د.سهيلة زين العابدين كاتبة سعودية
د.سهيلة زين العابدين
كاتبة سعودية

أواصل مراجعاتي على برنامج صحوة الرمضاني الذي أذيع في قناتي روتانا خليجية ومصرية، وقّدمه الدكتور أحمد العرفج وضيفه الدائم المفكر الدكتور عدنان إبراهيم.

ومراجعاتي في هذا الجزء ستكون تكملة حول ما أثير في مداخلة الحلقة عن الأدب الإسلامي، وتعليق الدكتور عدنان إبراهيم عليها بقوله:” الإسلاميون خاضعون لوهم الاكتفاء، ويظنون أنّه بما أنّ هذا الدين كامل إذا نحن يمكن أن نبني سياسة واقتصاد وعسكرية إسلامية ، وإدارة إسلامية ، وأدب إسلامي ..، وممّا قاله إنّ مشروع الأدب الإسلامي أجهض، وكل هذه الأوهام ما هي إلّا فقّاعات..”

وقد بيّنتُ في الأجزاء السابقة ما حواه القرآن الكريم من آيات بيّنت أسس الحكم والاقتصاد، والموارد المالية، والعسكرية في الإسلام، وتنظيم قتال المعتدين، ومعاملة أسراهم، إضافة إلى ما حواه من علوم كعلم الأجنة وخلق الكون والفيزياء والكيمياء والجيولوجيا وعلوم أعالي البحار وجغرافية وفلك وإدارة، وتفسير لحركة التاريخ، ممّا يؤكد أنّ كل هذا كان حقيقة، وليس وهمًا، ولا فُقّاعة.

وسأبيِّن في هذه الحلقة موقف القرآن الكريم من الكلمة الطيبة والخبيثة ومن الشعر.

من المتفق عليه أنّ  لكل أمة أدب يعبر عن عقيدتها، ونظام حياتها، وطريقة تفكيرها، وآلامها، وآمالها، وطموحاتها، وإنجازاتها، وتاريخها. وقد حبا الله الأمة الإسلامية بمنهج رباني تستقي منه أسساً وقواعد لفكرها وأدبها يمثل نظرة الإسلام للخالق جل شأنه، وللإنسان والكون والحياة، وهي نظرة:

  • شاملة لشمولية الإسلام؛ إذ شمل جميع نواحي الحياتين الدنيوية والأخروية، ولم يترك أمراً في حياة الإنسان إلا ونّظمه..
  • متوازنة لتوازن نظرة الإسلام للإنسان ــ هذه النظرة التي جمعت بين المادة والروح: وبتوازن نظم الحياتين الدنيوية والأخروية، وبتوازن نظم الكون فلا خلل في النظام الكوني. سامية بسمو الإسلام بالنفس الإنسانية، وعواطفها إلى مراتب عليا من الطهر والعفاف، دون أن يجردها من روحانيتها أو ماديتها بتنظيمها وتوجيهها الوجهة الصحيحة دون أن تنحرف أو تفقد صفتها الإنسانية.
  • جمالية في المضمون والشكل تستمد جمالها من جمال الكون وإبداع خلقه الذي يفجر طاقات الإبداع فيها، ومن نظرة الإسلام للجمال الذي يشمل الإنسان والحياة وكل ما في هذا الكون.
  • إنسانية لإنسانية الإسلام الذي احترم حقوق الإنسان فكرمه، وصان جميع حقوقه بتشريعات عادلة يعجز الخلق أجمعين عن الإتيان بمثلها أو استيعاب دقائقها، كما نظم علاقاته بالأمم ذات الديانات الأخرى.

وأدب الأمة الإسلامية، ولاسيما المعاصر منه احتوى على عقائد مختلفة ومذاهب شتى بتأثير الأمم الأخرى المعادية للإسلام والتي تستهدف الإسلام وسلخ الإنسان المسلم من عقيدته وسلبه شخصيته الإسلامية باسم الأدب والفن، وحتى أنّها استحدثت  مذهباً أدبياً جديداً هو ” مذهب الفن للفن “،المبني على مقولة لأرسطو مفادها أنّ غاية الفن جمالية بحتة، ولا ينبغي أن يسعى وراء غاية تربوية أو أخلاقية أو فلسفية.

وهذا المذهب الذي يفصل الأدب عن عقيدته وقيمها ومبادئها ويبيح له كل شئ باسم الفن والأدب، فيتجرأ على الذات الإلهية، ويمجد الوثنية ويعظم آلهتها، وينال من عصمة الأنبياء، ويدعو إلى الإباحية والمجون تحت شعار ” الفن للفن “..

فكان من الضروري بمكان تنقية هذا الأدب ممّا علق به من شوائب الإلحاد والوثنية والإباحية، وتحديد خصائصه، وتوضيح معالمه، ووضع أسس لتقويمه من منظور إسلامي.

ولكن فهم الكُثر الأدب الإسلامي فهمًا قاصرًا خاطئًا؛ إذ قصره البعض على أنّه أدب الدعوة، وأدب الحكم والمواعظ ومدح الرسول – صلى الله عليه وسلم – والبعض الآخر جنح عن الأدب الإسلامي وهاجم مسانديه بدعوى أنّ الأدب الإسلامي يقابله أدب غير إسلامي ، وبالتالي يكفر الأديب الذي لم يلتزم بالأدب الإسلامي، وليبرر صحة اعتراضه على مصطلح الأدب الإسلامي بنسبته إلى الإسلام، إقراره لمذهبي الفن للفن والمذهب السريالي ” اللاوعي ” والشعر الإباحي مدعياً أنّ العلماء رددوه في المساجد، وأنّ المفسرين دونوه في كتب التفسير..

وبعضهم دعا إلى الأخذ بالمذاهب الغربية بعللها وعلاتها حتى ما يتعارض منها مع نظرة الإسلام إلى الخالق جل شأنه والإنسان والكون والحياة  ظنًا منه أنّه بهذا يوسع دائرة الأدب الإسلامي ، ويكسبه رضا خصومه ويدفعه إلى العالمية.

وبعضهم اعتبر الأدب الإسلامي كل ما يكتبه الأديب المسلم أيا كان مضمونه.. بهذا أقر باسم الإسلام الواقعية والاشتراكية والوجودية الملحدة وجميع المذاهب الأدبية الغربية التي غلبت على أدب الأمة الإسلامية.

وأتساءل هنا: علام اختلاف حول مفهوم الأدب الإسلامي مع أنّ القرآن الكريم والسنة النبوية أوضحا لنا هذا المفهوم وحددا معالمه، وموقفهما من الأدب الماجن والأدب الذي يخالف نظرة الإسلام للخالق جل شأنه وللإنسان والكون والحياة..

فلنقرأ معًا قوله تعالى: :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ* يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ﴾[1]

تصنيف القرآن للكلمة

ففي هذه الآيات الكريمات صنف الله عز وجل الكلمة إلى صنفين:

  • كلمة طيبة وشبهها بالشجرة الطيبة التي تؤتي بثمار طيبة كل حين وذات جذور ثابتة لا تزعزعها الأعاصير العاتية، ووصف أصحابها ” بالمؤمنين ” الذين يثبتهم الله على قول الحق ونصرته ، وهذا القول الحق يثبتهم عليه في الدنيا والآخرة لأنّه نابع من عقيدة ثابتة مؤمنه عميقة الإيمان بالله وحده إلهًا وربًا ،وهذا الإيمان منهج حياة كامل لا مجرد عقيدة تغمر الضمير.
  • أمّا الصنف الثاني في الكلمة الخبيثة والتي شبهها بالشجرة الخبيثة وهي كلمة الباطل، وهي شجرة نافشة هشة، وإن قيل للبعض أنّها أضخم من الشجرة الطيبة، ولكن تظل جذورها في التربة قريبة كأنّها على وجه الأرض، وما هي إلا فترة ثم تجتث من فوق الأرض فلا قرار لها ولا بقاء وهذه حال الكلمة الخبيثة؛ إذ البقاء والثبات للكلمة الطيبة كلمة الحق.. وأصحاب الكلمة الخبيثة وصفهم الله بالظالمين؛ إذ يظلهم الله بظلمهم وشركهم واضطرابهم في تيه الظلمات، والأوهام والخرافات وإتباعهم مناهج وشرائع من الهوى لا من اختيار الله – يضلهم وفق سنته التي تنتهي بمن يظلم ويعمي عن النور، ويخضع الهوى، إلى الضلال والتيه والشرود.

وهذه حال الذين اتبعوا المناهج والشرائع من الهوى واضطربوا في تيه الظلمات والأوهام والخرافات..

تصنيف القرآن للشعراء

وهكذا نجد أنّ القرآن الكريم لم يكتف بتصنيف الكلمة إلى صنفين ، وإنّما بيّن صفات وأثار كل الصنفين في سورة ” الشعراء”[2]ووجود سورة في القرآن الكريم عن الشعراء دلالة أنّ القرآن اهتم بالشعر والأدب، وأنّ مشروع الأدب الإسلامي ليس وهمًا ، ولا فقّاعة ، بل وصفات أصحابهما ومصير كل منهما في الدنيا والآخرة. والأكثر من هذا نجد أنّ القرآن حدد موقفه من الشعراء فصنفهم أيضًا  صنفين؛ إذ يقول جل شأنه في سورة الشعراء } والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم تر إنهم في كل واد يهيمون، وإنّهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون{ [3]

فهذه الآيات تبين موقف الإسلام من الشعراء فصنَّفهم صنفيْن ، هما :

  1. الظالمون

الذين اتبعوا الأهواء، ووصف من يتبعهم بــ” الغاوون” الهائمون مع الهوى لا منهج لهم ولا هدف وكل من الشعراء وأتباعهم يهيمون في كل واد من وديان الشعور والتصور، والقول. وهم دون أن يلتزموا بتصور ثابت يخضعون لضوابطه، وبما أنهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم ومشاعرهم يفضلونها على واقع الحياة الذي يعيشون، فهم يقولون مالا يفعلون، لأنّهم يعيشون في عوالم موهومة، وهم بهذا خرجوا عن منهج الإسلام لأنّ الإسلام يقوم على مواجهة النّاس لحقائق الواقع ، وعدم الهروب منها إلى الخيال الموهوم، فهو يستثمر الطاقة البشرية في تحقيق الطموحات والآمال الرفيعة السامية وفق منهجه.

المؤمنون

إذ استثنى الإسلام من هذا الوصف العام من الشعراء.. الشعراء } الذين أمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً{ ، نلاحظ أنّه وصفهم بالإيمان، وهي ذات الصفة التي وصف بها أصحاب الكلمة الطيبة، الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان وصاروا على منهج الإسلام وعملوا الخير، وكافحوا من أجل نصرة الحق الذي اعتنقوه، ونجده أيضًا ، وصف الشعراء الغاوين وغيرهم بأنّهم ظالمون، وهي ذات الصفة التي يصف بها أصحاب الكلمة الخبيثة.

أصحاب الكلمة الخبيثة

وقد حددت السنة النبوية أيضًا الموقف من الشعر الصالح والشعر الماجن، فاعتبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – الشاعر الذي يقول شعراً ماجناً، أو يخالف النهج الإسلامي بأنّه شيطان ، واعتبر قوله الفاحش أسوا من القيح..

“عن ابن الهاد عن مخنس مولى مصعب بن الزبير عن أبي سعيد قال: بينما نحن نسير مع الرسول الله – صلى الله عليه وسلم – بالمعرج إذ عرض شاعر ينشد فقال النبي – صلى الله عليه وسلم –” خذوا الشيطان – أو – امسكوا الشيطان، لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعرًا .” وإن شعر أدونيس وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل، والسياب والمقالح ونزار قباني وغيرهم يفضلها القيح.

أمّا عن الشعراء “المؤمنون” فقد قال الإمام أحمد حدثنا عبد الرزاق حدثنا معمر عن الزهري عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنّه قال النبي – صلى الله عليه وسلم – أنَّ الله عز وجل قد أنزل في الشعراء ما أنزل فقال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – “إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكان ما ترمونهم به نفح النبل “

ممّا سبق ذكره وتوضيحه يتبين لنا أنّ  مصطلح الأدب الإسلامي مبني على أسس منبثقة من القرآن الكريم  والسنة النبوية ، وليس وهمًا ولا فُقّاعة فجاء تعريف رابطة الأدب الإسلامي للأدب الإسلامي خلاصة ما ورد ذكره في الآيات الكريمات من سورتي إبراهيم والشعراء، والذي  حدّدت به معالم هذا الأدب وأسس تقويمه وخصائصه وهو:

” الأدب الإسلامي هو التعبير الفني الهادف عن الخالق جل شأنه[4] والإنسان والكون والحياة وفق التصور الإسلامي “.

هذا التعريف يحسم جميع نقاط الخلاف في المفاهيم لأنَّ به  تحددت  معالم هذا الأدب وموضوعاته وخصائصه ومكوناته مضمونً وشكلًا، كما تحددت به أسس تقويمه، وحدد هذا التعريف موقف الأدب الإسلامي من المذاهب الأدبية الغربية، وكذلك من أدب غير مسلمين، فالنص الأدبي الذي يوافق التصور الإسلامي يعد أدباً إسلامياً ، والذي لا يوافقه لا يعد أدباً إسلامياً دون تكفير صاحبه إن كان مسلماً لأنّ التعريف لم يحدد عقيدة الأديب ودينه..

هذا التعريف يعطي للأدب الإسلامي شمولية وعالمية  في موضوعاته لأنّ الإسلام دين الفطرة ، فقد يكتب أديب غير مسلم أدبًا إسلاميًا  إذا كان ذا فطرة سليمة ، وقد يشرح الله صدره للإسلام .

وهنا يدعو إلى الدهشة والاستغراب إنّ الذين يدعون إلى الأخذ بالمناهج الأدبية الغربية يهدفون إلى توسيع دائرة الأدب الإسلامي ودفعه إلى العالمية.. مع أنّ عالمية الأدب الإسلامي تكمن في الانطلاق بموضوعاته ومضامينه وفق التصور الإسلامي للخالق جل شأنه، وللإنسان والكون والحياة دونما اشتراط إسلامية الأديب.

أمّا الذين نسبوا الإسلام إقراره لعالم ” اللاوعي ” وللأدب الماجن فما هذا إلا لكسب رضا وود الحداثيين والعلمانيين، لأنّ هذا القول يخالف التصور الإسلامي بل يسئ للإسلام.. فالإسلام لا يقر عالم ” اللاوعي ” لأنّ عالم ” اللاوعي ” يسقط العقل مناط التكليف ، فإذا ما أسقطناه أسقطنا عن الإنسان التكليف، وبالتالي أسقطنا جميع النظم والتكاليف وأصبح الإنسان والحيوان سواء يعيش في إباحية مطلقة، وهذا يخالف نظرة الإسلام للإنسان الذي استخلفه الله على الأرض، وحمّله أمانة الاستخلاف القائمة على التكليف القائم على عبادة الله ،والسير على نهجه والابتعاد عن المحرمات، وقد حدد القرآن الكريم موقفه من عالم ” اللاوعي ” في سورة الشعراء.

موقف الإسلام من الأدب الماجن

أمّا عن موقف الإسلام عن الأدب الماجن والفاسق فقد أوضحه قول الرسول الله – صلى الله علية وسلم – ” خذوا الشيطان أو امسكوا الشيطان لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعرا ” وكذلك موقف سيدنا عمر بن الخطاب من واليه على ميسان من أرض البصرة ؛ إذ عزله لأنّه قال شعراً ماجناً ، وقال له:” والله لا تعمل لي عمل أبدًا وقد قلت ما قلت”، وكذلك إصرار عمر بن عبد العزيز على نفي عمر بن أبي ربيعة والأحوص لقولهما شعرًا ماجنًا ووصفهما بالشر والخبث.

فإن أورد المفسرون نماذج لشعر هؤلاء فذلك ليبينوا رفض الإسلام لشعرهم وليس ليبيِّنوا استحسانه أو قبوله كما ادعى البعض ، وهذا النوع من الشعر المحرم ترديده في كل مكان ولاسيما المساجد لقوله تعالى:} فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ{.[5]

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن : لماذا مصطلح” الأدب الإسلامي”؟

إنّ المتتبِّع للحركة الأدبية في عالمنا العربي – منذ حملة نابُليون بونابرت على مصر في أواخر القرن الثامن عشر حتى وقتنا الحاضر – يجد أن أدبنا قد تأثر تأثراً جدُّ كبير بالفكر الغربي ؛ إذ تبنَّى معظم أدبائنا العرب جميع المذاهب والتيارات الفلسفية الغربية الحديثة من كلاسيكية ورومانسية ورمزية وفُرويدية ووجودية وسريالية وبرناسية وبِنْيوية وواقعية بكل أنواعها وأشكالها كالواقعية الغربية والواقعية الماركسية والواقعية السحرية .. الخ .

لقد أصبح أدبنا العربي – في بعضه – ملحدًا ماركسيًا , وفي بعضه الآخر جنسيًا إباحيًا , تظلله وثنية الإغريق وأساطيرهم لافتتان معظم الأدباء بالأدب الإغريقي , وانبهارهم بأساطيره , إضافة إلى تسليطهم الأضواء على جانب مُعْتِم في تاريخنا السياسي والأدبي , وذلك بإبراز الزنادقة الملحدين والماجنين والمتصوفين  ممن لهم انتماءات تنتهي إلى الحركات الباطنية والماسونية , وكأنَّ تراثنا لا يمثله إلا هؤلاء !         ونتيجة لهذا فقد أدبنا العربي هويته الإسلامية , فالذين كتبوه مسلمون ، ولكنهم تجردوا من إسلامهم وعقيدتهم حين دوَّنوه ، مستجيبين لمقولة الدكتور طه حسين : “إن الإنسان يستطيع أن يكون مؤمنً وكافرًا في وقت واحد , مؤمنً بضميره , وكافرًا في عقله” ! . وهذه ازدواجية يرفضها العقل والمنطق ؛ لأنّها تجمع بين نقيضين أو ضدين , والنقيضان والضدان لا يجتمعان , هذا أولاً , وثانياً لا يمكن فصل العقل عن الضمير , فإذا كان العقل كافراً كيف يكون الضمير مؤمناً ؟! .

إنّ ما يكتبه الأديب – سواء أكان شعراً ونثراً – إنما يمثل عقيدته ؛ إذ لا يمكن بأي حال من الأحوال فصْل عقيدته عن فكره وعن عطائه الفكري.

هذا  ولما كان عطاء الأديب الفكري يعكس للمتلقي عقيدة هذا الأديب ، فيتأثر به ، ومن ثم يردد ما يقول ، ويؤمن به , فتصبح عقيدته كعقيدة الأديب المتأثر به ، فإنّه من الضروري وضع مقياس لتقديم العطاء الفكري يوافق عقيدتنا نحن المسلمين ، ويكون هذا المقياس هو الضابط الذي نضبط به درجة ما نأخذه من الآداب والثقافات والفلسفات الأخرى ، فما يوافق منها عقيدتنا الإسلامية – ونظرة الإسلام إلى الخالق جل شأنه والإنسان والكون والحياة – نأخذه ، وما يخالف ذلك نبعده ، وبذلك نحمي أنفسنا من الوقوع في مزالق الكفر والإلحاد ، فنحن لو فصلنا عقيدتنا الإسلامية عما نتلقاه – أو نفكر فيه  ونكتبه – فلن يكون هناك فارق بيننا وبين ماركس وإنغلز وسارتر وهيغل ونيتشه وفرويد وديكارت ودوركايم وليفي شتراوس ورولان بارت ،بل نجمع بين هؤلاء جميعًا – على الرغم مما في فلسفاتهم من تناقض – ونعيش في فوضى فكرية وعقائدية كما هي حالنا الآن ، أجل ، فنحن نعيش الآن في فوضى فكرية وعقائدية ترتَّب عليها انعدام الأمن واختلال النظام في جميع شؤوننا المعاشية .

إنّ كل ما في الكون يسير وفق نظام يضبطه ، فالكون له نواميسه وسُنَنه ، فإذا ما حدث خلل في هذا النظام حدثت الزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات التي تدمر البيوت والمحاصيل ، فيتساقط الألوف من القتلى أو الغرقى من جرائها ، هذه الكوارث الطبيعية هي – بلا شك – تدمر وتهدم في لحظات ما بناه البشر في سنين .

والفكر جزء من هذا الكون لا بد أن يكون هناك ضابط يضبطه , ويكبح جماحه ؛ لئلا يدمر صاحبه , ويدمر معه الآخرين, والضابط الذي يضبط الفكر هو العقيدة ؛ لذا نجد أنّ الصهيونية العالمية كانت وراء هذا الفوضى الفكرية والعقائدية التي تجتاح العالم ؛ لتقوض الأديان حتى يسهل عليها السيطرة على العالم .

إنّ المذاهب الغربية التي نشأت في أوروبا – ابتداءً من الكلاسيكية والرومانسية إلى الفرويدية والرمزية والوجودية ، والواقعية على اختلاف مسمياتها ، والسريالية والبرناسية وغيرها – كان ظهور كل مذهب منها نتيجة للأوضاع الدينية والاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية التي شهدتها أوربا , فهي تعبر عن عقيدة الإنسان الغربي وصراعاته النفسية والاجتماعية والفكرية ، وما يعانيه من ضياع وخواء روحي  ، وهذا لا ينطبق علينا ؛ فهي لا تعبر عنا .

إنّ ديننا ومعتقداتنا وتاريخنا وظروفنا الاجتماعية وأحوالنا النفسية تختلف كل الاختلاف عن الغرب ، فالغربيون يعانون خواءً روحياً ، لتعقُّد ديانتهم بسبب ما نالها من تحريف ، ورجال الكنيسة فيها نصبوا أنفسهم وسطاء بين الناس وبين الله ، فتمرد الناس على الدين ،وقاوموه ، وأصبحوا يرفضون كل ما هو ديني ، وجاءوا باللادينية التي انبثقت منها جميع المذاهب المادية التي أنكرت وجود الله ، ونظرت إلى الإنسان والحياة نظرة مادية بحتة ، وغالت في تعظيم الإنسان والعلم ، حتى وجدنا بعضها قد ألَّه الإنسان ، وبعضها الآخر قد ألَّه العلم ! .

ولكن ديننا الإسلامي لم تَنَلْهُ أيدي التحريف {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}[6]  وهو  سهل وواضح ، الحلال فيه بيِّن والحرام فيه بين ، ولا حاجة لنا فيه إلى وساطة تكون بيننا وبين خالقنا ، بل نهى ديننا عن هذه الوساطة ، وديننا الإسلامي دين مُصلح لكل زمان ومكان ؛ لذا نجده قد فتح باب الاجتهاد في المتغيرات دون المساس بالثوابت ، فلماذا ننقم على الدين مثلهم ؟!  ونأخذ هذا الموقف المعادي منه أحياناً ، المتخوف أحياناً أخرى ؟! , بل يصاب البعض منا “بأرتكاريا” كلما يُذكر الإسلام , ويرمز إلى كل ما هو إسلامي بالتخلف والرجعية ، وكبت الحرية والإبداع !.

تعالوا معاً نُطِلْ إطلالة سريعة على بعض هذه المذاهب ؛ لنعرف ظروف نشأتها ، وموقفها من الله – جل شأنه – ومن الإنسان والكون والحياة ، وهل هذه النظرة تتفق مع ديننا ، وكيف تأثر بها كبار أدبائنا , وطُبع أدبهم بها ؟

وسأبدأ بِ “الكلاسيكية الأغريقية”

وهذا ما سأبحثه في الحلقة القادمة إن شاء الله.

[1] – إبراهيم : 24-27.

[2] . ووجود سورة في القرآن الكريم عن الشعراء دلالة أنّ القرآن اهتم بالشعر والأدب، وأنّ مشروع الأدب الإسلامي ليس وهمًا ولا فقّاعة.

[3] – الشعراء : 224-227.

[4] . هذه العبارة أضفتها إلى تعريف الأدب الإسلامي، للأدب منبثقة من هذا التعريف تقوم على نقد الأدب بوضعه تحت مجهر التصور الإسلامي للخالق جل شأنه والإنسان والكون والحياة، وشملت هذه النظرية (26) جزءًا تشملان الجانبان التنظيري والتطبيقي.

[5] – النور: 36.

[6] – الحجر :9.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: