إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَهْدِيهِوَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المباركين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَن نُّؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ۩ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ ۩ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ۩ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ۩ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ۩ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

سؤالٌ نبدأ به وهوكيف ربى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ كيف علَّم صلى الله تعالى عليه وآله وسلم؟ سؤالٌ يبدو تقليدياً بالمرة، وهو سؤالٌ معهود ومأنوس ومطروق، بل صنَّف فيه جماعةٌ من العلماء في القديم والحديث تصانيف وكتباً عن رسول الله المُعلِّم وعن رسول الله المُربي، ويبدر ويطفر إلى الواجهة حين يُطرَح أمثال هذا السؤال أشياءُ كثيرة من ضمنها ما يتعلق بالعبادة مثل كيف نتوضاً وكيف نُصلي، ومن ضمنها ما يمس جانب المُعامَلات والآداب الاجتماعية واللياقات مثل كيف يُسلِّم بعضنا على بعض وكيف نأكل وكيف نشرب وكيف تبدو هيئتنا وزينا ومظهرنا، فحين نأكل لابد أن نبدأ باسم الله وأن نختم أكلتنا بالحمدلة وفيما ذلك أن نأكل مما يلينا،  إلى أمثال هاته الأشياء التي كلها تدل في التربية النبوية، ولكن أين الجوهر؟ أين الروح؟ كثيرٌ منا يتشبث بأذيال هاته التعاليم وتلكم الآداب الرفيعات العاليات لكننا لا نرى نتاجاً أو نتيجةً ذات وزن في مسالكنا كمسلمين وفي طرائقنا وفي تعاطينا مع أنفسنا ومع الآخر، يبدو أن وزننا لايزال خفيفاً جداً وباعتباراتٍ شتى، والسبب – والله أعلم – أننا ضيعنا الجوهر، فالنبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – مُستلهِماً كتاب الله – تبارك وتعالى – ومُنطلِقاً منه علَّم – وهذا أصلٌ أصيل في تعليمه – أتباعه وأصحابه وأمته أن يكون أحدهم مُستقِلاً مُتحرِّراً إلا مِن صوت ضميره الذي رباه على هدى كتاب الله – تبارك وتعالى – وغذاه بالمُراقَبة وتعاهده بالإصلاح الدائم لا بالكلام والشعارات والتذاويق والزخرفات، فهذه هى التربية الحقيقية، ومن هنا كان الجيل الأول من أصحابه – رضوان الله تعالى عليهم – جيلاً ذا مزايا عجيبة وذا نتائج مُدهِشة، فهذا الجيل البسيط الذي خرج من رحم بلاد ساذجة وبسيطة أيضاً لم تعرف كثير حضارة وتمدين ولم تتصل أسبابها بأسباب الفلسفات والعلوم والفنون إنما كانوا يعيشون حياةً ساذجة بسيطة وأقرب إلى البداوةِ إن لم تكنها نجح وأفلح في فترته هو – أي في جيل الصحابة – أن يبسط نور الله – تبارك وتعالى – وأضواء الشريعة الخاتمة في جزءٍ كبير من المعمور – وكما قلت – بشكلٍ مُعجِب، لكن للأسف تعودنا أن نتلقى هذا الكلام بطريقة أشبه بالتي أطرحها الآن، وهى طريقة وعظية تمجيدية احتفالية تبجيلية أضرتنا ولم تنفعنا، فابتذلنا هذه الحقائق ولم نُحاوِل أن نُفكِّكها أو نتعمقها أو نسبر أغوارها، فقط كلام نحفظه عن عدل الصحابة وعن عظمة الصحابة وعن عفة الصحابة وعن تقوى الصحابة وعن وعن وعن وعن وعن كذا مما يُضاف إلى الصحابة، لكن أين انعكاسه الحقيقي في حياتنا؟ ليس سهلاً بالمرة أن يتسلَّم إنسان ذروة سُلطة وألا يستبد ويظلم، ولا أتحدث عن السُلطة التي تسلَّمها عمر بن الخطاب وهى سُلطة إمبراطورية بالتعبير الشائع لأنها كانت سُلطة على بضع عشرة دولة، ثم يعيش ويموت فقيراً مُتواضِعاً، فهذا بالمرة ليس سهلاً، وإذا أردنا أن نقيس هذا إلى ما نعيشه نحن الآن كبشر في هذه الأعصار فهذه مُعجِزة المعاجز، هذه مُعجِزة حقيقية والله الذي لا إله إلا هو، لكن لماذا؟ اليوم سلِّم أحد الناس سُلطة محقورة صغيرة على شيئ لا وزن له وسوف ترى الاستبداد والتسلط والإقصائية والإلغائية والفساد، سواء كان ذلك على دولة أو في وزارة أو على قرية أو على عزبة، وهذا شيئ غريب، ولذلك هذا الكلام نحن نقوله ولا نفهمه، حين نتحدث عن الصحابة وعن عظمة الصحابة وعن عظمة التربية المحمدية لا نفهمه، بل نحن نبتذله لأننا فرغناه من معناه بالابتذال وبكثرة التكرار المواعظي، فلم نرسم تحدياً حقيقياً تحدياً حقيقياً، وإلا أين هى مناهجنا وخططنا وأفكارنا وتنظيراتنا التي يُمكِن أن تنجح في تحويل هاته الأشياء وهاته المواعظ إلى برامج تربوية حقيقية في أمة تدعي أنها أمة التوحيد وأمة الإسلام وأمة النزاهة والتقوى والعفة والإخلاص؟ هذا كلام وهذه شعارات، لكن قتلتنا وذبحتنا واستنزفتنا هاته الشعارات.
الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – كالقرآن تماماً – سواء – يضع المسلم والمسلمة إزاء مسئولياته بشكل مُباشِر بلا وساطة، ويقول له أنت مسؤول، وهذا – كما قلت قُبيل أيام – هو جوهر التربية النبوية والقرآنية، وهذا أيضاً ما لا يُقال لنا ولم نتعلمه، بل بالعكس نحن تعلمنا وتعودنا على الصيغة المُعاكِسة تماماً للصيغة التي أُريد أن أسهب في شرحها في هذا المقام إن يسر الله تبارك وتعالى، ولكن كيف؟!

من الشائع جداً عند العوام في كل العالم الإسلامي وبالصيغة العامية الملحونة أنهم يقولون “ضعها في رأس العالم واخرج منها سالم”، طبعاً المفروض واخرج منها سالماً، لكن هذه عامية ملحونة، وعلى كل حال هذا كلام باطل، هذا كلام محقور ومزريٌ عليه، هذا الكلام كارثي، لكن علينا أن ننتبه إلى أن هذا الكلام العلماء يُدرِّسونه ليس بهذه الصيغة الملحونة ولكن بصيغ أخرى كثيرة، فهم علَّموا الناس “خذوا علمنا ودعوا عملنا” فلا عليكم من هذا، ما شاء الله، وذلك لأننا كائنات مُجرَّدة كالملائكة أو كالعقول المُجرَّدة، على اعتبار أننا كائنات مُجرَّدة ونتعامل بالعقل المحض –   Pure أو Reine – ونستقطر الحكمة استقطاراً من بين كل ما شعَّثها وغبَّشها، وهذا غير صحيح، نحن لسنا كذلك، هذا كذب بل أن هذه أكبر أكذوبة، فنحن بني البشر ونحن بني آدم – هذا في البشر بالذات – لا نستطيع أن نكون على هذا النحو، حتى النبي لحمٌ ودم وطين وماء يعتكر، وكان يقول لا تذكروا لي أصحابي إلا بخير، فإني أُحِب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر، أي أنني حين يصلني كلاماً وتصلني أشياء فإنين أعتكر وتهجس في قلبي هواجس وتأخذني الظنون، وذلك لأنه بشر فهو ابن آدم عليه الصلاة وأفضل السلام، فكيف نحن الضعفاء؟ ومع ذلك قالوا “خذوا علمنا ودعوا عملنا” وهذا كلام فارغ، ومن ثم علينا أن ننتبه إلى أن هذا دفاع عن العلماء الفاسدين، دفاع من العالم الفاسد عن موقفه الفاسد وعن موقعه كعالم للسلطان أو عالم الجماهير، علماً بأن كلاهما سواء، فالعالم الذي التزم بتأبيد سُلطة السلطان هو عالم فاسد –  ومعنى أنه التزم أي أخذ على نفسه تعهداً، فهذا هو معنى التزم من الناحية النظرية، فالالتزام دائماً نظري لكن اللغة العامية تذكر الالتزام في سياق عملي لأنها لغة عامية – والعالم الذي التزم بدغدغة عواطف الجماهير وإرضاء الجماهير فقط وتسكين الجماهير وتخدير الجماهير هو عالم فاسد أيضاً وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فالعالم الصالح هو عالم واحد وهو  الذي التزم بالحق وبالعدل وأن يقول ما يُرضي الله – تبارك وتعالى – وأن يقول ما يُرضي ضميره وما يسكن به وله ضميره، هذا العالم الصالح لا يحتاج إلى مُبرِّرات وعى الناس وتزييف وعي الناس والدفاع عن موقعه الباطل كعالم مُلتزِم مرة بالسلطان ومرة بالجماهير، هو ليس كذلك بل بالعكس هو يقول لك أنا مُلتزِم بالحقيقة، لأن هذا العالم مُلتزِم بالحق وبالعدل ومن ثم يقول أنا لا أحتاج إلى تزييف وعي الناس بل بالعكس أنا أحتاج أن أضع الناس كما وضعهم كتاب الله وسُنة الحبيب المُصطفى – صلى الله عليه وآله وسلم – إزاء مسئولياتهم، وهذا شيئ عجيب، وكأني لأول مرة أتنبه قُبيل أيام في مُحاضَرة إلى أن القرآن الكريم بشكل واضح يصرخ في وجوهنا ويقول أنتم معاشر المُؤمِنين والمُؤمِنات ومعاشر المُسلِمين والمُسلِمات مُكلَّفون، ولكن قد يقول لي أحدكم وأين الجديد؟ نحن نعرف هذا، وهذا غير صحيح، وربي لا تعرف هذا جيداً ولا نحن نعرفه جيداً،أنا كأنني أكتشفته، فهل تعرف ما معنى مُكلَّف؟ أنك مُكلَّف كما هو محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – مُكلَّف، فمحمد كان مُكلَّفابكل ما كُلِفت به ولم يستثنه الله، لكن ما معنى هذا؟ معنى هذا أن “ضعها في رأس العالم واخرج منها سالم، وعبد مأمور” كله ثقافة باطلة، وهذه الثقافة علمائية وسلطانية فاسدة، ومن ثم أفسدت هذه الأمة المحمدية وجعلتها تستقيل من أداء دورها وجعلت ضميرها تنخره الخرافات والزيوف والأفائك، فضمير هذه الأمة وضمير الواحد منا مأكول ومنخور بسوس الأفائك السلطانية والأوهام والزيوف العلمائية للأسف الشديد، لكن نحن لا نتعاطى على أننا مُكلَّفون، فالذي يقول “عبد مأمور” هو يقول أنا لست مُكلَّفاً، فالذي سيُحاسَب هو الذي أصدر إلىّ الأمر، ونحن نقول له أنت تُكذِّب الله، أنت مُكلَّف يا رجليا مسكين ولا ينبغي أن تقول “عبد مأمور”، وهل عبد مأمور تعني أنك غير مُكلَّف وأنك موضوع عنك القلم أو أن قلم التكليف على عاتق مَن أمرك؟ هذا كلام باطل، فماذا علَّم النبي في حديثه المشهور؟  والعجيب أن هذه التناقضات والمُفارَقات تتساكن في أدمغتنا وتتجارى على ألسنتنا بكل وداعة وتعايش دون أن نشعر أنها مُفارَقات وأنها تناقضات وكأنها شيئاً عادياً، وذلك لأننا فقدنا الحس النقدي أو الحس الانتقادي، فلا حس انتقادي لدينا، بمعنى أن عقلنا مُعطَّل وكذلك الضمير مُعطَّل وهذه كارثة مُزدوَجة، فالعقل يُمكِن أن يُعطَّل وذلك في كل الدول وليس فقط في العالم العربي والإسلامي الآن المُتخلِف وإنما حتى في العوالم المُتقدِّمة، وكل الدول بلغة ألتوسير Althusser لديها سلاحان، لديها السلاح المادي وهو سلاح القهر والقوة القهرية المادية الملموسة الخشنة، ولديها الإجهزة الأيدولوجية التي تُعيد برمجة الأفكار وإنتاج قطاع كبير من الثقافة ولديها جهود كبيرة تنصرف أيضاً إلى تأبيد الطاعة والامتثالية وذلك لكي يمتثل الجمهور ولكي يُطيع لكن بمُبادَرة ذاتية، فهو مُقتنِع بهذا في حين أن وعي هذا المسكين يُزيّف دون أن يدري، لكن على كل حال كل الدول لديها مثل هاته الأجهزة الأيدولوجية والرمزية وهذا أمر معروف، ونحن طبعاً لدينا الكثير، فإذن قد يُزيّف عقلي وعقلك، لكن يجب أن يكون الضمير صاحياً، وهو يصحو بماذا؟ بالإيمان اليقظ وبخشية الله الحقيقية وبتقوى الله الحقيقية وأن يكون الله في قلبك وليس على لسانك كما يُقال، لذا أنا أتعجب أحياناً بل أنا أكاد أُجَن أحياناً من رجل يحلف لك الأيمان المُعظَّمة والله يعلم أنه كاذب وهو يعلم أنه كاذب وعما قليل نحن نعلم أنه كاذب، وهذا شيئ غريب، فلماذا إذن؟ كيف يجتريء هذا المُؤمِن – أو الذي يدعي أنه مُؤمِن – على ذلك؟ لأن الله على لسانه وبالتالي هذا سهل عليه ويُمكِن أن يُلفَظ فيقول بإسم الله مقسوماً به، وذلك لأن الله ليس في قلبه،فلو كان الله في قلبه فإنه لا يستطيع أن يفعل هذا، بل لو فُصِلَ رأسه عن جسده فإنه لا يستطيع أن يفعل هذا، ولكن هذه هى مُصيبتنا لأننا نحن إلى الآن نعيش كطور طفولية، أمة وأجيال وآحاد وأفراد نعيش الطفولية، ولا نشعر بأننا مُكلَّفون حقاً ولذلك لسنا جادين، فمن المُكتشَفات التي أشعر أنني اكتشفتها هكذافي السنة الأخيرة فقط هى أننا شعرت بأننا كأمة وكقادة – إلا ما رحم ربي وقليلٌ ما هم – لسنا جادين في شيئ، لذلك حتى خطابنا هو خطابنا مُفرَغ ودوغمائي وجماهيري وشعبوي وبسيط وساذج، وأنا أفهم أن العامي والفلاح الغلبان والعامل ليس عنده أي وقت وقت، وبالتالي لا يقرأ ولا يتعلم ولا يتثقف ولا يفكك ولا يتعمق، لكن ماذا عنك وأنت العالم  وأنت الداعية وأنت الأستاذ الجامعي وأنت حامل الشهادات التي ترتزق من خلالها؟لماذا لا تقرأ؟ لماذا لا تتعلم؟ لماذا لا  تتعمق؟ لماذا لا تُجدِّد نفسك؟ لأنك لست جاداً، فبكل بساطة نخن لسنا جادين، نحن ندعي الكلام وندعي الفهم وندعي الإخلاص وندعي أننا نُريد أن نعمل، فهذه كلها ادعاءات إلا ما رحم ربي، فلسنا جادين وذلك على عكس الصحابة تماماً، والسبب لماذا لسنا جادين؟ هذا مُجرَّد توصيف مُؤذي مُقلِق، ولكن السبب هو لأننا لا نشعر بأننا مُكلَّفون، فكل واحد عنده سلسلة طويلة وقائمة مُقترَحة من الاعتذارات والتعليلات، فيقول الواحد منا لست مسؤولاً وإنما هم المسؤولون، فهم الذين هم في المُهِمة وفي الـ Charge، أما أنا فلست مسؤولاً، ثم أنني لو كنت مسؤولاً فالثقافة المسؤولة – هكذا رُبينا – وبالتالي لا علاقة لي بهذا حتى لو تأدى بنا الأمر إلى القتل والذبح والتكفير، فهكذا طُلِب منا وهكذا رُكِّبنا، هكذا حُقِنا وزُقِقنا كما يُزَق البط والدجاج بهذه المعلومات وبهذه الأفكار الكارثية السوداء، فدائماً ما يُقال  إذن أنا لست مسؤولاً، فدائماً هناك مسؤولٌ آخر، وهذا غير صحيح، هذا تكذيب لكتاب الله، فالنبي يعلِّم استفت قلبك وإن أفتاك المُفتون، وفي رواية وإن أفتاك الناس وأفتوك وأفتوك، وهذا شيئ عجيب، لكن العلماء يُعلِّمون “حطها في رأس العالم واخرج منها سالم”، فأُصدِّق مَن أنا الآن؟ هل أُصدِّق هؤلاء المُهرطِقين وهؤلاء الفاسدين المُفسِدين؟ فهؤلاء فاسدون ومُفسِدون لأن هذه الأفكار لا تصدر إلا من فاسد وهو يُريد أن يُفسِد وعي الناس وضمائرهم فيقول حطها في  رأسنا، لكن لماذا يُقال هذا؟ هل ضميرك أكبر من ضميري؟ هل ضميرك بحجم جيل؟ أنت لا ضمير لديك، وواضح أنك عالم تحت الطلب، فتبيع نفسك لمَن يدفع أكثر، وتعرض نفسك وتبيعها بيع السابري، فيعرض النظريات والأفكار والفتاوى ويبيعها بيع السابري، كأنه يقول هذا ما عندي ولكم أن تحدسوا بما هو أبعد وبما هو أعمق، لكن لماذا أتخلى عن ضميري؟ لماذا أستعير ضميرك؟ أنا لا أستعير لا عقلك ولا ضميرك -المفروض – ولا لسانك، فالنبي علَّمني ليقل لي قلبي، وبالتالي لابد أن أصدر عن قلبي أنا.

لذلك يُوجَد ظاهرة مُحيّرة وفي نفس الوقت تجلب العار والشعور بالعار Shame، فأنت تشعر بالعار يُجلِّلنا من المفرق إلى الأخمص، وهذا عار حقيقي، فالجماهير سادرة ولاهية ولاغية وتعبانة ومسكينة، وقد ضاعت منها البوصلة، فلا خريطة طريق ولا مُخطَّط هدائي بين يديها، فتُصفِّق لهذا العلم ولهذا الداعية ولهذا الشيخ، ومن ثم نقول لهم هذا الشيخ يُسبِّح بحمد السلطان، فيقولون لا بأس، هو شيخ وشيخ، فلحيته كبيرة ولسانه طويل مبري ويعرف ويستحضر النصوص، لكن هؤلاء طبعاً مساكين، ففي الغد ينقلب هذا الشيخ ويصبح ضد هذا السطان وبالتالي يدعو إلى قتله وإلى ذبحه، لكن لماذا؟ لان الشعب انقلب فصار الآن ثائراً، والجماهير نفسها تُصفِّق له وتُؤيده وتُرسِل دموعها حارة سخية وهذا شيئ عجيب، ونحن نقول لهم  هذا تغير بسرعة فهل أنتم تغيرتم؟ هل مُبرِّراته نفسها هى عندكم؟ ولكنهم يقولون لا ندري ولكنه شيخ ولديه لحية كبير، وهذا أمرٌ عجيب، فما الذي يحصل؟!

إذن هؤلاء ليسوا بشراً وليسوا أفراداً وليسوا أبناء آدم المُكلَّف المُستخلَف في هذا الكون، يستحيل أن الله يستخلف أمثال هؤلاء، فهؤلاء كعوا ونكصوا وتراجعوا عن شرف الخلافة في الأرض، هؤلاء مُستخلَفون عند أسيادهم وليس عند رب العالمين، لكن علينا أن ننتبه إلى أنه من المفروض أن تكون مُستخلَفاً عند ربك، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ولو اجتمع مَن بأقطارها، ولكن قد يقول لي أحدكم كيف لي أن أعرف هذا؟ وأنا أقول له سيدك النبي – صلى الله على سيدنا  وآله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً – علَّمك وقال استفت قلبك وقال أيضاً مَن كان له من قلبه واعظ كان عليه من الله حافظ، فلو كنت صادقاً ولو راعيت إيمانك في قلبك لأعطاك الله نوراً تمشي به في الناس وتُفرِّق به بين الحق والباطل، لكنك لم تفعل لأنك لست جاداً مثلهم وعلى شكالتهم، يا ويلنا واحسرتاه، فعلاً واحسرتاه!

إذن هذا ما علمَّنا إياه النبي عليه الصلاة وأفضل السلام، في الحديث الذي ذكرته أكثر من مرة – ولابد أن نُبديء به ونُعيد، لأن العامة أيضاً لم تتأنس سماع هذا الحديث بألفاظه ولا تعرف معناه، فالعلماء لم يفعلوا هذا لأن هذا الحديث لا يهمهم كثيراً – قال النبي وأهل النار خمسة، الضعيف الذي لا زبر له، الذين هم فيكم تبعاً، لا يبتغون مالاً ولا أهلاً ولا ولداً، ولكن ما معنى هذا؟ المُراد هم الجنود، جنود الأيدولوجية وجنود السلطان وجنود الأحزاب وجنود التشكيلات والطوائف وإلى آخره، فالواحد منهم جندي يُقال له اقتل فيقتل واذبح فيذبح، فالنبي قال هذا أول واحد من أهل جهنم، وهذاعكس ما يُعلِّم الفقه العلمائي – إلا ما رحم ربي – والفقه السلطاني، هذا عكسه تماماً لأن هؤلاء علمونا – كما قلت لكم – أنن عبيد مأمورون وأننا ضعفاء، وهذا غير صحيح، فالقرآن يقول لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۙ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ۗ  ۩ وامصيبتاه، إذن الله يقول أن الذي يُضَل عن جهل هو في النار، لكنه قد يقول وماذا عن الذي ضللني؟ أين عدل الله؟ ونحن نقول له هذا عذابه مُضاعَف، فعلينا أن ننتبه إلى هذا، فهذا له عذاب الضعف، أولاً له عذاب لأنه ضالٌ و ثانياً له عذاب لأنه مُضِل، أي لأنه ضل في نفسه وأضل غيره، ومن هنا قد تقول أن ليس لك علاقة به وليذهب إلى ستين داهية وهذا صحيح، فليذهب فعلاً إلى ستين داهية بل إلى ستين مليون داهية، فهذا شيطان في جثمان أنس، فهو ضال ومُضِل ويعمل عند أبليس وهو مُستخلَف عنده، فهووكيل عن أبليس وليس لرب العالمين – لا إله إلا هو – وبالتالي فليذهب إلى ستين مليون داهية، ولكنك قد تقول وما ذنبي أنا؟ لكن هنا لا يُوجَد لعب ولا يُوجَد فقه سلطاني هنا ولا فقه تزييف وعي ولا فقه قطيعي ومن ثم يُنتِج قطيعاً، فالقرآن لا يُنتِج قطيعاً، القرآن يُنتِج بشراً مسئوولين  وأفراداً أحراراً وأمماً، فكل منهم أمة وحده، قال الله إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً ۩، والنبي كان يقول  معاذ بن جبل أمة وحده، وكذلك الحال مع أبي ذر فهو أمة وحده وهكذا، فهذا هو القرآن وهذا هو الإسلام إذا أردنا الإسلام وإذا أردنا محمداً الذي نحتفل بذكراه – صل الله على محمد وآل محمد إلى أبد الأبدين – الآن.

إذن هذا هو الدين الحق وليس دين السلطان ودين العلماء الكذبة الفسدة المُزوِرين المُزيفين وأدعياء العلم والصلاح، لا كثَّر الله في الأمة من أمثالهم، فالواحد من هؤلاء سوف يحمل وزره ووزرك، أي أنه سوف يحمل وزرين، وأنت سوف تحمل وزراً واحداً لأنك ضللت، ولكن إن أصبحت رأساً مثله فسوف تحنل وزرين، فإذا كنت تدعو إلى ما يدعو إليه وكنت فيلسوفاً ما شاء الله فسوف تحمل وزرين، تقول الآية الكريمة إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ۩، فأنت قد تقول أنا عملت من أجله، أنا بعت ضميري وبعت شرفي وبعت ديني وبعت آخرتي من أجله، ولكن السؤال هل هو نقدك الثمن أم لم ينقدك؟ سوف تقول في المُعظم نقدني بعض الثمن وأعطاني دُريهمات ووظيفة  ووظف لي ابني – مثلاً – وابن خالتي، إذن انتهى كل شيئ، فأنت ليس عندك الله شيئاً، والآن يأتي الحساب، فأنت بعت الله وبعت الآخرة وبعت محمداً وبعت القرآن من أجل هذا المحقور الفاسد المُجرِم الذي يُريد أن يضمن سُلطته وأن يُعزِّزها وأن يُدعِّمها على حساب الناس وحياتهم وأوطانهم وشرفهم ودمائهم وأعراضهم وآخرتهم وكل شيئ، فأنت بعت نفسك له وبالتالي انتهى والآن جاء الحساب يوم القيامة، وأول مَن يتبرأ مِنك هو هذا الشيطان، تقول الآية الكريمة إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ ۩ فهؤلاء قليلو الحيلة ومُزيفو الوعي وضحايا الجهل والكذب وضحايا الكذب على أنفسهم، ومن هنا يجب أن ننتبه إلى هذا، ولكن قد يقول لي أحدكم ما هو ذنبهم؟ عندهم ذنب لأنهم كذبوا على أنفسهم، والنبي حين قال لك استفت قلبك كان يعلم هذا جيداً، وحاشا لله، حاشا لله، حاشا لله أن يجعل هدايتك فقط في صحائف وأوراق، أوراق الفقه وأوراق التشريع وأوراق الأيدولوجية، فهنا يُوجَد مُصحَف في القلب وبالتالي هذه هداية من الله لكل إنسان، لكن اجلس بصدق وتعلَّم، وهذا هو معنى  اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩، فنحن نقول كل يوم في السبع عشرة الركعة مفروضة اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩ وفعلاً  اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩ فلا نضل ولا تغضب يا رب العالمين، فاللهم اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩.

لو دعوت بحقٍ وصدق تُهدى والله الذي لا إله إلا هو، ووالله الذي لا إله إلا هو لو استفتيت قلبك بحقٍ وصدق – أقسم بعزة جلال الله لتعرفن الحق –  ولو خالفك كل الناس لأن قلبك سيُخبِرك، فما رأيك؟ ومن هنا يجب أن ننتبه إلى أن هذا ما يُعلِّمه محمد والقرآن أيضاً، فحاشا لله –  الله أعدل العادلين لا إله إلا هو – أن يضلنا، فالله لا يُضِل أحدنا، ومُستحيل أن يقول سيدخل الذي ضلَّ وأُضِل في نفس المكان ولم يجعل للذي أُضِل وكان أمياً وجاهلاً ومسكيناً ولا زبر له ولا يستطيع حتى أن يدفع عن نفسه خُطة هداية، فهذه الخُطة موجودة، ولكنك قد تقول لي أنا لا أقرأ في المُصحَف لأنني أُمي، لكنه في القلب يُوجَد أيضاً، فما رأيك؟ فهذا موجود عند القلب الصادق، تقول الآية الكريمة يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا ۩، قال أبو حامد في ميزان العمل معنى قوله  فُرْقَانًا  ۩، أي جعل له ميزاناً يعرف به القلب ويُفرِّق به بين الحق والباطل، لكن عليك فقط أن تتق الله، أما إن كنت لا تتقي الله فأنت لا تحتاج إلى الهداية أصلاً  لأنك أنت غير سائل عن المسألة كلها، فأنت ليست مسألتك الله والدار الآخرة وإنما مسألتك الدنيا، والدنيا طرقها كثيرة ومن ثم اذهب وتوكل على الله بدون أي مُشكِلة، لكنك تُريد الدنيا وتُريد السُلطة وتُريد أن تبيع نفسك لمَن يُعطي ولمَن يدفع ولمَن يكفل ولمّن كذا وينتهي كل شيئ، ومن هنا الله لن يُبالي في أي الأودية تهلك، فإذا كنت  لا تُريده  فهو أيضاً لا يُريدك، أما إن كنت تُريده فحاشاه – لا إله إلا هو – أن يُضيعك وحاشاه أن يُسلِمك لا إله إلا هو.

فلذلك هذا أول الخمسة الذين تُؤجَّج بهم نار جهنم حسبما قال النبي، فالنبي قال وأهل النار خمسة، الضعيف الذي لا زبر له، فهو من أهل جهنم، علماً بأن القرآن هو الذي يقول هذا، فالنبي لا يأتي من عندياته بشيئ أبداً وحاشاه، وإنما هو يستلهم ويستنطق ويستشير القرآن.

لذلك أنا تلوت في مُقدَمة هذه الخُطبة التي أسأل الله أن يتقبَّلها بقبولٍ حسن وأن يُبارِكها وأن ينفخ بها فيّ وفيكم روحاً جديداً قول الله وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ۩، وكم تُعجِبني هذه الآيات وكم تُعجِب هذه الآيات، فالله يقول وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ۩، وقد سمعتم الآيات، فالمُستضعف يلوم وينحى باللائمة على المُستكبِر، والمُستكبِر يقول له لا لأنني أنا لم أضربك على يد قلبك ولم أُرغِمك ولم أُكرِهك، أنت كنت تخدم باطلي يا رجل بإخلاص، وفعلاً والله بإخلاص، فالذي يكتب التقارير والذي يأكل الأموال ويتسلَّم الرُتب العاليات ويتأدى بالناس إلى المشانق والسجون وهتك الأعراض هو يخدم بإخلاص، فلا تقل لي لا لم أكن أخدم بإخلاص، هذا كذب، لكنني أُصدِّقك أنك كنت تعلم أيضاً أنه شيطان، وهذا يزيد في الطنبور نغمة، فأنت كنت تعلم أنه شيطان وكان قلبك يقول لك هو شيطان وأنت تخدم شيطاناً من شياطين الأنس  يضل بعضهم بعضا، وهذا يزيد في عذابك ويزيد في قيدك وفي وثاقك – والعياذ بالله – وليس أكثر من هذا وليس أقل، فهذه هى الحقيقة.

نعود إلى موضوعنا، النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – ربَّى هذه التربية حين قال لا يكن أحدكم إمعة يقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أساءت، وهذا ما يحدث الآن، فهناك مَن يقول “أنا مع الناس، المنصور ما عليه الجمهور-  وهذا كلام علمائنا – ابحث عن الكثرة ثم اركض معها”، وهذا غير صحيح لأن الموضوع لا يتعلَّق بالسواد أو بغير السواد، وهذا فيه شيئ خطير وطبعاً فيه جانب حق، فالواحد من هؤلاء يقول لك لماذا تنتقد هذا في حين أن أمة محمد لا تجتمع على ضلالة؟ فنعم أمة محمد لا تجتمع على ضلال ولكن عليك أن تنتبه أن هذا في حق أمة محمد وليس في حق جماعة في بلدك أو طائفة أو نظام حكم أو حزب ثم تأتي وتقول لي أمة محمد، فهل هذه أمة محمد؟ هل وصل عدد أمة محمد إلى نص مليون أو اثنين مليون أو عشرة مليون فقط؟ أمة محمد مُكوَّنة من مليار ونصف، فانظر إذن إلى الجوامع المُشترَكة بين أمة محمد، فهناك جوامع دقيقة – فعلاً قطعية – ومحدودة ومعدودة، غير ذلك فكلها مسارح نظر ومُعتركات أنظار ومسالك أقدام أيضاً ومُوجِبات أوهام يضل فيها الخِرِّيت، ولذا النبي قال فاستفت قلبك وإن أفتاك المُفتون،وعُد إلى مُحكَمات الكتاب والسُنة، عُد إلى أصول الدين التي ما ينبغي أن تُتجاوَز لكي تعرف الحق من الباطل، فلا تتورط في القتل وهتك الأعراض وذبح الأبرياء ثم تقول لي يُوجَد فتوى ويُوجَد أولويات، وهذا غير صحيح لأن دائماً الأولوية للإنسان، إي والله – فضمن أي منظومة تبقى الأولوية للإنسان.
رأينا طواغيت كباراً وهم من الفنانين ما شاء الله، فيلعبون الموسيقى ويضربون على الآلات ولكنهم في ذات الوقت من الطواغيت الذين يذبحون الناس، فبماذا ينفع هنا الفن والروح والموسيقى؟ هذا كلام فارغ، إذا أنت لا تُقدِّم الإنسان وحياة الإنسان – حياة الإنسان أول شيئ – ثم حريات الإنسان وكرامة الإنسان فأنت شيطان، ليس بإسم الدين وإنما بإسم كل دين أنت شيطان.

يقول لك أحدهم هذا إنسان نزيه وعفيف وعادل ومُتقلِّل وزاهد  وهذا صحيح لكنه يُؤيّد ذبح الناس، فإذن هو شيطان، ماذا فعل بزهده؟ أو يقول أحدهم هذا زاهد ولا يرتدي الكراڤتة مثلك يا شيخ وليس عنده مرسيدس Mercedes، وهذا صحيح ولكنه يُؤيّد ذبح البشر بإسم الأيدولوجية وبإسم الحسابات السياسىة، فهو يذبح البشر اللي من أجلهم خُلِقَ الكون وما فيه، فكيف يُؤيِّد القتل؟ كيف يسمح بقتل النفس بغير حق؟ لكنه يُؤيِّد قتل الأبرياء وقذف الأبرياء من السماء ومن الأرض، الأبرياء الغلابة والشيوخ والعجزة والنساء والأطفال يُذبَحون، فأي أيدولوجية هذه التي تُبرِّر قتل هؤلاء؟ ما هذا الدين؟ ما هذه العقلية التي لدينا؟ هذا شيئ غريب، لكن ما الذي حصل لما زُيِّفَ وعى هذه الأمة أيضاً؟ حصل أنها – للأسف الشديد – استبدلت بتقديس الله وبوحدانية الله تقديس السلطان ووحدانية السلطان، فلم يعد عند أمتنا الإسلامية تحسس من نوع خاص إزاء حاكم يُورِّث الكرسي لأبنائه وأبناء أبنائه وهكذا عبر مائتين وثلاثمائة وخمسمائة وستمائة سنة، فهذا أصبح عادياً ومقبولاً تماماً ولا تُوجَد أي مُشكِلة فيه، ولكن علينا أن ننتبه إلى أن هذا ليس فقط في العصر الوسيط وإنما في العصر الحديث وإلى اليوم أيضاً، فما رأيكم؟ وهذا ليس في الإسلاميين فقط وإنما وفي العلمانيين أيضاً، فنحن عندنا كارثة، يُوجَد ثقب كبير ونحن نتواحد فيه، وهذا الثقب الكبير لا تتماسك معه الحقائق المُفيدة الناجعة في أدمغتنا، علماً بأن هذا الثقب له طابع ثقافي وهو ثقب هائل ومُخيف، فالأذكياء من الدارسين لاحظوا هذا وقالواعجيب شأن الأمة المحمدية، فشأن هؤلاء المسلمين عجيب، لكن لماذا هو عجيب؟ أين العجب فيه؟ قالوا هم دائماً يُطالِبون بإزاء الاستبداد بالعدل، وهل يُطالِب بإزاء الاستبداد بالعدل؟ ما الذي يُقابِل الاستبداد؟ المُشارَكة والديمقراطية، والآن قد يقول لي أحدكم لم أفهم شيئاً، وأنا أعرف هذا ومن ثم سوف أُوضِّح.

أنا بالأمس كنت مع أحدهم وهو مُثقَّف وجامعي وأكاديمي، وكان يُحدِّثني عن النظم الديكتاتورية والشمولية وما إلى ذلك، فقلت له هل تتفضل بتوضيح الفرق؟ فقال المعنى واحد، فشمولي مثل توتالي مثل ديكتاتوري، فقلت له هذا غلط وليس صحيحاً، ثم اهتبلتها وافترصتها فرصة وقلت له هذه هى مُشكِلتنا، فنحن – كما قلت لك – ندعي، ندعي أننا نفهم وأننا نقرأ وأننا نتكلم، لكن الأمور ليست واضحة لدينا، فلماذا لم نُربَّى – كما قلت لكم – منذ نعومة الأظفار على الحس التساؤلي فنتسائل إزاء كل ما لا نفهم وإزاء المُفارَقات وإزاء التناقضات؟ لماذا لا نُفكِّك الأشياء إلى أصولها؟ فنحن لم نترَّب على هذا، لذلك – كما قلت ألف مرة – نقرأ القرآن ولا نفقهه، ونظن أننا نفقهه حتى إذا فُوجئنا بسؤال بسيط جداً عن جزء عم لم نفهم ونقول هذا – والله – صحيح ولكننا لم نفهم هذه الآية على الرغم من أننا سمعناها مليون مرة ومع ذلك لا نفهمها، وهذا شيئ عجيب، فكيف لم  تتساءل مرة إزاء الآية؟ ما هذا العقل الكسول؟ هذا العقل مُستقيل، وهو عقل خمول نائم.

المُهِم هو أن هذا الشخص الذي كنت أُحدِّثه قال لي علَّمني إذن، فقلت له هذه سهلة، هناك علاقة عموم وخصوص مُطلَق، فكل نظام شمولي هو يدكتاتوري بالضرورة، لكن ليس كل نظام ديكتاتوري هو شمولي، فقال لي لم أفهم فقلت له أن معنى كلمة ديكتاتوري أنه مُستبد، لكن ما معنى مُستبِد؟ معنى هذا أنه أوتوقراطي Autocratic، فيُوجَد حاكم واحد بأمره، فسواء عَدَلَ أو ظَلَمَ هو ديكتاتور، وبالتالي علينا أن ننتبه إلى أن هذا هو النظام الديكتاتوري الاستبدادي، فسواء عَدَلَ أو ظَلَمَ: يبقى ديكتاتورياً ويبقى مُستبداً، لكن ما معنى المُستبِد؟ هو الذي يصدر عن رأيه وحده، فحتى لو استشار ألفاً لا يُعجِبه كل هذه الآراء ويصدر عن رأيه، ومن ثم نقول له أنت مُستبد، فهذا هو معنى الاستبداد الذي يجب أن نتنبه إليه سواء عَدَلَ أو ظَلَمَ، وهذا أيضاً يُسمونه بالحكم الفردي أو بحكم الفرد المُطلَق، أي Autocracy، والصفة منه Autocratic، وطبعاً من الواضح أن هذا الحاكم الفرد المُطلَق يحتكر ماذا؟ يحتكر السياسة والعمل السياسي تقريباً كله، فإذا تعدى السياسي واحتكر الاقتصادي وجمع إليه الاجتماعي وأجزاء كثيرة من الثقافي فهو ماذا؟ فهو التوتالي والكُلاني والشمولي، لذلك كثير من الحكام هم ديكتاتورين ومُستبِدون، فالنظام في الاتحاد السوفيتي سابقاً كان شمولياً، فلم يحتكر فقط السياسة وإنما احتكر أيضاً الاقتصاد والاجتماع والفلسفة والأدب والرواية وغير ذلك، فمن الممنوع أن تكتب رواية مثل دكتور زيفاجو Doctor Zhivago  وتأخذ نوبل Nobel، هذا ممنوع وإلا تذهب إلى السجن مُباشَرةً، خاصة إذا كان هناك بعض الأفكار البرجوازية وبعض التعاطف مع البرجوازية، فالمُهِم هو أن هذا كان ممنوعاً وأُعدِمَ مئات ألوف البشر في الاتحاد السوفيتي، فهل تعرفون لماذا؟!

قلتها مرة ربما هنا، ولكن على كل الحال الجواب هو لأنهم يضعون نظارات، فالواحد من هؤلاء يقول لك وضع النظارات سمة مُميزة للبرجوازيين الرأسماليين وبالتالي ذبحوهم، ولو قلت له يا أخي هذا شيوعي مثلك، فسوف يقول لك ولكنه يضع النظارات، ونحن لا نضع النظارات، فلماذا يضع هو النظارات إذن؟ وهذا جنون.

في الاتحاد السوفيتي كان يُصنَع لك حذاؤك، علماً بأن هناك أحذية نمطية بأرقام مُختلِفة لكن بنفس النمط وبنفس الألوان، وبالتالي هى محدودة جداً وخياراتهم محدودة، وهكذا تُصنَع لك أفكارك،  فإذن هذا نظام كُلاني وتوتالي وشمولي .
قال لي مَن كنت أُحدِّثه والله لم أكن أعرف هذا، فقلت له هذه مُصيبتنا لأننا  لا نعرف شيئاً ولم نتعود أن نتساءل، وإنما فقط نُردِّد دون أن نفهم أشياء كثيرة، فهناك أشياء كثيرة لا نفهمها.

أعود إلى موضوعي وأتساءل: هل بإزاء الاستبداد نُطالِب بالعدالة؟ ومن هنا قد يقول لي أحدكم هذا معقول، لكن لماذا هذا معقول؟ لأن فعلاً هذا المُستبد قد لا يكون عادلاً، وهنا يأتي السؤال الذي يجب أن ننتبه إليه وهو متى يكون المُستبد عادلاً أو متى كان بالأحرى؟ علماً بأن ليس لدينا خطر التجريب وإلا فهذه مُصيبة، فلا يُمكِن أن نُجرِّب الآن مرة أُخرى بعد ألف وأربعمائة سنة، فقد جُرِّب فينا عبر ألف وأربعمائة سنة، ولكن متى يكون المُستبد عادلاً؟ يكون عادلاً بنسبة واحد على مليون أو على مليار،  فهذا يحصل في حالات نادرة جداً، كأن تعطي سُلطة مُطلَقة لواحد مثل عمر بن الخطاب أو عمر بن عبد العزيز ثم يعدل، فهذا نادر جداً جداً جداً جداً، على الرغم من أن  نظامهم لم يكن أوتوقراطياً بالكامل، بل كان فيه شيئ من الشوري ولكن يعني السمة العامة هى أنه كان نظاماً فردياً وهذا ما يجب أن ننتبه إليه حتى نكون واضحين مع الحقائق التاريخية، فهذا كان نظاماً فردياً أيضاً، فلا تقل لي أن نظام الحكم كان ديمقراطياً وإنما كان فردياً، لأن الديمقراطية عندها ست خصائص يجب أن تتحقَّق ولكن هذا موضوع ثانٍ، وعلى كل حال الست الخصائص إذا اكتملت فهى الديمقراطية الليبرالية المُستقِلة، وإذا واحد منها اختل يختل النظام وتُصبِح صورة من الصور التي تُنازِع الديمقراطية، فالديمقراطيات بشكل عام سبعة، وهذا هو التفكير العلمي، فهذه أشياء دقيقة وليست لعباً بالكلام وبالمُصطلَحات، فلا تقل نظام ديمقراطي، لكن عمر بن عبد العزيز هداه الله  فكان رجلاً مهدياً، أما نحن فحين نُقابِل الاستبداد بالعدل ونُطالِب بالعدالة إزاء المُستبد فإننا نُراهِن على ماذا؟ على الفرس الذي جرَّبنا خسرناه ألف مرة، فلماذا نرفع الرهان على فرس خاسر؟ هذا الفرس دائماً يخسر ويخسر ويخسر وييخسر، لكن المُقابَلة الحقيقية هى أن إذا كان هناك نوع من الاستبداد أو إذا وُجِد حاكم مُطلَق بأمره فالذي ينبغي أن يُقابِله حقيقةً هو التشاركية والمُساءلة، علماً بأن إحدى سمات الديمقراطية الليبرالية المُستقِلة الستة المُساءلة، فلا يُوجَد نظام فوق المُساءلة، من رأس النظام إلى قاعه يخضع الكل للمُراقَبة والمُساءلة، فعندك برلمان – مثلاً – يُسائل الكل، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه وإلا – مثلاً – يلتسن Yeltsin وبوتين Putin جاءوا  بديمقراطية انتخابية وبصناديق كان فيها حد كبير من النزاهة، ولكن إذا انعدمت المُساءلة وكانت صفراً – مثلاً – فلن تكون هذه ديمقراطية كاملة، هذا غلط وكذب لأن هذه مدخولة، وبالتالي  هذه لا تكون حتى ديمقراطية مُستقِرة وإنما تكون هشة ضعيفة، وهذا ما يجب أن ننتبه إليه، فهتلر Hitler جاء بديمقراطية الصناديق ولكنه قلبها إلى ما تعلمون، فليست الديمقراطية هى الصناديق فقط، فلا ينبغي أن نقول أنن فوزنا بالصناديق بنسبة اثنين وخمسين في المائة وينتهي كل شيئ، هذا غير صحيح، ليس هذا هو الصحيح، فهناك ست خصائص لابد أن تتوفر.

على كل حال نعود إلى موضوعنا، إذن لماذا نحن خسرنا الرهان ولا نزال  نُراهِن وسنخسر؟ قطعاً نخسر وسنخسر إذا ظللنا نُراهِن على هذا، لكن هل تعرفون لماذا؟!لأننا ضيعنا الحقائق البسيطة الواضحة، فالقرآن علَّمنا إياها ولكن نحن ضيعناها ولم نُفهَّمها ولم نُحِب أن نتعمقها، الله يقول كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۩ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ۩،إذن هو قال الإنسان ومن ثم يجب أن ننتبه إلى هذا، ولذلك أنا أتعجب من طريقة المُفسِّرين الذين يقولون أن المقصود بقول الله  كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ ۩ هو أبو جهل، أبو جهل مَن؟ وأبو لهب مَن؟ الله يقول الْإِنْسَانَ ۩ والإنسان من أعم الألفاظ في كتاب الله هو والناس، فكلمة إنسان وكلمة ناس من أعم الألفاظ، وجمع الإنسان هو ناس وليس الجمع هو إنسانون وإنما ناس، فهذا أعم الألفاظ فرداً وهذا أعمها جماعةً، وعلى كل حال الله يقول إِنَّ الْإِنْسَانَ – مُؤمِناً كان أم غير مُؤمِن وتقياً أم غير تقي – لَيَطْغَى ۩ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ۩، فما أعظم كتاب ربي، الله يقول اسْتَغْنَى ۩، مين ولكنه اسْتَغْنَى ۩عن مَن؟ هل المقصود أنه  اسْتَغْنَى ۩عن ربه؟ المقصود هو أنه اسْتَغْنَى ۩ بالمُطلَق، كأن نضع فرداً في في موضع مُعين بحيث أنه يستغنى عنا، فلماذا استنغنى؟ لأننا وضعناه في قمة هرم السُلطة، فهو الذي ينقر ولا يُنقَر مثل قصة الدجاجة التي تعرفونها جميعاً، وذلك حين تضع دجاجة مع دجاجة ويبدأ الكل في نقر الكل، فالذي يُنقَر مِمَن فوقه يقوم بنقر مَن تحته وهكذا حتى نصل إلى دجاجة في قعر عالم الدجاج أو مُجتمَع الدجاج – الفراريج – تُنقَر من الكل ولا تنقر أحداً، فنحن – والله – مثل هذه الدجاجة لأن الكل ينقرنا، في الداخل وفي الخارج وعلى أيدي الاستعمار والاستبداد وعملاء الاستعمار وعملاء الاستبداد، فنحن نُنقَر ولا ننقر، فضلاً عن أنه ينقر بعضنا بعضاً طبعاً، على كل حال هذه هى القصة في جوهرها، فالله قال كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ ۩ لأن هذا ينقر ولا يُنقَر وذلك لأنه في قمة الهرم ومن ثم استغنى عنا بل أصبح يضرب بعضنا ببعض ويذبح بعضنا ببعض، وهذا الأمر يجب أن ننتبه إليه، فنحن سكاكين بعضنا البعض، وبالتالي هذا الحكام فاسد ومُجرِم وطاغية  Tyrant، هذا أصبح طاغية وأصبح دموياً، لذلك أنا أقول لكم – وأنا أول الناس ولا أستثني نفسي – أنك إذا أعطيت أحدهم هذه السُلطة المُطلَقة فإنه سوف يتحول بقدرة قادر وبنسبة 99,9999999 في المائة إلى طاغية، فما رأيك؟ ولذلك نحن نقول أن عمر هذا كان مُعجِزة، ولكن علينا أن ننتبه إلى أن لم يكن مُعجِزة بذاته وإنما مُعجِزة بأمثال أبي ذر وسلمان وعليّ وفلان وعلان، ومن هنا قيل له من أين لك هذا يا عمر؟ لن نسمع ولن نُطيع حتى تقل لنا من أين لك هذا؟ أي أنهم غضبوا عندما أحسوا بشيئ من عدم العدل، فقال لهم لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها، وأنتم تعرفون هذه القصة، فعمر كان عنده هذا الضمير الصاحي.

عمر بن عبد العزيز يكتب له الجراح بن عبد الله من خرسان – ولي على خرسان – قائلاً يا أمير المُؤمِنين لقد فشى في الناس تعنت وتأبٍ، وأنه لا يُصلِحهم إلا السوط والسيف، فإن أذنت لي، والسلام، فقال له بلغني كتابك وقد كذبت – أي أنك كذاب، فهل أنت أتيت لكي تُعلِّمني كيف تُدار الناس؟ – بل يُصلِحهم الحق والعدل، فابسط فيهم ذلك، والسلام.

لكن أين الآن هذا؟ أين أمثال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز؟ هل سنجلس وننتظر عشرة آلاف سنة أُخرى حتى يأتي لنا عمر أو يأتي لنا المهدي؟ هذه هى مُصيبة العقل المسلم، فهم يُريدون المهدي ويُريدون عمر ولكي يحرروا بلادهم يُريدون صلاح الدين، وهذا لن يحدث، فلن يأتي هذا ولن يأتي هذا ولن يأتي هذا حتى وإن غضبت الشيعة وغضبت السُنة، لن يأتوا إلينا، فإذا لم نكن نحن مهديي أنفسنا ومهديي فكرنا لن يأتي – والله أي أحد، لأن الله لا يشتغل بهذه القوانين وبالتالي يجب أن ننتبه، فهذه قوانين هبلة وغافلة، والله لا يسمح لك أن تعتقد اعتقاداً يُعطِّلك تماماً ويجعلك كماً مُهملاً مئات ربما لآلاف السنين بسبب هذا الاعتقاد، فحاشا لله أن يفعل هذا، لكن الله يقول لك هذه مسؤليتك فاحملها ولن يحملها سواك، وإن لم تحملها فسوف تُسأل عنها يوم القيامة، وإن حملتها وفرَّطت فيها فأنت مسؤول لأن كل شيئ بحساب، وهذه هى التربية الحرة المُستقِلة، فهذه ليست تربية القطيع وتربية القطعان.

إذن الحقيقة البديهية الواضحة المُتمثِّلة في قول الله كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ۩ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ۩ لم تفهمها الأمة، وهى لا تُريد إلى اليوم أن تفهمها، ولذلك تسلِم وتُسلِس قيادها بسهولة، ولكن الحمد لله لدينا نوع من الاستبشار بسبب ما يحدث الآن، فأنا مُستبشِر في الداخل – والله – من العراك حتى الذي يحدث في مصر، أنا لست شامتاً – حاشا لله – وإنما فقط أنا مُستبشِر، فلا تسمحوا لأحد أن يغتال حرياتكم ولا تسمحوا لأحد أن يلتف على الديمقراطية، لكن قد يقول أحدهم هذا الشيخ مجنون، كيف يُدافِع على منبر رسول الله عن  الديمقراطية؟ ولكنني أعرف هذا الإسلام التقليدي وأعرف هؤلاء، فليس لنا أي كلام معهم، الله يهدينا ويهديهم، وعلى كل حال نحن نفهم جيداً ماذا نقول، فهناك مَن يعتقد أننا نتحدَّث عن تحليل المُحرَّمات بإسم الديمقراطية وهذا غير صحيح، فنحن نتحدث عن إدارة شأننا العام، عن أمة تحكم نفسها وتُراقِب نفسها وتُساير نفسها بنفسها وتُدير شؤونها بنفسها، فهذه هى الديمقراطية، وليس المُراد هو تحليل اللواط والشذوذ، فما هذه العقليات الممسوخة؟ هذا شيئ غير معقول!

قال اللورد أكتون Lord Acton – كما قلت لكم – أن السُلطة إذا كانت مُطلَقة فإن المفسدةً تكون مُطلَقة، لكن ما هى تكملة كلمة اللورد أكتون Lord Acton؟ قال وفي الأرجح الرجال العظماء هم رجال حقراء، أي أنه يُريد منا أن نفهم أن في الأرجح الذين يصلون إلى الحكم ويُصبِحون رجالاً كباراً في الدولة هم في الحقيقة أحقر عباد الله، هؤلاء فاسدون لأن النظم كانت فاسدة ولأن الشعوب تسمح بهذا الفساد.

لو طرحنا سؤالاً – اطرحه على ابنك وإن كان من الصعب أن يفهمه، ولكن من الضروري أن تفهمه أنت وأن تُجيب عنه – يقول ما هو الشيئ الذي يحمل الأب على أن يقتل ابنه فيذبحه ويُسيّح دمه وكذلك يحمل الابن على أن يقتل أباه والأخ على أن يقتل أخاه والزوجة على أن تقتل زوجها والزوج على أن يقتل زوجته وآخره؟ ما هذه المجازر الرهيبة؟ أنا أقول لكم أن الجواب يتعلَّق بشيئ واحد يفعل هذا كله وهو السُلطة.
أثقلت عليكم بهذا الكلام وكنت مُنفعِلاً فاسمحوا لي واغفروا لي، لكن سأختم بأقاصيص سريعة تُذكِّركم بثقل هذه الحقيقة حين تُترجَم في الواقع وذلك حتى لا نُراهِن على الرهان الخاطيء، فنحن نُطالِب بالديمقراطية وبالتعددية وبالتشارك ولا نُطالِب بالعدالة، فهذا إسمه الوعي الزائف لأن إذا كان الاستبداد موجوداً فأنا لن أُريد العدالة لأنني لو طالبت بها سيدل هذا على أن وعيي كان مُزيفاً، فليس هذا هو المطلوب، وانظروا إلى حال إسبانيا والشعوب المُثقَّفة، وهذه إسبانيا وليست ألمانيا مثلاً، ولكنكم رأيتم ماذا حدث في إسبانيا أيام الجنرال فرانكو Franco وتعرفون ماذا حصل بعد ذلك حين ذهب الرجل وتحولت إلى ملكية دستورية مثل بريطانيا وأتى خوان كارلوس Juan Carlos بعد فرانسيسكو فرانكو Francisco Franco، لكن ما الذي حصل؟ أيام الجنرال فرانكو Franco كم كانت نسبة البطالة؟ تقريباً صفر في المائة وكانت إسبانيا أحسن دولة في أوروبا لعدم وجود بطالة، فالكل يشتغل طوال الوقت Full-time،  لكن مع الملكية الدستورية بدأت تنجم البطالة، فكم بلغت نسبة البطالة في مُنتصَف الثمانينات؟ بلغت نسبة البطالة عشرين في المائة ثم ازدادت، وكل الإحصاءات قالت لا تراجع لأن الشعب يُريد ذلك، فهو لا يُريد الاستبداد وإن أتى برغيف العيش، ولذلك هذا الشيئ كريم فعلاً، لكنهذه الأمة المسكينة – أمتنا – لم تقرأ حتى هذه التجربة البسيطة، وظلت تُطالِب بالعدالة خلال ألف ومائتين سنة وتقول أنها تُريد العدالة وهذا غير صحيح، فينبغي أن نُطالِب  بالديمقراطية في الأول وهى سوف تأتي بكل ما نُريد، وكذلك ينبغي أن نُطالِب بالحرية وبالتشارك وبالرأي وبالاستقلال ومن ثم سوف يأتي كل شيئ.

سوف نرى ماذا فعلت السُلطة ولكن في الخُطبة الثانية، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

 

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد إخواني وأخواتي:

الإمبراطور الروماني الشهير والكبير يوليوس قيصر Julius Caesar سكنه هاجسٌ من أن زوجه ليفيا Livia ستقتله وستقضي عليه من أجل السُلطة ومن أجل لعبة السُلطة، فلماذا؟  ليفيا Livia لديها ولدٌ – تيبيريوس Tiberius – من زوجٍ آخر وتطمع أن تجعله يخلف زوجها في الإمبراطورية، وبالتالي كان يخاف منها وكان لا يأكل شيئاً من تحت يدها إلا بعد أن يطعمه الخدم، فحتى ثمار حديقة القصر كان لا يسمح بأن يقطفها إلا هو، فيقطفها بيده المسكين لأنه يخاف من زوجته بسبب السُلطة، وهذا كله  بسبب لعنة السُلطة لأن السُلطة لعنة مهما كان الإنسان تقياً، فوالله الذي لا إله إلا هو السُلطة تُغيّر كل أحد وأُقسم لكم على هذا، قسماً بالله –  نحن نُقسِم على أكثر من تسعة وتسعين في المائة – أن السُلطة تُغيّر كل أحد، فإذا أعطيت إنساناً سُلطةً وأطلقت يده فإنها تُغيّره وتُفسِده، في نهاية المطاف التاريخ يقص علينا أن هذا المسكين قضى أيضاً ضحيةً – لا نقول شهيداً – مسموماً بيده زوجته، أي أنها نجحت، لكن كيف هذا؟ حقنت الأثمار بالسم دون أن يكون لديها أي مُشكِلة في هذا، فقد أحضرت سماً في إبر ثم حقنته في الثمر هنا وهناك ليلاً، فجاء المسكين في ثاني يوم من تاليه وتناول عدداً من الثمار فمات، ومن ثم فرحت وولت ابنها تيبريوس Tiberius، علماً بأن تيبيريوس Tiberius تُنسَب إليه بُحيرة الطبرية، فلماذا يُسمونها الطبرية؟  نسبةً إلى تيبيربوس Tiberius – أي طِيباريوس – الإمبراطور الروماني الشهير ابن ليفيا Livia الملعونة ومُتبنى هذا الغلبان الشهيد أو الضحية، وعلى كل حال صار إمبراطوراً لكنه لم يكن حظه أحسن من حظ زوج أمه، فحفيده بالتبني هو كاليجولا Caligula – وهنا قد يُصدَم بعضكم من هذه الأسرة لأن حفيده هو كاليجولا Caligula الرهيب ولكن بالتبني – خنقه ليلاً وهو نائم، ومن ثم أصبح هو إمبراطور روما، فرغم أنه حفيده بالتبني ورغم أنه أنفق عليه كثيراً إلا أنه لا فائدة، فهذه هى السُلطة التي تفعل ما هو أسوأ، ولذلك كاليجولا Caligula قتله خنقاً، لكن كاليجولا Caligula ائتمر به جماعة فأوعزوا إلى مجموعة من الحراس والعساكر في دهليز القصر فمزقوه بالخناجر ونصبوا وفقاً للخُطة الأديب الكبير والفيلسوف والمُفكِّر كلوديوس Claudius، ولكن كلوديوس Claudius سوف يموت مسموماً على يد زوجته، فهى دست له السم من أجل ابنها نيرون Nero – هنا قد يُصدَم بعضكم مرة ثانية ويقول يا ويلتاه لأن ابنها الذي سيتولى الحكم هو نيرون  Nero الذي أحرق روما – الذي كانت تقول عنه أنه هو الإمبراطور.
فهذا هو التاريخ إذن، لكن قد يقول لي أحدكم أن هذا تاريخهم هم في الخارج وليس تاريخنا نحن ولكن هذا غير صحيح، فتاريخنا نحن أسوأ من ذلك – والله – لكن لو عرفناه، فتاريخنا مُخيف جداً وأنا سوف أعطيكم معلومة بسيطة الآن، واذهبوا واختبروها واستقروا التاريخ، وهى “الذين ماتوا ميتة طبيعية في تاريخنا من السلاطين معدودون، والبقية ماتوا قتلاً من عند آخرهم”، فما رأيكم؟ اقرأوا التاريخ إذن، ففي تاريخنا الأم تقتل ابنها، وهنا قد يُصدَم البعض من قلب هذه الأم، لكن هذا القلب من صخر ومن نار جهنم وليس قلباً لأم، ومثالنا على هذا الخيزران، وهنا قد يقول يتساءل أحدكم هل المقصود بالخيزران المرأة التي  بنت المسجد المشهور  ومقبرة الخيزران في بغداد؟ وهذا صحيح، فنعم هى هذه، وهى زوجة الخليفة المهدي وأم هارون الرشيد وأم الهادي ولكنها كانت  تكره الهادي لأن في شفته بعض الانحراف فلم يُعجِبها شكل ابنها ثم أن هذا الرجل كان حمشاً كما يُقال على عكس هارون الرشيد الذي كان مُبغدداً وكان ابناً لأمه كما نقول لكثرة الدلع المُتوفِّر له ومن ثم كان يُحِب أمه بشدة، وعلى كل حال هى كانت تحب هارون الرشيد ولا تُحِب الهادي، فأقنعت زوجها المهدي بحيلة ما، علماً بأن المهدي رأى منها الكثير ولكنه
أقطعها إقطاعات كثيرة وملَّكها أملاكاً كثيرة  وأعطاها الكثير من الجواهر، ويقول المُؤرِّخون أنها حين ماتت – ماتت دون الخمسين، لم تُكمِل الخمسين – ورثها ابنها حبيبها هارون الرشيد، وكانت أعظم تركة في ملكه، فكل ملكه لا يُساوي شيئاً بجانب تركة أمه.

يقول أحد وزراء المهدي “دخل الخليفة المهدي ثم خرج مغموماً فقلت له يا سيدي ماذا بك؟ فقال دخلت على فلانة – أي الخيزران  – فضربتني في صدري وقالت لي يا قشاش – أي يا بخيل أو يا كزاز – ما رأيت منك خيراً”، أي أنها أنكرت كل هذا الخير، فماذا يُعطيها أكثر من هذا؟ لم يبق إلا أن تأخذ المُلك كله وينتهي كل شيئ، وهو ما حصل بالفعل، فقد نالت المُلك وأخذته بيديها وذلك عن طريق أنها أقنع زوجها بأن يجعل العهد بالخلافة ليس لابنها الهادي البكر وإنما للرشيد لأنها تُحِبه، فوافق في نهاية المطاف بعد لأي، ولكنه كان في سفر ومات في الطريق دون أن يكتب هذا وبالتالي جاء الهادي إلى السُلطة، فالهادي لم يُعجِبه مسلك أمه لأنها كانت تُدير الدولة ويدخل عليها قوات العسكر والوزراء وتأمر وتنهى فقال هذه أمي وهى سيدة شريفة – أصلها من اليمن – ولا يصح هذا، فنهاها قائلاً “أما لكِ مغزل تتلهين به؟ أما لكِ مُصحَف تقرأين به؟ والله لئن عاد أحدهم إلى لدخول عليكِ لأقطعن رأسه ولأخذن ماله” فغضبت منه، ثم حذر قواته ووزراءه بمثل هذا التحذير فانقطعوا وحقدتها عليه،فأوعزت إلى الخوادم أن يخنقنه في الليل فخنقوه، أي أن الخيزران العظيمة الكريمة قتلت ابنها الهادي المسكين خنقاً، وجاء هارون الرشيد وصار خليفة وأطلق يدها.

يقول الرواة في يوم مطير بعد أن ماتت خرج الرشيد حافي القدمين – لأنه كان يُحِب أمة كثيراً من كثرة الدلع الذي كان يعيش فيه – باكياً وصلى عليها ثم وُضِع له كرسي فجلس وقال للفضل بن الربيع “تعال خُذ خاتم الوزارة، كنت أُريد أن أدفعه إليك منذ سنوات لكن كانت أمي تمنعني” لأنها كانت هى الخليفة.

إذن هذه هى السُلطة، لكن الأبشع من هذا هو ما حصل في تاريخ بني عثمان – السلاطين العثمانيين – وهو شيئ مُخيف جداً، فمُراد الثالث تزوج صفية من البندقية وأعتقها وسيّدها وستَّتها وملَّكها، فولدت له محمداً الثالث وفرح به كثيراً، ومات مُراد – رحمة الله عليه – فجاءت هذه – صفية البندقية – مع ابنها محمد الثالث وأوعزت إلى جماعة كثيرين بقتل إخوانه – لم يكن جميعهم أشقاء له – الثمانية عشر.

فهذه مجزرة وحمام دم ذهب ضحيتها الثمانية عشر من أجل السُلطة، ومع ذلك تجد مَن يُريد العدل من مثل هذا المُستبِد عندما يمتلك السٌلطة، فلماذا يُعطيك العدل إذن؟ فهل هذا قتل أمه وقتل أباه وقتل ابنه وقتلت ابنها  من أجلك أنت؟ مَن أنت؟

قد يقول لي أحدكم الآن فهمت لماذا يفعل بشار الأسد ما يفعل، وهذا صحيح طبعاً وبالتالي علينا أن نفهم، فنحن نحتاج إلى الثقافة ونحتاج إلى عقل جديد حتى لا تتكرر هذه اللعنا في تاريخنا وواقعنا، فالسُلطة أكبر لعنة والعياذ بالله!
السلطان سليمان القانوني – وأختم به رحمة الله عليه – كان يُقال عنه أنه أعظم سلاطين بني عثمان، علماً بأن إسمه المُشرِّع – الأوربيون يسمونه المُشرِّع أي القانوني – لأنه كان إنساناً عظيماً، وهو فعلاً سلطان عظيم ولكن فيه لن أقول بعض النقاط وإنما بعض الفصول – Chapters – السوداء بل حالكة السواد في تاريخه، وأحلك هذه الفصول سواداً هو فصل قتله لولي عهده وأكبر أبنائه وهو الرجل الذي كانت تقول الدلائل والوقائع أنه الأكثر كفاءةً لقيادة  السلطنة بعد أبيه وهو مصطفى، فابنه كان إنساناً عظيماً ومحبوباً، وهو كان من الإنكشارية ومن الناس وكان إنساناً مُمتازاً.

زوجته كانت روسية الأصل وهى روكسلانا Roxelana – يسمونها روكسانا أيضاً، علماً بأن معنى الإسم باللغة التركية هو الروسية – التي كان يُحِبها بشدة فلحست عقله كما نقول وأنجب طبعاً ابنه سليم، وظلت تتحدَّث معه كثيراً إلى أن أقنعته بأن ابنه مصطفى يأتمر بك وعنده علاقات مع الفرس ومع الصفويين فبعث إليه، فحذَّره حرّاسه لأن من الواضح أن الجو كان مُتوتِّراً وقالوا له “يا مصطفى لا تذهب إلى أبيك لأنه يأتمر بك ولعله يقتلك”، فقال “حتى وإن قتلني فهو أبي”، فهو – أي مُصطفى رحمة الله عليه – كان إنساناً عظيماً فعلاً على ما يبدو وإنساناً فعلاً نبيلاً جداً جداً جداً، ولذلك قال “حتى وإن قتلني فهو أبي” أي أنه وافق على أن يُقتَل بيد أبيه، وفعلاً أول ما دخل عليه الخيمة في بلدة ما أعطى إشارة فتناوشته الخناجر، فخر صريعاً لليدين وللفم.

أنا كلما قرأت هذا الفصل أبكي والله العظيم، قرأته – هذا الفصل – أكثر من مرة ومع ذلك أبكي دائماً، فإلى هذه الدرجة وصل الجنون؟ تقتل ابنك بكرك، هذا الإنسان التقي والعسكري الناجح والمُظفَّر في الحروب من أجل السُلطة؟ لماذا؟

إنها السُلطة وإغراءات السُلطة وهوس وجنون السُلطة، فهذا جنون إبليسي والعياذ بالله.

لم تنته فصول القصة عند هذا الحد ولم تنته المُشكِلة، فالآن يُوجَد سليم وإذا مات سليمان القانوني سوف يأتي سليم إلى السُلطة، ولكن سليم عنده أخ إسمه بايزيد، وبايزيد كان يعرف القانون وهو أن الأخ يقتل أخاه لكي تستقر السلطنة، فخاف من أن يُقتَل ومن ثم هيأ جيشاً وبدأ يُناوِش أباه – سليمان كان لا يزال حياً – وأخاه ثم وقعت معركة في قونية وهُزِمَ شر هزيمة ففر إلى طهماسب الصفوي، فبعث له سليمان مائة ألف دوكات ذهبية وبعث له ابنه ثلاثمائة ألف أي أربعمائة ألف قطعة ذهبية وقالا لطمهاسب سلِّمنا الولد،  فسلمهم إياه وجرى ذبحه مع أبنائه الخمسة.

سليمان القانوني
سليمان القانوني

سليمان قتل ابنه ذبحاً مع أحفاده الخمسة، وهذا شيئ مُبكي، ولذلك أنا أقول لكم يجب أن نقرأ التاريخ ويجب أن نفهم التاريخ والواقع لكي نفهم ماذا يجري الآن، لذلك أختم بعبرة هذه الخُطبة وقد أطلت عليكم فالمعذرة، لكن ما هى هذه العبرة؟!

العبرة هى أن العسكري زمنه قصير، أي الشأن العسكري لأن هذه صفة، وليس المقصود الشخص العسكري، أما إذا أردتم أن يكون المقصود هو الشخص العسكري فليكن، لكن على كل حال الشأن العسكري والأمر العسكري زمنه قصير وخياراته محدودة وهذا معروف، ففي الأمور العسكرية لا يُمكِن أن نرد الاعتداء بعد سبع سنين أو عشر سنين، هذا كلام فارغ، فينبغي أن يكون الرد مُباشِراً وسريعاً، والخيارات أيضاً محدودة في خيارين أو ثلاثة أو أربعة خيارات وليس في مئات الخيارات.

أما السياسي فزمنه أطول – هذه مرحلة وسيطة نوعاً ما – وخياراته أكثر تعدداً ومرونة، لكن الثقافي زمنه طويلٌ جداً، فالشأن الثقافي له زمنية طويلة كما يقول علماء الاجتماع وخياراته شبه مفتوحة لوجود الكثير من البدائل.

ماذا أُريد أن أقول؟ ما هى العبرة؟

أُريد أن أقول إن أتى الثقافي حيث تمس الحاجة إليه مُتأخِراً فتقريباً ستكون فاتته الفرصة، لأن الآن ستقع المذبحة وستقع المروعة وسيقع التقسيم وسينفذ مُخطَّط الأعداء لأنه تأخَّر، وهذا ما ينبغي أن ننتبه إليه، لذلك – مثلاً – رائحة الطائفية الآن؟  أنا كنت أتشمم هذا من أيام مسجد الهداية وكنت أصرخ به على المنبر قبل أن تُحتَل العراق لأنني كنت أتشمم ريحاً طائفية بغيضة، ودائماً كنت أُحذِّر ودائماً كنت أقول أنتم تزرعون في بلادكم القنابل الموقوتة وهى ستنفجر فيكم جميعاً شيعةً وسنة وستُقسَّم بلادكم، فعليكم أن تفهموا هذا، لكن الكل كان عنده تعليلات والكل كان لا يفهم بل ولا يُريد أن يفهم، أما  أنا كرجل أشتغل في الثقافي وفي الرمزي كنت أرى – أو بالأحرى أُحاوِل أن أرى – ما هو أبعد من موطيء أقدامي، فأُحاوِل أن أُبادِر الطوفان ببناء سدود في العقول والقلوب، لكن يد واحدة لا تُصفِّق كما يُقال، لذلك علينا أن ننتبه لأن هذه هى عبرة ما يحدث فينا الآن، عبرة عشرات شهداء وعشرات ألوف الشهداء في سوريا الحبيبة التي نسأل الله بأسمائه الحُسنى وصفاته العُلى أن يرفع ما بها من بلاء بحق لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
اللهم ارفع ما بها من بلاء يا رب العالمين، اللهم ارفع ما بها من بلاء، لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.

فلذلك يجب أن نستفرغ جهودنا وأوقاتنا ووسعنا كله دائماً وباستمرار في الثقافي، واترك السياسي يشتغل لأن عنده زمن أقصر، واترك العسكري يشتغل حين تدعو الحاجة، لكن نحن دائماً نشتغل، لماذا؟ لأن إذا دقت الساعة وطُلِبَت الخدمة فإن الخدمة سوف تكون شبه ناجزة والمفعول سوف يكون موجوداً.

 (انتهت الخُطبة بحمد الله)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • التمزيق و التقسيم عاقبة من يتجه اتجاهاً عنصرياً جاهلياً و هذا معروف في علم الاجتماع و هو من مصلحة المستبدين ليبقوا في مكانهم

%d مدونون معجبون بهذه: