إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سبحانه من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ۩ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأحباب، أيتها الأخوات الفاضلات:

هذا نعتهم في كتاب الله – سبحانه وتعالى – الصفوة المُختارة والخيرة المُستخلَصة من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وعلى آله وأصحابه ومَن والاه، إنهم تائبون عابدون حامدون سائحون راكعون ساجدون آمرون بالمعروف وناهون عن المُنكَر وحافظون لحدود الله، رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم وهنَّأهم الله جميعاً بما أتاهم وسلك بنا سبيلهم وهدانا كما هداهم ويسَّر لنا بعض ما يسَّر لهم من الخير والهُدى والنور والرشد، وفي المُقدَّمة من هؤلاء المُختارين يقفُ فاروق الإسلام ومُلهَمه ومُحدَّثه الذي لم ير النبي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – عبقرياً يفري فريه في رؤياه الصحيحة التي أخرجها الشيخان، حي قال رأيتني – أي في المنام أو فيما يرى النائم – أنزعُ ببكرةٍ على قليب – أي على بئرٍ – فجاء أبو بكر – أو ثم جاء أبو بكر – فنزع ذَنوباً أو ذَنوبين – والذَنوب هى الدلو الملآنة أو الملأى – وفي نزعه ضعف والله يغفر له – قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى قوله “وفيه نزعه ضعفٌ” إشارة إلى قصر مُدة خلافته رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، فإنه لم يبق إلا سنتين وبضعة أشهر، وهذا معنى ذَنوباً أو ذَنوبين، والله يغفر له – ثم جاء عمر فاستحالت في يده غرباً – الذنوب أصبحت غرباً، أصبحت دلواً عظيماً – فنزع – أي نزع كثيراً – حتى روي الناس وسقوا وضربوا بعطن فلم أر عبقرياً يفري فريه.

حديثٌ نقول إنه صحيح لأنه مُخرَّجٌ في الصحيحين، فهل صحَّحه التاريخ؟ قطعاً صحَّحه، هذا الحديث لو لم يصح عن رسول الله لوعاه التاريخ لأنه درس التاريخ، ما فتح الله – تبارك وتعالى – على إمامٍ و خليفةٍ أو سُلطان أو رجلٍ تولَّى أمر هذه الأمة ما فُتِحَ على ابن الخطّاب رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، وهذا – والله – شيئٌ عجب، فاقرأوا تاريخه واقرأوا مزاياه واقرأوا مآثره واقرأوا ما يسَّر الله على يديه في عشر سنين وستة أشهر وأيامٍ أربعة أحصاها التاريخُ فأحصيناها ووعاها الأيقاظٌ فهل وعيناها؟ هكذا أحصاها التاريخُ بدقةٍ حاذقة، عشر سنين وستة أشهر وأربعة أيام، فلماذا حتى هذه الأيام الأربعة تُحصى؟ لأن يوماً من ابن الخطّاب – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – لا تعدله سنون من الأخيار، سنون من عبادات وعمل الأخيار – إي والله – ويعرف هذا صاحب القلب اليقظان والبصيرة المُنوَّرة المُضوَّءة، فلا يحتاجُ إلى شهادة التاريخ وحسبهُ أن حبيب الحق وسيد الخلق شهد فيه قائلاً لم أر عبقرياً يفري فريه، وقال إن الله جعل الحق على لسان عمر وقلبه، والإمام عليّ – عليه السلام – أبو الحسن وناهيكم به يقول كنا ونحن مُتوافِرون – أي الصحابةَ – نتحدَّث أن السكينةَ تنطق على لسان عمر، إي والله، وقال فيه ابن مسعود لم نزل أعزةً مُذ أسلم عمر، فقد كان إسلامه فتحاً وهجرته نصراً وإمارته رحمة، وفعلاً إمارته رحمة ولا أرحم منها، لقد فُجِعَ الناس فاجعةً عظيمة في اليوم الذي أُصيب فيه عمر رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، كانت فاجعة من أعظم الفواجع ونكبة من أكرث النكبات وأعظم الكوارث التي مُنيت بها الأمة لأن عمر أعزَّهم ورفعهم وحرَّرهم من كل رق إلا ما كان من رق العبودية لله، فساوى بينهم وأخذ بمكاظم الجبّارين والعُتاة حتى أنصف منهم الضعفاء بعد أن أخذ بمكاظمهم، فليس عند عمر كبير، لم يكن ليُجامِل في الحق أحداً وإن كان كبيراً في نفسه، والتاريخ يعي قصة جبلة بن الأيهم، وهو ملك غساني عظيم ملك مُملَّك ماجد مُمجَّد يقدم على عمر ليُعلِن إسلامه في خمسمائة من الرجال بالطيالسة والسيوف مُحلَّين بالذهب، فهذا الرجل كان شيئاً عجباً، وألطف له عمر وأحسن استقباله لمكانه في قومه ولما يرجوه من النفع للإسلام به وعلى يديه، وخرج عمر حاجاً فخرج جبلة يحج معه، فجاء رجل لا عن قصدٍ وإنما عن ذهول وغفلة لم يُبصِر طرف رداء جبلة الملك الغساني فوطأه، فرفع يده فهشم أنفه، وعمر ليس ثمة، لم يكن حاضراً وهذا في الطواف، فجاء هذا الرجل وهو يعلم سيرة عمر وعدل عمر وإنصاف عمر ومُباشَرةً رفع الشكوى بنفسه إلى عمر، فاستدعى عمر جبلة فأقر جبلة، فقال أما وقد أقررت يا جبلة فارض الرجل أو والله لأُقصنه منك، قال ماذا؟ وتفعلها وأنا ملك وهو سوقة؟ فقال دع عنك هذا، قد سوّى الإسلام بينكما، الله أكبر، جئتُ اليوم وأنا أعلم أنكم ستبكون على أنفسكم وعلى أحوالكم وعلى زمانكم وعلى تاريخنا وعلى ما اتفق لنا، ولا يقرأ عمر أحدٌ إلا بكى، بكى على ما سار إليه أمر الأمة وأمر الدين والإسلام، أين كنا وأين صرنا؟ فهو قال له دع عنك هذا – أي قولك ملك وسوقة – قد سوّى الإسلام بينكما، قال فأمهِلني إلى الليل حتى أُراجِع أمري ونفسي، وجعل الرجل يؤامِر نفسه فبدا له ألا يفعل، كبرت عليه والعياذ بالله، فلما كان الليل اتخذه ومَن معه جملاً، فساروا فأصبح الصباح وإذا بمكة منهم بلاقع، فلما أتى الشام تحمَّل في خمسمائةٍ آخرين وأتى هرقل في القسطنطينية – ملك بينزنطة – وهناك أعلن تنصّره ومَن معه – الخمسمائة – أيضاً، فسُرَّ هرقل سروراً عظيماً كأنه فتح من أعظم الفتوح وأقطعه من الأرض حيث شاء وأحسن نزله وأخدمه حتى كأنه ملك وهو عند هرقل، وبعد حين يبدو لعمر وهو لا يعلم بما حدث أن يكتب إلى هرقل يدعوه إلى أشياء ومِن ضمنها أن يُسلِم لله طوعاً، أي أن يُسلِم وجهه لله رب العالمين، فأجابه هرقل في كل ما طلب إلا الإسلام ثم قال لرسول عمر ألقيت ابن عمك الذي أتانا راغباً في ديننا؟ قال مَن تعني؟ قال جبلة، فقال له أهو ثم؟ قال نعم فالقه إذن، ودخل الرجل واقرأوا التاريخ، وصفٌ عجيبٌ جداً للمُلك والبذخ والرفه وبُلَهْنِيَة العيش وخفضه ولينه وطيبه، شيئ عجيب، قال رأيت ببابه من الحشمة والسرور والخدم ما لم أر بباب هرقل نفسه، ولكن الرجل كان ندمان، كل هذا يعلم أنه لن يُغنيه عند الله شيئاً، وبعد أن أخذ مأخذه أو أخذاته من اللهو والسرور وغناء الجواري والقيان وسماع المعازف قال للجواري غنين ما تعرفن من شعري، فجعلن يغنين بشعره:

تنصَّرت الأشراف من عار لطمةٍ               وما كان فيها لو صبرت لها ضرر.

تكنفني منها لجاجٌ ونخوةٌ                       وبعت لها العين الصحيحة بالعوَر.

فيا ليت أمي لم تلدني وليتني                   رجعت إلى القول الذي قاله عمر.

ويا ليت لي بالشام أدنى معيشةٍ             أُجالِس قومي ذاهب السمع والبصر.

ويبكي فبكى رسول عمر، لأنه خسر الدنيا والآخرة، فكل هذا المُلك والرفه والنعيم المُقيم بل الزائل لن يُغني عنه شيئاً، وعمر الذي أدال الله به دولةَ الفرس والروم ووطأ به أكناف البلاد وفتح به الفتوح وأجرى به الأموال سيولاً بل أنهاراً تتدفَّق على عباد الله – تبارك وتعالى – حتى ما بقيَ فيهم فقير ولا مُعيل ولا عزب ولا مدين كان يلبس ثوباً غليظاً خشناً جشباً فيه إحدى وعشرون رُقعة، فهو عاش ومات هكذا – رضيَ الله عنه وأرضاه – بثوب مُرقَّع، لا ينامُ إلا غِبة ولا يطعمُ إلا تقوتاً ولا يلبس إلا هذا الخشن الغليظ ويقول إن نمت النهار ضيَّعتُ الرعية، وإن نمت الليل ضيَّعتُ نفسي، ويلين ويشتد يبغيهم الخير، حافزه ودافعه وباعثه حُجةٌ صادقة يلقى بها ربه يوم القيامة في يوم يشيب منه ولهوله الولدان، ويقول لأخيه عبد الرحمن بن عوف يا عبد الرحمن والله لقد لنت لهم حتى خشيت ربي في اللين، ولقد اشتددت عليهم حتى خشيت ربي في الشدة، ولأنا أفرق منهم وأخوف فأين الملجأ؟ ثم جعل يبكي – رضيَ الله عنه وأرضاه – واكتفى عبد الرحمن بقوله أُفٍ لهم من بعدك، وهذا ما كان، فلم ينتظم حالهم ولم تتسق أمورهم بعده رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، هذا العبقري العارم الذكي ذكاءً رُهبانياً لا ذكاءً عُدوانياً، حيث كان ذكاؤه ذكاء رهبنة وتعبّد وإخبات حتى ليقول بعض الأذكياء يا سُبحان خالق هذا الإنسان، لقد أقام الله منه وجرَّد حُجةً على كل حاكم إلى يوم الدين، يُبعَث بالحاكم والسُلطان لم فعلت ما فعلت؟ فيقول يا رب عجزتُ، فيقول الله تبارك وتعالى ولم لم يعجز عمر؟ فتلزمه الحُجة، فقد أقامه الله حُجةً على كل مَن وليَ شيئاً من أمور المسلمين إلى يوم يلقى الناسُ اللهَ رب العالمين، وهكذا عمر عجبٌ من العجب، فهذه شهادة رسول الله وهذه شهادة عليّ، أما شهادة عائشة فتقول كان والله أحوذياً نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها، فهذا هو عمر في ثلاث كلمات، كان والله أحوذياً نسيج وحده قد أعد للأمور أقرانها، ويقول عبد الله بن عباس – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – ودخلنا عليه يوم طُعِن وقد أُوتيَ بالطبيب فسقاه لبناً فخرج من جروحه الشاخبة الشهيدة فقال ما أراك تُمسي فافعل ما كنت فاعلاً، أي أوصي لأن هذه آخر ساعات لك ، فصاحت أم كلثوم بنت عليّ وبنت فاطمة – عليه السلام – تبكي واعمراه، تبكي زوجها وبعلها، أمير الدنيا وسيد الناس، فكانت تبكي واعمراه فاكتنفتها نسوة أسعدنها على البكاء، قال ابن عباس فدخلت ومعي عليّ – عليه السلام ورضيَ الله عنهما – وجلست إليه وجعل يُبدي من الخوف ويقول والذي نفس عمر بيده لو أن لي ما على الأرض ومثله معه لافتديت به من هول المُطلَع، فهو يخاف على مصيره ويخاف من ساعة لقاء الله لأنه لا يعرف ما هو مصيره، وقد تقولون وأين البُشرى بالجنة وهو المُبشَّر؟ وأين البُشرى بالشهادة وهو المُبشَّر بالشهادة؟ وأين وأين؟ لكن لم يكن عمر ليغتر بذلك، ليس مثل عمر مَن يغتر ببُشرى أو بغيرها وقد علم أن الله واسع التصرّف – لا إله إلا هو – لا يحول بينه وبين ما أراد شيئٌ، ليس مثل عمر مَن يغتر وهو الذي يسأل صاحبه وأخاه وقاضيه يوماً وأحد قوّاده أبا موسى الأشعري – رضيَ الله تعالى عنه – قائلاً يا أبا موسى أيسرك أن ما كان من إسلامنا وجهادنا وهجرتنا وعملنا يُرَد علينا ثم لا نُجزى به شيئ ونخرج كفافاً لا أجر ولا وزر؟ أي ننجو فقط فلا نتقحَّم النار ولكن لا ندخل الجنة، فقال أبو موسى لا والله يا أمير المُؤمِنين، فقد أسلمنا وآمنا وهاجرنا وجاهدنا وعملنا أعمالاً وهدى الله بنا خلقاً كثيرين وإنا لنرجو ثواب ذلك، فيعود عمر وتتحدَّر دموعه الشريفة على وجنتيه ثم إلى لحيته العظيمة الكثة وهو يقول أما أنا يا أبا موسى فوالله الذي لا إله إلا هو إنه ليسرني أن يُرَد علىّ كل ما عملت وأن أخرج رأساً برأس كفافاً لا لي ولا علىّ، فهذه هى خشيته وهذا مبلغ خشيته من رب العالمين – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وهكذا هول المُطلَع، قال ابن عباس فقت له يا أمير المُؤمِنين لا تقل – لا تقل هكذا، لماذا تقول هذا القول؟ – فوالله لقد كان إسلامك فتحاً وهجرتك نصراً وملأت الأرض عدلاً، فقام وقال أسندوني ثم قال يا ابن عباس أتشهد لي بهذا عند الله؟ أراد أن يُلزِمه، فكع ابن عباس كأنه كره وخاف، فهذا ليس مُجرَّد كلام وينبغي أن تشهد عند رب العالمين، قال فقال لي عليٌّ – عليه السلام – اشهد وأنا معك، قال فشهدت، فقرَّ به عيناً رضيَ الله عنه وأرضاه.

إذن عليّ قال اشهد وأنا معك، عليّ الذي زوَّجه ابنته أم كلثوم لأنه كان يُحِبه جداً، عليّ الذي سمى أحد أولاده بإسم عمر وهذا ثابت في كل المصادر الشيعية والسُنية، فأحد أولاده إسمه عمر، عليّ الذي دخل عليه وهو مُمدَّد على آلته الحدباء قبل أن يُدلى في حفرته فبكى وقال والله ما على وجه الأرض اليوم أحدٌ أحب إلىَ أن ألقى الله بعمله من هذا المُسجّى في مسلاخه، وهذه لُغة عليّ وبلاغة عليّ، فهو يقول من هذا المُسجّى في مسلاخه، أي أنه يقول هذا عمل عملاً تنقطع دونه الأعناق، فمَن يعمل مثله؟ مَن يستطيع أن يعمل مثل عمر؟ هذا من الصعب جداً.

فمَن يُضاهي أبا حفصٍ وسيرته               أو مَن يُحاوِل للفاروق تشبيهاً.

يدخل عليه أبو حفص بن العاص يوماً وقد قُرِّب إليه غداؤه فيقول له هلُم إلى الغداء يا أبا حفص، فيقبض الرجل يده مُعتذِراً ويُدرِك الفاروق الذكي البارع السبب فيقول يا أبا حفص ما منعك عن غدائنا؟ لكن ما غداؤه؟ زيتٌ وخبزٌ ناشف، هذا غداء عمر وهو أمير الدنيا وسيد المسلمين، فيقول – وكان الرجل صادقاً صريحاً – يا أمير المُؤمِنين هذا طعامٌ شجب قاسٍ، وعيالي وأهلي في انتظاري وقد طيَّبوا لي طعاماً أناله، أي حقيقةً أضن بنفسي أن آكل هذا لأن هذا يُؤذيني، فقال عمر يا أبا حفص – أي يا أبا حفص ابن العاص – أتظن أنني لا أستطيع لو أردت أن آمر بصغار المعزة فيُلقى عنها شعرها – أي تُذبَح وتُسلَخ جيداً – ثم آمر ببُرٍ فيُصنَع رِقاقاً ثم آمر بصواعٍ أو بصاعٍ من زبيب فيُلقى في سمنٍ حتى يكون كعين الحجل ثم آمر بماءٍ يُراق عليه ثم يُحرَّك حتى إذا صار كدم الغزال أكلت من هذا وشربت من هذا؟ قال يا أمير المُؤمِنين وإنك بطيب الطعام لخبير، قال نعم وإنني لأبصر بطيب الطعام من كثيرٍ من آكليه ولكني لا أُريد أن تنقص حسناتي وقد رأيت الله – تبارك وتعالى – يقول في كتابه في أقوام أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ۩، أي لا أُريد أن تنقص حسناتي، أزهد في هذا لأجل الآخرة، لأُوفِّر حظي من نعيم الله!

لا أحد يستطيع أن يزعم أن عمر توسَّع في المأكل يوماً أو في المشرب أو في الملبس أبداً، لم يفعلها عمر، ووالله رب عمر لا يفعل هذا إلا مُوقِن، والله الذي لا إله إلا هو لا يقدر على هذا ولا يفعل هذا ولا يقول هذا القيل إلا مُوقِن بالله تبارك وتعالى، صبورٌ على أمر الله صبره على أقدار الله، ولذا حقيقٌ وجدير أن يكون من أئمة المُتقين ومن أعلام الدين، قال الله وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ۩، فهذا يقين عجيب ولذا يرى الدنيا أحقر مِن أن تُنال وهو يعيش هذا العيش هذه المُدة المُتمادية المُتطاوِلة، فسبحانه مِن إله يخلق أمثال هؤلاء، إي والله فقد ملأ الدنيا أسوةً وقدوةً وعبرةً وحكمةً ومجداً وعظمة، هو مُترَع بالعظمة والمجد رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.

كان إذا سن قانوناً أو سُنةً أو أمر بشيئ أو نهى عن شيئ يبتديء بأهله، يجمعهم – أولاده وأحفاده وأبناءه وبناته وما إلى ذلك – ويقول لهم أما بعد يا آل عمر فإني قد أمرتُ الناس بكذا وكذا ونهيتُ الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطيور الجوارح إلى اللحم، فإن وقعتم وقعوا وإن هبتم هابوا، فلا والله رب عمر لأوتى بأحدٍ منكم بادر إلى ما نهيت عنه أو خالف ما أمرت به إلا أضعفت عليه العقوبة لمكانه مني – أي لأنه قريبي فلن أُحابيه ولن أُحظيه ولن اُجامِله بل سأُضاعِف عليه العقوبة لأنه مني وأنا منه – فليتقدَّم منكم مَن شاء وليتأخَّر مَن شاء، الله أكبر فليست قرابة عمر تعني أن القانون في أجازة، ليس رحم عمر يعني عند عمر وآل عمر وفي مدارك المُؤمِنين وأفاهمهم أن العدل مسرحية تُمثَّل على الناس، كلا فقرابة عمر ليست حُظوة وليست مزايا وتشريفات، إنها مسئولية غليظة جداً يشقى بها قريبه ويسعد بها الآخرون، الله أكبر، لقد كان عمر الصدق نفسه، الصدق مُجسَّداً في رجل هو عمر،واستهل عهد خلافته الأنور السعيد بخُطبة جاء فيها: أما والله قد وُليت عليكم وأما والله لولا ظني بأنني سأكون خيركم لكم وأقواكم عليكم وأشدكم اضطلاعاً بأمركم ما وليت عليكم ولكفى عمر انتظار الحسب، أي أنه قال أنا رجل مشغول بالآخرة ومشغول بلقاء الله زبانتظار حسابي، لكن أنا – إن شاء الله – يغلب على ظني أنني سأُنهِض نفسي على صراطٍ مُستقيم من العدلِ والاستقامة، وهكذا كان فلم يُكذِّبه الله وشهد له التاريخ وشهد له المُنصِفون الصادقون – اللهم اجعلنا من الصادقين – فلم يعوج ولم ينحرف ولم يتلاعب ولم يستسهل ولم يستخف وظل على هذا، ثم قال ولكم علىّ ألا أُجبي أو أَجبي خراجكم وفيء أموالكم إلا من وجه، ولكم علىّ أنه إذا صار إلىّ ألا أُخرِجه إلا في حقه، ولكم علىّ أن أزيد أرزاقكم وعطاءكم إن شاء الله تعالى، وقد أشبعهم والله، والله لقد زادهم حتى أشبعهم عمر، وهذا أمرعجيب، مائة وسبعة وثلاثون مليون كل سنة – شيئ لا يكاد يُصدَّق – لكنها انحطت – كما قلنا غير مرة – في أيام بني أُمية إلى ثمانية عشر مليوناً بالظلم، أي بظلم الناس وتغوّل أموال المسلمين وأكل أموال الأمة والتلاعب – تلاعب بني أُمية بأموال الأمة – بها، فانحطت من مائة وأربعين إلى ثمانية عشر، أين العدل؟ لا يُوجَد عدل ولا تُوجَد بركة ولا تُوجَد رحمة إلهية، ثم قال ولكم علىَ ألا أجشمكم ما لا تطيقون وألا أُورِدكم المهالك، علماً بأننا لا نعرف عمر، مَن يعرف عمر؟ نجن نعرف عنه كلمات وعنوانات وأحياناً تكون مُشوِّهة، هذه العظمة الفارعة وهذا المجد العليّ وهذا الرجل الطوال الذي كان لا يُماشي قوماً إلا علاهم برأسه لطوله لأنه كان طوالاً وكان بعيد ما بين المنكبين، ووجهه أبيض مُشرَب بالحُمرة وهو عظيم اللحية وأصلع – رضيَ الله عنه وأرضاه – ومُتماسِك اللحم، وكان مُصارَعاً في الجاهلية فلا يكاد يصرعه أحد، وهذا أمر معروف لأنه كان يُصارِع الناس في سوق عُكاظ، لكن هذا الرجل يُخفي بين مطاويه وفي جوانحه قلباً كله رحمة وكله لين وكله رقة، وهذا غير معروف لنا، فنحن نأخذ فقط الجانب الشديد الصلب، فهو كان صلباً على نفسه وعلى أهله وعلى الظلمة، أما بالرعية وبالمساكين إن شئت أن تراه كعصفورٍ ناضٍ مهزول احتواه إعصار فقل له ألا تتقي الله يا عمر؟ يرتجف وربما وقع من طوله، هذا هو عمر، وهكذا يُزلزَل زلزالاً شديداً إذا سمع آهة مظلوم أو حس بدمعة أم أو أرملة كسيرة.

يقول عبد الرحمن بن عوف خرجت معه ليلةً وقد بقيَ الهزيع الأخير من الليل وقافلةٌ قد قدمت المدينة – قافلة تجّار – فصرنا بآخرها – في الهزيع الأخير من الليل – فقال القوم نيام هيا يا عبد الرحمن حتى نحرسها – أمير المُؤمِنين يحرس قافلة-، قال فجلس وجلستُ معه فلم نلبس إلا يسيراً حتى سمعنا بصوت، صوت طفل يبكي ، فلم يملك نفسه وقام عمر – يتألَّم من الرحمة – وجعل يعس حتى اهتدى إلى موضعه فإذا أمه تُنهنه – تُريد أن تُسكِته – فلا يكف عن البكاء، فقال يا أمة الله أسكتي هذا الطفل لأنه لا يحتمل، ثم عاد فلم يلبث الطفل أن عاد إلى البكاء فعاد وهكذا ثم تكرَّر الأمر في الثالثة فقال لها يا أمة الله بئست الأم أنتِ، أسكتي هذا الطفل، فيعمر يتعذَّب مثل رسول الله من هذا، فكان لا يستطيع بل ويقطع صلاته إذا سمع بكاء الحسن والحسين ويتجوَّز في الصلاة لأنه يعلم أن الأم خلفه معها رضيعها يبكي، فيتجوَّز في صلاته رسول الله من أجل هذا، وعمر تلميذه يا أخي، هو تلميذ رسول الله وخرّيج مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، فقالت له وهى لا تعرف مَن تُخاطِب إليك عني لقد أضجرتني أيها الرجل، إني أُحاوِل فطامه فيأبى، فقال فطامه؟ وكم له من العمر؟ قالت بضعة أشهر، قال لم تُعجِلينه؟ قالت لأن عمر لا يفرض – العطاء الشهري – أي المساعدات للأطفال Kinderhilfe – إلا للفطيم، فقال لا تُعجِليه، يقول عبد الرحمن فعاد وأنفاسه تتواثب لا أدري ما به، فصلى بنا الفجر، والله ما يستبين أحدٌ قراءته من شدة البكاء، أي أنه قضى الصلاة كلها باكياً، حتى إذا سلَّم قال ألا بؤساً لعمر، كم قتلت من أطفال المسلمين يا عمر، ثم دعا بكاتبه فأمره – قانون أميري خلافي – أن يُفرَض في الإسلام لكل وليد من أول يوم حتى لا تُعجِل النساء أطفالهن، ثم أمر فكتب إلى الأمصار بذلك رضيَ الله عنه وأرضاه، وهذه رحمة عجيبة، فهو وخشوع ليّن، ولذلك قال لنت لهم حتى خشيت الله في اللين، فهو ليّن جداً وستير!

يأتيه رجل كأنه يأتيه بمسرة – بخبرٍ مُفرِح – وهو يقول يا أمير المُؤمِنين، فقال ما هناك؟ قال رأيت فلاناً يُعانِق امرأته في النخل، فعلاه بالمخفقة – أي بالدرة – وخفقه بمخفقته وهو يقول هلا سترت عليه؟ ولم يقل له ائت بثلاثة يشهدون عليه حتى نُحقِّق في المسألة وإنما خفقه بالمخفقة.
كان له من الشدة في دين الله ما يحمله على إقامة الحد حتى على ابنه حين شرب الخمر ومات، وكان له من الورع الكاف ما يفهمُ به ضعف البشر ويتعفَّف عن ظلمهم، وكان له من ذكاء الطبيعة والفطنة الحكيمة الهادية ما يجعله يُقدِّر أوضاع الناس فيستجمل السترة عليهم لأنه يُحِب الستر، قال فإني سمعت النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول مَن ستر أخاه المسلم ستره الله يوم القيامة، فلم تفضحه؟ جاءه رجل قال يا أمير المُؤمِنين استفتيك في مسألة، فقال هات، قال ابنتي – الأبعد – أتت حداً من حدود الله – بنت بكر ارتكبت فاحشة – ثم إنها ذهبت لتقتل نفسها فأدركناها وقد قطعت بموسى – أي بشفرة أو موس كما يُقال – بعض أوداجها، فأدركناها حتى برأت، وجاء مَن يخطبها، حتمٌ علىّ – أي واجبٌ علىّ – أن أُخبِره بما كان؟ فقال عمر ماذا؟ والله لئن فضحتها لأجعلنك نكالاً في الأمصار، اذهب استر عليها وانكحها نكاح العفيفة المسلمة، أي أنه قال له استر يا أحمق على ابنتك لأنه يُحِب الستر، فهو يفهم الدين فهماً عميقاً رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه.

عمر كان شديداً على نفسه وشديداً على أهل بيته، وفي عام الرمادة – وهو عام مجاعة قاسية شديدة برَّحت بالناس حتى ترأوا منها شبح الموت – أمر يوماً بنحر جزور وأن يُوزَّع على أهل المدينة – أن يُوزَّع على أهل المدينة جزور أو قعود واحد لعدم وجود الرزق – فمهدوا إلى أمره وأنجزوا المُهِم، فلما كان وقت الغداء وجد خواناً وهو طعاماً طيباً على مائدته ليس له به عهد من أشهر فقال ما هذا؟ قالوا سنام البعير الذي أمرت بنحره وكبده، وهما أطيب ما في البعير، فقال بيده هكذا – أي أبعِدوه – وقد ريع، ثم قال أخِّروه عني وأخرِجوه، بئس الوالي أنا إن طعمت طيبها وتركت للناس كراديسها، أي أنه قال كيف يأكلون العظم والكراديس وأنا آكل هذا؟ لا لن أفعل، ائتوني بخبزي وزيتي، وعاد إلى خبزه وزيته حتى أثَّر في وجهه الصبوح وكان أبيضاً مُشرباً بالحُمرة ورجلاً فخماً، لكنه أثَّر فيه فاسود وجهه من كثرة الزيت والخبز لأنه لا يأكل إلا زيتاً وخبزاً.

يدخل في الرمادة على ابنه عبد الله بن عمر وكان الله قد أوسع على عبد الله شيئاً – كان يتجر عبد الله ويبتغي ما يبتغيه غيره من المسلمين – فيجده يأكل شريحة لحم فيقول لحماً يا ابن أمير المُؤمِنين؟ ألأنك ابن أمير المُؤمِنين تأكل لحماً والناس في خصاصة؟ هلا خُبزاً وملحاً؟ هلا خُبزاً وزيتاً؟ فهو لم يُعجِبه هذا، وعبد الله إمامٌ – رضيَ الله عن عبد الله بن عمر – طبعاً، إمام من أئمة الزُهد والتُقى والورع كما تعلمون وتعلمن.
يسمع يوماً أو بالحري يرى وهو يُفتِّش ويتقصَّى إبلاً سماناً قريبة من الحمى، وقد حمى أرضاً جعلها مرعاً لإبل الصدقة ودواب المسلمين ونعمهم – أي أنعامهم – تُسمى بالحمى، وهذا من تخطيطاته الاقتصادية والزراعية، فرأى إبلاً سماناً قُرب الحمى فقال لمَن هذه الإبل السمان؟ قالوا لعبد الله، قال مَن عبد الله؟ قالوا ابن أمير المُؤمِنين، قال ابن عمر، بَخٍ بَخٍ يا ابن أمير المُؤمِنين، كأنه يقول باستهزاء جيد – والله – أن تفعل هذا، ثم دعا به فجاء عبد الله تسبقه مخاوفه وهو يعلم مَن هو عمر، فوجده يفتل سبلة شاربه، وكانت هذه عادته إذا أهمه أمر كالأسد يفتل سبلة شاربه، فقال ما شأن هذه الإبل يا ابن أمير المُؤمِنين؟ فقال يا أمير المُؤمِنين إبلٌ أمضاء – أي مهازيل – اشتريتها بحُر مالي وتركتها في الحمى كالناس، أبتغي ما يبتغي المسلمون، أين أذنبت؟ أي أين النُكر في هذا وكل الناس تفعل هذا؟ فقال ويعلمُ الناس فيقولون ارعوا إبل ابن أمير المُؤمِنين واسقوا إبل ابن أمير المُؤمِنين، وهكذا تسمن إبل ابن أمير المُؤمِنين ويربو ربحك يا ابن أمير المُؤمِنين، يا عبد الله خُذ رأس المال الذي وضعت في الإبل وضع الربح في بيت مال المسلمين، ولم يُراجِعه عبد الله بكلمة!

إن القرب من عمر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – والصلة إليه بسبب أو بنسب لا تعني حُظوة ولا تعني مزايا بل تعني الحرمان حتى من بعض الحقوق المشروعة،فلماذا؟ أهذا ظلم؟ ليس ظلماً بل لأن عمر قُدوة، فلو توسَّع أو تسمَّح شيئاً في هذه الأمور لأتى بعده ومن خلفه مَن يُسرِف فيها وليس يتوسَّع فقط ثم يعتل ويعتذر بقوله أن عمر فعل هذا.

يأتيه مال من الأقاليم كثيرٌ فتُسرِع إليه حفصة – أم المُؤمِنين ابنته – مع مَن أسرع من الناس فلما صارت عنده كانت تُداعِبه وقالت يا أمير المُؤمِنين هذا مالُ الله – تبارك وتعالى – ومالُ المسلمين، ونحن أقرباؤك وقد وصى الله – تبارك وتعالى – بالأقربين، أي أنها تُداعِبه وتروزه لكي ترى هل هذا من المُمكِن أم لا لأنها تُريد مثل كل الناس، فقال يا بُنية – رد عليها جاداً لأنه ليس يعرف المزح في هذه الأمور – مالكم من مال أمير المُؤمِنين، أما هذا فمال المسلمين، انطلقي على بركة الله، فذهبت ولم تعد بشيئ، أي إذا أردت أن أُعطيكم فمن مالي أنا وليس من هذا لأن هذا للمسلمين، وكأنهم ليسوا من المسلمين لأنه لا يُريد أن يُعطيهم من هذا.

ولذلك حين أراد أن يزدلف إليه المُغيرة بن شُعبة على عادته مرة وقد وجده مهموماً بمَن يستخلف مِن بعده قال يا أمير المُؤمِنين أنا أدلك، قال مَن؟ قال عبد الله بن عمر، فقال عبد الله بن عمر؟ لا أرب لنا في أمركم هذا، إن كان خيراً فقد أصبنا منه، وإن كان شراً فبحسب آل عمر أن يُحاسَب منهم رجلٌ واحد هو عمر وأن يُسأل عن أمر المسلمين واحدٌ هو عمر، والله ما حمدتها لنفسي – أي أن الخلافة ما حمدتها – حتى أرضاها لابني، وقد جهدت فيها نفسي – أي أتعبت نفسي – وحرمت أهلي، وإني لأرجو الله – تبارك وتعالى – أن ألقاه لا أجر ولا وزر إني إذن لسعيد، أي أنه قال كيف أبلي وأكرث ابني بهذه الكارثة؟ هذه كارثة، هم يظنونها مغنماً وشرفاً ولكن هى كارثة حقيقية، فمَن تولى أمر المسلمين كان على شفا جرفٍ وعلى شفا حفرة من جهنم. والعياذ بالله، وفي الحديث عن رسول الله يُؤتى بالقاضي – فكيف بأمير المُؤمِنين؟ القاضي يحكم بين اثنين في عشر دراهم وفي حقوق بسيطة – فيأخذ المّلَك بقدمه ويحمله هكذا فوق جهنم – والعياذ بالله – وتُفتَح له الدواوين والقضايا، فيعلم في كم قضية قضى وقضى بماذا ولماذا، فإن عدل أمسكه، وإن قيل ظلم قال ألقه فيُلقى في مهواة جهنم، فكيف بخليفة يحكم في الناس؟ ولذلك يراه عليّ بن أبي طالب – عليه السلام ورضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يوماً وهو يعدو في إثر بعير فيقول إلى أين يا أمير المُؤمِنين؟ قال بعيرٌ من إبل الصدقة نَدَّ فأنا أطلبه، قال يا أمير المُؤمِنين لقد أتعبت مَن يجيئون بعدك، فعليّ ينظر إلى نفسه ولذا قال هذا خط لابد أن نسير فيه ومن ثم أتعبتنا وأتعبت كل أحد يأتي بعدك، ثم قال ألا يقوم بهذا عبد – خادم أو مُوظَّف – في إبل الصدقة؟ فقال عمريا أبا الحسن والذي نفس عمر بيده لو ضل بعيرٌ بشاطيء الفرات لظننت أن عمر يُؤخَذ به يوم القيامة، أي أن هذا كله من المطلوب مني وأنا أعرف هذا، ولذلك كان يختار ولاته كما يختار قدره ومصيره وكما يختار جنته أو ناره، ويُحسِن اختيارهم جداً ويُسارِع إلى عزلهم بأدنى شكاية إن تحقَّقت من الجمهور، لأنهم ما وُضِعوا وما وُلوا إلا لمصلحة الناس ورحمتهم، فإن هم جاروا فليُعزلوا، الولاة كثير غيرهم.

من أعجب ما قرأنا أنه بعث محمد بن مسلمة الأنصاري وكان مُفتِّشه على الولاة – هذا المُفتِّش هو رأس المُفتِّشين، ولا يُخفي عنه شيئاً وإنما يُلقي إليه بكل صغيرة وكبيرة – إلى مَن؟ إلى سعد بن أبي وقّاص، وإذا ذُكِر سعد تُذكَر الدعوة المُستجابة والقرآن والذكر ولكن ننسى الفاتح العظيم، فسعد هو الفاتح مثل نهاوند والمدائن والقادسية، فسعد دوَّخ الفرس والروم، وهذا الرجل هو أُعجوبة من أعاجيب الدهر، فهو رجل عجيب وقد جمع إلى هذه العبقرية العسكرية العبادة والذكر والدعوة المُستجابة، فلا يدعو على شيئ إلا لبّاه الله في حينه، شيئ عجيب هذا الرجل لكن هؤلاء هم أصحاب رسول الله، هؤلاء هم عمد الإسلام وبرق الإسلام، فهم برقه وصدره وأساسه وعموده، وعلى كل حال بعث محمداً إلى سعد يُحقِّق معه والمعركة على الأبواب، فالفرس قد احتشدوا هم وحلفاؤهم – كانت بعد أيام نهاوند وهى فتح الفتوح – ولكن سعد هو سعد، فلو عُزِل ربما نخسر المعركة، لكن هذا غير مُهِم عند عمر، المُهِم عند عمر هو المبدأ، فلا شيئ يتأخَّر، لكن أبو بكر – رضوان الله عليه – كان له خُطة مُختلِفة، وإلى اليوم يُوجَد مذهبان في السياسة والإدارة، أي مذهبان في الشأن العام، فبعض الساسة كالإنجليز في بلادهم كانوا هكذا لا يُحِبون أن يُضيِّقوا على ولاتهم في الأطراف وفي البلاد المفتوحة، فهذا ممنوع هناك، ولكن يُضيِّقون جداً على الوزراء والعلية في البلد نفسه، وهذه سياسة في إنجلترا، وأبو بكر كان هكذا، أبو بكر كان يتساهل في بعض الهانات والأخطاء من بعض القادة الكبار مثلما حدث – مثلاً – مع خالد في حروب الردة، فكان يتساهل حتى لا يطمع المُرتَدون ولا ينشع في الإسلام شعب ولا ينفتق فيه رتق، لكن عمر لم يكن كذلك، فلابد أن يُحاسَب الكل حتى ونحن في حروب الردة، وهكذا واجه أبا بكر وقال له يا أبا بكر أوقف خالد عند حده، إن في سيف خالد رهقاً، وطالبه بأن يُحَد، وهذا شيئ عجيب، فقال أبو بكر لا، والله لا أُشيم سيفاً سلَّه الله على أعدائه، أي سلَّه رسول الله على أعداء الله ورسوله، وعلى كل حالعمر قضيته مُختلِفة تماماً وهذا شيئ عجيب، فنهاوند بعد أيام ومع ذلك قد يُعزَل سعد، ولكن بفضل الله – تبارك وتعالى – التحقيق تكشَّف عن براءة سعد، فهذه تُهمة مُلفَّقى ملعونة وكانت المعركة وكان النصر، وكان دائماً ما يُكرِّر ويقول لهم أعلمُ أنكم لا تُنصَرون لا بعدد ولا بعديد ولا بعُدة وإنما تُنصَرون بطاعتكم الله ومعصية أعدائكم لله، فإن ساويتموهم في المعصية وُكِلتم إلى أنفسكم، أي لابد من البُعد عن المعصية، فهكذا كان عمر رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه!

أتاه أهل الشام مرةُ يشكون أحد ولاتهم وهو سعيد بن عامر الجُمحي فقال ما تشكون منه؟ قالوا ثلاثاً، فدعا به مُباشَرةً، وقال هاتوا الأولى، فقالوا الأولى يا أمير المُؤمِنين واليك هذا لا يخرج إلى الناس – إلى الرعية – حتى يتعالى النهار جداً، فقال ما جوابك يا سعيد؟ قال والله لقد كرهت أن أذكر ذلك يا أمير المُؤمِنين، ولكن إن كان لابد – هذا تحقيق على أعلى مُستوى، ولذا قال له أنا أكره أن أذكر ذلك لأنه يتعبَّد الله بهذا، وهذا من حسناته وليس من مثالبه – أمير المُؤمِنين ليس لنا خادم -هو رئيس دولة أو ووالي وليس له خادم – فأعجِن مع زوجي عجيننا – انظر حتى إلى التواضع وحُسن التبعل للزوجة، فقد انتهى العربي الجاهلي الذكوري الأُبوي، انتهى مع الإسلام، فالإسلام خلق أمةً جديدة وهؤلاء هم الأعلام – ثم نخبز خُبزنا ثم أتوضأ وأخرج إليهم، فقال الحمد لله، أي أن عمر فرح ببراءة الناس من العيوب، وهو يُحِب لكل الناس أن يكونوا مُبرّأين مثله – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – من هذا، فهو يُحِب هذا ويفرح، لا يفرح بأخطاء الناس أبداً بل يحزن ويغتم ولذا قال الحمد لله، هاتوا الثانية، فقالوا الثانية يا أمير المُؤمِنين لا يُجيبُ أحداً بالليل، أي أنه بالليل كأنه كالميت، فقال ما عندك؟ قال والله لقد كرهت أن أذكره، ولكن يا أمير المُؤمِنين قد جعلت النهار لهم والليل لي، أي أن الليل لربي، ابحث عن حظي من الله تبارك وتعالى، فالليل للعبادة ولذا لا أنام ليلاً، فقال الحمد لله، ما عندكم؟ فخجلوا وتراجعوا ثم قالوا يومٌ في الشهر لا يخرج إلينا إلا مُتأخِّراً جداً، ربما وقت العصر هكذا في الأصيل ويضيع النهار، لماذا يحدث هذا شهرياً؟ فقال يا سعيد ما عندك؟ قال قد كرهت أن أذكر هذا أيضاً ولكن يا أمير المُؤمِنين ليس لي إلا ثوبٌ واحد، فأنا أغسله في الشهر مرةً واحدة، وأنتظر في بيتي عارياً – أي عُرياناً – حتى يجف، فإذا جف لبسته وخرجت لهمن فبكوا وقال عمر الله أكبر، الحمد لله الذي لم يُكذِّب فراستي فيك، جدِّدوا له.

عُمير بن سعد الصاحب الجليل التقي الراهب يُرسِله إلى حمص فيمكث سنةً لا يسمع منه خبراً ولا يأتيه منه فيءٌ ولا خراج فيقول لكاتبه اكتب إلى عُمير أخشى أن يكون خاننا ، أي أنه يخاف من أن يكون قد أخذ الأموال لأن سنة كاملة ولم يأتهم منه شيئ، فكتب إليه يدعوه بالقدوم على أمير المُؤمِنين في المدينة المُنوَّرة، وبعد أسابيع يسيرة شاهد الناس في طُرقات المدينة رجلاً ماسكاً راهباً قد بليت ثيابه، وهو أشعث أغبر قد علته وعثاء السفر فيمشي هوناً مُتئداً يتقلَّع تقلعاً من شدة ما لقيَ من إعياءٍ ونصب ويحمل على يمينه كيساً فيه قصعة وأشياء وعلى يساره قربةً – إداوةً فيها ماء -ويتكيء على عصا لا يؤودها جسده المهزول الضئيل، فرمقوه فإذا به يتجه صوب بيت أمير المُؤمِنين – أي القصر، لكن لا يُوجَد قصر لعمر وإنما بيت – فدخل على عمر، فقال له أعميرٌ؟ قال نعم يا أمير المُؤمِنين، قال كيف أنت يا عُمير؟ قال كما ترى، ألا تراني؟ مُعافاً، معي صحتي وعافيتي، أجر الدنيا بقرنها، الدنيا يا عُمير؟ أين الدنيا؟ الدنيا يحملها على كتفيه، فهذه الدنيا كلها، هذه دنياه وهذه كل ما ملَّكه الله، لكن هؤلاء هم رجال عمر وهؤلاء هم ولاته، ولذا قال له أجر الدنيا بقرنها، فقال ماذا تحمل هنا؟ قال أحمل زادي يا أمير المُؤمِنين وقصعتي أتبلغُ فيها، وهنا إداوتي اشرب وأتوضأ منها، وهذه عصاي أدفع بها عن نفسي ما عساه يضرني، فقال يا عُمير بعثناك من سنة ولم تبعث إلينا بشيئ، فما هناك؟ قال يا أمير المُؤمِنين لما بلغت البلد – حمص – التي سيَّرتني إليها جمعت شرفاءهم ووجهاءهم فجعلتهم على أموالهم وأفيائهم، فما تحصَّل منها قسمناه بينهم، إن بقيَ شيئ بعثناه ولم يبق شيئ، قال لم تأت بشيئ لنا، أي للخلافة وللمركز؟ فقال لم يبق شيئ حتى نأتي به، وهنا يهتز عمر طرباً، يفرح بسبب العدل لأن مال الأمة يعود إليها، فالحمد لله يُوجَد عدل وهذا الرجل أمين فقير زاهد مُتقشِّف، فقال جدِّدوا لعُمير عهداً، قال عُمير تلك أيامٌ قد خلت، لا والله لا وليت لك عملاً ولا لأحدٍ من بعدك، السلام عليكم، أي أنه قال له لأ، تلك أيامٌ قد خلت، ولن أعود للولاية، مشقة عظيمة أن أكون والياً – هذا والي عمر – بل هى مشقة من أعظم المشاق ومحنة من أقصى المحن، تلك أيامٌ قد خلت، لا والله لا وليت لك عملاً ولا لأحدٍ من بعدك، فرضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين.

يأتي الشام مرةً – ويا للعجب – على جمل وليس مرحولاً كما تُرحَل الجمال إنما كساء من صوف غليظ يجلس عليه، ودلى برجليه من بني شُعبتي الرحل – رحل الصوف -، فلقيه الناس – أهل الشام – وقالوا يا أيها المُسافِر أما لقيت أمير المُؤمِنين؟ أما صادفك ركبه فنحن بانتظاره؟ لكن ركب ماذا؟ هو ليس عنده هذا، وإنما أتى وحده بدون ركب، وقد نسيت أن أذكر أن واليه في حمص – عُمير بن سعد – عندما أتى إلى عمر قال له أتيت ماشياً؟ فقد رآه محطوماً مهدوداً، فقال نعم يا أمير المُؤمِنين، أي أن الرجل أتى من حمص إلى المدينة ماشياً على رجليه، فقال أما هيّأوا لك دابةً تركبها؟ قال هم ما عرضوا علىّ وأنا ما سألتهم، فانظر إلى العفة، هذا واليهم – هذا الرئيس – ومع ذلك قال هم لم يُعرِضوا علىّ وأنا عندي عفة نفس فلم أسألهم، فما عرضوا علىّ وأنا ما سألتهم يا أمير المُؤمِنين ولذا أتى ماشياً، فما هذه الأمة العجب يا أخي؟ نسأل الله أن يُحيينا بحُبهم وبالولاء لهم وبأن يسلك بنا سُبلهم وأن يجمع بنا معهم فيما هنّأهم فيه من نعيمه العميم ورضوانه المُقيم. اللهم آمين .
هذا شيئ عجب، ومن هنا قال قال عمر بصدق وببساطة أمير المُؤمِنين أمامكم، أي مَن ترون، ففهموا أنه أمامهم فجعلوا يعدون، والراكب جعل يُركِض ركوبته، فإذا بهم بناس قالوا أمير المُؤمِنين خلفكم وقد وصل أيلة، والناس في استقبال، فعادوا إلى أيلة فدخلوا والناس كظيظ من الزحام فرمقوه وقالوا هذا أمير المُؤمِنين، قالوا هذا الذي رأيناه، هو الراكب نفسه، لكنه لا يُعرِّف بنفسه، فأمير المُؤمِنين أمامكم، لأنه لا يغتر بكونه أمير المُؤمِنين، هو واحد من الناس عند نفسه، ويرى نفسه من أقل الناس ومن أضعف الناس، وعلى كل حال جهَّزوا وهيَّأوا له طعاماً فارهاً رافهاً – لحم ومرق وثريد – فنظر إليه بعينين مُغرورقتين – يبكي – وقال كل هذا لي؟ قد تُوفيَ إخواننا من قبل وهم لا يجدون خُبز الشعير يشبعون منه، نحوه عني، فهو يتذكَّر حتى الأموات، أي أنه قال كيف أشبع والصحابة من قبلي استُشهِدوا وماتوا وهم لم يشبعوا؟ كيف أشبع أنا؟ لن أفعل.

عمر حين وُلِّي فرض له المسلمون ما يكفيه وأهله، أي الكفاف، وكفاف الشيئ مثله وعدله بحيث لا يزيد عنه، أي بمقدار حاجته بالضبط، وهو الذي أراد هذا، ثم اتسعت حاجاته وكثر عياله – مجموع أزواجه في الجاهلية والإسلام ثماني زوجات ثم كثر عياله – ولم يزد نفسه في رزقه درهماً واحداً حتى أضر به هذا وجعل يقترض وربما أعاد بعض الدين ثم يقترض وكثرت ديونه، وأحس بهذا عليّ وعثمان وطلحة والزُبير – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – فاجتمعوا أربعتهم وقالوا لابد أن نُفاتِشه ثم تهيِّبوه لأنهم يعلمون أنه يغضب جداً وأن عزة نفسه تأبى، فقالوا فلنتحيل، فلنأت ابنته أم المُؤمِنين حفصة، فأتوا حفصة وساقوا إليها الكلام وقالوا استأنسي لنا، أي انظري حاله لنى كيف يُمكِن أن ندخل ونُكلِّمه، نحن نريد أن نرفع راتبه وهذا لا يكفيه، فجاءته حفصة وجعلت تسوق إليه الحديث سوقاً رفيقاً بحذر وآناه، ولكن أين؟ الأحوذي اللوذعي أدرك هذا فقال مَن أرسلك يا حفصة بهذا الكلام؟ قالت لا أحد، قال والله لو علمت لحاسبتهم، يا حفصة أنتِ زوجة رسول الله أخبريني ماذا كان ثوب رسول الله؟ أي ماذا كان له من الثوب أو من الثياب؟ فقالت كان له ثوبان اثنان، فكل ثياب رسول الله اثنين فقط، فقال هذه واحدة، ما أطيبُ طعام طعمه رسول الله لديكِ؟ أي ما أحسن أكلة أكلها طول حياته عندكِ؟ قالت خُبزٌ طُرِّيَ بسمنٍ، أي خُبز فردوه في سمن، فهذه أحسن أكلة كانت عند حفصة، فقال لها هذه الثانية يا حفصة، فما متاع بيتِ رسول الله؟ أي حُجرتكِ أنتِ وقصر الرسول عند حفصة؟ماذا عن القصر والحريم – حريم الرسول – كما يقولون؟ ماذا كان في قصر حفصة؟ قالت كساءٌ غليظ نبسطه في الصيف، فإذا كان الشتاء بسطنا نصفه وتدثرنا بنصفه الآخر، قال ألا يا حفصة فعودي إلى مَن أرسلكِ – لم يُحِب أن يتقصّى ولكنه يعرف وربما ظن وحدس بهؤلاء الكبار، وهذا لكرمهم وطيب نفوسهم أيضاً – وأخبريهم بقول عمر، ما مثلي ومثل صاحبي – مَن صاحبيه؟ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر الصديق اللذان سلفا – إلا كقوم سلكوا مفازة – أخذوا طريقاً وسافروا سوياً -، فأما أولهم فتزوَّد حسناً فبلغ المنزل – رسول الله وهذا أحسن الزاد – وأما الآخر فأخذ طريقاً واجتهد فأفضى به إلى منزل صاحبه، وأما الثالث فإن أخذ طريقهما – أو إن سلك طريقهما – ورضيَ برزقهما – أي يعيش كما عاشا في نفس المُستوى من الزُهد والتقشّف – فعسى أن يلحق بهما، وإن خالف فإنه لن يجتمع بهما، قولي لهم هذا!
رضيَ الله عن أبي حفص – فاروق الإسلام ومُلهَمه ومُحدَّثه – وأرضاه، وبعث منه في الأمة نفوساً ماجدة وأرواحاً مُحِقة وبصائر يقظة تُحيي العدل وتُنعِش الحرية في هذه الأمة ويرفع الله بها أعلام الدين، رحم الله مَن رفع للإسلام منارة أو قدَّس له شعاراً.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد، أيها الإخوة والأخوات:

ثم الرجلُ – والرجالُ قليلٌ بعده رضيَ الله عنه وأرضاه – بمقامٍ من التواضع وهضم النفس عجيب غريب، يقول ابن الجارود كنتُ أُماشيه يوماً فإذا بامرأة تُنادي مِن خلفه يا عمر، يا عمر – ولم تقل يا أمير المُؤمِنين – فابتسم – كأنه عرف الصوت لأنه كان ذكياً وعبقرياً – ووقف ريثما تلحق به المرأة، فجاءت المرأة بمشهد ومسمع من الجارود والناس وقالت له يا عمر عهدي بكَ وأنتَ عُميرٌ فلم تذهب الأيام حتى سُميت عُمراً، فلم تذهب الأيام حتى صرت أمير المُؤمِنين، ألا فاتق الله يا عمر في الرعية، فإن مَن خاف الموت خشيَ الفوت، قال فقلت لها أتستقبلين أمير المُؤمِنين بمثل هذا الكلام؟ فابتسم وقال دعها، ويلك ألا تعرف مَن هذه؟ هذه خولة بنت حكيم التي سمع الله لها من فوق سبع سماوات وهى تُجادِل رسول الله في زوجها وتشتكي إلى الله، فحريٌ بعمر أن يسمع لها، أي أنه قال هذه امرأة الله استمع لها فلماذا لا أستمع لها؟وهى تقول عُمير وعُمر وكبرت وصرت رجلاً، وهذا شيئ عجيب، فهى امرأة عجوز وتُخاطِبه بهذا لأنه مُتواضِع، عنده تواضع عجيب، فلا يرى نفسه شيئاً الرجل ولا يرى لنفسه حقاً حتى على الله ولا على الناس، وهذا شيئ غريب!

يمشي يوماً فيرى صبيان يلقطون – أي يلتقطون – تمراً مما ألقته الريح في كنف النخيل حوله، فلما رأوه لاذوا بالفرار فأبعدوا حتى لا يراهم أحد إلا واحداً منهم بقيَ مكانه لا يريم، أي لم يبرح فجاءه عمر وتقرفص عنده، فبادره الولد وكان شجاعاً وقال يا أمير المُؤمِنين هذا البلح الذي ألقط مما ألقت الريح، فقال ني لبصيرٌ بما ألقت الريح، أرينيه، فجعل يتفحَّص وقال صدقت، فتهلَّت أسارير الولد وببراءة الطفولة قال يا أمير المُؤمِنين أترى أولائك الأولاد الغلمان على مبعدة؟ قال أراهم، ما لهم؟ قال إنهم ينتظرون ريثما تذهب حتى يُغيروا علىّ ويغبلوني على ما بيدي، أي ساعدني، فقال لا عليك سأُبلِّغك المأمن، فجعل يُماشيه حتى أوصله إلى مشارف داره.

هذا أمير المُؤمِنين، هذا الذي ثل عروش الأكاسرة والقياصرة وكان يحكم في أكثر من عشرين دولة حول العالم شرقاً وغرباً علواً ودنواً، هذا هو عمر، فإذا ذُكِر عمر يُذكَر الإسلام وصفاء الإسلام وتُذكَر الروح المُحمَّدية وعظمة الإسلام وعظمة الدين والعدل والحرية، رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه، ورضيَ الله عن سائر أصحاب رسول الله وأرضاهم أجمعين وسلك بنا طريقهم وسيَّرنا في مسارهم. اللهم آمين.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

 فيينا (21/5/2010)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: