وأعادها، فزعل هذا المسكين، وجاءه ثانية، وقال له يا سيدنا لماذا؟ لماذا رددت هديتي؟ قال له يا ابني أنت مدين – أنا أعرف أن عليك دين -، وهدايا المدين لا تجوز. الله! قال له أنا لا أقدر على أن آخذ منك هدية وأنت عليك دين، اذهب وسدد ديونك للناس. يخاف أن يأكل من مالك وأنت مدين، فتدخل له الشُبهة في طعامه وشرابه. يا الله! أين نحن؟ أين نحن يا (أباه)؟ يا ربي غوثك، يا ربي غوثك.

قال له يا ابني أنت مدين، وهدايا المدين لا تجوز. ذكَّرنا هذا بسيدنا، شيخ الشيوخ، الشيخ بدر الدين الحسني – قدَّس الله سره الكريم -، ذات مرة ذهب ليحج بيت الله، وهو شافعي، هو شيخ الشافعية، ذات مرة ذهب ليحج بيت الله، ومعلوم أنهم في الطريق ينزلون وما إلى ذلك، فقام وصلى الظهر أربع ركعات، ثم صلي العصر أربع ركعات. فجاء تَلاميذه، وقالوا يا شيخنا، يا إمام، أليس مذهبنا نحن الشافعية أن الترخص بالقصر أفضل فضيلة؟ الله يُحِب أن تُؤتى رُخصه، كما يكره أن تُؤتى معاصيه، وكما يُحِب أن تُؤتى معازمه. قال لأحدهم نعم يا (أباه)، ولكن يا (أباه) – وهذه كلمته التي دائماً كان يقولها، قدَّس الله سره – شرط إمامنا الشافعي أن الترخص بالقصر في سفر الطاعة، وأنا سفري معصية. يا سيدي كيف سفركم معصية؟ قالوا، كيف وأنت ذهبت لكي تحج بيت الله؟ قال يا (أباه) أنا مديون، أنا علىّ دين.

هو حين اشترى بيته في دمشق، اشتراه من صاحبه بخمسمائة ليرة ذهبية فرنسية – هذه عملة كانت لديهم في تلك الأيام -، وطبعاً كان ذلك بالاتفاق وكان يُنجَّم له الدين، أي كل شهر يُعطيه شيئاً، ولما دعاه داعي الحج ذهب إلى هذا الرجل – انظر إلى شيخ الإسلام، الذي كان يتمنى السلاطين أن يلتقوا به، مثل السُلطان عبد الحميد، وقد حدَّثتكم بقصته معه مائة مرة، ذهب بنفسه إلى الرجل هذا وهو من العامة – وقال له يا (أباه) أنا أُريد أن أحج، ونجومك تأتيك كل شهر، أنا أوصيت مَن يُعطيك المُتفَق عليه كل شهر، ولكن هل تأذن لي أن أحج؟ فقال له طبعاً يا سيدي، آذن لك سواء بنجوم أو بغير نجوم، أنت سيدنا ورأسنا. فقال له لا، ولكن لابد وأن أستأذن، هذا الدين. قال له هذا الدين. دين يا (أباه) – قال له – هذا، ليس لعبة هذا، هذا لقاء الله، ويُمكِن لأي أحد أن يموت الآن، لقاء الله! قالوا إذن يا سيدي أنت استأذنت منه وتُعطيه ما عليك! قال لأحدهم ولو يا (أباه)، أنا مديون يا (أباه)، سفر معصية، ولا أترخص فيه. يا أخي ما هذا؟ ما هذا؟ ما الناس هؤلاء؟

أخيراً حتى لا نُطيل، ابحثوا عن الشيخ محمد بشير الباني وتمتعوا، هناك مُتعة، اذهبوا واكتبوا على النت Net محمد البشر الباني، ثم انظروا، انظروا إلى شكله، هو مثل البوطي هكذا، وانظروا إلى كلامه وأسلوبه، ما أجمل هذا الإنسان! فيه جمال الروحانية، وجمال الربانية. هذا الشيخ لماذا ذكرته؟ الشيخ بشير الباني كان يرى رسول الله كل ليلة، طيلة حياته! لم يغب عنه الرسول ليلة، فما هذا؟ وهذا عرفوه منه بصعوبة، أي تَلاميذه المُقرَّبون جداً وكذا، لأن هؤلاء الناس لا يقولون أحوالهم، يُخفون هذا، فقالوا هذا بعد ذلك، قالوا شيخنا كان كل ليلة يرى الرسول في المنام، طيلة حياته! وسوف تقولون لي طبعاً، طبعاً وحُق له، إنسان بمثل هذا الورع، بمثل هذا اللُطف، بمثل هذه الرحمة، بمثل هذه الصفائية، أكيد سوف يرى الرسول، أكيد سوف يكون محبوباً عند الرسول، أليس كذلك؟ أكيد الرسول سوف يُحِبه هذا، وأنت سوف ترى كيف ستُحِبه وستتعلَّق به، من الصفائية التي فيه – رضوان الله عليه، وعن جميع الصالحين والعلماء العاملين -.

ذات مرة وهو ذاهب هكذا إلى المحكمة جاءته قريبته – لا أعرف مَن هي بالضبط، ربما هي ابنة عمته، لا أدري بالضبط -، وقالت له يا دكتور، يا شيخ، ماذا تفعل أنت؟  فقال له ماذا يا ابنتي؟ ماذا أفعل؟ لا أفعل شيئاً يا ابنتي. قالت له أنا رأيتك في رؤيا، ما أجملها! قال لها ماذارأيتِ؟ بشِّري. قالت له رأيتك في الرؤيا ولحيتك هذه كبيرة، ويقطر منها مثل اللآليء والجواهر، وكان هناك نور كثير، نور! نور ملأ المكان، شيئ لا يُصدَّق. ما هذا؟ قالت له، رؤيا غير طبيعية، اللحية نفسها! فبكى، جعل يبكي يبكي يبكي يبكي يبكي، قالت له ما الأمر يا سيدي؟ ما هذا؟ قال لها ما متِ قلتِ هذا وربنا بشَّركِ بالشيئ هذا، فأنا سوف أقول لكِ ما يحصل، قال لها بفضل الله – وانظر إلى هذا، كان أكبر قاضٍ في سوريا، هذا كان قاضي المحكمة العُليا – كل يوم قبل أن أذهب إلى المحكمة – أي إلى عملي – أُعرِّج على بيت أمي العجوز، فأُقبِّل قدميها. انظر إلى العلم والصلاح وإلى القاضي، ليس عنده هذا كبرياء، أمي هذه. قال فأُقبِّل قدميها، ثم أمسح لحيتي برجليها، بقدميها!

ولذلك رأت هذه البنت ما رأت، وهي لا تعرف هذا، ولا أحد يعرف، إلا هو وأمه، هذا بينهما وبين الله، لأن هذا ليس تفاخراً، رأت هذا في المنام وهي لا تعرف ما يحصل، لحيته نور وينزل منها مثل الدُر واليواقيت، مُنيرة كلها! فانظر إلى هذا، ربنا أراد هذا لكي يُظهِر كرامته أيضاً ومزيته، أرأيت؟ الجنة عند قدم الأم. قال له هل بقيَ من والديك أحد؟ قال له أمي. قال له الزمها، فعند قدميها ثمة الجنة. قال له انظر إلى رجليها هذه. الجنة هناك – قال له -.

أرجو أن تُسامِحونا، مع أن بصراحة طبعاً كانت النية أن نتكلَّم في التفسير، وكان عندنا كلام كثير في التفسير وما إلى ذلك، وكنا نُريد أن نمشي في هذا الطريق، ولكن أنا أعتقد أن مثل هذه التذكرة ومثل هذه المواعظ التي تحطنا على الطريق وتدلنا وتُرينا إلى أي مدى نحن ناقصون، وإلى أي مدى نحن تائهون، وإلى أي مدى نحن مغرورون وجاهلون وضائعون ومُضيعون! أعتقد أن هذه يُمكِن أن تكون خيراً من كلام كثير آخر، فسامحونا على هذه الاستطرادة، ونسأل الله لي ولكم ولجميع أحبابنا وإخواننا القبول، بل حُسن القبول في الدنيا والآخرة.

سُبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله، عدد كمال الله، وكما هو أهل لكماله. والحمد لله رب العالمين.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: