برنامج آفاق

وحي أم صرع؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه.

إخواني وأخواتي:

حياكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، قال ابن سينا مرةً الفطانة البتراء أضر على صاحبها من الجهل، ومعنى هذه المقولة للشيخ الرئيس أن كسر علم أو كسر معرفة – أي رُبع علم أو خُمس علم أو عُشر علم – قد يكون أسوأ من الجهل التام، من الجهل الكامل المحض، لماذا؟ لأن هذا – صاحب الكسور – قد يفهم كلمتين من هنا، يجمع إليهما من هناك كلمتين أُخريين، ثم يأتي بشيئ هو مزيج قابل للانفجار، وقد ينفجر في الحقيقة، بدل أن يكون دواءً شافياً ناجعاً، هذا ما يُمكِن أن تُؤدي إليه المعرفة المنقوصة أو بلُغة الشيخ الرئيس الفطانة البتراء.

هذا بالضبط تقريباً ما حصل لجماعة من المُستشرِقين، تُحرِّكهم دوافع مُختلِفة، وتبعثهم بواعث مُتباينة، حين ذهبوا يصمون النبي ويتهمونه – عليه الصلاة وأفضل السلام – بأنه لم يكن نبياً ولا رسولاً يُوحى إليه من قِبل السماء، وإنما كان رجلاً يتعانى ويتكابد مرض الصرع، لقد كان مصروعاً! فسَّروا الوحي الكريم وفسَّروا القرآن العظيم بأنه حصيلة ونتيجة الصرع، عجيب جداً، هل هذا الصرع يُمكِن أن يأتي بمثل القرآن الكريم؟ هل الصرع إذن هو أساس العبقرية وأساس الإبداع – إن جاز القول -؟

وعلى كل حال لعل هذه التُهمة بالصرع في حق الرسول – وحاشاه، صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – تنما وتعود إلى تيوفان أو ثيوفانس Theophanes، المُؤرِّخ البيزنطي المشهور، والمعروف بتيوفان أو ثيوفانس المُعترِف أو المُقِر، أي Theophanes the Confessor، والذي مات تقريباً في زُهاء سنة ثمانمائة وسبعة عشر ميلادياً، هذا المُؤرِّخ البيزنطي كان قسيساً، كان رجل دين، ويبدو أنه كان مُتعصِّباً، لأنه كتب بروح تعصبية حول النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، كتب في كتابه المعروف بالحوليات – The Chronicle – الآتي، في الحوليات كتب يقول واكتشفت خديجة وكانت سيدةً كريمة المحتد – أي عريقة – أن زوجها مُصاب بالصرع، الأمر الذي أحزنها جداً، إذ اكتشفت أنها لم تتزوَّج فقط برجل فقير، وإنما برجل مريض، مُصاب بالصرع، هذا ما كتبه تيوفان أو ثيوفانس Theophanes في حولياته!

ثم رأينا في القرون الأخيرة – وخاصة في القرن التاسع عشر والقرن العشرين – عدداً غير يسير من المُستشرِقين الأوروبيين، يُردِّدون ويُكرِّرون التُهمة البلهاء الداحضة ذاتها، من هؤلاء – إخواني وأخواتي – المُستشرِق والمُؤرِّخ وعالم الاجتماع الشهير الفرنسي جوستاف لوبون Gustave Le Bon في كتابه حضارة العرب، مع أن هذا الكتاب كتاب جيد في الجُملة، وأنصف المُسلِمين، وأنصف الإسلام، وأيضاً نوَّه بالرسول في مواضع كثيرة، لكن زلت به القدم في هذا الموضع، وربما غلبه تعصبه الديني ومركزيته الغربية.

هذا الرجل ادّعى أن النبي – عليه السلام – حين كان يُوحى إليه كانت تظهر عليه أعراض الصرع، من ماذا؟ من مثل الاحتقان، والغطيط، ثم الغثيان، وسنرى بعد قليل في أنحاء الحلقة أن الاحتقان وارد، كان وجهه يربد – عليه السلام -، لكنه كان احتقاناً مُحمَراً، لم يحدث مرةً أن احتقن وجهه – عليه السلام – فازرق، وإنما كان احتقاناً مُحمَراً، يحمر وجهه من جرائه، ففرق! فهذه الكلمة كلمة مُبهَمة، تركها مُلتبِسة، ربما عن غرض، وربما حتى الترجمة، أي ربما يكون الخطأ من الترجمة، أما الغطيط فنعم موجود وسنُعلِّق عليه، وأما الغثيان فمبلغ علمي أنه لا يُوجَد خبر واحد يُفيد أن النبي – عليه السلام – كانت تعروه حالة من حالات الغثيان بعد الوحي، أي الرغبة في الإقياء أو التقيؤ، هذا ربما يكون من تخرص جوستاف لوبون Gustave Le Bon.

منهم أيضاً المُستشرِق النمساوي الشهير في أواخر القرن التاسع عشر ألويس اشبرنجر Aloys Sprenger صاحب كتاب حياة محمد وتعاليمه، أي Die Leben und die Lehre des Mohammed، اسمه Die Leben und die Lehre des Mohammed، ادّعى فيه أن النبي كان مُصاباً بالهستيريا Hysteria ومُصاباً بالصرع، وقد تصدى – بحمد الله – جماعة أيضاً من نُبلاء ومشاهير المُستشرِقين للرد على اشبرنجر Sprenger، وعلى كل حال اشبرنجر Sprenger تكلَّم من وحي عصره، من وحي الفترة والحقبة التي كان يعيشها، لأنه عاش في المُنتصَف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث تعالى صوت علماء التحليل النفسي، أصبحت موضة أو دُرجة كما يقول اللبنانيون، أصبحت موضة سائدة، أن العبقرية والإبداع والنبوغ دائماً يُفسَّر بالصرع ويُفسَّر بالجنون، فالرجل تكلَّم من وحي عصره، لكن يدفعه تعصب مقيت أيضاً في نفس الوقت.

منهم أيضاً طبيب الأعصاب الأمريكي المشهور عالمياً وهو ويليام جوردون لينوكس William Gordon Lennox، لينوكس Lennox صاحب كتاب الصرع والاضطرابات المُرتبِطة به، أي Epilepsy and related disorders، هذا مرجع مشهور جداً عالمياً، للأسف زلت أيضاً به القدم، وادّعى أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – كان يُصاب بحالات الصرع، ليُفسِّر بها الوحي النبوي الكريم، وهذا عجيب.

منهم أيضاً المُستشرِق آلان مينزيس Allan Menzies، آلان مينزيس Allan Menzies اتهم النبي أيضاً بالأمرين جميعاً: بالصرع والهرع، والهرع ترجمة عربية للهستيريا Hysteria، اتهمه بالصرع والهرع!

ومنهم أيضاً – وهذا عجيب جداً، وهذا ليس مُستشرِقاً، هذا روائي عالم، روائي روسي مشهور على مُستوى العالم – فيودور دوستويفسكي Fyodor Dostoevsky، وكان مُصاباً بالصرع، دوستويفسكي Dostoevsky نفسه كان مُصاباً بالصرع، وذلك بعد أن قُبِض عليه مرة من الجيش وحُكِم عليه بالإعدام، على كل حال انتابته حالة الصرع لأول مرة، ثم عُفيَ عنه، ولم تزل تعتريه وتعروه إلى أن ختم حياته، ولذلك دوستويفسكي Dostoevsky أبدع في كثير من رواياته وخاصة رواية الأبله، أبدع أيما إبداع في وصف هذه الحالة وفي تصوير النوبات التي تعتري المصروع.

دوستويفسكي Dostoevsky تحدَّث عن الــ Aura وهي ما يُمكِن أن نُترجِمه بالنفحة الصرعية أو بالنسمة الصرعية أو بالفوحة الصرعية، وبعضهم يُترجِمها بالنذير، وسنتحدَّث عنها – إن شاء الله – بُعيد قليل، حين تحدَّث عن الــ Aura وعن الــ Epileptic aura أبدع أيضاً أيما إبداع، لكنه عرض لذكر النبي محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، ما يدل على أنه كان يعتقد أن النبي أيضاً كان أحد الذين ابتلوا بهذا الداء أو بهذه المُتلازِمات من الأعراض.

لكن توخياً للإنصاف وذكراً للحقيقة وتماشياً معها لابد أن نذكر – كما أشرت قُبيل قليل – أن جماعةً أيضاً من الغربيين وبالذات من المُستشرِقين والمُؤرِّخين تصدوا لهذه التُهمة ولهذه الفرية، وهي فرية بلا مرية كما سنرى – إن شاء الله – بُعيد قليل، تصدوا لها بالرد والرفض والتفنيد والإدحاض.

من هؤلاء المُؤرِّخ الإنجليزي الأشهر إدوارد جيبون Edward Gibbon، صاحب كتاب تاريخ سقوط واضمحلال الإمبراطورية الرومانية، أي The History of the Decline and Fall of the Roman Empire، وهذا الكتاب مشهور جداً، من أروع ما كُتِب في تاريخ الإمبراطورية الرومانية.

وصف هذه التُهمة وهذه الفرية بأنها سخافة، وبأنها أُسطورة من أساطير الإغريق، لماذا قال من أساطير الإغريق؟ كأنه يُشير إلى تيوفان أو ثيوفانس Theophanes، لأن تيوفان أو ثيوفانس المُعترِف Theophanes the Confessor كان بيزنطياً، مُؤرِّخاً بيزنطياً، فكأنه يُشير إلى تيوفان أو ثيوفانس Theophanes، يقول هذه من أساطيره.

أيضاً منهم المُستشرِق البريطاني الشهير – من ويلز Wales هو، أي هو ويلزي، ومن هنا اسمه الغريب قليلاً – ألفريد جيوم Alfred Guillaume، ألفريد جيوم Alfred Guillaume أيضاً في كتابه عن رسول الله رد على هذه الفرية، مُستنِداً إلى معارف عصره، وهو كان مُتأخِّراً قليلاً، لأنه مُتوفى تقريباً في ألف وتسعمائة وست وستين، كان مُتأخِّراً قليلاً في الزمن عن سابقيه، أمثال اشبرنجر Sprenger – مثلاً – وأمثال جوستاف لوبون Gustave Le Bon وأمثال هؤلاء، فالمُستشرِق الويلزي الإنجليزي جيوم Guillaume كتب يقول استناداً إلى نتائج الأبحاث النفسية في حقبته وفي زمانه إن محمداً من الصعب جداً أن نُسلِّم بأنه كان شخصية صرعية، وبأنه كانت تعتريه أو تعروه حالات الصرع، لماذا؟ لأنه كان مُتماسِك الشخصية، كان قوي النفس والعقل.

أيضاً يقول جيوم Guillaume – أي ألفريد جيوم Alfred Guillaume – التجارب النفسية التي تناولت الخبرة الدينية – أي الــ Religious experience – بالدراسة والبحث هذه تُؤكِّد لنا أن محمداً من البعيد جداً أن يكون شخصية مُصابة بالصرع، هذا بحسب الدراسات النفسية للخبرات ولألوان الخبرات الدينية.

منهم أيضاً مُؤرِّخ الحضارة والفيلسوف الأمريكي الشهير ويل ديورانت Will Durant، صاحب قصة الفلسفة وقصة الحضارة – العمل الموسوعي التاريخي العلم، الذي يُشكِّل علامة فارقة حقيقةً في كُتب تأريخ الحضارة -، ويل ديورانت Will Durant بعد أن عرض للشُبهة سريعاً انتهى بعد أسطر إلى القول وقُصارى القول إننا لا نجد دليلاً – أي دليل – قاطعاً على أن ما كان يحدث للنبي محمد كان من باب أو من قبيل الصرع، لا يُوجَد أي دليل قاطع.

وتعرَّض ويل ديورانت Will Durant – وإن كان كلامه يحتاج إلى بعض التمحيص العلمي أيضاً – إلى الآتي، قال في العادة يحدث للمصروع أن تتدهور قواه النفسية والعقلية، أي Deterioration، ما يُعرَف بالــ Deterioration، يحدث له هذا التدهور مع الزمن، وفي الحقيقة هذا لا يحدث لكل المصروعين، بل لا يحدث إلا لقلة قليلة من المصروعين، فلذلك هذا الكلام ليس علمياً دقيقاً، وعلى كل حال هو استناداً إلى هذا المعيار وجد أن النبي من المُستحيل أن يكون شخصية صرعية، ثم أكَّد على أن النبي كان شخصاً واثقاً، زعيماً ناجحاً، قائداً مُوفَّقاً، قوي النفس، قوي الروح، وظاهر الزعامة والكاريزما Charisma، وكل هذه الصفات من البعيد أن تتسم بها شخصية صرعية، وعلى كل حال هذا الكلام يحتاج أيضاً إلى تمحيص.

أيضاً هناك المُستشرِق والمُفكِّر الفرنسي اليساري الكبيري مكسيم رودنسون Maxime Rodinson، وهو صاحب كتاب محمد الذي شرَّق وغرَّب، في مُقدِّمة كتابه محمد (الطبعة الفرنسية) أيضاً أنكر أن تكون ظاهرة الوحي التي كان يتمتع بها النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – شيئاً يُمكِن أن يٌفسَّر لا بالصرع ولا بالفُصام ولا بالهلوسة ولا بأي شيئ من هذا الباب أو من هذا القبيل، شيئ مُختلِف تماماً، وهذا صحيح، الوحي بعيد كل البُعد عن هذه الظواهر المرضية.

منهم أيضاً المُستشرِق السويدي تور أندريه Tor Andræ، تور أندريه Tor Andræ أحد الذين تصدوا بالرد على اشبرنجر Sprenger النمساوي، رد عليه وأثبت أن كلامه مُتهافِت وداحض.

كذلك رد على اشبرنجر Sprenger المُستشرِق الدنماركي فرانتس بوهل Frants Buhl، فرانتس بوهل Frants Buhl رد على اشبرنجر Sprenger في كتاب ظهر بعد كتاب اشبرنجر Sprenger بأقل من خمس عشرة سنة، وذلك في سنة ألف وتسعمائة وثلاثة.

وأما الفرنسي موريس ديمومبين Maurice Demombynes فهذا أيضاً كتب مُنكِراً هذه التُهمة، ومُبيِّناً تهافتها وعدم تماسكها، كتب يقول إن الصرع يسلب المريض به ذاكرته، أي يسلب ذاكرة المريض! وطبعاً ربما يُشير إلى حالة الــ Amnesia أو حالة فُقدان الذاكرة، لكنها حالة مُؤقَّتة، حالة مُؤقَّتة يُعاني منها المريض خلال النوبة وبعد النوبة – بعد أن يستفيق المريض -، سواء أكان الصرع صرعاً أكبر – أي Major – أو صرعاً أصغر – أي Minor -، بغض النظر عن أي نوع نتحدَّث من نوعي الصرع المشهورين، وله أنواع وتصانيف كثيرة، لكن هذان مشهوران جداً، بعد ذلك حين يستفيق المريض لا يتذكَّر أي شيئ، لا يتذكَّر أي شيئ! وهذا الكلام في مُنتهى الدقة والتحقيق العلمي، لأنه ما كان يحدث للنبي على العكس من هذا تماماً، وسوف يأتي بُرهان هذا في إبانه وفي وقته – إن شاء الله تبارك وتعالى -.

ثم يقول ديمومبين Demombynes أما القرآن فكتاب جليل ومُعتبَر، ويدل على انتباه وفصاحة، يقول القرآن كان حصيلة هذه الحالات، التي يُشكَّك ويُقال إنها صرعية، عجيب! المصروع حين يستفيق لا يذكر أي شيئ، فكيف محمد كان يذكر كل شيئ ويأتينا بكلام يدل على الفصاحة وعلى القوة وهو كلام مُعتبَر؟ يقول موريس غودفروي ديمومبين Maurice Gaudefroy-Demombynes.

أيضاً هناك الفرنسي المُؤرِّخ الشهير كلود كاهن Claude Cahen، وهذا تقريباً أكثرهم قُرباً منا على الإطلاق، ولعله تُوفيَ قبل بضع سنين، كلود كاهن Claude Cahen كتب يقول انتهى الوقت أو ولى الزمن الذي يُمكِن أن نُصادِق فيه على هذه التُهم – وصفها بالسُخف – السخيفة، التي دأبنا على توجيهها للنبي محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، انتهى! هذه التُهم السخيفة كانت تبعث عليها حزازات عقائدية – يقول -، أي ليست من باب الدراسة العلمية والتمحيص والبحث العلمي أبداً، مُجرَّد مُناكَفات دينية، لأننا نكره الإسلام، وبالتالي نكره نبي الإسلام، فنُريد أن نُلصِق به كل تُهمة وكل كبيرة وجريمة، قال انتهى هذا الزمان، نحن الآن نتكلَّم بمنطق علمي أكثر احتراماً وأكثر صرامةً وأكثر منهجيةً، ثم مثَّل لهذه التُهم السخيفة بتُهمة الصرع التي رُميَ بها النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وحاول الغربيون أو بعضهم بالأحرى أن يُفسِّروا بها الوحي المُحمَّدي، أي وحي محمد – عليه الصلاة وأفضل السلام -، جميل!

الآن ما هو الصرع يا إخواني؟ لأنه ليس من المُمكِن بأي حال من الأحوال أن ننفي هذه التُهمة عن رسول الله وأن نُثبِت أن ما كان يعروه أو يعتريه هو شيئ مُختلِف تماماً إلا بعد أن نفهم، لأن الحُكم على الشيئ فرع تصوره، لو افترضنا أن هناك مرضاً ما سندعوه الاستنبات – مثلاً -، أي مرض الاستنبات، وسنقول فلان مُستنبَت أو فلان ليس مُستنبَتاً، قبل أن نقول – قبل أن نُثبِت وقبل أن ننفي – لابد أن نعرف ما هو الاستنبات أصلاً، ثم بعد ذلك نقوم بعملية مُقارَنة، عملية مُطابَقة، والله إن وجدنا قدراً كبيراً من التطابق بين الأعراض هنا والأعراض هنا قلنا فعلاً هذا الإنسان مُصاب بهذا الداء، وإلا نفينا، بكل بساطة! فما هو الصرع؟

على كل حال المشهور لدى الكافة أن الصرع مرض من الأمراض، لكن يختلف الأمر عند العلماء المُحقِّقين، وبالذات في المجال الرئيس للصرع في الطب وهو طب الأعصاب، طب الأعصاب! نعم الطب النفسي يتعاطى مع الصرع ومع مرض الصرع، لكن من زاوية أُخرى، لماذا؟ لأن المصروع أو الشخصية الصرعية يتغيَّر سلوكه، يعتريه أيضاً بعض التغير في مسلكياته، فمن هنا يتدخَّل الطب النفسي ليدرس، لكن المجال الرئيس العتيد لدراسة هذه الظاهرة أو هذا المرض – إن جاز أن يُسمى مرضاً – هو طب الأعصاب.

على كل حال العلماء الكبار في طب الأعصاب يرون ويُرجِّحون أن الصرع – أي الــ Epilepsy – ليس مرضاً، يختلف! وطبعاً هذه أشياء فنية، وإنما هو مُتلازِمة من الأعراض، مُتلازِمة أعراض! أي أعراض مُتلازِمة، أعرض مُتزامِلة مُتلازِمة، تأتي سويةً.

نحن توخياً للاختصار ودفعاً للبس سندعوه مرضاً، نتحدَّث عنه على أنه مرض، على أنه في الحقيقة ليس مرضاً من ناحية فنية، والصرع – إخواني وأخواتي – في العموم هو اضطراب دوري، اضطراب دوري! يأتي ويروح في دورات وفي نوبات، اضطراب دوري يحدث في إيقاع المُخ، في الإيقاع الأساسي للمُخ، الإيقاع الكهربي بالذات، الإيقاع الكهربي لدماغ الإنسان أو في مُخ الإنسان، هذا هو أبسط تعريف، إلا أنه ليس دقيقاً.

قديماً عُرِف هذا المرض، عُرِف من مئات السنين، أي من زُهاء ألفي سنة كان معروفاً، وكان يُدعى بالمرض الإلهي، أو المرض المُقدَّس، لأن أصوله غير واضحة، لم تكن واضحة، لم تكن بيّنة للعلماء والدارسين، وكانوا يعتقدون أن الجن والشياطين لها أيضاً علاقة به، أو الملائكة والسماء، ولذلك كان يُسمى الــ Sacred disease أو الــ Divine disease، أي المرض المُقدَّس أو المرض الإلهي، سُمى الــ Divine or sacred disease.

طبعاً في القرن التاسع عشر – بالذات في النصف الثاني منه – علت موجة الاهتمام بهذا المرض، مع موجة الاهتمام بظاهرة الجنون عموماً، وكما قلت لكم ورأينا جماعات كثيرين من مشاهير علماء التحليل النفسي يُفسِّرون العبقريات المشهورة – أي عبقرية أو عبقريات المشاهير من العباقرة – بأنه حالات تُعزى إلى الجنون، وتُعزى إلى الصرع، ومن المشاهير الذي رُموا بهذا المرض: الإسكندر المقدوني Alexander of Macedon، قيل كانت تنتابه حالات صرعية، الفيلسوف الإغريقي سقراط Socrates، أيضاً رُمي بهذا، طبعاً يوليوس قيصر Julius Caesar اشتُهِر بهذا، من القادة العسكريين المُتأخِّرين نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte، طبعاً محمد – عليه السلام – بحسب الفرية الغربية، ولذلك يُذكَر اسمه في هذا السياق، وهذه فرية باطلة على كل حال، الرسام الشهير مايكل أنجلو Michelangelo، النحّات مايكل أنجلو Michelangelo اتُهِم بهذا أيضاً، نيتشه Nietzsche، الشاعر الشهير هولدرلين Hölderlin، بودلير Baudelaire، كلايست Kleist، دوستويفسكي Dostoevsky وتحدَّثنا عنه قُبيل قليل، الرسام الدنماركي فان جوخ Van Gogh، ألفريد نوبل Alfred Nobel صاحب الجائزة المعروفة باسمه ومُخترِع الديناميت Dynamite، وعلى كل حال جماعة كثيرون.

في سنة ألف وثمانمامة وثنتين وتسعين ماكس نورداو Max Nordau طبع كتابه في جُزئين المعروف بالانحطاط، أي Entartung، بالألمانية Entartung، أي الانحطاط، في جُزئين، بالإنجليزية Degeneration، الانحطاط فسَّر فيه ماكس نورداو Max Nordau تقريباً كل العبقريات المشهورة بالجنون وبالصرع، قال إنها يُمكِن أن تُفسَّر بالجنون وبالصرع، قال بهذه الأمور، عبقريات مصاريع وعبقريات مجانين، وهذا نوع من المُبالَغة، وطبعاً كما قلنا لأن الظاهرة لم تكن استوت على سوقها من ناحية أو لجهة الدرس العلمي المُنضبِط المُحترَم، فكان الناس يُبالِغون في تفسير كل شيئ بأنه صرع وبأنه جنون، الآن الوضع اختلف، الآن لو سألت أي عالم في الطب النفسي يقول لك من الصعب جداً أن نُشخِّص حالة صرعية تشخيصاً دقيقاً، هناك أنواع كثيرة، وصحيح نحن تحدَّثنا عن الصرع الأكبر والصرع الأصغر، لكن هناك تقسيمات كثيرة جداً لهذه المُتلازِمة أو لهذا المرض يا إخواني باعتبارات مُختلِفة، وإن كان هذا أشهرها.

حتى يذكر بعض العلماء المُعتمَدين أنه تم دراسة مائة حالة وطُلِب تشخيصها من الحالات التي تعروها هذه الظاهرة أو هذه الأعراض الصرعية، وبعد ذلك شُخِّصت هذه المائة حالة – وهذا العجيب – على النحو الآتي، وطبعاً يُمكِن أن يظن أحدنا مِمَن لا علم لها دقيقاً بهذا المرض أو بهذه الظاهرة أن نصفها ربما وربما ثلاثة أرباعها من الصرع الأكبر، لأن هذا أكثر، أكثر الصرع وقوعاً هو الصرع الأكبر، الصرع الأصغر أقل وقوعاً وأقل انتشاراً، ربما نقول ثمانون في المائة أو سبعون في المائة أو خمس وسبعون في المائة الصرع الأكبر، والبقية صرع أصغر، لكن هذا غير صحيح، شُخِّصت المائة حالة على أنها حالات صرعية تنتمي إلى أربعة وستين نوعاً من الصرع، أربعة وستين نوعاً! إذن هذا صار صعباً جداً، المسألة مُعقَّدة جداً، مسألة تشخيص الحالة، فالآن العلم تطوَّر وأصبح فعلاً مُمنهَجاً ودقيقاً، في القرن التاسع عشر الوضع كان مُختلِفاً، فكانت تُهمة يُرمى بها كل مَن هب ودب مِن كل مَن هب ودب.

الصرع – إخواني – بشكل عام يُصيب الأطفال أكثر من الراشدين والكبار، أكثر من البالغين! تقريباً أكثر من نصف الحالات الصرعية هي حالات يُعاني منها الأطفال، وهو مرض شائع، بحسب المعايير العلمية يُعتبَر مرضاً شائعاً، لماذا؟ يُقال إن تقريباً زُهاء اثنين في المائة من سكان كل البلاد – من سكان أي بلد، خُذ أي بلد، هناك تقريباً في المائة من السكان على النحو الآتي – عانوا أو يُعانون من نوبات صرعية، على اختلاف طبعاً أنواع الصرع، على اختلاف أنواع الصرع!

لنتحدَّث الآن عن الصرع الكبير أو الصرع الأكبر، ما هو الصرع الكبير أو الأكبر؟ وما هو الصرع الأصغر؟ الصرع الأكبر – أي الــ Major epilepsy – أو ما يُسمى النوبة الكُبرى – أي الــ Grand mal epilepsy – هذا كما قلت لكم أكثر انتشاراً، هو أكثر انتشاراً وهو أكثر خطورةً وأكثر صعوبةً، والمكروث والمُبتلى به يُعاني مُعاناة صعبة، أسهل منه بكثير الصرع الأصغر – أي الــ Minor epilepsy – أو ما يُسمى النوبة الصُغرى – أي الــ Petit mal epilepsy -، ما هو الصرع الأكبر أو النوبة الكُبرى؟ ما هو صرع النوبة الكُبرى؟

طبعاً النوعان يشتركان – إخواني وأخواتي – في أنهما يأتيان على شكل نوبة، أي Epilepsia، هذا في نوبات وهذا في نوبات، فقط هذا لابد أن نبدأ به، هذا مُشترَك بينهما، لكن يتميَّز الصرع الأكبر أولاً بأن النذير يسبقه، الــ Aura – كما قلت لكم – أو الــ Epileptic aura، الــ Aura هي النذير، ويُسمونها الفوحة الصرعية أو النسمة الصرعية، فما هي الفوحة أو النسمة أو النذير؟ للاختصار ما هو النذير؟

النذير – إخواني وأخواتي – عادةً يأتي قُبيل النوبة بثوانٍ معدودة أو بدقائق أو بساعات أو بأيام وحتى بأسابيع، شيئ غريب! أي من ثوانٍ معدودة إلى أسابيع، لكن من حُسن الحظ – هذا من حُسن الحظ، خاصة في الفترات القصيرة، في الفترة الطويلة هذه لا يُفيد كثيراً – أن هذه الفترة مُحدَّدة في حالة كل مريض على حدة، بمعنى أن مريضاً ما بالصرع الأكبر تأتيه النوبة دائماً قبل – نفترض مثلاً – نصف ساعة، تقريباً دائماً تأتيه قبل نصف ساعة، في حالة أُخرى تأتي قبل خمس دقائق, في حالة ثالثة تأتي قبل عشرين ثانية، في حالة ربما عاشرة تأتي قبل يومين، وعموماً دائماً تأتي قبل يومين في هذه الحالة، فتتحدَّد هذه الفترة – أي فترة ظهور النذير أو الــ Aura – في كل حالة حالة، في كل حالة حالة! من عدة ثوانٍ – كما قلنا – إلى أسابيع.

من رحمة الله أنها تأتي قبل الحالة، وخاصة إذا كان الوقت قصيراً، أي نصف ساعة أو ساعة أو دقائق أو ثوانٍ، لماذا؟ لأن المريض يخلد فيها مُباشَرةً إلى الهدوء ويستلقي على الأرض، يعرف أن النوبة ستدهمه، النوبة ستدهمه فيستلقي على الأرض، لا يجلس، لابد أن يستلقي، لماذا؟ لأنه إن كان ماشياً أو إن كان واقفاً وحتى إن كان جالساً فسيقع، Falling! يحدث له الوقوع، يقع، فإذا كان ماشياً أو راكباً أو كذا ربما يتضرَّر، يُكسَر عضو من أعضائه أو يُنزَف ويدمى، فالمريض مُباشَرةً حين يأتيه النذير يخلد إلى الراحة ويستلقي على الأرض، وربما يُحاوِل أن ينام، وهذا جيد، حتى يتحاشى الأضرار المُحتمَلة عن وقوعه، عن وقوعه أو لوقوعه.

إذن كيف يأتي النذير – أي الــ Aura هذه -؟ كيف؟ وما هي هذه الــ Aura؟ هذه الــ Aura تختلف أيضاً من شخص إلى شخص، وعموماً تكون هي ماذا؟ تكون هلوسات حسية، هلوسات حسية كأن يرى أشياء وومضات مُعيَّنة، دوائر وأشكال هندسية مُعيَّنة تأتيه باستمرار، أي قبل أن تدهمه الحالة، وهذه هلوسة، في الحقيقة هذه الأشياء غير موجودة، لكن هو يراها الآن، أو هلوسات سمعية، يسمع أزيزاً أو صريراً، يسمع أصواتاً، وربما يسمع شيئاً من الموسيقى، يسمع شيئاً من الموسيقى فيعرف، هو مُعتاد عليها، هذه الــ Aura خاصته، هذه أوراه أو نذيره، ربما أيضاً تأتيه وجدانيات، مشاعر عاطفية داخلية تنتابه، كنوع من الخوف، نوع من القلق، نوع من الاكتئاب، نوع من الحُزن، نوع من الفزع، نوع من الترقب، نوع من النشوة، قد ينتشي، يفرح ويعرف أن هذه هي الــ Aura أو نذيره، قد يتعرَّق في جُزء أو أجزاء مُحدَّدة من بدنه، قد يُصيبه الخدار – أي الخدر – أو التنميل في جُزء مُعيَّن من جسمه وفي عضو مُعيَّن من أعضاء جسمه، وقد يشم حتى رائحة غريبة، على كل حال لها أشكال وتلاوين كثيرة هذه الــ Aura أو النذير، لكن يعرفها المريض من نفسه، جميل!

ماذا يحدث بعد ذلك؟ يحدث بعد ذلك أن تأتي النوبة، وهذه النوبة تأخذ طورين أو مرحلتين، أي Phases، تأخذ طورين أو مرحلتين، المرحلة الأولى أو الطور الأول تُسمى المرحلة الانقباضية أو التقبضية، أي الــ Tonic، الــ Tonic Phase، ماذا يحدث فيها؟ يحدث فيها أن يتقبَّض الجسم يا إخواني، أي يتصلَّب، يتخشَّب، الفكان أيضاً يتخشَّبان، يتقبَّضان، يتشدَّد الذراعان والساقان…

لكن نُكمِل – إن شاء الله – هذه المظاهر، ونسأل الله العفو والعافية لنا ولجميع إخواننا وأخواتنا، نُكمِل بعد الفاصل، فكونوا معنا، بارك الله فيكم.

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي.

إذن في المرحلة الانقباضية أو التقبضية – أي الــ Tonic Phase كما قلنا – الجسم يتخشَّب أو يتصلَّب، يتقبَّض الفكان والذراعان والساقان، وهذه المرحلة تستمر تقريباً فترة بسيطة جداً، من عشر إلى عشرين ثانية فقط، من عشر إلى عشرين ثانية! ينقطع فيها النفس، أي في خلال هذه الفترة – في عشرين ثانية على الأكثر – ينقطع النفس، لماذا؟ لأن العضلات تتصلَّب يا إخواني، ويُطلِق المريض الآن صرخة بصوت حاد ومُرتفِع، تُسمى الصرخة الصرعية، أي الــ Epileptic cry، أي يصرخ صرخة معروفة، وكل مَن شاهد مصروعاً له خبرة بسماع هذه الصرخة المُزعِجة، بصوت حاد ومُرتفِع، يُضطَر إليها المريض المسكين المُبتلى، يُضطَر إليها اضطراراً، بسبب ماذا؟ بسبب انقباض عضلات الصدر واندفاع الهواء رُغماً عنه – لا إرادياً – عبر الحَنجرة – الحَنجرة وليس الحُنجرة – المُتشنِّجة نسبياً، تكون مُتشنِّجة نسبياً، فيخرج هذا الصوت كالمُختنِف الحاد العالي، تُسمى الصرخة الصرعية!

أيضاً بسبب – إخواني – الضغط على شرايين الرقبة، وينقص الأكسجين Oxygen طبعاً، ليحدث أن يزرق الوجه، وهذا مُهِم جداً، ونُريد أن نتفحَّص هذه الأعراض، انتبهوا إليها وحاولوا أن تستذكروها، نُريد أن نُطابِق بينها وبين الأعراض التي كانت تعرض لرسول الله أو تعروه حين يأتيه الوحي وحين يتنزَّل عليه، هل نجد منها شيئاً؟ هل كان يزرق – مثلاً – وجهه ويُطلِق هذه الصرخة؟ هل كان يتصلَّب؟ هل كان يتخشَّب؟ وهل كان يقع؟ سوف نرى!

فهذه هي المرحلة التقبضية أو الانقباضية، وبعد ذلك تتلوها المرحلة التخلجية أو الاختلاجية، أي الــ Clonic phase، تلك Tonic وهذه Clonic، الآن العضلات ما بين انقباض وانبساط، أي تنقبض وتسترخي، تنقبض وتنبسط، الجسم يتلوى، يبدأ الجسم في التلوي، ولذلك تُسمى المرحلة التخلجية أو الاختلاجية، الساقان أيضاً واليدان تتخبَّط، تُصبِح تتخبَّط، تتخبَّط اليدان وتتخبَّط الساقان.

الفم – عافانا الله وإياكم – ينزل اللُعاب من جوانبه المُختلِفة، ثم يبدأ الزبد، يدفق الزبد أيضاً حول الفم، أي الزبد الأبيض، ومن أسوأ ما يُمكِن أن يحصل أن يفقد المُبتلى – عافانا الله وإياكم – التحكم في أمعائه ومثانته، فقد يتبوَّل على نفسه وقد يتغوَّط – أكرمكم الله – على نفسه.

هذه المرحلة التخلجية أو الاختلاجية تستمر من دقيقة إلى خمس دقائق، إذن الأولى من عشر إلى عشرين ثانية، وهذه من دقيقة إلى خمس دقائق، ثم تنتهي، وبعد ذلك ينهض، يستفيق المُبتلى والمريض، ولكنه لا يزال مُشوَّش الفكر، كأنه لا يدري ما الذي يحدث، وطبعاً هو غير واعٍ بما حدث له، ينسى كل شيئ حدث له، حالة فقدان ذاكرة، أي Amnesia، ويُقال له Amnesic، فاقد للذاكرة الآن، يكون مُشوَّش التفكير، وسيء التوجه، لا يعرف الشمال من الجنوب والشرق من الغرب، لا يعرف أين بيته وأين حجرته، لا يعرف! سيء التوجه، وقد يمشي هائماً على وجهه هنا وهناك.

قد تعتريه حالة من الهياج، أي العصبية، عصبية المِزاج، قد يهتاج، قد يعنف سلوكه، قد يعنف سلوكه فجأة، وبعد ذلك يبدأ في الهدوء، يهدأ ويتغشاه النوم، وربما نام لدقائق، وربما نام لساعات، إذن انتبهوا أيضاً، هذا من المظاهر المُهِمة جداً، ماذا يحدث للمريض بعد أن تذهب عنه النوبة؟! المرحلة الثانية التخليجة ماذا يحدث بعدها؟ هو ينام – كما قلنا -، ينام لكن بعد أيضاً أن تنقضي النوبة، ليس أثناء النوبة، النوبة لها فترات قصيرة، ثم يستيقظ من النوم، يستيقظ ويكون في حالة عادية تماماً، إذن هل إذا استيقظ يذكر شيئاً مما حدث معه أثناء النوبة أو أثناء الطورين وبعدهما بقليل قبل أن ينام؟ تقريباً ينسى كل شيئ، لا يدري بأي شيئ حدث هذا، وهذا مُهِم جداً يا إخواني.

للأسف بعض مرضى الصرع الأكبر أو الكبير تُعاوِدهم النوبة بعد قليل، وقد تُعاوِدهم بعد حين قصير جداً من الزمان، ونوبة ثالثة أحياناً، ورابعة، وهذا من أخطر حالات الصرع، والمُصابون به لا يُعمَّرون طويلاً، يموتون قبل غيرهم، لأن هذا مُرهِق جداً ومُحطِّم للإنسان، مُحطِّم لجهازه العصبي، ومُحطِّم حتى لبدنه، فهذه الحالة تُسمى ماذا؟ تُسمى الصرع المُتواصِل، أي Status Epilepticus، الصرع المُتواصِل أو المُستمِر، وهي – كما قلت لكم – من أخطر حالات الصرع، عافاني الله وإياكم جميعاً.

نأتي الآن إلى الصرع الأصغر، أي الــ Minor هذا، الصرع الأصغر أو النوبة الصُغرى، أي الــ Petit mal، الصرع الأصغر مُختلِف كثيراً، ويُصيب أكثر شيئ الأطفال، وهو أخف بكثير، إلى وقت قريب كان يُعادَل بينه وبين صرع الغيبات، صرع الغيبات! أي الــ Absence epilepsy، المريض يفقد وعيه، لكن لثوانٍ قليلة، قد يكون جالساً مع أهله أو مع معارفه، يتكلَّم ويتحدَّث، قد يكون يُمارِس نشاطاً أو فاعلية مُعيَّنة، يأكل أو يشرب أو يكتب أو يتكلَّم في أي موضوع، وفجأة يفقد الوعي، يدخل في عالم آخر، يدخل في هذا لثوانٍ معدودات، ثم يستعيد وعيه، ويُواصِل، لا يفقد خيط الحديث، إذا كان يأكل يُكمِل أكله، إذا كان يتكلَّم في حديث يُكمِل حديثه، يُواصِل وكأنه لم يحدث شيئ، وهو طبعاً لا يذكر أيضاً ما الذي اعتراه، ربما أحياناً حتى الجلّاس أو جُلساؤه لا يلحظون ماذا حدث معه، لأنه يغيب لثوانٍ يسيرة، ثم يعود يا إخواني، هذا في الصرع الصغير أو الصرع الأصغر.

وطبعاً لا يحدث له تشنج – بحمد الله تبارك وتعالى -، لا يتشنَّج، ولذلك لا يُلحَظ – كما قلنا -، لا يتطوَّح، لا يقع الــ Falling هذا، لا يحدث له، وأيضاً لا يغفو، لا يغط في النوم، هذا كله لا يحدث له، ومن حالات الصرع الأصغر ما يتميَّز به المريض بأنه يُحملِق بعينيه إلى الأمام، وربما يُدير عينيه إلى الأعلى، وهذا يُسمى الصرع المُحملِق، في الصرع المُحملِق إما ينظر إلى الأمام وإما ينظر إلى الأعلى مُحملِقاً، يُمكِن أن يتنخَّع رأسه ويتخلَّج وجهه ويرمش جفناه كثيراً وسريعاً، وهذا يُسمى الصرع الاختلاجي، وأيضاً هو صرع صغير، وهذا – كما قلنا – لثوانٍ، ثوانٍ معدودات يسيرات.

في حالة أُخرى ثالثة – هذا ضرب آخر من الصرع الصغير،يُسمى الصرع المُضعِف للحركة العضلية – قد يهن المريض، يشعر بوهن في قواه، يشعر بذوي، يتوانى عزمه، فإذا كان واقفاً لا يستطيع أن يبقى واقفاً، يجلس وربما يقع وقعة خفيفة، وإذا كان مُمسِكاً بشيئ كقلم أو أداة أو كوب أو كذا قد يقع من يده، هذا صرع صغير، يُسمى الصرع المُضعِف للحركة العضلية.

لكن – كما قلت لكم – تنتهي بسرعة، يستعيد وعيه بسرعة، لا يذكر ماذا حدث معه، الجُلساء ربما أيضاً لا يتنبَّهون لما حدث معه، وحتى حين يقع شيئ هم يظنون أنه وقع بشكل طبيعي، لا يعرفون أنها نوبة صرعية صُغرى.

كما قلت لكم هذا أكثر ما يُصيب يُصيب الأطفال الصغار، ويُشفى – بحمد الله – تلقائياً، مع التقدم في السن وفي العمر يُشفى تلقائياً، لكن يُمكِن إذا أصاب الكبار – خاصة فوق العشرين – أن يتحوَّل إلى صرع أكبر، إذا أصاب الكبار فوق العشرين للأسف يُمكِن أحياناً أن يتحوَّل إلى صرع أكبر، ولكنه إذا أصاب الصغار يبقى صرعاً أصغر في كل حالاته تقريباً.

كما قلت لكم في وقت سابق بعض حالات الصرع – طبعاً الأكبر بالذات، هذا بعض حالات الصرع للأسف، وهي حالات ناردة بفضل الله تبارك وتعالى – تتدهور فيها قوى المريض، أي المآل يكون سيئاً، أي الــ Prognosis، مآل المريض ومآل المرض يكون سيئاً جداً، تدهور مُستمِر في قوى المريض العقلية والنفسية، وقد يتبع ذلك حتى التأثير على قواه الجسدية، تدهور مُستمِر للأسف، وهذه حالات نادرة.

بعد أن ألممنا – هذا إلمام سريع يا إخواني، وأكيد هو ناقص من جوانب كثيرة، لكن هذا ما سمح به الوقت والظرف – هذه الإلمامة السريعة بالصرع وقسميه أو نوعيه الأكبر والأصغر حري بنا الآن في هذه المرحلة أن نتساءل، هل وجدنا شيئاً من كل ما سبق عرضه وذكره مما يُمكِن أن يتطابق مع الأعراض التي كانت تعرو الرسول – عليه السلام – حين كان يأتيه الوحي؟ قد يقول لي أحدهم وما الذي يُعرِّفنا؟ من أين نعرف؟ لا، هناك – بفضل الله تبارك وتعالى – مجموعة أحاديث مُوثَّقة صحيحة، في الصحاح وغيرها، وهذا – سُبحان الله – يدل على ذكاء الصحابة وعلى ألمعيتهم، كانوا حريصين على أن يُوثِّقوا هذا الشيئ، وجميل جداً أنهم وثَّقوه، فبفضل الله لدينا نحن مجموعة من الأحاديث الصحيحة، تقريباً نستطيع من خلالها أن نجلو صورة الوحي وأن نستطلع الأعراض التي كانت تعرو النبي بشكل واضح.

في رأس هذه الأحاديث الحديث الصحيح الجليل – أي المُخرَّج في الصحيح – والذي ترويه أم المُؤمِنين عائشة – رضوان الله عليها – عن الحارث بن هشام، هذا الرجل سأل النبي عن الوحي، كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ يُحِب أن يعرف، كما قلت لكم هذا من ذكاء الصحابة، كيف يأتيك الوحي يا رسول الله؟ ما هو الوحي؟ وكيف يأتيك؟ فقال له – عليه الصلاة وأفضل السلام – أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، أي أسمعه مثل صلصلة الجرس، قد يقول لي أحدهم هذه الــ Aura، يُمكِن أن يُسارِع بعض الناس ويقول هذه الــ Aura، أي هذه هي النفحة أو الفوحة أو النسمة أو النذير، أنت قلت إن الــ Aura هذه أو النذير تكون أحياناً على شكل أزيز أو صرير أو موسيقى، والنبي يقول صلصلة الجرس، لكن هذا لا يكفي، لابد أن نُتابِع، لو كانت هذه الــ Aura – وطبعاً هذه لا تكون في الصرع الأصغر، تكون في الصرع الأكبر – لابد أن يعقبها ماذا؟ النوبة، وكما قلنا النوبة لها مرحلتان، مرحلة تقبضية ومرحلة اختلاجية، فهل هذا كان يحدث مع النبي؟ أبداً، لم يحدث قط ولا بأي شكل من الأشكال يا إخواني.

هل كان يصرخ النبي – مثلاً -؟ هل كان يزرق وجهه؟ أبداً، هذا كله غير موجود، هل كان ينام بعد ذلك؟ سوف نرى هذا شيئاً فشيئاً، على كل حال حتى لا نُسارِع يقول أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس، أسمعه مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علىّ، أصعب أنواع الوحي الذي كان يأتي النبي بهذا الشكل أو بهذه الطريقة، مثل صلصلة الجرس، يقول فهو أشده علىّ، فيفصم عني، فأعي ما يقول، النبي يعي، سُبحان الله! وأيضاً هنا اختلف تماماً، كما رأينا في حالة الصرع الأكبر وحتى في حالة الصرع الأصغر حين تُزايل الحالة صاحبها المُبتلى بها لا يذكر شيئاً، لا يذكر شيئاً! النبي يقول لا، يفصم عني، أي يتركني ويُزايلني، وأنا أعي ما يقول، بدليل أنه كان بعد أن يرتفع الوحي يُحدِّث بما أُوحيَ إليه، والصحابة يرون هذا، وأحياناً يسمعون، كما سترون بعد قليل وكما ستسمعون بعد قليل، يسمعون دوياً كدوي النحل عند وجه النبي، ويرون وجهه قد اربد واحمر وتغيَّر، ويُغمِض عينيه، وأحياناً يغظ، كأنه نائم – عليه السلام -، يرون هذا ويعرفون أنه يُوحى عليه.

بعد أن يفصم عنه مُباشَرةً يقول يا زيد بن ثابت – مثلاً – أو يا فلان اكتب قال الله تعالى، وهذا كلام عجيب، أي القرآن الكريم، المصروع ليس شأنه هذا الشأن أبداً، لا من قريب ولا من بعيد، فهذه الحالة الأولى.

ثم قال – عليه السلام – للحارث بن هشام وأحياناً يتمثَّل لي الملك في شكل رجل، وأحياناً يتمثَّل لي الملك رجلاً، كما كان يتمثَّل له جبريل في شكل دحية الكلبي، أي دحية بن خليفة الكلبي، هذا صحابي جليل، ويُقال كان أجمل الصحابة، حتى أن النساء – أعني بعضهن – كُن إذا رأينه طرحن حملهن، كانت المرأة تكون حاملاً، وحين تراه تطرح حملها، من شدة ما هو جميل، جميل جداً جداً، وجبريل كان يأتي النبي أحياناً في شكل دحية بن خليفة الكلبي، وهذه حالة من الوحي، هذه حالة وهي أخف، أخف من صلصلة الجرس.

وأحياناً يتمثَّل لي الملك رجلاً، فأعي ما يقول، عجيب! انظر إلى هذا، النبي دقيق جداً، يقول أيضاً مرة أُخرى فأعي ما يقول، أعي ما يقول! في الحالة الأولى يعي ما يقول، وفي الحالة الثانية يعي ما يقول.

الآن تختم أمنا عائشة – عليها الرضوان والرحمة – هذا الحديث الجليل بالقول ولقد رأيته – عليه السلام – ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصَّد عرقاً، قالت فيفصم عنه، أي الوحي، ينفصل عنه ويتركه، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصَّد عرقاً، كان يتعرَّق في اليوم الشديد البرد – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

إلى الآن ليس من أي مُطابَقة باستثناء صلصلة الجرس، لكن كما قلنا هذه مُطابَقة خفيفة مع عرض أو مظهر من مظاهر الــ Aura، لكن هذه ليست Aura، لأن الــ Aura نذير بالنوبة، أين النوبة؟ لا تُوجَد نوبة، ولا تُوجَد صرخة كما قلنا.

كما قلنا ربما سمع بعض أصحابه حول وجهه الشريف أحياناً مثل دوي النحل، فهذه حالة من حالات الوحي، أيضاً لابد هنا مَن يتكلَّم ويُحاوِل أن يُفسِّر هذا بالصرع أو بغير الصرع أن يُفسِّر لنا هذا، من أين؟ من أين يأتي دوي النحل هذا؟ واضح أن هناك شيئاً غيبياً يتحرَّك في الظرف، يتحرَّك في المكان، موجود، له حضور في المكان، ما هو هذا؟ وطبعاً لو كان النبي يُحرِّك شفتيه لقلنا نعم، هذا ربما يصدر منه، لكن هذا لم يحدث أبداً، الصحابة كانوا أذكياء جداً ونُبهاء، لا يُحرِّك شفتيه الآن، ويسمعون مثل هذا الصوت!

في صحيح البخاري ومُسلِم عن يعلى بن أُمية وهو أحد الصحابة أنه قال لعمر – رضيَ الله تعالى عنهما – ليتلني رأيت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – حين ينزل عليه الوحي، أُحِب – قال – هذا، أُحِب أن أعرف كيف يكون حال النبي حين يأتيه الوحي أو ينزل عليه الوحي وجبريل، كيف يكون حال النبي؟ يا ليتني رأيت هذا، وعمر طبعاً رأى هذا، لكن يعلى بن أُمية لم يسبق له أن رآه.

على كل حال ثم يقول فلما كان النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – بالجعرانة وعليه ثوب قد أُظِل عليه به – أي الصحابة ظللوه بهذا الثوب – ومعه ناس من أصحابه – رضوان الله تعالى عليهم – فيهم عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل فسأله، قال يا رسول الله كيف ترى في رجل أحرم في جُبة – أي أحرم في عُمرته كما يظهر من سياق الحديث الآن، كان في عُمرة، وأحرم في جُبة – مُتضمِّخ بطيب؟ ضمَّخها بطيب وأحرم فيها، ما القول؟ يقول فسكت عنه ساعة، النبي سكت، لم يُجِبه، تركه، نظر إليه وسكت.

الرجل مضى، فجاءه الوحي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، أي نزل الوحي، وعمر عرف، الآن بدأ التغير يحدث في شكل رسول الله، فأشار عمر إلى يعلى بن أُمية أن تعال، وكان قريباً من المكان، فأتى، فأدخل رأسه، ليرى رسول الله، فأدخل رأسه، فإذا هو مُحمَر الوجه – عليه السلام -، مُحمَر! انتبهوا إلى هذا، ليس مُزرَق الوجه وإنما مُحمَر الوجه، يغط لذلك ساعةً، وطبعاً الساعة في هذه الآثار وأمثالها ليس معناها الساعة العُرفية الآن، أي ليست ستين دقيقة، لا! الساعة هي مُدة من الزمن قصيرة، ربما تُساوي الآن عشر دقائق، ربما تكون زُهاء عشر دقائق، وربما حتى خمس دقائق.

يعلى بن أُمية رأى النبي مُحمَر الوجه، يغط لذلك ساعةً، ما معنى لذلك؟ للوحي، من أجل الوحي، يغط بسبب الوحي النازل عليه، يغط مثل النائم، يغط غطيطاً، فهل كان نائماً؟ سوف نرى، هل كان نائماً؟ سوف نرى!

يغط لذلك ساعةً، ثم سُري عنه، فقال أين السائل عن كذا وكذا؟ فالتُمِس الرجل، أين فلان؟ فقال له اغسل عنك هذا الطيب ثلاثاً، أي ثلاث مرات، وأما الجُبة فانزعها، ثم اصنع ما كنت تصنع في عُمرتك – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -.

العجيب أيضاً أنه ربما نزل عليه الوحي يا إخواني وتكون فخذه الشريفة فوق فخذ أحد أصحابه كما في حديث زيد بن ثابت، زيد بن ثابت في حديث أخرجه البخاري وأصحابه السُنن الأربعة يقول كانت فخذي تحت فخذ رسول الله، فأملى علىّ، عادي! وضع طبيعي الآن، قال لا يستوي القاعدون من المُؤمِنين – انتبهوا، الآن هذه من غير غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ ۩، هذه لم تنزل إلى الآن – والمُجاهِدون في سبيل الله، قال لا يستوي القاعدون من المُؤمِنين والمُجاهِدون في سبيل الله، والمُجاهِد أفضل من القاعد طبعاً، المُجاهِد أفضل من القاعد!

يقول زيد بن ثابت فجاء عبد الله بن أم مكتوم، وكان أعمى، والنبي لا يزال يُمِل هذه الآية على زيد بن ثابت، فقال والله يا رسول الله لو أستطيع الجهاد لجاهدت، لكن أنا أعمى، لا أستطيع، لا أرى، ماذا أفعل؟ فأنزل الله – تبارك وتعالى – على رسوله لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۩، قال وإن فخذي تحت فخذه، فثقلت علىّ، عجيب! سُبحان الله، أي هذا شيئ غريب، لما نزل الوحي وجبريل ثقلت فخذ رسول الله، وشعر زيد بثقلها، ثقلت ثقلاً كبيراً وعظيماً، حتى خِفت أن ترض فخذي، هذه ظاهرة! ما علاقة هذه الظاهرة بالصرع؟! لا علاقة لها، لا من قريب ولا من بعيد، وظاهرة موضوعية ومادية، اختبرها الصحابة بأنفسهم – رضوان الله تعالى عليهم -.

سورة المائدة – إخواني وأخواتي – لما نزلت على رسول الله حصل الآتي، وهذا شيئ مُهِم جداً، هذا يُؤكِّد ما قلناه، لأن قد يقول عالم من علماء طب الأعصاب وحتى الطب النفسي، قد يقول هذه ربما ظاهرة فيها جُزء إيحائي، لأن زيد بن ثابت مُقتنِع ومُعتقِد أن هذا نبي وأن هذا وحي، قد يكون النبي كان يضغط على نفسه، فإذا ضغط على نفسه شعر زيد بن ثابت بثقلها، لكن انتبهوا الآن، هناك شيئ آخر مُختلِف تماماً، ولا يُمكِن أن يُفسَّر على هذا النحو.

هناك حديث ترويه الصحابة الجليلة أسماء بنت يزيد، أخرجه الإمام أحمد، تقول فيه الآتي عن سورة المائدة حين أُنزِلت، وطبعاً هي لماذا ترويه؟ هي كانت آخذة بزمام العضباء، أسماء بنت يزيد كانت آخذة بزمام ناقة رسول الله، وتُسمى العضباء، قالت إني لآخذة بزمام العضباء، ناقة رسول الله، إذ نزلت عليه سورة المائدة كلها، والمائدة فيما يُقال نزلت مرة واحدة، قالت إذ نزلت عليه سورة المائدة كلها، فكادت من ثقلها أن تدق عضد العضباء، بل هذا الحديث يرويه عبد الله بن عمرو بن العاص، نفس الشيئ! ويبدو أنه كان شاهداً لهذه الحادثة أو لهذه الوقعة، وهو أيضاً عند الإمام أحمد، يقول نزلت سورة المائدة كلها، فثقلت، ما الذي حدث؟ فثقلت على العضباء، فلم تستطع أن تحمله، أي لم تستطع أن تحمل النبي، يبدو أنها أرادت أن تبرك، فنزل عنها.

هل أيضاً العضباء تعلم أن هذا نبي وتخضع للإيحاء الذاتي أو الإيحاء حتى الغيري؟ هل يُمكِن أن تُخدَع؟ هذه ناقة، عجماء، بهمية، لا إله إلا الله! لكن ثقل عليها هذا، لما نزل جبريل ثقل عليها، ورأى الصحابة هذا، أرادت أن تبرك، فنزل النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – عنها.

مُهِم جداً هنا – إخواني وأخواتي – أن ننتبه، إلى ماذا؟ إلى أن الوحي ينزل على النبي والنبي فوق الناقة، لو كان هذا الوحي نوبة من نوبات الصرع وخاصة الصرع الأكبر لحدث ماذا؟ لوقع النبي، لكن هذا لم يحدث أبداً، الوحي كان يأتيه وهو على المنبر، ويراه الصحابة، ولا يقع أبداً، لا يتطوَّح، يأتيه وهو واقف، لا يتطوَّح، يأتيه وهو جالس، يأتيه وهو على الناقة، ولا يقع – بفضل الله -، لأنه ليس صرعاً، هذا وحي.

نُسجِّل الآن في آخر الحلقة بعض المُلاحَظات السريعة فيما تبقى من وقت يسير، هناك العلّامة الهندي حميد الله – رحمة الله تعالى عليه -، أعني محمد أحمد حميد الله، وهو علّامة كبير، وبحّاثة مشهور – رحمة الله تعالى عليها -، كان يُجيد أربع عشرة لُغة، يقرأ بها ويكتب بها ويُترجِم منها وإليها، شيئ عجيب! عالم مُسلِم كبير جداً ودقيق، وله منهجية رصينة جداً في البحث العلمي.

العلّامة حميد الله – قلت أنا هذا حتى في حلقة سابقة – درس السيرة النبوية، طيلة عمره وهو يدرس، لكن درسها على مدى ستين سنة، أي يدرسها ويدرس غيرها ويعود إليها وكذا، وله كتاب كبير في السيرة – رحمة الله تعالى عليه -، هذا الرجل يقول أنا عبر الاطلاع والدرس في ستين سنة لم أقع على خبر واحد أو أثر واحد أو معلومة واحدة تشي بأن آباء الرسول أو أجداد الرسول أو أقرباء الرسول فضلاً عن الرسول عينه كانوا مُصابين أو أي أحد منهم بمرض الصرع، لم يُوجَد هذا أبداً، هذا غير موجود.

والصرع كما أشار حميد الله كان مرضاً معروفاً عند العرب، يعرفونه! ونفس الزبد هذا والتخلج والوقوع والتطوح، يعرفون هذا، ولو أُصيب به هو أو أحد من أقربائه لسارعوا من غير توانٍ إلى اتهامه به – عليه الصلاة وأفضل السلام -، أنه مجنون يُصرَع، تصرعه الشياطين، لكن هذا لم يحدث، أما اتهامهم له بالجنون فهذا مسألة أُخرى، ليس جنوناً ناتجاً عن الصرع أبداً، لأنه يختلف عنهم ويُخالِف مألوفهم، وهذه قضية مُختلِفة تماماً.

قالوا هذا رُغم أن عمره المُبارَك – عليه السلام – امتد إلى ثلاث وستين سنة، وطبعاً هذا كما لاحظ العلّامة المُؤرِّخ الكبير المصري حسين مُؤنِس عمر يُعتبَر طويلاً بمقاييس عصرهم، في تلكم الأحقاب الذي كان يعيش إلى سن الخمسين يُعتبَر ذا عمر طويل، أن الله متَّعه بعمره، أي عُمِّر هذا، وإن كان بعض العرب لا يعدون مُعمَّراً إلا مَن جاوز المائة، يُسمى مُعمَّراً، وتُسمى هذه الهُنيدة، يُقال هذه الهُنيدة، فالمُعمِّر مَن عاش الهُنيدة، أي مائة سنة، هذا هو على كل حال، لكن إلى وقت قريب كان الأمر مُختلِفاً، فهناك مصر – مثلاً -، مصر إلى أيام الحملة الفرنسية عليها كان مُتوسِّط عمر الفرد المصري فيها خمس وثلاثين سنة، أيام رسول الله الذي يعيش خمسين يُعتبَر عُمِّر، والنبي عاش – بفضل الله – إلى سن الثالثة والستين، وظل مُتمتِّعاً بكامل قواه وبكامل صحته النفسية والعقلية والبدنية، وكان معروفاً عنه هذا – بفضل الله تبارك وتعالى -.

وليس هذا فحسب، فقواه العقلية والنفسية لم تشهد تراجعاً، بل نستطيع أن نقول ونحن واثقون مُطمئنون كانت تشهد تكاملاً، قواه النفسية والعقلية تشهد تكاملاً يا إخواني، بمنهجية مادية حتى – بغض النظر عن أي شيئ – ليس فيها أثر للتقديس ولا للمُقدَّس لو قارننا بين القرآن المكي وهو مُعجِز والقرآن المدني وهو مُعجِز أيضاً لوجدنا تفوق القرآن المدني على المكي في الطول، أطول! القرآن المدني يفوق المكي من ناحية الطول، السور أطول، الآيات أطول، الموضوعات أكثر اشتباكاً وتعقيداً، وهذا لا يُمكِن أن يتفق على الأقل مع بعض حالات مآل الصرع عند بعض المصروعين من العباقرة – إذا أردنا أن نتنزَّل -.

من المُهِم أيضاً – إخواني وأخواتي – أن نلفت وأن نلتفت إلى أن تلك الأعراض الاستثنائية – هكذا سنُسميها الآن في هذه المرحلة من البحث – التي كانت تصحب الوحي إلى رسول الله – عليه السلام – لم تكن تأتي إلا عند الوحي، وهذا مُهِم جداً، لم تكن تأتي إلا عند الوحي، ومن المعروف أيضاً في الطب – خاصة طب الأعصاب – أن نوبة الصرع يُمكِن أن تأتي في أي وقت وفي أي حالة، حتى أثناء النوم، يستفيق وتحدث له الحالة، في أي وقت! وهذا عجيب، لو كانت هذه الظواهر أو الأعراض الاستثنائية تأتي النبي في أوقات مُختلِفة، معزولة عن ظاهرة تنزل القرآن، لقلنا نعم، تُوجَد حالة مرضية هنا، تُوجَد حالة غير طبيعية، لكن لا تأتيه يا إخواني إلا ويعقبها قرآن يُتلى أو فتوى، بعض الناس استفتاه، فيُوحى إليه، ويقول له الفتوى كذا وكذا، يذكر السؤال، ويُعطيه الجواب، إذن تُوجَد مسألة تلازم، تلازم دائم أو تلازم دائمي بين الأعراض الاستثنائية التي يُمكِن على حد شُبهتهم أن تكون أعراضاً لمرض الصرع وبين التي يُمكِن أن تكون أعراضاً لظاهرة الوحي، لكن كونها تُلازِم دائماً الوحي أو حصيلة الوحي بعد ذلك تعقبها هذا أمر لافت تماماً، لا يُمكِن أن يُفسِّره الاتهام بالصرع.

أيضاً من الضروري أن نلفت وأن نلتفت – إخواني وأخواتي – إلى أن هذه الأعراض الاستثنائية متى عرت النبي لأول مرة؟ بعد الأربعين، في الأربعين أو في الثالثة والأربعين، أي لم تعتره طوال حياته المُبارَكة من قبل، متى بدأت تعروه؟ مع ظاهرة الوحي، في اللحظة التي زعم للناس فيها أنه نُبئ، ثم ظلت تعروه بعد ذلك في لحظات الوحي إليه، هذا مُهِم جداً جداً، وهذا لا يُفسِّره الصرع، لا من قريب ولا من بعيد.

ثم إن هذه الأعراض ظلت تعتريه وتعروه لثلاث وعشرين سنة كاملة، إلى أن لقيَ الله – تبارك وتعالى -، ما يُتيح يا إخواني مجالاً أوسع لاختبارها، لاختبار هذه الأعراض ومُقارَنتها بالأعراض الصرعية، ونحن فعلنا هذا، وما زلنا إلى الآن نفعل، ولم نجد تطابقاً، لا بين هذه الأعراض وأعراض الصرع الأكبر، ولا بينها من جهة وأعراض الصرع الأصغر من جهة أُخرى – بفضل الله تبارك وتعالى -، وطبعاً واضح أن حياته العقلية لم تتدهور – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

هل كان النبي ينسى؟ أبداً، يذكر كل شيئ، ويعي كل شيئ، هل كان النبي يصل حبل الحديث بعد أن تنتهي هذه الأعراض؟ نعم، يصل حبل الحديث، يُواصِل تماماً، ولا ينسى أي شيئ، هل حدث مرةً أن ازرق وجهه؟ أبداً، هل حدث مرةً أن ريل؟ أبداً، هل حدث مرةً أن أخرج الزبد؟ أبداً، هل حدث مرةً أن وقع مُتخشِّباً؟ أبداً، هل حدث مرةً أن تخشَّب وأن تقبَّض؟ أبداً، هل صرخ مرة من المرات؟ أبداً، وكما قلت لكم مرةً نزل عليه الوحي وكان في يده عظم يأكل، أي عظمة فيها لحم، وسُري عنه والعظمة في يده، لم تسقط، هي تسقط حتى في الصرع الأصغر، تسقط في بعض حالات الصرع، صرع الغيبات أو الصرع الأصغر، لم تسقط، ولم يسقط من على الناقة، ولم يسقط من على المنبر.

أي في نهاية المطاف – إخواني وأخواتي – لا نجد أدنى مُطابَقة بين كل هذه الأعراض وبين أي شيئ من أعراض الصرعين الأصغر والأكبر، هذا كله ضعوه في كفة، وضعوا حصيلة ما أرادوا أن يدعوه صرعاً وهو القرآن العظيم بإعجازه في كفة أُخرى، قرآن أخرج خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩، بنى حضارة، بنى أمة، هدى الإنسانية، ويُقال إنه نتيجة حالات صرع! اللهم إن هذا بهت، بل بهتان عظيم.

أكتفي بهذا في هذه الحلقة، وإلى أن ألقاكم في حلقة أُخرى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: