سلسلة ارفع رأسك l فإني قريب

video
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم. يا ربي لك الحمد حمداً يوافي نعمك ويكافئ مزيدك، عدد خلقك ورضا نفسك وزنة عرشك ومداد كلماتك، على ما أكملت من الدين وأتممت من النعمة. فاهدنا اللهم صراطك المستقيم، فلا نضل ولا تغضب. وصل يا ربي على خيرتك من خلقك، ونخبتك من رسلك، وحبيبك من أوليائك، ونجيك من أصفيائك، إمام الكل، وقائد الركب؛ سيدنا محمد بن عبد الله، المُعلن الحق بالحق، والدافع لجيشات الأباطيل، والدامغ لصولات الأضاليل، وعلى آله الطيبين، إلى أبد الآبدين.
أما بعد، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، إخوتي وأخواتي، تحت كل نجم وفوق كل صعيد/
هذه تطوفة عجلى على آية من كريم آي الله – تبارك وتعالى – في كتابه العزيز، عنيت قوله – تبارك وتعالى – وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ *، أنثر فيها بعض الخواطر، وأجلو فيها شيئاً من الفكر وبنات النظر للسادة العلماء والعرفاء، أعاد الله علينا من بركاتهم.
قد تعلمون أحبتي أن لرمضان بالقرآن خصوصية، وكذا له بالدعاء خصوصية، ولهذا أتى الله – عز وجل – بآية الدعاء هذه متخللةً بين أحكام الصيام، وقد روى الإمام أحمد في مُسنده والترمذي والنسائي وابن ماجه، عن أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه -، قال رسول الله – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله – ثلاثة لا ترد دعوتهم؛ الإمام العادل، والصائم حتى يُفطر، ودعوة المظلوم، يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة، وتُفتَّح لها أبواب السماء، ويقول بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين. كما روى أبو داود الطيالسي في مُسنَده عن عبد الله بن عمرو، قال سمعت رسول الله – صلى الله عليه وآله – يقول للصائم عند إفطاره دعوة مستجابة. فكان عبد الله إذا أفطر دعا أهله وولده ودعا.
ومن اللافت أنه – سبحانه – بكرمه وتفضله لم يُعلِّق إجابة دعاء الداعي هنا بالمشيئة، كما في نحو قوله – تبارك وتعالى – بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ *، وكان خالد الربعي يقول عجبت لهذه الأمة في قوله – تعالى – ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ * أمرهم بالدعاء، ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط! فقال له قائل مثل ماذا؟ قال مثل قوله – تعالى – وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ *، فها هنا شرط. ومثل قوله وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ *، فليس فيه شرط العمل. ومثل قوله فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ *، فها هنا شرط. وقوله ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ * ليس فيه شرط.
قال السادة العلماء ذكر الله – تعالى – في سبع طاعات سبع كرامات؛ في السجود القربة، قال – تعالى – وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب *، وفي الصيام التيسير، قال – تعالى – يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ *، وفي الزكاة الفلاح، قال – تعالى – قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *، وفي الحج الأمن من النار، قال – تعالى – وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا *، وفي الجهاد الجنة، قال – تعالى – إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ *، وفي الصدقة التضعيف، قال – تعالى – مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ *، وفي الدعاء الإجابة، قال – تعالى – ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ *. فإن قيل فما بالنا ندعو، فلا يُستجاب لنا؟ فالجواب أن الدعاء قد لا يُستجاب لموانع، منها اشتماله على ما يُغضب الرب الجليل من إثم أو قطيعة رحم أو ظلم وبغي. وفي صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة – رضيَ الله تعالى عنه قال -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو بقطيعة رحم، ما لم يستعجل. قيل يا رسول الله ما الاستعجال؟ قال يقول قد دعوت، فلم أر يستجيب لي، فيستحسر عند ذاك ويدع الدعاء. والاستحسار هو التعب والكلال، وبالتالي الانقطاع والترك.
وهذا من موانع إجابة الدعاء – أحبتي في الله – التي لا يتفطن إليها كثير منا الناس، أعني الاستحسار وترك الإلحاح في الدعاء، فإن الإلحاح في الدعاء من أقوى أسباب إجابته، ففي سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة، قال – صلى الله عليه وآله وسلم – مَن لم يدع الله – سبحانه -، غضب عليه.
لا تسألن بُني آدم حاجة…………………وسل الذي أبوابه لا تحجب.
الله يغضب إن تركت سؤاله…………….وبُني آدم حين يُسأل يُغضب.
فحري بالمؤمن الإكثار من أمر يغضب الله – تعالى – من تركه. وقد روى الإمام الأوزاعي عن الزهري عن عروة عن أم المؤمنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنهم أجمعين -، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إن الله يُحب المُلحين في الدعاء. وقال سهل بن عبد الله التستري شروط الدعاء سبعة، أولها التضرع والخوف والرجاء والمُداومة والخشوع والعموم والخشوع وأكل الحلال – على ما أذكر -. والشاهد هو قوله المُداومة.
من موانع الدعاء – إخواني وأخواتي – ضعف الداعي في نفسه، بضعف إقباله على الله – تعالى -، وعدم إظهاره ما ينبغي من الافتقار والضراعة، فيصير كأنه دعاء مُستغنً. أعني دعاءه، يصير كأنه دعاء مُستغنً. ومَن استغنى، فالله أجل وأغنى. ومثل هذا إنما يدعو، حين يدعو، عن قلب لاهٍ غافل. فأحرى إلا يُلتفت إليه.
قال ابن عطاء الله السكندري – رحمه الله تعالى – إذا أراد الله أن يُعطي عبداً شيئاً وهبه الاضطرار إليه فيه، فيطلبه بالاضطرار، فيُعطى. وإذا إراد الله – تعالى – أن يمنع عبداً أمراً، منعه الاضطرار إليه فيه، ثم منعه إياه. فلا يُخاف عليك أن تُضطر وتطلب، فلا تُعطى. ليس هذا هو الذي يُخاف. بل يُخاف عليك أن تُحرم الاضطرار، فتُحرم الطلب، أو تطلب بغير اضطرار، فتُحرم العطاء.
وها هو الإمام علي – كرّم الله وجهه – يدخل عليه إنسان يعوده، وكان الإمام مريضا، فوجده يتأوه، فقال له أتتوه وأنت أبو الحسن؟ قال – رضي الله عنه وأرضاه – أنا لا أشجع على الله. فالعبد عبد، والرب رب. وشأن العبد – إخواني وأخواتي – افتقار وانكسار، وشأن الرب جبر وإغناء ورحمة وعطاء.
من موانع إجابة الدعاء أكل الحرم، وفي صحيح مسلم، من حديث أبي هريرة – رضي الله تعالى عنه – قال، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا – أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ *، وقال يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ *، ثم ذكر الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمد يده إلى السماء: يا رب، يا رب. أي يدعو. ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغُذي بالحرام، فأنى يُستجاب له؟
ومن أكبر وأغلظ موانع إجابة الدعاء الإصرار على المعاصي، خاصة الكبيرة الفاحشة منها، وتضييع أوامر الله – تبارك وتعالى – وانتهاك محارمه. وإليه الإشارة بقوله – تبارك وتعالى – فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي *. وسيأتي مزيد كلام حوله – بحول الله تعالى -.
ومن موانع الإجابة أيضا ضعف يقين الداعي بإجابة الملك دعوته، والله – سبحانه وتعالى – لا مكره له. وفي الصحيحين أنه – عليه أفضل الصلوات والتسليمات – قال لا يقل أحدكم اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، وليعزم مسألته، إنه – يريد الله تبارك وتعالى – يفعل ما يشاء، لا مكره له. فلا معنى يا أحبتي لاشتراط المشيئة باللفظ؛ لأنها إنما تُشترط فيمَن يصح منه أن يفعل دون أن يشاء بالإكراه وغيره مما تنزّه عنه ملك الملوك – جل وعز -. وأيضا فإن في قول الداعي إن شئت لون استغناء لا يليق بمَن ماهيته الفقر والحاجة، أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ *، ولا بمَن لا يزول اضطراره ولا يكون مع غير الله قراره. حققني الله وإياكم بهذا النعت وجعلنا من أهل هذا الوصف بكرمه.
قال أبو عبد الله أحمد بن عطاء الروذباري – رحمه الله تعالى – إن للدعاء أركاناً وأجنحةً وأسباباً وأوقاتاً، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على النبي المُختار – صلوات ربي وتسليماته عليه وآله -.
من اللطائف في هذه الآية الجليلة – إخوتي وأخواتي – أن حرف الشرط إِذَا * دل في قوله – تعالى – وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي * على أن السؤال منهم إما أنه وقع وهو الأرجح، أو هو مُتوقع بقوة. وفي خبر ضعيف ما يشهد للأول، وهو أن أعرابياً سأله – عليه الصلاة وأفضل السلام – أقريب ربنا فنناجيه – هذه فاء السببية -، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله هذه الآية. وإنما قلت هذا – إخوتي -؛ لأن إِذَا * يأتي للمتقين أو الكثير الوقوع الغالب، بخلاف إن الذي يأتي للمشكوك والنادر.
ثم إن سؤالهم عنه – تعالى – المدلول عليه بقوله عَنِّي* – قال الله وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي * -، قد يكون عن ذاته – سبحانه وتعالى -، وقد يكون عن صفاته وأفعاله. فإن كان عن ذاته، فقد أتى الجواب من باب ما يُعرف في علم المعاني بأسلوب الحكيم. وأسلوب الحكيم أو الأولوية كما يُسميه بعضهم ضربان؛ الأول تلقي أو مواجهة المُخاطب بغير ما يترقب بحمل كلامه على غير ما يريد؛ تنبيهاً على أنه الأولى. والضرب الآخر تلقي السائل بغير ما يتطلبه سؤاله وذلك بتنزيل سؤاله منزلة غيره؛ تنبيهاً له على أنه الأهم. ومن هذا قوله – تعالى – يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ *، فقد وقع السؤال عن ماهية المُنفَق، فأتى الجواب عن مواقع الإنفاق ومصارفه، قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ *، نبههم – سبحانه وتعالى – على أن الأحرى بهم أن يسألوا لا عن ماهية المُنفَق، بل عن مواضعه؛ لأن النفقة لا يُعتد بها ما لم تقع موقعها، وأيضاً فإن الإنفاق فيما لا يُرضي الله ذهاب للمال في غير أجر، وعاقبته حسرة وندامة، فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً *. وهذا كما قال حسان بن ثابت – رضي الله تعالى عنه -:
إِنَّ الصَنيعَةَ لا تَكونُ صَنيعَةً…………حَتّى يُصابَ بِها طَريقُ المَصنَعِ.
فَإِذا صَنَعتَ صَنيعَةً فَاِعمَل بِها……………ِلَّهِ أَو لِذَوي القَرابَةِ أَو دَعِ.
أما إن كان سؤالهم عن صفاته – تبارك وتعالى -، ومن جملة ذلك سماعه دعاء مَن دعاه، فقد أُجيبوا بما سمعت.
واعلموا يا أحبتي أن الدعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة. وكان النبي – صلوات ربي وتسليماته عليه – يُكثر من النوعين. والاستجابة الموعود بها تشمل النوعين؛ استجابة الطالب بإنالته طلبته، واستجابة المُثني على الله – عز وجل – بما هو أهله بالثواب، بل بالثواب وإنالته أفضل ما أُعطيَ السائلون، كما أخرج الإمام الترمذي عن أبي سعيد الخدري – رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، فيما يرويه عن رب العالمين، مَن شغله ذكري عن مسألتي، أعطيته أفضل ما أُعطي السائلين. فحري بالداعي الفطن أن يُقدم بين يدي مسألته تحميداً وتمجيداً وثناءً على الرب حسناً بما يحضره من جميل القول وجليل المعنى، فذلك أضمن أن يُستجاب دعاؤه ويُعجّل له مطلوبه.
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي *، هذا – إخواني – أحد السؤالات التي خلّدها القرآن العظيم، ومنها: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ *، يَسْـَٔلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَآ أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَٰلِدَيْنِ *، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ *، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ * “في آية واحدة”، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ *، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ *، يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَىٰ أَكْبَرَ مِن ذَٰلِكَ *، يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ *، يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ *، يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ *، يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ *، وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ *، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي *، وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا *، وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *، يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ *، يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا *.
ولعلكم – أحبتي – لاحظتم أن جوابات هذه الأسئلة جاءت على ثلاث صور. أُمر – عليه الصلاة وأفضل السلام – في مُعظمها بالقول قُلْ *، واقترنت قُلْ * هذه في سورة واحدة بفاء التعقيب، وذلكم في سورة طه كما سمعتم؛ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *، إذن قال فَقُلْ *. قيل السبب في هذا – أي في اقتران قُلْ * هنا بفاء التعقيب، أو دخول فاء التعقيب عليها – أن السؤال لم يكن وقع له – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وقد علم الله أن سيقع، فأتى بهذه الفاء ليدل على هذا المعنى. ولكن الفخر الرازي كان من رأيه أن السؤال إنما كان عن قدم الجبال وحدوثها، وهذه مسألة أصولية، فلا جرم قال الله – تعالى – فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا *، وفيه تأكيد على النسف. كأنه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال، ولا تؤخر الجواب، فإن الشك فيه كفر. ثم إن جواز إعدام الجبال دال على امتناع قدمها.
هذا الكلام قد يبدو غير مفهوم لبعض الناس، وأوضحه بقولي ما يقوي نظر هذا الإمام الجليل أن العرب – إخوتي وأخواتي – كانت تسمي الحجارة والجبال خوالد، ومن هذا قول لبيد بن ربيعة في معلقته – رضي الله تعالى عنه وأرضاه -:
فوقفت أسألُها، وكيفَ سُـؤالُنا………….صماً خوالد ما ييبين كلامها.
ولآخر:
فتأتيك حذاء محمولة…………………………يفض خوالدها الجندلا.
هو ينعت القوافي.
وللمُخبّل السعدي:
وأرى لها داراً بِأَغْدِرَةِ ال………………..سِيدانِ لم يَدرسْ لها رَسمُ.
إلاَّ رَماداً هامِداً دَفعـتْ…………………….عنه الرياحَ خَوالِدٌ سحمُ.
وها هو البحتري يقول الآتي، على أن البحتري كما تعلمون ليس من أهل الاستشهاد، فالاستشهاد انتهى في هذا الباب بنهاية الدولة الأموية، أعني سنة ثنتين وثلاثين ومئة من هجرة المُصطفى، لكنه الاستئناس – إخواني -، ليس أكثر.
تعطيك شهرتها النجوم طوالعا……….وتريك أنفسها الجبال خوالدا.
على أن أكثر ما يعنينا في هذا الموضع إنما هي الصورة الثالثة، وهي في آيتنا الجليلة؛ آية وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ *، أسقط – سبحانه – الواسطة رأساً، فلم يقل قل ولا فقل، بل تولى – سبحانه، جل ثناؤه – جواب سؤالهم بذاته العلية، قل – إخواني وأخواتي – تُشير إلى وساطة النبي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، وفي ذلك دلالة على جملة أمور عظيمة الخطر، شريفة الموقع والمعنى، لمَن وعى! منها عظم مقام القرب الحاصل بالدعاء، كما عظم رحمة الله – سبحانه وتعالى – بعبده واعتنائه به وإقباله عليه وقت توجهه إليه بالمسألة والرغبة، وأيضاً من جهة ثالثة تعلمنا هذه الآية تجريده – سبحانه – بالعبودية من كل وجه، إذ لا واسطة، بل هو الإقبال المحض الخالص من العبد على الرب الجليل، والتوجه التام إلى مالك الملك ومقدر الأقدار ومصرف الأمور – سبحانه -، وأيضاً فيه إشارة من أبلغ ما يكون إلى سرعة الإجابة وعدم تأخرها، وأيضاً في الآية إشارة أخرى بالغة اللطف، فحواها عبدي كن لي، أكن لك، وذلك أنه أضاف العبادة إليه، قال وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي *، فدل على توجههم له وتمحضهم لعبوديته، ثم لم يقل فإني أقربهم مني، بل قال فَإِنِّي قَرِيبٌ *، فالقرب الحاصل للداعي أخص من القرب الحاصل للمصلي الساجد، وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب *، فهذا اقتراب من العبد للرب، أما ذاك فهو قرب الرب من العبد، وأين اقتراب العبد من ربه من قرب الرب من عبده؟ اللهم قرّبنا إليك نجيا.
من لطائف الآية – إخوتي وأخواتي – أنه – سبحانه وتعالى – قال أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ * ولم يقل أستجيب لدعوة الداع، على أنه قال بعد قليل فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي *، ثم ذكر الدعوة ولم يقل أجيب الداع، كان يمكن أن يقول أجيب الداع، لكنه قال أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ *!
فأما الأول، فذكر بعض العلماء أن أجاب تُطلق على الإجابة بالموافق والمخالف، أما استجاب فهذا اللفظ خاص بالموافق، فلو قال أجيب الداع، لأوهم العموم، أي فيما وافق وفيما خالف، لكنه حين قال أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ * كان كالصريح في الإسعاف بالمقصود، كما نقول أجيب طلبة فلان، وأجيب دعوة فلان، أي أسعفه بمطلوبه. فكأنه – سبحانه بفضله ورحمته – حماك من نفسك، حين تدعو بما تحسبه وتقدره خيرا لك، وهو في حقيقة الأمر شر ووبال، وهذا على حد قوله – تعالى – وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ *، وعلى حد قوله وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا *.
وأما الجواب عن الثاني، فكأنه أشار – سبحانه – إلى أنه بكمال رحمته وعميم بره بعباده وفضله عليهم يعتد بما فيما دعوة الداعي من افتقار واضطرار واحتياج واستمطار، وإن كان الداعي غير مستحق ولا مستأهل، لذلك لم يذكر الداعي، قال أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ *، ولم يقل أجيب الداع، بدليل أنه يجيب إن شاء دعوة المشركين المضطرين حين يدعونه مخلصين له الدين وقت ادلهام الخطوب ووشكان الهلاك، بصرف النظر عما لا يخلو منه داع، وإن اجتهد وأحسن، من جهل وتقصير، ومَن ذا الذي كمل له الأدب مع الرب العظيم أو تمت له المعرفة بشيء مما ينبغي لجلاله وعظيم سلطانه؟ لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. لكنه – سبحانه وتعالى – بجوده ورحمته يغتفر ذلك، ويعتبر فقط بالحاجة والضراعة، لا سيما مع رؤية العبد تقصيره وشهادته على نفسه بالإساءة والنقصان، وإشفاقه من الطرد والحرمان. وهذا – إخواتي وأخواتي – من باب نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا *، قال نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ * ولم يقل نتقبل منهم. وتعلمون أن حرف الجر عن إنما هو للتجاوز، ويقين لا شك فيه أنه لولا ما يتجاوز الحق – سبحانه – عنه مما لا يخلو منه عبد، لهلكنا من عند آخرنا. فرحمتك اللهم نرجو، لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك.
ثم إن قوله – تبارك وتعالى – إِذَا دَعَانِ * دليل على مطلوبية الإلحاح في الدعاء، لمكان الحرف؛ حرف الشرط إِذَا *، فإنه للمتقين والكثير الغالب كما سلفت الإشارة قريبا، ففي الآية إرشاد وتعليم إلى ما يكون الدعاء معه أدنى من الإجابة، أن تكثر! وهذا هو الإلحاح، وأيضاً سلفت إليه الإشارة.
ومثله من الإرشاد والتعليم قوله – سبحانه وتعالى – فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ *، ولعله السبب الأكبر لإجابة الدعاء، فكأن الحق – سبحانه – يقول لعبده عبدي كما أجيب دعاءك، وأنا الغني عنك وعن عبادتك من كل وجه وفي كل وقت، فكن أنت أيضا مجيبا لدعائي، وأنت المحتاج إلي من كل وجه وفي كل وقت. فقمين لمَن استجاب لله، أن يستجيب الله دعاءه.
وإجابة كل شيء – إخوتي وأخواتي – وفق السؤال، والله – تبارك وتعالى – إنما تعبدنا بالطاعة، فاستجابتنا له بطاعته وارتسام أوامره ونواهيه، وذلك فعل الجوارح، والتحقق بحقائق الإيمان، وذلك عمل القلب. أما الشرود والكنود والعصيان والجحود، فشؤم يوجب إيصاد الأبواب وغلظ الحجاب ونزول البلاء ورد الدعاء – والعياذ بالله -.
وماذا أقول يا إخوتي؟ هل أقول عجِّل، يُعجَّل لك؛ وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَىٰ *؟ أم أقول مهما كنت مُسارعاً أخى إلى تلبية مَن احتاج إلى رفدك وطلب عونك، كان الله إليك بالإجابة حين تدعوه أسرع؟ أم هل أقول مهما جبرت خاطر مَن أقبل عليك وفي نفسه أمل، وإن لم ينطق به اللسان، أعطاك الله قبل أن تسأل وجبر كسرك وطيّب خاطرك؟ قالت السيدة رابعة:
أستغفر الله من أستغفر الله………….من لفظة بدرت خالفت معناها.
وكيف أرجو إجابات الدعاء……وقد سددت بالذنب عند الله مجراها؟
إخوتي وأخواتي، هل التفتم إلى عظم الكرم وسبق الجود، حين قدّم – جل ثناؤه – إجابته لدعوة عبده على دعاء عبده إياه؛ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ *؟ وهو خروج كما يقول علماء المعاني على مُقتضى الظاهر، والظاهر تقديم الشرط على جوابه، فيُقال إذا دعاني الداع أجبته، أو أجيب دعوته، ففيه لطيفة التعجيل، في هذا الخروج على مُقتضى الظاهر لطيفة التعجيل رحمةً وحناناً وبراً وتكرماً، وفيه أيضاً أن إجابته محض فضل منه، غير مُستحق لأحد، كيف وقد سبق العمل وتقدم الدعوة والأمل؟
وهل لاحظتم كيف قدّم – سبحانه وتعالى – العطاء والمنح على التكليف والاقتضاء؟ قدّم الإجابة على طلب الاستجابة، فقال أُجِيبُ *، ثم أعقبها بقوله فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي *، شيء عجيب! شيء عجيب! لا إله إلا الله.
ويا إخواتي، إذا كان مَن صام عن طعام وشراب وشهوة سحابة نهار موعود بالإجابة، فكيف بمَن وطّن نفسه واستعان ربه في أن يصوم عن السوى، عن كل ما عدا الله – تبارك وتعالى – مما يشغل عنه، فضلاً عما يوجب غضبه وسخطه؟ هل ترون تُرد لمثل هذا دعوة أو يُكسر له خاطر؟
وقد صمت عن لذات دهري كلها……..ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي.
أما الحذوفات في الآية، فشأن عجيب آخر من شؤونها التي لا يُقضى منها العجب! قُرئ – إخوتي وأخواتي – في السبع بإثبات الياء في الدَّاعِ * ودَعَانِ * في الوصل دون الوقف، كما قُرئ بالحذف مُطلقاً، فقرأ ورش وأبو عمرو وأبو جعفر دَعَانِ * “دعاني” بإثبات الياء وصلا، وحذفها وقفا فيهما. وقرأ يعقوب بالإثبات وقفاً ووصلا، وعن قالون الحذف وقفاً، والإثبات وصلاً فقط، وقرأ الباقون دَعَانِ * بالحذف وقفاً ووصلاً. هذا فضلاً عن حذف إحدى النونين من نون إن في قوله – تعالى – فَإِنِّي قَرِيبٌ *، والأصل فإنني قريب. أما النون الثالثة التي قبل ياء المتكلم، فهي نون الوقاية كما تعلمون، وأدغمت فيها نون إن الباقية.
فهل يكون في حذف ياء الدَّاعِ * إشارة؟ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ *، ولم يقل الداعي. الدَّاعِ * هو اسم في الأصل منقوص، آخره ياء لازمة كما تعلمون، الياء اللازمة المكسور ما قبلها! هل يكون حذف ياء الدَّاعِ * إشارة إلى تقصير كل داع، ومع ذلك هو موعود بالإجابة، فضلاً من الله وتكرماً؟ وكذلك حذف الياء من دَعَانِ * إشارة إلى تقاصره عن بلوغ رتبة العرفان الحقيقي بالمدعو – جل وعز -، فقال دَعَانِ *. كما سُئل الإمام جعفر الصادق – رضوان الله عليه – ما لنا ندعو، فلا يُستجاب لنا؟ فقال لأنكم تدعون مَن لا تعرفون، وتسألون ما لا تفهمون. وقد يكون حذف الياء من الدَّاعِ * إشارة إلى استعجاله؛ استعجال الداعي نفسه، ورغبته في حصول مطلوبه، من كشف كربة أو تحصيل نعمة في أقرب وقت يكون. وقد قوبل طمعه في الإجابة العجلى بحذف الياء من دَعَانِ *، إشارة إلى سرعة تعجيل المدعو – جل وعز – الإجابة لسائله. الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ *. وأما حذف النون في فَإِنِّي قَرِيبٌ *، فيا ما أحيلاها ويا ما ألطفها من إشارة في مقام الود بحصول القرب! فالقرب قاض برفع الوسائط وتقصير الشُقة. اللهم قرّبنا إليك بطاعتك على أحسن وجه وبالوجه الذي يُرضيك عنا ومنا.
اللهم رب الأرواح الفانية والأجساد البالية، أسألك بطاعة الأرواح الراجعة إلى أجسادها، وبطاعة الأجساد الملتئمة في عروقها، وبطاعة القبور المتشققة عن أهلها، وبدعوتك الصادقة فيهم، وأخذك الحق منهم، وتبريز الخلائق كلهم من مخافتك ينتظرون قضاءك، ويرجون رحمتك، ويخافون عذابك، أسألك أن تجعل النور في بصري، والإخلاص في عملي، وشكرك في قلبي، وذكرك في لساني، في الليل والنهار، ما أبقيتني.
يا مَن يرى ما في الضمير ويسمعُ………..أنت المُعد لكل ما يُتوقعُ.
يا مَن يُرجّى للشدائد كلها…………..يا مَن إليه المُشتكى والمفزعُ.
يا مَن خزائن رزقه في قول كُن………امنن، فإن الخير عندك أجمعُ.
ما لي سوى فقري إليك وسيلة…………فبالافتقار إليك ربي أضرعُ.
ما لي سوى قرعي لبابك حيلة………..ولئن رددت فأي باب أقرعُ؟
ومَن الذي أدعو وأهتف باسمه…إن كان فضلك من عبيدك يُمنعُ؟
إن كان لا يرجوك إلا مُحسن…….فالمُذنب العاصي إلى مَن يرجعُ؟
حاشا لجودك أن تقنط عاصياً……..الفضل أجزل والمواهب أوسعُ.
وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ *، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: