إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:

وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ۩ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ۩ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط.آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

قد يذهب وهل بعضكم إلى أن حديثي أو حديثنا في هذه الخطبة سيدور على قتل البرئاء من المؤمنين، وفي الحقيقة سيدور على القتل، على قتل البرئاء من المؤمنين ومن غير المؤمنين وإن كانت الآيات الجليلة تتحدث عن القتل الإفرادي فحديث الخطبة هوالقتل المجموعي والقتل الجُملي، أي القتل بالجملة إن جاز التعبير.

إخواني وأخواتي:

موضوعة دار الإسلام ودار الحرب ودار الإسلام ودار الكفر من الموضوعات المشكلة والملتبسة جداً والتي عوَّل عليها الجماعات العنفية والتكفيرية المُتطرِّفة فاستحلوا بها الدماء المعصومة والأعراض المعصومة والأموال المعصومة من المسلمين ومن غير المسلمين وأحدثوا نكبات وبلايا وكوارث لحقت بالأبرياء هنا وهناك وإن كان لحاقها أفحش وأبشع وأشنع بالإسلام نفسه وبصورة الإسلام، فما هى حقيقة هذه الموضوعة – موضوعة دار الحرب ودار الإسلام- إذن؟

نقرأ للأستاذ سيد قطب – رحمه الله تعالى وعفا عنه – في تفسيره الظلال أن دار الحرب هى الدار التي لا يُحكم فيها بشرع الله ولا تُطبق فيها أحكام شرع الله تبارك وتعالى، قال هذه الدار حرب أياً كان أهلها مسلمين أم غير مسلمين، وهذا جذر من جذور التطرف وهذا الكلام ليس كلاماً علمياً وليس كلاماً دقيقاً ولا يلتئم بكلام الأئمة من الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة ولا بكلام أئمة الإسلام وفقهائه العظام في القرن العشرين المنصرم كالعلامة الأستاذ عبد الوهاب خلاف والشيخ الإمام محمد أبي زهرة وأمثال هؤلاء وإن قل مثيلهم، رضيَ الله عن الجميع ورحمهم رحمةً واسعة، فهو لا يلتئم بالمرة، وهذا الكلام طبعاً شبيه وملتئم بطبيعة الأستاذ سيد قطب رحمه الله الأدبية الشاعرية، فالرجل يتكلم كلاماً أقرب إلى الشعر وأقرب إلى الأدب وأقرب إلى الإنشاء منه إلى صحيح الدين ومتين القواعد والمقررات العلمية الفقهية الدقاق، لكن طبعاً العوام لا يعلمون هذا للأسف الشديد، كما هو حاصل الآن في هذه الآونة، فكل من هب ودب يتكلَّم في الإسلام والناس يسمعون ثم يكرثون في أنفسهم وفي غيرهم لأنهم ألقوا مقادتهم إلى مَن لا يجدر أن تُلقى بين يديه المقادة للأسف الشديد وسلموا رقابهم كما نقول بالعامية له لأنهم يظنون أنه على شيئ!

ما هى حقيقة هذه الموضوعة المُلتبِسة والمُشكلة والغامضة إلى حد ما؟ طبعاً بعد الأستاذ سيد قطب ومن عباءة الأستاذ سيد قطب – رحمه الله تعالى وعفا عنه – خرجت لنا الجماعات التكفيرية والجماعات المتطرفة وإن ادّعت إسم الجهاد، فهناك جماعة شكري مصطفى – مثلاً – الذي كان يعتبر نفسه تلميذاً وفياً لأفكار المرحوم سيد قطب، وشكري مصطفى أوفى على الغاية – غاية السوء وغاية الباطل – حين زعم أن مصر – مثلاً – وديار العروبة والإسلام – لكن هو اهتمامه بمصر أكثر – دار كفر، فهو يقول هذه الدار كفر، إذن فما هو شأن ساكنيها؟ عشرات ملايين المسلمين المصلين السجد الركع الذين يحجون ويعتمرون ويصلون التراويح ويصومون ويقطعون من أفواههم ليعطوا الفقراء والمحاويج ويتواصلون لأنهم مسلمون موحدون من أهل لا إله إلا الله، لكنه قال هم كفار، فهى دار كفر وساكنها كافر بعد أن تقوم عليه الحجة، حجة مَن؟ حجة محمد بن عبد الله – صلى الله على محمد وآل محمد – أم حجة شكري مصطفى؟ حجة شكري مصطفى، فالرجل يظن نفسه شيئاً فوق حتى أن يكون إمام المسلمين بكتيباته وخربشاته وانشائته، فهو يظن نفسه مقطع الحق وهو يُلقي ما عنده وقد أقام عليك الحجة ولزمتك الحجة فأنت كافر إن لم تنضوي تحت لوائه ولواء جماعته، فنعوذ بالله من الضلال والخذلان والغرور، هذا هو الغرور، والغرور أصل الجهل، فالغرور ليس هو العُجب أو الكبر كما يظن العامة لأن كلمة غرور ليست معناها الكبر لكن الغرور هو الجهل، تقول الآية الكريمة مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۩، فيقول عمر غره – والله – جهله، الدنيا دار الغرور ولذا تغر الناس بجهل ومن ثم يجهلون حقيقتها، فهذا هو معنى الغرور ولذا نعوذ بالله من الغرور، نعوذ بالله من الجهالة والبطالة والعطالة والتشبع بما لم نُعط كأن نسلك أنفسنا في سلك العلم والعلماء والمحققين ولسنا هناك، وكنت أحسب أن تحت القبة شيخ فليس هذا عشك فادرجي، وعلى كل قال الدار كافرة وأهلها كفار، وأقل منه درجة بلا شك وهو أحسن حالاً وإن كان حاله ليست حسنة في الجملة محمد عبد السلام فرج، الزعيم والمنظر الأكبر وربما الأول لجماعة الجهاد، وطبعاً جماعة شكري مصطفى تدعو نفسها جماعة المسلمين أو جماعة الدعوة والهجرة، وسماها الإعلام وأجهزة الاستخبارات التكفير والهجرة، وهى حقيقة بهذا الإسم فهو لم يكن افتراء، هى جماعة تكفير وهجرة، طبعاً لماذا هاجرت؟ وهجرت ماذا؟ هجرت المجتمع وهنا كانت متناسقة مع مبادئها التنظيرية الواهية لأنك حين تحكم على دار المفروض أنها دار إسلام ومسلمين بأنها دار حرب أو دار كفر وشرك فإن هذا يلزم منه لوازم وتتلوه توالي كارثية مخيفة، وأكثر هؤلاء التكفيريين والجهاديين لا يدرونها أو لا يُدرَون بها، فلا يُقال لهم هذه التوالي وهذه اللوازم والتبعات، مثل ماذا؟ أولاً لا تُقام فيها الجمعة، لا تُوجَد صلاة جمعة وتسقط الجمعة، فيا حبذا ويا هنيأً لأعداء الإسلام ويا هنيأً لأعداء هذه الأمة، الغوا هذه المنابر الجمعية وتسقط الجمعة، ثانياً تسقط فريضة الدفاع عن هذه الأرض إذا دهمها أو صال عليها أو غزاها غاز كافر محتل أو مستعمر، فممنوع أن تدافع عنها، كيف تدافع عن أرض حرب أو أرض شرك أو أرض كفر؟ لا يُدافع عنها وهذا أمر عجيب، ومن هذه اللوازم أيضاً أن تهجرها، فيجب أن تهجر دار الشرك، وهم فعلوا هذا لكن هاجروا في مناطق في الصعيد في كهوف ومغاوير في الجبال، وأرادو أن ينشئوا مُجتمَعهم الإسلامي النقي الصرفي الذي حدَّثهم عنه بشاعرية منفلتة وهائمة المرحوم سيد قطب، فهكذا ظن أن المجتمع يمكن أن يكون بهذه الطريقة فاعتزلوا الناس وأووا إلى هذه المغاوير وتلكم الكهوف وظنوا أنهم أصبحوا أمة الإسلام وأن دارهم دار إسلام، أما بقية الدولة المصرية والمجتمع المصري فهؤلاء كفار وأرضهم دار كفر، والآن ستقولون برح الخفا، الآن فهمنا لماذا كانوا يستحلون دماء الناس، دماء الأبرياء من الناس في نظر الناس، وطبعاً هذا شيئ فظيع ومُخيف، لكن هذا حدث بإسم الإسلام وبإسم قراءات فقهية في الكتب الصفراء والحمراء مِمَن لا يُحسِن ولا يفقه وليس هناك، كما قلت لكم أقل درجة في هذه البشاعة والشناعة جماعة الجهاد التي نظر لها محمد عبد السلام فرج في كتيبه – ليس في أطروحاته العظيمة ولا مجلده العملاق وإنما في كتيبه – الجهاد الفريضة الغائبة والذي عُرف اختصارا بالفريضة الغائبة، وهو كتيب صغير، ومحمد عبد السلام فرج هو الذي أفتى بقتل السادات وأعطى الأمر المُباشِر الشخصي بقتله رحمة الله عليه وغفر الله له، فهو أعطى أمراً بقتل السادات، كما قال عبد السلام فرج مصر دار كفر، فإذن التقى بماذا؟ التقى بسيد قطب وبشكري مصطفى ولكن أهل هذه الديار – سكان وقطان وعمّار هذه الديار – ليسوا كفاراً، هؤلاء لابد أن ندعوهم وأن نبيّن لهم وأن نُعلِّمهم لا نحكم عليهم، فهو يحكم على الدار بأنها دار كفر ويحكم على النظام أنه كافر ويحكم على رأس النظام بأنه كافر ويجوز قتله بل يجب قتله،فيجاهد في سبيل الله بقتله، وهذا شيئ خطير أيضاً وكارثي وعبث، هذا عبث بالدين والدنيا لكنه أقل كارثية من جماعة شكري مصطفى.

إذن القضية هنا تدور على ماذا؟ على هذا المفهوم الغامض المُلتبس لمفهوم الدار، أي دار الإسلام ودار الكفر، وقبل أن نخوض – لابد أن يكون خوضاً محدداً مراعاةً لوقت الخطبة الضيق المنزور – أحب أن أقول أن بعض كبار العلماء والمحققين من المُعاصِرين – رحمة الله عليهم أجمعين – ذهبوا إلى أن هذا الاصطلاح الثنائي – دار الإسلام ودار الكفر – المركب الإضافي ليس له أساس في كتاب الله ولا سنة رسوله، إنما هو من تصنيف ووضع وصناعة الفقهاء الذين خضعوا فيه لإملاءات الواقع وشروط الواقع وظروفه، وهذا الكلام فيه حق وفيه غلط، ولا أحب أن أقول باطل وإنما أقول فيه حق أو فيه صواب وفيه خطأ، وهذه وجهة نظر العلامة الإمام محمد أبي زهرة وشيخه الأستاذ عبد الوهاب خلاف وأيضاً كثيرون تابعوهم على هذا، فكثيرون تابعوهم كالعلامة المرحوم قريباً – رحمة الله عليه رحمة واسعة – الدكتور الشامي وهبة الزُحيلي في رسالته الدكتوراة – آثار الحرب في الفقه الإسلامي: دراسة مقارنة – الخاصة به، وهذا الكلام – كما قلت – بعضه صحيح وبعضه غالط، فهذه التسمية لها أصل وهذا الفهم في انقسام العالم إلى دور له أصل ليس من الواقع – الواقع طبعاً واضح تماماً وأينما وحيثما نشبت حرب ينقسم العالم الكبير أو الصغير مباشرةً، فهذا الشئ واقعي عبر العصور – لكن له أساس ومستند أيضاً من التنزيل والسنة، والآيات التي تلوتها على مسامعكم صدر هذه الخطبة تشير إلى هذا، فما معنى أن الله – تبارك وتعالى – يفرق بين تبعة قتل المؤمن خطأ استناداً بحسب فهم الآيات إلى الدار؟ إن قتل مؤمن مؤمناً خطأً بين المؤمنين في دار المؤمنين وفي بلد المؤمنين فالله يقول في هذه الحالة لابد أن يحرر رقبة مؤمنة وأن يسلم دية إلى أهل هذا القتيل، ثم قال – عز من قائل – فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ۩، فإذن مؤمن قتل مؤمناً خطأً لكن المقتول خطأً وهو المؤمن يعيش بين قوم عدو لنا في دار كفار معادين، علماً بأن دار الحرب لم يسمها الله لكن واضح أنه تحدث عنها، فإذن يُوجَد أساس، والآيات تشير إلى هذا الفهم، فالفقهاء لا يبتدعون شيئاً بالمرة من لدنهم، أي أنهم لا يأتون بشيئ من العدم وإنما هم يستلهمون الكتاب والسنة وآثار الصحابة أيضاً رضوان الله عليهم أجمعين، ثم يقول عز من قائل وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ۩، وهذا أمر عجيب، يعني قوم كفار لكنهم مُعاهدَون ومُوادَعون ومصالَحون ومهادَنون، أي ما عُرِفَ بعد ذلك خصوصاً في مدونات الفقه الشافعي بدار العهد أو دار المعاهدة أو دار المُهادَنة أو دار المُصالَحة أو دار المُوادَعة، فهذه أسماء لنفس الشيئ – أسماء شتى والمسمي واحد – والقرآن أشار إليها، فالقرآن أشار إلى دار العهد التي أكثر فيها القول السادة الشافعية خلافاً للسادة الحنفية، إذن الله يقول وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ۩، طبعاً والتقدير أنه مؤمن أيضاً لأن الآية تتحدَّث عن قتل المؤمن خطأً ، ففي هذه الحالة قدَّم الدية لأنها تهمهم أكثر، فهو قدَّم الدية التي تُسلم إلى أهله وبعد ذلك يأتي تحرير رقبة مؤمنة، فواضح أن الآيات تتحدث عن الدور، فهذه الآية الجلية من سورة النساء تتحدَّث عن الدور، وهناك الآيات التي تعرفونها في أواخر سورة الأنفال والتي تقول إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ ۩، إذن أين يقيمون؟ بين ظهراني كفار، وهؤلاء الكفار مُحارِبون ومُعادون، وبالتالي هى تشير إلى الدور، فهى تتحدَّث عن المؤمنين الأولين الذين هاجروا، وأين هاجروا؟ إلى المدينة المنورة أو إلى دار الهجرة، ولذلك ورد في حديث بُريدة بن الحصيب في صحيح مسلم وعند غير مسلم أيضاً من أهل السنن – بعض أهل السنن – أن الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان إذا أرسل أو أمر أميراً على جيش في غزورة أو سارية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله – تبارك وتعالى – ومَن معه – أي من الجيش – خيراً، ثم قال لهم كذا وكذا إلى أن قال فإنهم أجابوك – أي إلى ذلك – فاقبل منهم وكف عنهم ثم ادعهم إلى التحول عن دارهم أو من دراهم إلى دار المهاجرين، وفي رواية إلى دار الهجرة، فإذن لا يُقال هذا التقسيم لا أصل له هكذا بالمُطلَق في الكتاب والسنة، فهذا كلام غير دقيق، هناك كلمات النبي يقول في الحديث مثل عقر دار الإسلام الشام، فإذن يقول دار الإسلام، وهناك أحاديث كثيرة يقول فيها أرض العدو و أرض الشرك، وفي حديث أبي داوود وغيره واسناده صحيح إذا أبق العبد إلى أرض العدو في رواية إلى أرض الشرك برئت منه الذمة وفي رواية حل دمه، إذن لدينا مُصطلَح أرض العدو وأرض الشرك، وقد يقول لي أحدكم هذا طبيعي وبدهي ولا يُمكن أن يُنكر هذا لأن فعلاً الواقع يقول هذا وليس الفرض العلمي فقط، فالواقع يقول إذا كانت هناك أرض إسلام وأرض مُوحِّدين فإذن لابد أن تكون هناك أرض وثنية وأرض وثنيين وأرض مُشرِكين، وهؤلاء المُشرِكون إما كانوا مُحارِبين ومُعادين وإما كانوا مُسالِمين كافين ومُهادنين، فإذن هذا لابد أن يكون له أصل، وجاءت الشريعة بمراعاة هذه الوقائع والشرائط وأطلقت مثل هذه المُصطلَحات، وفي حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين نهى النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن يُسافر بالمُصحَف إلى أرض العدو، وطبعاً هذا واضح أنه من الأحكام التي تتغير باختلاف ما يكتنفها، فلا يُوجَد مساغ الآن أن يقول أحد أنه يحرم السفر بالمصحف إلى أرض العدو، فأرض العدو الآن تطبع المصاحف وتطبعه مُترجَماً بالألمانية وبالإنجليزية وبالسويدية، وتكتب المُصحَف بصيغة PDF و Text word وما إلى ذلك، فهذا موجود ويستطيعه كل أحد، إذن هذا الكلام انتهى، ثم أن الناس الآن ارتقوا بفضل الله – تبارك وتعالى – ولم نعد نرى إلا قليلاً من المتعصبين المحترقين تعصباً مَن يمزق المُصحَف أو يبصق عليه والعياذ بالله – اللهم عصمتك وصونك وحفظك – من هذا، بل بالعكس الناس يتلقون هذا كمصدر من مصادر النظر والمعرفة والنقد، فالوضع اختلف على كل حال، إذن هناك أصل في الكتاب والسنة، يقول – تبارك وتعالى – في أخر الأنفال وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۩، فما معنى هذا؟ معنى هذا أن هناك مُؤمِنين مُسلِمين مُوحِّدين يعيشون في غير دار الهجرة وفي غير المدينة، فأين يعيشون إذن؟ في أرض الكفار، أي بين كفار مُعادين مُحارِبين، فإذن هذه إشارة إلى هذه الأرض وهؤلاء لهم أحكام، ومن هنا الله يقول مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۩، فليس لهم علينا حق النصرة الكامل، وقد قلنا أكثر أن ما تتحدد به الولاية الحب القلبي والنصرة الظاهرة، ونحن نحب هؤلاء بلا شك لكن ليس لهم علينا كامل النصرة، لماذا؟قال تبارك وتعالى وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ ۩، علماً بأننا شرحنا هذا في غير خطبة، فإذن هذا الميثاق الذي واثق به ووفقه المسلمون – أي النبي وأصحابه وأتباعه – جماعة من المشركين فصاروا مُعاهَدين ومُوادَعين ومُصالحَين ومُهادَنيين أقوى من حيث الأثر من مجرد الاشتراط في الإيمان والتوحيد، وهذه هى السياسة، فالقرآن يخط لك أصولاً في السياسة الآن – في السياسة الشرعية وسياسة الأمم وسياسة الاجتماع الديني – لأنه واقعي – القرآن كتاب واقعي – طبعاً، فإذن هؤلاء المسلمون الذين يعيشون بين كفار إذا اعتُديَ عليهم من قبل كفار معاهدين لا ننصرهم لكن إن جاء العدوان عليهم من قبل كفار مُحارِبين من أجل الدين – وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ ۩ – واعتدوا عليهم ليس لأجل ثارات شخصية ننصرهم، فلو كان الأمر لأجل ثارات شخصية فإن لا علاقة لنا بهم ولا نخوض حرباً من أجل ثاراتهم الشخصية أو من أجل أموال أو مُبادَلات أو أشياء مثل هذه، فلا نخوض حرباً من أجلهم في هذا، لكن نُحارِب من أجل الدين إذا اعتًديَ عليهم في الدين وإذا أُريدَ إكراههم وفتنتهم عن دينهم، فلابد أن ننصرهم إذن على القوم المُحارِبين، فإن كان الذين اعتدوا عليهم مُعاهَدين – طبعاً يجوز أن تقول مُعاهَد و مُعاهِد وإن كان الأفضل أن يُقال في الجهة الأقوى وهى جهة المسلمين التي أعطت العهد مُعاهِد والذين أخذوا العهد مُعاهَد لكن كلاهما صحيح، فيُقال في كل طرف مُعاهَد و مُعاهِد كما قال السادة الفقهاء – فإن الأمر يختلف، إذن هذه الآية أيضاً تشير إلى ماذا؟ إلى موضوع الدار، والأكثر من هذا ما أتى في آية سورة الفتح، وهذه حجة تفقأ عيني التكفيريين الذين كَفّروا أهل الدار بعد أن كَفّروا الدار واستباحوهم – والعياذ بالله – واستبحاوا أموالهم ودماءهم، فهم استباحوا الدماء والأموال وبعض الجماعات التكفيرية الجهادية كما تُسمي نفسها في مصر وغير مصر كان تمويلها من أخذ أموال الناس وسرقة أموال الناس وقالوا أموالهم مُباحة، وهذا شيئ عجيب، فالمُسلِم المُؤمِن معصوم ولا تنقطع عصمته سواء أقام بين المسلمين أو بين المشركين في دار شرك أو في دار حرب أو في دار إسلام، فهو له عصمة ولا يُعتدى عليه، ولا يُقتل المؤمن إلا بسلطان من الله، قال عز من قائل – تأملوا هذه الآية التي قل أن يلتفت إليها أحد – في كتابه هُمُ الَّذينَ كَفَروا وَصَدّوكُم عَنِ المَسجِدِ الحَرامِ – يتحدَّث عن كفار مكة – وَالهَدىَ – أي منعوا الهدي – مَعكوفًا أَن يَبلُغَ مَحِلَّهُ وَلَولا – هذا امتناع – رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ۩، خطر لي الآن – سأعود إلى تفسير الآية مرة ثانية – أن قد يقول قائل هل خطبة الجمعة مكان مناسب لشرح مثل هذه المعطفات وهذه القضايا العويصة الغامضة؟ هذه أمور دقيقة في التفسير وفي الأصول وفي الفقه الحديث، لكن أنا أقول لكم بحسب مطالعتي وخبرتي وألآمي أن هذا هو أنسب شيئ، فهل تعرفون لماذا؟ لأن ليس مناسباً أيضاً أن يُسرق منا أبناؤنا وبناتنا في كل صوب ومن كل حدب وفي كل ساحة بمثل هذه الأفكار ونحن قعود مشبكي الأيدي لا ندري شيئاً، فهم يسرقونهم في الجامعات وفي المدارس وفي المساجد وفي الأوكار والآن على الفيس بوك Facebook وبالكتب وبالكتيبات وبالأشرطة ويتحدَّثون عن دار الإسلام ودار الكفر ودار الحرب والحاكمية وشمولية الإسلام وتحكيم شرع الله وما إلى ذلك، ويُحوِّلونهم إلى قتلة وإلى مُفجِّرين وإلى مُكفِّرين ونحن ننظر هكذا دون أن نفعل شيئاً، لكن أنا أقول لكم أن هذه المنابر اليوم واجبها العتيد وواجب الوقت بلسان الفقهاء ألا تتحدث الأحاديث الموسمية، الأحاديث الموسمية خلوا لها فسحة في برامج متلفَزة وغيرها أو حتى في دروس منزلية، لكن في غير خطبة الجمعة الجامعة، كأن يُقال الآن حديث الحج والعمرة والأضحية والتكبير وما إلى ذلك، ما هذا؟ هذا سمعناه طبعاً كثيراً، وكل واحد يسمعه عدد سنوات عمره، فإذا عشت خمسين سنة وارتدت المسجد من عشر سنوات فإنك سمعت هذه الأشياء أربعين مرة فقط يوم جمعة، إذن الناس يعرفون هذا ولذا ليس هذا هو المطلوب الآن، تحدَّثوا فيما يخص الأمة وفيما يعصم الأمة وفيما يحصن وقاية، فالوقاية خير من العلاج والدفع خير من الرفع، لكن نحن بعد أن تقع المصيبة نبدأ نرفع ومن ثم لا نستطيع، فيجب أن ندفع منذ البداية وأن نحصن أبناءنا، على الأقل الآن من يسمع مثل هذا الكلام ولو لم يستوعبه إلا عشرين في المائة سيتحصن يخرج بفائدة جُملية وهى أن القضية إشكالية واجتهادية ومُعقَّدة وكبيرة وفيها كلام في الجملة يُخالِف كلام سيد قطب وشكري مصطفى ومحمد عبد السلام فرج والتكفيريين والجهاديين، فالأمة تكلمت وخالفت، كل الأمة – الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة وابن حزم وابن تيمية وكل علماء الأمة الكبار وما إلى ذلك – حدث معها هذا، فإذن هذا انتهى لأن لا ينبغي أن نعبث بعقول الناس.

نعود إلى الآية الجليلة من سورة الفتح، فالله يقول بعد أن يُثرِّب ويُشنِّع ويُبشِّع من حالة كفار مكة المُعتدين المُجرِمين المُحارِبين وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ ۩، أين هم يا الله؟ بينهم، يعيشون مستضعفين مستخفين مستسرين بدينهم وإيمانهم بين ظهراني مُشرِكي مكة، لكن كم كانوا؟ هل كانوا بالمئات أو بالعشرات؟ عن جنيد بن سبعُ وقيل ابن سباع – جُنيد بن سبعُ أو ابن سباع – أنه قال كانوا سبعة، يا الله، يا رب العالمين، والله يقشعر البدن من هذا، هل يا ربنا أمن أجل سبعة تُنزل تشريعاً مثل هذا؟ وهذا التشريع مقتضاه أن يُكَف عن المُشرِكين المُحارِبين الذين لا يزالون والذين يدأبون يناوشون دولة الإسلام في المدينة ومُجتمَع المسلمين ومُجتمَع النبي، فهو قال يجب أن نكف عنهم ولا ندهمهم ولا نكرثهم من أجل ألا يضيع تحت الأقدام سبعة من المؤمنين والمؤمنات، وهم سبعة مجهولون، فقد يقول أحدهم أنهم مجهولون فلو ذهبوا فيمَن قُتِل وفيمَن وُطِأ لن يُعرَف هذا لكن هذا لم يحدث، علماً بأن أصل الوطأ – لَّمْ تَطَئُوهَا ۚ ۩ – هو الدوس بالأقدام ثم استعير للإهلاك، فهنا المقصود أن تهلكوهم وتقتلوهم مع مِمَن تقتلون من الكفار لأنكم تجهلونهم – لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ ۩ – طبعاً، وعلى كل حال قال جُنيد بن سبعُ أو سباع سبعة وذكر منهم الوليد بن الوليد بن المغيرة وهشام بن سلمة وسلمة بن هشام وعياش بن أبي ربيعة ثم ذكر أبا بصير القرشي وأبا جندل بن سهيل بن عمرو، وقيل كان منهم ثنتان من النساء – أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وأم الفضل زوج العباس عم النبي بن عبد المطلب – أيضاً،عليهم السلام أجمعين، فهم سبعة كما قال، وقد قال آخر كانوا اثني عشر – ثلاثة رجال وتسع نسوة – أي كانوا قلة أيضاً، لكن الله يقول لأجل معصومية هؤلاء المؤمنين والمؤمنات كفوا عن كفار مكة رغم فعلهم ما فعلوا وإجرامهم ما أجرموا، ومن ثم الله يقول وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ ۩، والمعرة مصدر ميمي من عَرَّهُ، وهذا إذا ألحق به ما يكرهه من فعل، أي من ضر أو غرم أو قالة سوء، فيُقال هذه معرة ولا يُقال بعد ذلك ما شاء الله على محمد وأصحابه الذين قتلوا بعض أوليائهم وبعض المؤمنين فانظروا إلى هؤلاء الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل وهؤلاء يرفعون عصمة معصومي الدم وهكذا، ثم يبدأون يُثرِّبون على رسول الله وعلى مجتمع المُسلِمين، فهذه هى المعرة أو جزء من المعرة فضلاً عن القتل بحد ذاته لمسلم معصوم الدم، فأين شكري مصطفى من القرآن الكريم؟ أين هؤلاء التكفيريون وهؤلاء المهرجون الإنشائيون من كتاب الله؟ هل قرأوه وطالعوه ودقَّقوا وأمعنوا النظر فيه أم أنها هيجات نفسية وثارات شخصية وأوهام قيادة وأوهام ريادة فارغة دمرت أمتنا؟ اللهم عصمتك وحفظ وصونك، إذن قال الله وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ – من أهل مكةعَذَابًا أَلِيمًا ۩، فالله يقول هم يستحقون عذاب السيف، لكن ما معنى لَوْ تَزَيَّلُوا ۩؟ أي لو افترق المُؤمِنون المجهلون لكم – لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ ۩ – وامتازوا بحيث يتبينون – وقال الله – تبارك وتعالى – في سورة يونس فَزَيَّلنا بَيْنَهُم ۩، فما معنى فَزَيَّلنا بَيْنَهُم ۩؟ قال لو تزيلوا تزيل مطاوع زيله، يُقال زيله فتزيل إذا نحاه من المكان وأبعده من المكان ونفاه من المكان فانتفى، قال له اخرج إلى هناك فخرج فيُقال تزيل مطاوع زيله، ومن هنا يقول الله لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ۩، فإذن هذا هو التزيل، أي التفرق بحيث ينماز هؤلاء من هؤلاء، لكن لأجل عصمة هؤلاء القلة من المُؤمِنين والمُؤمِنات أنزل الله – تبارك وتعالى وجل مجده – ما أنزل.

نعود الآن إلى موضوعتنا، ما حقيقة وما قصة دار الحرب ودار الإسلام؟ تعاريف السادة الفقهاء والعلماء من المذاهب الأربعة المتبوعة المختلفة تختلف لفظياً بقدر أو بآخر لكن يوشك في نهاية المطاف أن تلتقي على أو عند قدر من المُعنى المُشترَك، فما هو؟ أكثر تعاريف السادة العلماء من المذاهب المتبوعة تدور على أن دار الإسلام هى الدار التي السلطة فيها للمُسلِمين أو للإسلام، ثم وقع بعد ذلك خلاف يسير وقد لا يكون كذلك بين أن تكون السلطة للإسلام بمعنى أن يكون أهل الدار الذين لهم القوة والمنعة والغلب كلهم أو أكثرهم مُسلِمين أو يكون الحكم إسلامياً والحاكم مُسلِماً، فهذه وجهة وهذه وجهة، لكن أن يكون الحكم إسلامياً قد يكون الأرجح، فمصر – مثلاً – حين افتتحها المسلمون صارت ديار إسلام مع أنها إلى ما بعد فتحها وإلى ما بعد حين فتحها بأربعة قرون معظم قطانها كانوا من الأقباط المسيحيين وأقل سكانها كانوا مُسلِمين، لكنها من أول يوم ومن ساعة فُتِحَت أصبحت دار إسلام، فهل هذا بحكم أن الأهل أكثرهم أو معظمهم مسلمون أم بسبب الحكم؟ بسبب الحكم والسلطة والأحكام الجارية.

السادة الحنفية لهم تعريف لدار الإسلام وحين تعكسه تقريباً يصبح دار حرب، وهو تعريف دقيق وأكثر المعاصرين يدورون عليه ويستوجبونه ويرونه وجيهاً، فما هو؟ قالوا دار الإسلام تجمع شرطين، الشرط الأول أن يكون فيها الظهور والغلبة للإسلام، ويسميه محمد بن الحسن الشيباني صاحب السير رحمة الله عليه – أحد الصاحبين الجليلين لأبي حنيفة – ظهور الإمام، وغيره يقول ظهور الإسلام، حيث يُستعلن فيها بأحكام الإسلام وشعائره، لكن ما هى شعائر الإسلام التي يُعلن ويُستعلن بها؟ الجمعة والجماعة والأذان وصلاة العيدين وأمثال هذا مما يُعرَف، ولذلك صح عن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أنه كان ينهى ويأمر الجيوش والغزاة المُجاهِدين بالكف عن من في دارهم أو في ديارهم مسجد، فيقول إذا رأيتم مسجداً أو سمعتم منادياً – مجرد وجود مسجد – كفوا، لأن هذه من شعائر الإسلام، ومن هنا قد يقول لي أحدكم هذه قضية أصبحت الآن معقدة قليلاً لأن المساجد تزحم أوروبا الآن، وهذا صحيح فانظروا في فيينا وحدها يُوجَد كم مسجد، ربما أكثر من أربعين مسجداً، وأنا أقول لكم عكس ما قال بعض العلماء الأفاضل المُعاصِرين أن ليس من شرط المسجد أن تكون له قبة ومنارة، بل بالعكس هذا تقليد شبهنا فيه النصارى لأن القباب من ابتداعهم والمنائر من ابتداعهم أيضاً، فالمسجد هو مكان السجود الذي تجتمع فيه جماعة من المسلمين ويصلون لله الخمس، فهذا يعتبر مسجداً وهذا إسمه مسجد، وقد تُفرِّق في التسمية لأن هناك تفرقة مانعية عند الفقهاء بين المسجد والجامع، فهناك مساجد لا تُجَمّع فيها الجمعة لكنها مساجد قولاً واحداً، وهناك مساجد تًصلى فيها الجمعة فتسمى جوامع ويُسمى الواحد منها بالمسجد الجامع ولا في مشكلة في هذا، لكن هذه المساجد تُوجَد الآن في أوروبا وأمريكا واستراليا وكندا وتزحمها، فهذه إذن مساجد، والنبي كان يأمر بالكف عن أي مكان وعن أهل ذلك المكان إذا رُؤيَ مسجداً في دارهم وفي دارتهم، وأكثر من هذا أن في السادة الشافعية جماعة من كبار علمائهم ومُحقِّقي فقهائهم كالماوردي – أقضى القضاة صاحب الحاوي رحمة الله عليه – وكالعلامة الخطيب الشربيني في مغنى المحتاج وكالعلامة ابن حجر الهيتمي المكي في تحفة المحتاج ذهبوا إلى أن المسلم أو المسلمين وإن كانوا قلة بأرض شرك أو بأرض كفر أو بأرض حرب معادية للمسلمين وانحازوا في مكان واستقلوا فيه وأمنوا على أنفسهم لم يُهدَدوا ولم يخافوا واستعلنوا بشرائع أو بشعائر دينهم وصلوا وأقاموا وأذنوا وصلوا الجمعة والجماعات والعيدين من غير تخويف من غير إرهاب – هل تعرفون ماذا قال الذين ذكرتهم كالماوردي والشربيني وابن حجر الهيتمي؟ – فإن البقعة التي انحازوا فيها دار إسلام، فإن هجروها وخرجوا عنها استحالت دار حرب، وبعضهم حكم بأنهم يستحب أن يظلوا فيها وبعضهم قال إن لم تكن ضرورة يحرم عليهم أن يتركوها لأنك إذا تركتها أحلت دار الإسلام ) إلى دار حرب، فإذن القضية الآن في كلام السادة الفقهاء عبر الأعصار المتفاوتة قضية يُلمح فيها ماذا؟ التغير في الواقع، ففي مكة – مثلاً – أيام رسول الله في البداية وقبل الحديبية كان من المُستحيل أن مُؤمِناً يُسمح له بالاستعلان بدينه كأن يؤذن ويكبر، فهذا كان يُمنَع ويُقتل أو يُسجن أو يُعذب، أليس كذلك؟ لكن الآن هذا لا يحصل في أوروبا أو في غير أوروبا ولم يحصل أيضاً في بعض ديارات الكفار أيام هؤلاء الفقهاء الأجلاء المذكورين، فهناك تطورات وتغيرات ولابد أن تُراعى، فالقضية أيضاً يدخل فيها ما يُعرف ليس فقط بتخريج المناط وتخريج على الحكم على دار بأنها دار إسلام أو دار كفر او حرب وإنما بتحقيق المناط أيضاً، فنحكم في هذه الدار الآن بعد أن نتفق على تخريج المناط وتحديد وتعيين المناط، أي ما هو مناط الحكم على دار بأنها دار إسلام أو دار حرب وما هو مناط التفريق بين الدور، علماً بأن هذه قضية إشكالية واجتهادية – كما قلت لكم – طبعاً، وبعد ذلك يأتي تحقيق هذا المناط بمعنى تطبيقه في الواقع، وهى قضية تخضع أيضاً للنظر والاجتهاد، فقد تنظر أنت إلى أمر من جهة وانظر إليه أنا من جهات أخرى وبعد ذلك الحكم لأرجح النظرين، وهكذا يكون نظر الفقه، فالسادة الحنفية – رحمة الله عليهم جميعاً أحياءاً وأمواتا وعلى سائر المسلمين والمسلمات – قالوا أولاً لابد من الاستعلان بالإسلام، أي السيادة كما نقول اليوم باللفظ القانوني، فتكون السيادة للمسلمين، ثانياً لابد أن يأمن كل من بهذه الدار من مسلم وذمي، فنحن هنا لدينا مسلمون وأهل ذمة أيضاً ومن ثم لابد أن يأمنوا بأمان الإسلام، فالذي يعطيهم الأمان ليس كافراً أو مُشرِكاً أو وثنياً بل الإمام – أيإمام المسلمين – ومن ثم أمانهم مأخوذ بسلطة الإسلام وبسيادة الإسلام، لكن هل يمكن أن تستحيل دار الإسلام إلى دار كفر أو دار حرب؟ وبالأحرى سأقول بدقة الآن ما الفرق بين دار الحرب ودار الكفر لأن هذه مسألة مشكلة أيضاً، وعلى كل حال عند السادة الحنفية وعند أبي حنيفة بالذات يُمكِن، أبو حنيفة قال نعم لكن بشروط ثلاثة صعبة جداً: نفي الشرطين المذكورين في دار الإسلام، فأولاً ألا تكون السيادة للإسلام وللمُسلِمين، بمعنى أن يكون الحكم لغير الإسلام، فالأحكام المُعلنة والتي يُعمل بها أحكام الشرك وأحكام الكفر وليست أحكام الإسلام وأحكام الشريعة، ثانياً ألا يبقى أحد من المُسلِمين أو حتى الذميين في هذه الديار آمناً بالأمان الأول، لكن ما هو الأمان الأول؟ أمان إمام المسلمين وأمان الإسلام، فحتى لو كنت آمناً فإنك تأمن بأمان إمام الكفار، أي أمان حاكم كافر وسلطان كافر وليس بأمان إمام مُسلِم، أما الشرط الثالث وهو مُهِم هو أن تتاخم هذه الدار ديار الحرب والكفر من غير توسط بلاد إسلامية، وطبعاً متاخمة هذه الديار لديار الكفر يجعلها أقل حصانة وأضعف ويمكن أن تُجتاح في أي لحظة، أي أن يُجتاح فيها المسلمون في أي لحظة وأن يرتفع أمانهم إذا اُعطوا أمان، وهذه شروط ثلاثة صعب جداً أن تتحقق ولذلك – عرفني الله وإياكم بحقائق هذه الأمور وعصمنا من التهور والتدهور في مهاوي التطرف والجهالة – الإمام بهاء الدين الإسبيجابي – نسبة إلى إسبيجاب وهى من بلاد الترك وهو من أئمة الأحناف أو الحنفية في القرن السابع الهجري – لما سُئل عن بعض البلاد الإسلامية التي دهمها التتار وغلب عليها المغول هل استحالت إلى ديار حرب أو ديار كفر وشرك قال لا، لماذا؟ قال لأن يؤذن فيها والقضاة فيها من المسلمين وتًصلى فيها الجمعة والجماعات وتتاخم بلاد المسلمين، ثم قال – رحمة الله على الإمام بهاء الدين الإسبيجابي – وقد تقرر أن بقاء شيئ من العلة يُبقي الحكم، فواضح وجود استظهار بأحكام الإسلام ووجود نوع من السيادة للمسلمين ووجود أمن للمسلمين وعدم وجود مُتاخَمة فإذن هذه تبقى ديار إسلام طبعاً، لكن لماذا نرجح نحن في هذه الحالة مثل المذهب الحنفي؟ هل تعرفون لماذا؟ أولاً ترجيحاً لجانب الإسلام، ألا يسعدك وألا يطمئنك ويرضيك أن تكون هذه الديار محسوبة للإسلام وللمُسلِمين؟ هل يرضيك أن تكون ديار كفر وحرب وأن يهجرها المُسلِمون وألا تُقام فيها الجُمع وألا يُدافع عنها وألا وألا؟ ما هذا الكلام؟ هذه ستكون – كما قلت لكم – أحسن هدية وأحسن ما تقر به عيون أعداء الأمة وأعداء الإسلام حين تحكم عليها كلها بأنها دار حرب ومن ثم تحدث المشاكل، ومن هنا نقول هذا ترجيحاً لجانب الإسلام لحديث الدارقطني وغيره الذي يقول الإسلام يعلو ولا يُعلى عليه، فإذن نقول هذا ترجيحاً للإسلام أولاً وثانياً احتياطاً للدماء والأعراض والأموال، هل تعرفون ماذا معنى أن تحكم على الديار بأنها أصبحت ديار حرب؟ هناك أحكام كثيرة سوف ترفع العصمة، ولذلك العلامة المصري الكبير الشيخ عبد الوهاب خلاف – رحمة الله تعالى عليه – حين تكلَّم عن مناط الحكم على الدار بأنها دار إسلام ودار حرب قال المناط هو انقطاع العصمة، أي هل تُوجَد عصمة أم لا تُوجَد عصمة، فهذا هو المناط وهو ما يُعبر عنه بلغة مفهومة بالأمن والفزع وقيام الحقوق وحياطتها، وعلى كل حال نقول هذا احتياطاً للدماء والأعراض والأموال، وأيضاً لناحية أصولية – كما قال الإسبيجابي – مُقرَّرة وهى أن بقاء شيئ من العلة يُبقي الحكم، فالحكم أنها ديار إسلام!

لقد أدركنا الوقت وفي الحقيقة لا أحب الآن أن أصدعكم مزيد تصديع لسائرأقوال الأئمة، ففي مسألة هل تستحيل دار الإسلام إلى دار حرب وشرك لدينا ستة أقوال يُمكِن أن نذكرها ونأتي عليها ولكن هذا الموضوع أصبح تخصصياً، فقط نريد أن ننتهي إلى نهاية لكي تُفكِّروا فيها، فأنا اقترح ما لدي وأقول ما فتح الله به علىّ، وقد أكون مصيباً وقد أكون مخطئاً – الفضل كله بيد الله والملامة دائماً تُعزى إلى العبد – لكن فكِّروا فيه وحاولوا أن تُمعِنوا فيه النظر.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.

إخواني وأخواتي:

وعدتكم أن أتكلَّم عن دار الحرب وعلاقتها بدار الكفر، وبعض الفقهاء بل ربما في الحقيقة جماهير الفقهاء من الحنفية بالذات ثم الشافعية والحنابلة يطابقون أو يُوشكون أن يطابقوا بينهما، فعندهم دار الكفر هى دار حرب، وقد يتعرض مُعترِض منكم والحق معه في جانبه ويقول هذا أمر عجيب، فلماذا يُقال هذا والواقع والتاريخ يقول ليس بالضرورة أن تكون ديار الكفر هى ديار حرب بل يمكن أن تكون (ديار صلح كأن يكون بينا وبينها تمثيل دبلوماسي وعلاقات مشتركة فتكون ديار هدنة وديار موادعة وما إلى ذلك؟ لماذا يُقال هذا؟ واضح أن الجواب يكمن في أن الجماهير كانوا يتلمحون الواقع المعيش، في الواقع المعيش لم يكن يُنظر إلى المسلمين – ليس المسلمين وحدهم لكن هكذا كانت العلاقات – على أنهم أمة من حقهم أن يعيشوا مُستعلنين بدينهم وبشرائعهم وبقوانينهم. والأكثر من هذا يمكن أن تعودوا إليه بالتفصيل في كلام العلّامة المصري والقانوني الكبير محمد حافظ غانم الوزير الأسبق للتعليم العالي في مصر رحمة الله عليه، فهو عنده مُحاضَرات تدرس في الجامعة العربية – محاضرات مهمة جداً ومتينة – إسمها مُحاضَرات في العلاقات الدولية الإقيلمية، يقول فيها الأستاذ البروفيسور Professor محمد غانم حافظ أن القانون الدولي إلى وقت قريب جداً وإلى مطالع القرن العشرين – تحديداً إلى الثلث الأول من القرن العشرين – لم يكن يُتعاطى مع الشعوب الإسلامية والأمم الإسلامية على أنها شعوب وأمم ودول تُعامل بمقتضى ما يُعرف بالقانون الدولي، بل خارج مُقتضى القانون الدولي، فيُنظَر لها على أنها شعوب همجية وأنها دول بربرية ومن ثم يحث ويحفز ويدعى إلى استعمارها وأكلها لأنها لا تستأهل أكثر من ذلك، وهذا أمر عجيب، لكن هذا رجل قانوني كبير ويعرف ماذا يقول، وما أكَّد كلامه أن مؤسس القانون الدولي الحديث كما يُقال – في الحقيقة لي خطبة سابقة عن هذاوإن شاء الله وعدتكم بخطبة أو ربما بمُحاضَرة أوسع لكي نُثبِت أن الذين أسسوا القانون الدولي هم المسلمون، فهم أسَّسوه تأسيساً علمياً متيناً جداً وخاصة فقهاء الحنفية، وخاصة محمد بن الحسن الشيباني وليس الهولندي هوجو جرتيوس Hugo Grotius صاحب الكتاب الشهير جداً قانون الحرب والسلام، لكن هكذا يُقال لنا، فإذا سألت أي أحد فإنه سوف يقول لك مؤسس القانون الدولي الحديث هو هوجو جرتيوس Hugo Grotius – هوجو جرتيوس Hugo Grotius في كتابه – أشهر كتاب له – قانون الحرب والسلام دعا إلى ونادي إلى عدم مساواة الدول والشعوب المسيحية بالشعوب والدول غير المسيحية، فهو قال لا يستوون أبداً، ودعا وحفز الأمراء المسحيين والملوك إلى التكتل في وجه أعداء العقيدة وهو بدرجة أولى يريد المسلمين، فقال لابد أن نقاتلهم ولابد أن نستبيحهم، فرانسوا الأول François Ierملك فرنسا حين عقد المعاهدة الشهيرة – يُمكِن أن تدخلوا على أي موقع وأن تتحدَّثوا عن العلاقات الفرنسية العثمانية The Franco-Ottoman – في ألف وخمسمائة وخمس وثلاثين عقد معاهدة مع سليمان القانوني الذي يُسمونه بالأعظم أو الأكبر هنا في أوروبا، وكبار القانونيين الدوليين في بلاده أنحوا عليه باللائمة ولاموه على رؤوس الأشهاد وقالوا كيف يفعل هذا؟ كيف يجرؤ على هذا؟ وحين تقرأون أنتم بنود معاهدة سليمان القانوني مع فرنسوا الأول François Ier فإنكم سوف – صدِّقوني -تجدون أن مُعظَمها لصالح الفرنسيين، فهى تُعطي امتيازات هائلة ورهيبة للرعايا الفرنسيين في الإمبراطورية العثمانية بطريقة غير مسبوقة قبل ذلك الحين، لكن هؤلاء فعلوا هذا بسبب التعصب وقالوا المُسلِمون ليسوا مثلنا وليسوا أمماً تستحق أن تُقاد وفق مقررات القانون الدولي الناشيء الوليد الجنين، ثم قال هذا حدث لأن هذه المعاهدة في شكل تعاون ولا يسوغ التعاون مع المُسلمِين، وهذا أمر عجيب، إذن عليكم أن تنتبهوا إلى هذا لأن الآن للأسف بعض أبنائنا وبعض أولادنا يتنطَّعون إلى سب الإسلام ووصم الفقه الإسلامي وسب فلان وعلان من الإئمة ويقولون لك هذا الإسلام ودين حرب ودار حرب ودار سلام وما إلى ذلك، فيا رجل تواضع وافهم وادرس، فنحن نقول له افهم لكنه لا يفهم شيئاً، فهو لا يفهم التاريخ ولا يفهم أي شيئ، ومن هنا نقول له أنت يا رجل تؤذينا، أنت – والله – مؤذٍ جداً جداً جداً، أنت تسب نفسك وتنسلخ من جلدك وكأن الآخر ما شاء الله من يوم يومه هو الآخر كما هو اليوم، وكأن من يوم يومه كان عنده حقوق الإنسان ولديه قانون دولي وأمم متحدة، لكن في الحقيقة لم يكن لديه هذا، هذا شيئ طارئ جداً جداً ووليد، هذا لا يزال طفلاً وأشبه حتى بالخداج، وأنتم تفهمون ما أرمي إليه.

إذن كانوا يتلَّمحون الواقع، والواقع أنه ما من كافر تقريباً إلا ما استُثنيَ إلا ويُعلِن الحرب على الإسلام ودولة الإسلام ويريد أن يجتثها، قال تعالى وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ ۩، والمُخاطَب هم الصحابة، أي النبي وأصحابه، فهكذا عقدوا العزم على أن يجتثوهم لكن الآن ألم تقع وتتفق معاهدات ومصالحات بين ديار الإسلام حتى أيام رسول الله وبين بعض المُشرِكين؟ بلى، هذا حصل في الحديبية وغير الحديبية وبشكل جزئي مُفرَق ومُفصَل ومع النصارى أحياناً ومع اليهود أيضاً حين قدم المدينة، والإمام الشافعي قال وادعهم على غير جزية وعلى غير مال كما كان يقول في الأم، وهذا جميل جداً، فإذن وقع هذا، ومن أجل هذا الذي وقع جاء السادة الشافعية بالذات وقالوا الدور ثلاثة: دار إسلام ودار حرب ودار عهد، والسادة الحنفية قالوا لا نُنكِر أن هناك دار عهد لكن دار العهد هى دار حرب، فالقسمة تبقى ثنائية، أي دار إسلام ودار حرب، فهم قالوا دار العهد لا تخرجها المعاهدة عن كونها دار حرب في الأصل فتبقى مشمولة في عموم الكلمة، وهذا الكلام ليس دقيقاً في الحقيقة، فهل تعرفون لماذا؟ يُمكِن أن يكون وجه الصحة فيه أنهم منعوا أن تكون المُعاداة مفتوحة، أي لا إلى مدة بمعنى أن تكون أبدية، فهم قالوا هذا غير صحيح، ثم اختلفوا في المدة التي ينبغي أن تنتهي إليها المُعاهَدة والمُهادَنة والمُوادَعة والمُصالَحة، فبعضهم قال عشر سنين كما فعل النبي في الحديبية وليس بمُلزِم وبعضهم قال غير ذلك، وعلى كل حالالذي أحب أن أقوله – وهذا آخر ما أدلي به إن شاء الله تعالى والله المستعان – أنه لا يخفى على بصير وعلى مُتتبِع بل على مَن له بادئ النظر في التطور التاريخي للبنى الدولية أن العالم اختلف كثيراً، فإذا كان السادة الفقهاء في الماضي يرون أن المُسلِم من الصعب جداً أن يأمن بين غير المسلمين فالواقع اليوم هو العكس تماماً، ونحن الآن نرى اللاجئين السوريين المنكوبين وحالتهم الذي لا أقول أنها تُبكي بل – والله – تُقطِّع القلب – أقسم بالله – وتُقرِّح العين وتُدمِّر الإنسان، اذهبوا وانظروا ماذا يحدث لهم هنا وهناك، والله المستعان في كشف هذا البلاء، فهؤلاء وأمثالهم ونحن منهم أيضاً نأمن في هذه الديار ما لا نأمن في بلاد المسلمين والإسلام، أليس كذلك؟ ولدينا – كما قلت لكم – في كندا وفي استراليا وفي أمريكا الشمالية وفي أوروبا مساجد ولدينا مُصليات ونستعلن بديننا ونظهر بالحجاب والنقاب والجلباب ونُقيم الصلوات بشكل عادي دون أي مُشكِلة بفضل الله تعالى، فهم ليس لديهم مُشكِلة مع كونك تصلي وتصلي في مسجد وتذهب تحج وتعتمر وتصوم رمضان وتُصلي التراويح وتلبس زيك، هم ليس لديهم مُشكِلة مع هذا كله ولكن لديهم مُشكِلة مع الإرهاب ومع القتل ومع استباحة أموالهم ومع استباحة دمائهم ومع التحريض عليهم، وحُقَّ لهم أن تكون لهم مُشكِلة مع هذا، وليس هذا جزاء من أسدى إلينا يداً وأسدى إلينا معروفاً، لكن – كما قلت لكم – نحن الآن آمنون، فنحن نأمن هنا تماماً على طريقة الماوردي والشربيني وابن حجر الهيثمي، ونحن هنا في دار إسلام على طريقة هؤلاء لكن نحن لا نتعاطف مع هذا، وأيضاً هذا لا يسر من نحن بين ظهرانيهم، فهم يقولون هل غلبتمونا على بلادنا؟ هل صدقتم أنها أصبحت داراً لكم؟ أين نحن؟ فنحن نتعاطف مع هذا لكن نقول هذه الديار من الباطل ومن الغالط – واضح الغلط هنا – أن يُقال أنها دار حرب، هذا غير صحيح، فهذه الديار يأمن فيها المسلمون، صحيح ليس بأمان سلطان المسلمين لكن أنا أقول لكم وليس بأمان حاكم الدولة، وإنما بأمان القانون الدولي، فانتبهوا لأن هذا وضع جديد جداً، فنحن نأمن بأمان القانون الدولي، ولا يستطيع الآن حزب يميني – ورأيتم ماذا حصل لحزب يميني هنا في النمسا – مُتطرِّف أن يجاوز الخطوط الحُمر وأن ينتهك مُقرَّرات إنسانية أوجبها القانون الدولي، وإلا تسقط مباشرةً حكوماته وقد يُقدَّمون إلى مُحاكَمات دولية، فهم يتحرَّكون في إطار محدود، إذن هنا يُوجَد شيئ الآن فعلاً إسمه القانون الدولي المرعي تقريباً والمفروض على سائر الدول والأمم بقوة وبأخرى فنأمن بمقتضاه ونقيم شعائرنا ونستعلن بهذه الشعائر ونُطبِّق الشرائع ما وسعنا بفضل الله تبارك وتعالى، ومن ثم نجد – مثلاً – المسالخ الإسلامية والمذبوحات، وقد كنت قبل فترة في لندن وجدت في كل مائتين أو ثلاثمائة متر عبارة حلال، فهذه احتلها الباكستان والمسلمون وما إلى ذلك وفي كل مكان يكتبون حلال، ومع ذلك يقولون لك هذه دار حرب، فكيف هذا؟ هذا غير صحيح بالمرة، هذه لم تعد دار حرب، ومن هنا قد يقول لي أحدكم فما هى القسمة الآن إذن؟ أنا أقول لكم ليس ثمة مانع لا من أصول الشرع ولا من مقرراته يمنع من أن نجعل القسمة قسمة جديدة بالكلية فلا نقول دار إسلام تُقابِلها دار كفر ودار سلم تُقابِلها دار حرب أو دار إسلام تُقابِلها دار حرب، بل بالعكس نحن نتحدَّث بلغة الدول الآن، فهناك دول مثل الدولة الكذائية والدولة العلانية وهذه الدول إذا نظرنا إلى طبيعة العلاقة معها من حيثية السلم والحرب فسوف نجد أن تقريباً كلها أو معظمها بإطلاق في حالة سلم مع الدول والكيانات الإسلامية، فهذه الدول كلها تقريباً ليس لديها غرض في إجتثاث الإسلام كإسلام وكدين أو تكفير المسلمين فيعودوا عن دينهم أو أن يُفتنوا في دينهم، كيف يُقال هذا وهى التي تفتح لكم المساجد والجامعات الإسلامية وكليات تخريج الأئمة وتُطبع فيها المصاحف مُترجَمة وغير مُترجَمة وتسمح بإقامة الشعائر الإسلامية لديها، فكيف يقال هذا؟ هذا كلام باطل وكذب على الواقع، فعلينا أن نعيد النظر في المسألة لنُنقِذ صورة الإسلام أولاً ثم لنُنقِذ عالم المُسلِمين من هذه الكوارث والدواهي التي لا تزال تدهوه وتكرثه من حوالي أربعين سنة ثم لنُنقِذ أيضاً الأبرياء معصومي الدم والأموال والأعراض في كل مكان.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن ينفعنا بما علَّمنا وأن يُعلِّمنا ما ينفعنا وأن يزيدنا فقهاً وعلماً ورشداً.
اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا ميتاً إلا رحمته ولا مريضاً إلا شفيته ولا أسيراً إلا أطلقته ولا غائباً إلا رددته ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه ولا حاجةً من حوائج الدنيا والآخرة لنا فيها صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها ويسَّرت قضاءها برحمتك يا أرحم الراحمين.

اغفر لنا ولوالدينا وللمُسلِمين، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

أصلِح ذات بيننا واذهب الغِل والحسد والحقد والغش من قلوبنا، اللهم أنت أصلحت الصالحين فأصلِحنا لك بما أصلحت به عبادك الصالحين، اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك إلهنا ومولانا رب العالمين، وجنِّبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وسلوه من فضله يُعطكِم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

                                                                                                                   (انتهت الخُطبة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: