أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيدنا محمد، إمام النبين، وسيد المُرسَلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين المُنتجَبين، وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم افتح علينا بالحق وأنت خير الفاتحين، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً. اللهم آمين.

أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، النُقطة التي سأنطلق منها في هذا الحديث – إن شاء الله تبارك وتعالى – هي ما أشرت إليه أمس في الخُطبة، وهي – أعني – نُقطة أن كل طرح بشري بما هو نسبي – أو من حيث هو نسبي لأنه طبعاً بشري – يحمل معه دائماً نستطيع أن نقول كارثته، يحمل دائماً معه كارثته! وهذا التعبير في الحقيقة مُستعار، ليس لي! هو تعبير لأحد الفلاسفة، قال كل اختراع بشري يحمل كارثته، أي اختراع! حتى الاختراعات الفكرية، ليس الاختراعات فقط بالمعنى الفني أو التقني، حتى الاختراعات الفكرية – النظريات، الآراء، المنظومات، والأنساق المعرفية – البشرية تحمل أيضاً معها كوارثها، تحمل أخطاءها! فالطائرة – مثلاً – في ميدان التكنولوجيا تحمل خطر السقوط، الآلات الحربية جميعها تحمل أيضاً خطرها معها، الكمبيوتر Computer إلى الحواسيب المُختلِفة والآلات الحديثة أيضاً تحمل معها خطرها، خطر ماذا؟ خطر تداخل أو إتلاف أو الغش حتى في المعلومات، وهكذا! كل اختراع بشري يحمل خطره، بعض نقدة الفكر وبالذات بعض نقدة الرأسمالية قالوا وهذا أيضاً اختراع بشري من الرأسماليين، لعله يكون أرقى المُخترَعات البشرية، لكن تحمل أيضاً معها كارثتها!

تقرير لوجانو Lugano الذي حدَّثتكم عنه مرة يبتدأ بهذه المسألة لكي يُثبِت لنا الخطر الذي يتهدد الرأسمالية في مرحلة من مراحل تطوَّرها وهي قريبة جداً جداً، الآن هي شرعت فيها، الآن يتحدَّثون عن العولمة، وهذه العولمة جعلت الباب مفتوحاً على هذا الخطر القادم الذي يتهدد أول ما يتهدد الرأسمالية نفسها، سيعود عليها بالنقض، سينهيها! ومن هنا كان هذا التقرير!

أيضاً – نفس الشيئ – النظرية أو الفكر الماركسي الشيوعي يحمل خطره معه، كل طرح بشري يحمل خطره معه، من هنا هل يُمكِن أن نستثني الوحي الإلهي فلا يحمل خطره معه؟ الوحي بما هو وحي – وأعني الجُزء الثابت فيه، هناك جُزء مُتحرِّك وهو القابل للاجتهاد، لكنني أعني الجُزء الثابت – لا يحمل خطره معه، بالأمس سألني أخ فاضل، قال لي كيف نُميِّز؟ لأن هذه معركة كُبرى طبعاً، وأنا حتى ترددت اليوم، هل أتكلَّم في هذه المسألة التي بدأت أتكلَّم فيها أو أتكلَّم في مسألة الثابت والمُتغيِّر في النص ومسألة تاريخية النص؟ طبعاً أنا أعني بالنص القرآن الكريم، لا أعني أي نص كالنص الأدبي الشعري أبداً، النص هو النص المُقدَّس الإلهي، لكن هذا الموضوع طويل وسنرجع إلى موضوع المُحاضَرة، قلت له باختصار هذه المسألة محلولة، ولا ينبغي أن يُثار حولها تشغيب أو شغب كثير، الفكر الإسلامي الكلاسيكي أو التقليدي قد حل هذه المسألة، حلها ببساطة! لماذا؟ لأننا إذا قلنا أن هناك ثمة ثابتاً فهذا الثابت لا يُمكِن أن يأخذ ثباته أو هذه السمة أو هذه الصفة – صفة الثبات أو الثباتية – إلا إذا كان غير قابل للاجتهاد أصلاً، فهي تفرض نفسها بنفسها، إذا لم يكن كذلك فيُمكِن أن يُنازَع في هذه الثباتية، وبالتالي يغرق هذا النص في النسبية، فيُصبِح شأنه شأن أي نص بشري، وهذا ما يُحاوِله للأسف النقدة ذوو الأصول الماركسية في التفكير حين يتناولون النص الإلهي باسم الثابت والمُتغيِّر أو تاريخية هذا النص.

طبعاً أشهر هؤلاء – تعلمون – هو نصر حامد أبو زيد، طبعاً هناك كثيرون أعمق منه وأكثر منه عملقة فكرية حتى، هو تَلميذ من تَلاميذهم، شيوعيون عرب كبار جداً! لكن هناك ظروف مُعيَّنة هي التي جعلت هذا الرجل شهيراً كما تعرفون، المحنة التي مر بها جعلته مشهوراً وأصبح ضعيفاً يُدافِع عنه، وللأسف راجت أفكاره أكثر من غيره، من سوء الحظ راجت أفكاره أكثر من غيره! فثبات النص مسألة – كما قلت – حلها الفكر التقليدي، ليست مسألة صعبة، ولذلك المُحتوى العقدي للدين ثابت، عند أبي زيد غير ثابت، حتى العقائد مُتحرِّكة وتعكس ضرورات مرحلة مُعيَّنة طبعاً، وهذا إلحاد واضح طبعاً في النهاية، ثم يزعم أنا مُسلِم، لا يعنيني أنت مُسلِم أو مُلحِد، أنا يعنيني كلامك، الذي يعنيني كلامك الواضح والذي تُكرِّره في عشرات الكُتب وعشرات المُقابَلات، العقائد عنده مُتحرِّكة، فالعقائد تعكس فقط ضرورات ثقافية اجتماعية وأحياناً اقتصادية في مرحلة مُعيَّنة، ومن ثم ينبغي أن تتغيَّر إذن، ما هذا؟ حسن حنفي مثله تماماً للأسف الشديد، لكن أبو زيد أكثر إغراقاً، وهكذا!

طبعاً بالتالي إذا كانت العقائد مُتحرِّكة فإذن كل شيئ دون العقائد ينبغي أن يكون مُتحرِّكاً، وهذا الكلام طبعاً فارغ، ويُمكِن – إن شاء الله – في المُحاضَرة المُقابِلة أن نتحدَّث عن موضوع تاريخية النص والثابت والمُتغيِّر في النص، نُناقِش هذه المسألة بإسهاب إن شاء الله تبارك وتعالى، على كل حال النص الديني أو الوحي الإلهي – أيها الإخوة والأخوات – بما هو ثابت – الجُزء الثابت فيه بلا شك، الذي يتعالى على الزمان وعلى ضرورات أيضاً البشر، اشتراطات الاقتصاد والاجتماع والثقاقة، وإلى آخره! لأنه نص إلهي – يتصف بالإطلاقية، بصفة الإطلاقية! وصحيح نحن لا نستطيع أن نتعامل مع هذا المُطلَق بإطلاقية، أليس كذلك؟ نتعامل معه بنسبية، لكننا نُدرِك في نفس الوقت إطلاقيته، نُدرِك إطلاقيته ونقف عند ما يُمكِن أن يُسمى بالنوى – جمع نواة – أو بالأجنة التي لا تقبل الزحزحة، لأنها نوى ثابتة، مُستحيل! وهذا ما يُسميه علماؤنا باصطلاحهم الشرعي المعلوم من الدين بالضرورة، والذي لا يُعذَر أحد بجهله ولا يُعذَر أحد بالمُكابَرة عليه، كأن يُقال إنه قابل للاجتهاد أو قابل لكذا وكذا، لا! هذا معلوم من الدين بالضرورة، كانهم طرحوا المسألة لكن بلُغة عصرهم.

أقول النص الإلهي أو الوحي الإلهي بما هو ثابت – أي باعتبار وبلحاظ الجُزء الثابت – هل يُمكِن أن يحمل خطره معه؟ لا، مُستحيل، بالعكس! وهذا كان موضوع خُطبة أمس، طبعاً أنا أحياناً أتأسَّف أنني أطرح كم كبير من الأفكار والمفاهيم في وقت يسير وهو وقت الخُطبة، وأُدرِك أن بعض الناس قد يكون من الصعب جداً عليهم أن يستوعبوا كل ما هنالك مرة واحدة، يقول أحد الفلاسفة إذا طرحت فكرة سيما إذا كانت جديدة عشرين مرة وظننت أنه فُهِمَ عليك فأنت مُتفائل جداً، طبعاً هذا مع الشيئ الجديد، وخاصة في طريقة التفكير وطريقة الطرح على بعض الناس، والمسألة لا علاقة لها بقدرة الإنسان الذكائية، أي بالذكاء، لا! المسألة مسألة مُمارَسة، ربما لا يُمارِس هذه المسائل الفكرية، ربما لا يتعاطى معها، أحياناً تكون هناك مسائل فنية، الاصطلاح! أنت تستخدم كلمات بمعنى هو لا يستطيع أن يفهم المُراد منها بشكل صحيح، حين تقول له – مثلاً – الوثنية تُمثِّل الجُزء الإيجابي من المُشكِلة يقول لك كيف تُمثِّل الجُزء الإيجابي؟ هذا الرجل الخطيب مُلحِد، لكننا نقصد بالإيجابي الجيد، لا! نقصد بالإيجابي الإثباتي، أي الجُزء الإثباتي، الإغراق في الانتماء والإثبات يُشكِّل الوثنية، النفي بالكامل يُشكِل الإلحاد، أي الــ Atheism، هذا المقصود! لكن الإنسان العامي لا يفهم هذا، يقول لا، قال إيجابي، يصف الوثنية بأنها إيجابية يا أخي، فهو مُلحِد! هذه مسألة فنية، الاصطلاح! لا يتعاطى مع هذه المُصطلَحات، هذه المُشكِلة!

على كل حال كانت المسألة الرئيسة هي هذه، لماذا كان الوحي الإلهي ضرورة؟ لماذا؟ طبعاً أُعيد فأُكرِّر نحن نطرح هذه المسائل كمِليين، كمُؤمِنين! إذا أردنا أن نطرحها مع مُلحِد فنطرحها في نُقطة دون هذه النُقطة، لكن لكوننا مُؤمِنين ولكوننا مُسلِمين بحمد الله تبارك وتعالى – ونسأل الله يردنا مُسلِمين مُلحِدين – يُمكِن لنا بكل طمأنينة وثقة أن نطرحها من هذه النُقطة كما قلت، لكن مع ملاحدة أو مع مُنكِرين بالكامل أو ريّابين مُرتابَين لابد أن نطرحها من نُقطة دون هذه النُقطة، ضرورة النقاش العلمي! لكن هذا مُستوى آخر، لا يعنينا الآن، فأقول لماذا كان الوحي الإلهي ضرورة؟ ضرورة في المسيرة البشرية، ضرورة بلا شك! والمسيرة البشرية إلى الآن أثبتت فعلاً كونها ضرورة ولابد منها، وإلا فسيبقى الإنسان يتخبَّط في التيه ولن يصل في النهاية، لن يصل إلى معالم خُطة كاملة تُصوِّب مسيره وتُرشِّد خطوه على وجه أمثل، لن يستطيع! الإنسان لا يستطيع ذلك، تاريخه يُثبِت ذلك للأسف، لماذا؟ أقول نحن كمُؤمِنين إذا كنا نعتقد بأن رب العزة – تبارك وتعالى – كرَّم هذا الإنسان وأعطاه الحرية وأعطاه القوة الدرّاكة أو العقل أو الفهم وجعله خليفته في الأرض وأراد منه – أراد من هذا الإنسان – أن يُنمي قدره وأن يُفجِّر إمكاناته وأن يستثمر كل ما أولاه الله من نعمة ظاهرة وباطنة وسخَّر له هذا الوجود كله فلماذا إذن لم يُطلِق عقله إلى آخر مداه أو إلى أقصى أمدائه لكي يُجرِّب كل شيئ ولكي يختط لنفسه خُطة دون وحي، دون خُطة جاهزة؟ أي الإنسان يُجرِّب وسوف يبتدع شريعةً في كل شيئ! الله لم يفعل ذلك، وآثر – هل يُمكِن أن نقول اختصر الطريق؟ – أن يختصر الطريق على الإنسان، هل يُمكِن أن نقول هذا؟ سوف نرى!

أول سؤال كان في الخُطبة اختص بالجواب عن هذه المسألة، هل عمر الفرد يكفي لتجريب كل هذه الشؤون؟ مُستحيل! ولا أكبر فرد، ولا أكبر عبقري، يستحيل! أتُريد أعظم فيلسوف؟ هذا الفيلسوف العظيم الكبير يُمكِن أن يختص بفهم جانب مُعيَّن من جوانب الحياة البشرية الإنسانية الغنية الثرة الخصبة، الحياة مُعقَّدة مُركَّبة بشكل غير عادي، طبعاً خطر كل النظريات التي تتناول المُجتمَع والإنسان والتاريخ يكمن في ماذا؟ في التبسيطية، حياة الإنسان، مُجتمَع الإنسان، ووضع الإنسان أكثر تركيبيةً أو أكثر تعقيداً من أن يُختزَل بوجه واحد، ومن هنا يكون الخطر، فأعظم فيلسوف هو مُختَص بإدراك جانب واحد، ثم هو – هذا الفيلسوف – لا يصل فيه إلى نتائج قاطعة يُوافِقه عليها جميع الفلاسفة، مُستحيل! حتى من تَلاميذه، كانط Kant – مثلاً – الذي ادّعى أن الفلاسفة – من أرسطو Aristotle وأفلاطون Plato وقبلهما سقراط Socrates وهو أستاذ الجميع، وحتى من ديكارت Descartes في العصر الحديث، إلى آخر الفلاسفة قبله، مثل لايبنتز Leibniz وغير هؤلاء – كلهم كانوا دوجمائيين، هكذا كان يزعم كانط Kant! أي كانوا دوجماطقيين، من دوجما Dogma! كانوا قطعيين، يدّعون أنهم وصلوا إلى الحقيقة المحض الصرف الكاملة، هو قال لا، أنا بفكري النقدي – وهذا هو إسهام كانط Kant، العملية النقدية – سأُوقِظهم من سباتهم الدوغمائي، وهو طبعاً نجح في ذلك إلى حد بعيد، لكن هل نجح إلى آخر حد وإلى آخر غاية؟ تَلاميذه خالفوه، ولم يسيروا نفس الخُطة، أي العقلية النقدية لكانط Kant، هيجل Hegel يُعتبَر من تَلاميذ كانط Kant فلسفياً، وهذا معروف! فيخته Fichte يُعتبَر من تَلاميذه، فيخته Fichte أخذ طريقاً وهيجل Hegel أخذ طريقاً، وهكذا! ومن بعدهم جاء فلاسفة آخرون، كلٌ أخذ طريقاً، مُستحيل! ولذلك لا يُمكِن أن نُحِل الفلاسفة محل الأنبياء، فنسترشد بهم لكي يُعطونا مُخطَّطاً للاعتقاد ومُخطَّطاً لكيفية عمل الذهن وعمل الوعي الإلهي، يستحيل – وتعاطيه مع الأشياء والوجود، مُستحيل! هذا فاشل تاريخياً إلى الآن، وأين الآن تأثير أرسطو Aristotle؟ أين تأثير كانط Kant في المجاميع البشرية الهائجة؟ لا يكاد يُدرَك، لكن أين تأثير موسى، عيسى، ومحمد؟ عجيب، لا يزال إلى الآن يُقسِّم العالم كله هذا التأثير، ومن هنا عظمة الأنبياء، ليست عظمة ذاتية، هذا ليس لأن موسى هو موسى، لا! لكن بما أتى به موسى عليه الصلاة وأفضل السلام، هو عظيم في ذاته، بلا شك هو إنسان عظيم، اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۩، لكن بغير وحي لا، أبداً! سيكون ربما أرقى من كبير الفلاسفة، لكن لن يكون موسى النبي، الذي برسالته شق العالم هكذا وثلَّثه، ولا عيسى ولا محمد! عليهم الصلاة والسلام أجمعين وآل كلٍ وأصحابه، هذا هو.

هذا عمر الفرد الواحد، بعد ذلك هناك نسبية التفكير حتى عند البشر، الفرد الواحد حتى في العمر الواحد تتغيَّر مواقعه الفكرية دائماً، مُتأكِّد أي فيلسوف وأي مُفكِّر لو عاش العمر عمرين كما يُقال لغيَّر أفكاره ليس في مرتين وإنما في عشرين مرة، طبعاً لابد أن يُغيِّره باستمرار! هذه طبيعة التفكير البشري! لأنه تفكير نسبي، ومقولة النسبية تدخل في أشياء كثيرة جداً، إذا أردنا أن نتكلَّم عنها بحسب الموضوع، بحسب الذات، وبحسب الوظيفة – Function – فيِمكن أن نتكلَّم لساعات، أي عن مقولة النسبية! مقولة النسبية تتجلى في أكثر من جانب، لا يكاد جانب من جوانب الحياة الإنسانية إلا وتعمل فيه مقولة النسبية، هذا موضوع فلسفي طويل على كل حال.

عمر المُجتمَعات هل يكفي؟ أيضاً عمر المُجتمَعات – كما قلنا – لا يكفي، ودرس التاريخ أكَّد ذلك، لم يكف أبداً! حتى طريقة تعاطي البشر بعضهم مع بعض إلى الآن تسير نحو الأسوأ للأسف الشديد، هناك الحروب! إريخ فروم Erich Fromm عنده كتاب أنا عرضت له في خُطبة قديمة في مسجد الهداية، وهو  كتاب عظيم جداً ورائع، اسمه تشريح التدميرية الإنسانية أو البشرية، عمل دراسة إحصائية بسيطة، استشار فيها التاريخ، ووجد أن الحروب بشكل عام في ازدياد، وضحاياها في ازدياد للأسف الشديد، لكن الإنسان تقنياً يتقدَّم، فنياً، علمياً، فلسفياً، ومادياً يتقدَّم، لكن نفسياً للأسف واجتماعياً مع أخيه الإنسان في المُستوى الإنساني كما يُقال يتأخَّر هذا الإنسان بحسب ما يقول فروم Fromm، للأسف تُوجَد مُشكِلة هنا، تُوجَد مُشكِلة في هذا الإنسان!

القرن العشرون أكثر قرن طبعاً في التاريخ كله كان مُتقدِّماً من ناحية مدينية أو من ناحية مدنية، لكن كما قال بريجنسكي Brzezinski هو قرن الحروب والضحايا المليونية، ضحاياه في أقل تعداد وصل عددهم إلى مائة وسبعين مليون، أقل شيئ هو مائة وسبعون مليون، فرجل مثل هتلر Hitler تسبَّب في إهلاك أربعين مليوناً، فرد واحد فعل هذا! ستالين Stalin أعدم أربعة وعشرين مليوناً وأهلك أربعة وعشرين مليوناً من البشر، ما هذا؟ فرد واحد! بفعل الأفكار والأيديولوجيات والفلسفات وطريقة تعاطي الإنسان مع أخيه الإنسان، هذه هي تناقضات الإنسان، تناقضات المُجتمَعات والأمم والشعوب، مسألة كارثية مُخيفة جداً، لكن التجربة الإسلامية – وهذا شيئ عجيب، لا يُستدعى الآن للأسف، في الفكر الأكاديمي الغربي لا يُستدعى – لم تفعل ذلك بحمد الله تبارك وتعالى، الكل يشهد بذلك، الكل! التجربة الإسلامية امتدت أكثر من ألف سنة – كانت في ريعانها، ألف سنة كانت سطوة حقيقية، إمبراطورية حقيقية – ولم تُمارِس أي نوع مما يُعرَف بإبادات الأعراق أو الأجناس الأُخرى – أي الــ Genocides – أبداً، لم تفعل يوماً هذا، لا يُوجَد في تاريخ الإسلام كله شيئ اسمه مذابح مليونية بحمد الله تبارك وتعالى، لا يُوجَد! هذا غير معروف عندنا أبداً، فُتِحَت أعظم البلدان بأقل الضحايا، مصر فُتِحَت بأربعة آلاف مُجاهِد، شبه الجزيرة الإيبيرية – أي الأندلس وإسبانيا وما إلى ذلك – فُتِحَت بسبعة آلاف، سبعة آلاف رجل فتحوها فقط، وهم كانوا تسعة ملايين، لم يُوجَد ذبح، لم تُوجَد سرقة، ولم يُوجَد سلب، لم نكن شعباً أو أمة سلّابة نهّابة نهّازة أبداً، ليس عندنا موضوع المركز والأطراف أبداً، حيثما كنا نحل كنا نبني حضارة، في كل مكان! وهذا الكلام أنا ذكرته أكثر من مرة، وذكره هربرت ويلز Herbert Wells في كتابه الضخم معالم تاريخ الإنسانية، قال كلما حل المُسلِمون في بلد لم تكن المدنية – أي الــ Civilization – تسير فيه بل كانت تقفز قفزات، عبر عشرين سنة صارت هناك حضارة، حضارة في جميع النواحي! أين مثل هذا؟ غير موجود مثل هذا، هل هذا موجود في تاريخ الغرب؟ غير موجود، غير موجود بالنسبة للآخرين! تاريخ هذا الغرب بالنسبة للآخرين – وهذا سنعرض له في أكثر من موضع في مُحاضَرة اليوم – هو تاريخ السلب والنهب، كل هذا التقدم وكل هذه العملقة على حساب الشعوب الأُخرى، لو حُذِفت الشعوب الأُخرى من المُعادَلة سيختل كل تاريخ هذا الغرب، بدءاً من المُراكَمة لرأس المال التي كانت الحجر الأول في المشروع الرأسمالي، مُراكَمة على حساب الشعوب الأُخرى! أليس كذلك؟ وهذا حتى في الناحية العلمية، بعض الناس يظن أن هذا الفكر الغربي وهذا العطاء وهذه العملقة الحضارية وهذا الألق المادي أو المديني إنما جاء نتيجة لأفكار الفلاسفة العظماء، غير صحيح الكلام هذا أبداً! قبل أن يكون فلاسفة عظماء في الغرب وفلاسفة تنوير – قبل أن يكون هؤلاء – كان المشروع الرأسمالي قد دُشِّن، ثم جاء بعد ذلك فكر أكثر هؤلاء الفلاسفة ليُبرِّر سياسات هذه الدول الرأسمالية، سياسات العملية الرأسمالية، خاصة في تعاطيها مع الآخر، مع الشعوب الأُخرى!

لايبنتز Leibniz – هذا فيلسوف عظيم جداً جداً، وفيلسوف إلهي ميتافيزيقي أيضاً، ويُؤمِن بالله، المُهِم هذا الرجل مثالي – يكتب رسالة إلى ملك ألمانيا، يُذكِّره بوجوب السير واكتساح الشعوب الأُخرى، لكي نأخذ خيراتها ونُعلي من شأنها، ضروري يقول له! ماذا تفعل وأنت جالس؟ تحرَّك! هكذا كانوا، أكثرهم هكذا كان للأسف، حتى ماركس Marx، والآن طبعاً ماركس Marx يستعيد اعتباره، بعد أن توحشت الرأسمالية في شكلها العولمي بدأ ماركس Marx بلا شك يستعيد اعتباره عند كثير من الناس، لماذا؟ لأنهم رأوا أن فكر ماركس Marx يُعتبَر أكثر إنسانيةً وأكثر رحمةً من هذه الرأسمالية التي كشرت عن أنيابها، ما كان يُظَن بها هذا الشيئ، أي “يا عيب الشوم” كما يُقال، صدمتهم في تأملاتهم، توحشت بشكل غير عادي وكشرت عن أنيابها حقيقةً، فبدأ ماركس Marx يستعيد فعلاً اعتباره حتى عند بعض الإسلاميين، شيئ طبيعي هذا! ردة فعل عادية بصفة عامة في الأفكار واستعادة بعض الأفكار والطروحات إذا استدعت الظروف، ولكن هل ماركس Marx فعلاً فعل ما أراد؟ عنده جانب إنساني كبير بلا شك، لو أخذنا ماركس Marx هكذا بالكل لوجدنا أنه بلا شك أكثر إنسانية من المُفكِّرين الرأسماليين الذين لم يكن يهمهم – ولا يزالون إلى اليوم لا يهمهم – لا في كثير ولا في قليل أن يعيش هذا مُرفهَّاً مُترَفاً واجداً وأن يعيش هذا مسحوقاً محروماً، يقولون يستأهل، هو يستأهل! فالفقر عندهم – كما ذكرنا في خُطبة الــ Eugenics – يُوشِك أن يكون عملية موروثة، يقولون هو هكذا مُؤهَّل أصلاً بغبائه، ببنتيه – الــ Structure الخاص به -، وبطريقته أن يكون حقيراً وفقيراً، لو كان يستأهل لما حصل له هذا، وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلاباً، لكنه لم يقدر، فليكن هكذا ولينسحق! أنا قرأت لرأسمالي – لا يزال يعيش إلى اليوم، وهو مُفكِّر كبير جداً، فيلسوف رأسمالي – والله يتكلَّم بنفس هذا المنطق، فكتبت تحت كلامه قالوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ ۩، نفس المنطق! نفس منطق الجاهليين، نفس منطق الكفر، يقولون الله يُريد هذا أو القدر يُريد هذا، ما علاقتنا؟ هو هكذا بطبيعته، فالمسألة طبعية هذه، أي الفقر والغنى! مسألة وراثية، يطرحها هؤلاء العرقيون المُجرِمون على أنها وراثية، لكن ماركس Marx لم يكن كذلك، الرجل قال غير صحيح، الفقير فقير ليس لأنه مُؤهَّل ليكون فقيراً والغني ليس غنياً لأنه مُؤهَّل ليكون غنياً، وكأن هذا من ذهب وهذا من خشب، لا! لأن هناك آليات مُعيَّنة لهذا المُجتمَع البرجوازي الرأسمالي المُجرِم الظالم، هي التي ساعدت على استبقاء حالة هذا الفقير واستنزافه وزيادة حالته سوءاً، والعكس أيضاً صحيح في الناحية الثانية، قال هذه هي!

طبعاً هو بالغ وأنكر الطبيعة الإنسانية، أي ماركس Marx! لم يعترف بوجود الطبيعة، ماركس Marx لا يعترف بوجود غرائز حقيقية في الإنسان وبوجود أشياء ثابتة، يقول لا، في النهاية وفي المُحصِّلة الإنسان هو مجموع علائقه الاجتماعية فقط! والذي يُحدِّد وعيه ويُحدِّد منازعه ويُحدِّد تفكيره ويُحدِّد آماله هو وضعه في المُجتمَع اقتصادياً واجتماعياً، كيف؟ هذا هو! وليس العكس، لذلك النظرية الماركسية لا تُؤمِن كثيراً بضرورة الوعي وإعمال الذهن لكي نُغيِّر أوضاعنا، ترى العكس تماماً، أن تغيير شروط الإنتاج وعوامل الاقتصاد والناحية المادية في المُجتمَع هي الكفيلة بأن تُغيِّر طريقة تفكير الناس، وليس العكس، طبعاً عكسه تماماً المُفكِّر الكبير والفيلسوف الألماني ماكس فيبر Max Weber، طبعاً مشروعه الفكري كله تقريباً مُدشَّن لنقض هذا البنيان النظري الماركسي، يُثبِت لنا العكس، أن هناك أولوية للوعي وأولوية للفكر وأولوية للنظر على موضوع الشروط الاجتماعية والاقتصادية، ولذلك عنده كتاب الضخم الرأسمالية والأخلاق البروتستانتية، يقول بالعكس، هذه الرأسمالية السبب الأصلي فيها هو أخلاق هذا المذهب الإصلاحي البروتستانتي، فالفكر هو الذي غيَّر الواقع وليس العكس، فطبعاً الماركسيون يتنكَّرون لهذا، على كل حال هذه قضية أُخرى، وأيضاً يطول الكلام فيها.

الآن ماركس Marx بدأ يستعيد اعتباره من جديد، على أنه أكثر إنسانيةً من هذه الرأسمالية التي جاوزت مرحلة التروستات Trusts والكارتلات Cartels ومرحلة احتكارية الدولة ودخلت الآن في مرحلة العولمة، الرأسمالة المُعولَمة أو العولمية، والتي هي فعلاً نوع جديد جداً ومُتوحِّش حتى من الاستعمار أو من الإمبريالية، بشكل لا يُكلِّفهم الدماء ولا الجيوش، لكن سوف يمتصون آخر قطرة عرق، آخر نُقطة فائض عمل, وآخر قطرة دم من هؤلاء المسحوقين المُهانين في أربعة أسقاع الأرض، هكذا يُقال!

ما نُريد أن نقول حتى ماركس Marx لم يكن معنياً جداً بمسألة الشعوب المُستعمَرة، بالعكس! للأسف في كل كتابات ماركس Marx كان دائماً إذا وصَّف الرأسمالية والبُلدان الرأسمالية يصفها بالمُتمدِنة، أي الــ Civilized، المُتمدِنة! ما المقصود بالمُتمدِنة؟ هذا يعني أن الآخرين المُستعمَرين في المُقابِل شعوب بدائية مُتخلِّفة مُتوحِّشة، أقل شيئ حتى لا نظلمهم غير مُتمدِنة، لكن ما هو معيار التمدن عندك إذن يا ماركس Marx؟ هؤلاء أعداؤك! أكبر مشروع عدو لك هو مشروع الرأسمالية، صحيح! وأنت أكبر عدو، هؤلاء مُتمدِنون، وغيرهم مِمَ يقهرهم هذا المُتمدِن ليسوا مُتمدِنين، فما هو إذن المعيار Norm؟ ما هو معيار التمدن لديك؟ هل تعرفون ما هو؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور تطور وسائل الإنتاج، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، وعلى الخط مشى لينين Lenin، نفس الشيئ! معيار التمدن أو التخلف هو مدى تطور وسائل الإنتاج، وماركس Marx اعترف أن الطريقة الرأسمالية هي أنجح طريقة في مُراكَمة رأس المال، طبعاً هو ضد المُراكَمة بهذه الطريقة لكنه اعترف بهذا، قال هذا صحيح، إذا أردت أن تُراكِم أكبر كمية من رأس المال فأنجح أسلوب هو الطريق الرأسمالي، وطبعاً هو ضده، فالقضية عنده إذن ليست فقط مُراكَمة رأس المال، عنده قضية فعلاً أوسع أُفقاً وأكثر إنسانيةً من المشروع الرأسمالي، فهو يعتبر أن هؤلاء غير مُتمدِنين، ولذلك حين تكلَّم ماركس – وسوف أتحدَّث عن هذا بعد قليل – عن بنية – أي الــ Structure – الدولة وطبيعتها وتكوينها البدئي لم يُدخِل بتاتاً ولم يُشِر لا من قريب ولا من بعيد إلى مسألة الاستعمار وسلب الآخرين ونهب الآخرين، أبداً! وسوف أشرح لكم هذا بالتفصيل بعد قليل إن شاء الله تعالى، لم يتكلَّم في هذه الناحية، تكلَّم عن الاستعمار ضمن كلامه عن السياسات الإمبريالية، وهذا موضوع آخر مُختلِف تماماً، ليس في سياق الحديث عن بنية الدولة الرأسمالية، لم يتحدَّث! وهذا خطر وخطأ كبير، فجوة كبيرة في تفكيره طبعاً! وفي النهاية هو كان يعترف – كان يعترف تماماً – بأن حتى دولة الطبقة الكادحة – أي دولة البروليتاريا – التي ستُسلِم إلى الشيوعية لا دولة فيها، لأن ماركس Marx لا يُؤمِن بالدولة أصلاً، لابد أن تُحطَّم الدولة، لا يُوجَد شيئ اسمه دولة، لا يُؤمِن بالدولة – State – هو! 

على كل حال ما أقوله الوحي الإلهي والنص يُشكِّل ضرورة ولا يحمل كارثته معه، لماذا؟ لأنه – نتكلَّم كمِليين وكمُؤمِنين – تميَّز بالإطلاقية، المُطلَق تبارك وتعالى – إذا جاز هذا التعبير، طبعاً هناك أُناس يتحفَّظون من ناحية إطلاق هذا الوصف أو هذا الاسم على الله تبارك وتعالى، وهذه مسألة أُخرى – ليس مُطلَقاً زائفاً، وتحدَّثنا أمس عن المُطلَقات الزائفة، أليس كذلك؟ الشمس كإله مُطلَق زائف، وكذلك النار كإله، الكانون، الفرج، الرجل، المرأة، الطوطم، وما إلى ذلك كلها مُطلَقات زائفة، ما معنى أنها مُطلَقات زائفة Falso؟ هذا يعني أنها مُجرَّد أشياء نسبية، فعلاً هي أشياء نسبية! في سورة الأنعام تحدَّث إبراهيم عن الشمس وعن القمر وعن الكوكب، وكل هذا يأفل، يظهر ويغيب، إذن هو نسبي، ليس له دوام حضوري، نسبي! أليس كذلك؟ ليس له دوام حضوري، وطبعاً من مقولات النسبية أيضاً نسبية المكان، كما قلت لكم النسبية تدخل في أشياء كثيرة جداً جداً، إذن هذا كائن نسبي، هذا خلق نسبي، ليس له دوامية، إذن ليس له إطلاقية، وهو فانٍ أيضاً، له عمر، له مُدة! لا يُوجَد شيئ إلا وله عمر وله مُدة وله نهاية، فهذه إشارة إلى نسبية هذه الأشياء.

هذه الأشياء النسبية للأسف الذهن الإنساني البدائي الإشراكي الوثني في مرحلة مُعيَّنة من المراحل لم يُدرِكها، طبعاً نحن هنا أيضاً ضد الفكر الماركسي وضد الفكر التطوري، للأسف تأثَّر به أكثر من مُفكِّر عربي وإسلامي، وعلى رأسهم كان الأستاذ عباس العقاد رحمة الله عليه، كتب كتاباً جليلاً وجيداً اسمه الله (كتاب في نشأة العقائد الإلهية)، للأسف تبنى النظرية الغربية، أن العقيدة التوحيدية نشأت بالتطور، أي بدأت بالشرك وانتهت بالتوحيد، وهذا غير صحيح! هذه فكرة أوجست كونت Auguste Comte وفكرة جميع الوضعيين، وفكرة إنجلز Engels وماركس Marx طبعاً وفيورباخ Feuerbach، وهذا غير صحيح! العكس هو الصحيح، القرآن يقول كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً – معناها فاختلفوا – فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ۩، كان الحسن البِصري هكذا يقرأها: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً – يقول فاختلفوا – فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ ۩، قراءة تفسير! إذن بدأوا بالتوحيد، وبلا شك إذا كان آدم هو أبو البشر الأول وكان مُوحِّداً وهو نبي على الأرجح فلابد أن البداية كانت بالتوحيد، وانتهى بعد ذلك الأمر بالتعديد.

ماكس موللر Max Müller هو عالم أنثروبولوجي وعالم أيضاً في الأساطير، في الميثولوجيا Mythology بالذات! وهو خبير بلُغات شرقية على رأسها اللُغة السنسكريتية، هو يهودي ألماني تُوفيَ في بداية القرن العشرين، كتب أبحاثاً جيدة ورائقة جداً، وأتى بأدلة كثيرة، عكس فيورباخ Feuerbach وعكس إنجلز Engels وعكس هؤلاء، وأثبت فيها أن الإنسان بدأ فعلاً مُوحِّداً، وانتهى بعد ذلك إلى التعديد، هذا هو طبعاً! ولذلك نحن لا يُمكِن – لا نُسوِّغ لأنفسنا – أن نتشكَّك في مُعطيات القرآن الكريم بناءً على نظرية قال بها الأنثروبولوجي فلان أو العالم الفلاني أو عالم الأساطير فلان، مُستحيل! لا يُمكِن هذا، القرآن هو الدليل العتيد لدينا، بعد ذلك كل شيئ أيضاً نسبي وسيتغيَّر، لماذا الأنثروبولوجيا – Anthropology – والدراسات الأنثروبولوجية؟ ستتغيَّر هذه، الآن إحدى الفجوات والثُغرات – Gaps – الكبيرة في الفكر الماركسي ما هي؟ أن إنجلز Engels وماركس Marx استندا على آراء علماء أنثروبولوجيين – أي علماء في علم الإنسان أو الأناسة، أي الأنثروبولوجيا Anthropology، ليس شرطاً الإنسان القديم، حتى الإنسان الحديث الآن، كله  ينتمي إلى علم الإنسان – وعلى بعض المُعطيات البدائية البسيطة، وبعد ثلاثين سنة تغيَّرت كل هذه المُعطيات، أثبت علماء آخرون عكسها تماماً، فاختل الفكر الماركسي في هذه النواحي، فيما يختص بنشر العقيدة الإلهية وفيما يختص بأصل العائلة وفيما يختص حتى بطبقية المُجتمَع، كيف بدأت الطبقية؟ كل هذا أصبح الآن كلام Falso،  كلام فارغ! بحُكم الدراسات العلمية، هم استندوا على مُعطيات العلمية، والعلم أثبت لهم أن هذا كلام فارغ، تجاوزنا هذا قالوا، هذه هي! التعميم والقطعية والحديث في هذه الفرضيات على أنك تتحدَّث بصيغة علمية حتى تُكسِبها صفة الحتمية أحياناً نوع من الغرور العلمي، أصاب الماركسيين وأصاب غيرهم للأسف، ويُمكِن أن يُصيب أي إنسان إذا لم يكن مُتنبِّهاً إلى نفسه حين يُنظِّر وحين يطرح أفكاراً ومفاهيم جديدة.

ما أُريد أن أقوله الوحي الإلهي بارئ من هذا الخطر، لماذا؟ لصفة الإطلاقية التي يتمتع بها، ومن هنا عطاء الوحي الإلهي، وهذه هي المُعجِزة بالمُناسَبة، هذه هي المُعجِزة! سأذكر فقط نُقطتين اثنتين، النُقطة الأولى كيف تم لرسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – أن يبني حضارته ودولته تقريباً بلا مُبالَغة من نُقطة الصفر؟ أليس كذلك؟ لا تستطيع الماركسية بتاتاً – بالذات الماركسية – وغير الماركسية أن تفعل هذا، لذلك لم يتعرَّض لينين Lenin – وأنا قرأت له مُجلَّدات كثيرة مُذ كنت صغيرة، لم يتعرَّض لهذا لا إنجلز Engels ولا ماركس Marx ولا لينين Lenin بالذات، لأن لينين Lenin أكثر الجميع إنتاجاً، مُؤلَّفاته في حوالي ستة وأربعين مُجلَّداً – بتاتاً لنشأة دولة رسول الله، دولة المدينة! لأنها تُشكِّل اختراقاً واكتساحاً لكل فرضياتهم الجدلية، كيف؟ كيف إذن؟ ويُمكِن أن تُشكِّل تدعيماً أو دعماً أيضاً هائلاً لأفكار ماكس فيبر Max Weber، أن فعلاً يُمكِن لمنظومة عقدية مُعيَّنة أو لمنظومة تشريعية – أي فكر جديد، فكر جديد أو نظرية جديدة – أن تُبدِّل مُجتمِعاً برُمته، وهذا لم يحصل في التاريخ بالطريقة هذه، لكنه حصل في حالة واحدة: في مُجتمَع الرسول، حصل فعلاً! جاء هذا الرجل – وهو ابن هذا المُجتمَع، أليس كذلك؟ – بفكر مُخالِف تماماً، ينقض بنية حتى الفكر الجاهلي بالكامل! وهم قالوا من أول يوم هذا جاء يُسفِّه أحلامنا وعقولنا ويسب آلهتنا، هذا ضدنا بالكامل، هذا الرجل جاء ليفعل هذا، وبعد ثلاث عشرة سنة استطاع أن يُقيم صرح دولته، ووضع اللبنات الأولى في الحضارة الإسلامية مُباشَرةً، من لا شيئ! بدأ من الصفر، أليس كذلك؟ لم يعتمد على أي شيئ من مُجتمَع سابق، بدأ من الصفر، استطاع أن يفعل هذا، وهذا شيئ خارق وغير طبيعي، غير طبيعي بالمرة! والشيئ الأعجب من هذا أن هذه الدولة وهذه الحضارة أيضاً استطاعت – كما قلنا – أن تُقدِّم نموذجاً في التعاطي مع النفس أو مع الذات ومع الآخر قمة – ليس قمة فقط، مُتفرِّدة جداً في التاريخ، لا يُوجَد مثلها في التاريخ كله – في التسامح والاستيعاب، ليس في التشنج والإقصاء والإلغاء، بالعكس! في التسامح والاستيعاب، فضلاً عن الإنتاج الحضاري، كم أنتجت حضارياً! وكم دفعت مشوار التقدم الإسلامي إلى الإمام! شيئ غير طبيعي، كيف هذا بدأ؟ غير معقول، وهذا لم يحصل مثله في التاريخ!

هناك أُناس للأسف لا يعجبهم محمداً – عليه السلام – فينتقدونه ويتكلَّمون عليه، وهؤلاء للأسف من أغبياء العرب وببغاوات العرب، عضاريط العرب! هذه كلمة فُصحى، هم من عضاريط العرب المُحدَثين، ويتكلَّمون للأسف في سوريا، في مصر، في فلسطين، وفي كل مكان! ويكتبون كتابات حين تنزل تقشعر لها الأبدان يا أخي، ليس عندهم أي هدف إلا أن ينالوا من شخص رسول الله، ويبدأون يُفلسِفون الأمور ويتكلَّمون بقلة أدب، لم يتركوا شيئاً إلا تكلَّموا فيه، هؤلاء أغبياء! على كل حال هذا الشخص نجح أن يُقيم لا أقول دولة وإنما حضارة، حضارة الكل يُطئطئ رأسه لها!

توماس كارليل Thomas Carlyle كان أكثر إنصافاً، وهو فيلسوف فاهم بصراحة، ليس غبياً من أغبياء العرب التافهين، هؤلاء مُثقَّفون دعائيون فقط، مُثقَّفو صُحف والله العظيم، والله العظيم لا يفهمون الفكر الإسلامي ولا يفهمون الفكر الغربي، هؤلاء مُثقَّفو صُحف فقط، يكتبون فقط في الصُحف، لن أذكر أسماء لكن كتابات الكثير منهم عبارة عن مجموعة مقالات في الصحف فقط، يُجمِّعونها ويكتبونها في النهاية، كلها ضرب في الإسلام، ويقولون إنهم أصحاب مشاريع فكرية، لكن رجل مثل توماس كارليل Thomas Carlyle – وهو فيلسوف كبير جداً وشاعر، هذا رجل علّامة وعقل ضخم جداً – يكتب – يقول بالحرف – لا يُمكِن أن يكون رجلٌ كمحمد – عليه الصلاة وأفضل السلام – كذّاباً، هل محمد كذّاب – يقول – ودعي كما يُنسَب له أو ننسب له نحن الغربيين؟ قال الكذّاب لا يستطيع أن يبني بيتاً، الكذّاب فاشل، فضلاً عن أن يبني أمة وحضارة، هذا الرجل أخرج أمة يقول كارليل Carlyle، فأنزل كارليل Carlyle رأسه له، ولذلك في كتابه الضخم والشهير عالمياً الأبطال وعبادة البطولة ابتدأ بمحمد على أنه أعظم أبطال التاريخ، ما رأيكم؟ هذا هو طبعاً، (ملحوظة) سأل أحد الحضور عن اسم الشخص الذي يتحدَّث عن الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم، فقال له توماس كارليل Thomas Carlyle وكان مُعاصَراً لجوته Goethe، حدَّثتكم عنه أمس، كان مُعاصِراً له! قال أعظم أبطال التاريخ مُطلَقاً هو محمد بن عبد الله، توماس كارليل Thomas Carlyle – الفيلسوف الإنجليزي الضخم – كان يفهم هذا، لأنك تحكم على محمد من خلال حتى نظريته، من خلال أفكاره، من خلال عقيدته، ومن خلال التطبيق، من خلال التطبيق! شيئ عجيب، رُغم أن – انتبهوا – حصل تجافٍ وحصل للأسف – ماذا نقول؟ – خيس كبير جداً جداً واعتداء كبير على المشروع الإسلام الحقيقي من أيام بني أُمية.

بنو أمية جنوا جناية كُبرى على الإسلام حقيقةً، ليس على كل الإسلام لكن على جوانب هامة في الإسلام، بالذات جانب الحُكم، جانب السياسة! وكذلك مَن تلاهم مِن عباسيين ومماليك وعثمانين، وإلى اليوم إلى للأسف الشديد! ومع ذلك بقيَ الإسلام عظيماً وأعطى عطاءً كبيراً في أيام بني أمية وبني العباس، فتخيَّلوا لو أن المسألة استمرت على النمط الراشدي، ليس على النماط المُعاوي أو اليزيدي أو الأموي أو العباسي، لا! استمرت المسألة كما بدأت أيام أبي بكر وعمر وعثمان وعليّ، كيف كان يُمكِن أن يكون الإسلام والأمة الإسلامية؟ طبعاً أنا مُتأكِّد – بالعكس أنا مُوقِن وأستطيع أن أحلف على ذلك – كان لا يُمكِن أن نكون في الوضع الذي نحن فيه اليوم، مُستحيل! وكنا بالقطع سنكون إلى اليوم الأمة الأولى بجدارة، مُستحيل كان يلحق بنا لا الغرب ولا غيره أصلاً، مُستحيل! لكن جاءت مُصيبتنا من هذا التغير الكبير جداً الذي حدث في سنة أربعين للهجرة، وإلى اليوم! ولذلك مالك بن نبي يعتبرها أسوأ انعطافة في التاريخ الإسلامي، من هناك بدأ السقوط الحقيقي لأمة الإسلام، في سنة أربعين للأسف الشديد، ومع ذلك ليس في أربعين في سنة وإنما في ألف سنة أو في ألف وأربعمائة سنة ظلت الأمة الإسلامية قادرة على العطاء، ليس على المواءمة وإنما على العطاء والإنتاج الحقيقي، أمة عظيمة بمعايير كبيرة، لماذا؟ طبعاً لأسباب كثيرة، من ضمنها سبب سنعرض له اليوم بالذكر، إذا كانت السياسة وإذا كانت الدولة سيئة وقمعية واضطهادية واستبدادية وما إلى ذلك في التاريخ الإسلامي فالأمة في مجموعها لم تكن أمة ضعيفة ولا حقيرة ولا سيئة، كانت أمة قوية وأمة عظيمة وأمة مُنتِجة وأمة ذات فاعلية وذات قدرة وذات عطاء، لماذا؟ هل تعرفون لماذا؟ هذا أيضاً بفضل النص الإلهي، وسوف ترون هذا اليوم! بفضل الوحي، بفضل القرآن، الأمة كانت كذلك بفضل هذا القرآن، وسوف نرى هذا بالتفصيل بعد ذلك إن شاء الله، بعد المُقارَنة بين نظريتين وبين تجربتين تاريخيتين سوف نرى مصداق هذا الكلام، لأن هذا الكلام قد يظن بعض الناس أنه إنشاء وخطابة، لكنه ليس كذلك، هذا كلام علمي إن شاء الله، في أقصى حدود العلمية، في أدق حدودها واشتراطاتها، سوف نرى هذا بعد المُقارَنة بإذن الله تبارك وتعالى.

ما أُريد أن أقوله الوحي الإلهي لا يحمل خطره، أعني الجُزء الثابت! لا يحمل خطره معه بحمد الله، بالعكس! يحمل صمام الأمان دائماً للتجربة البشرية التي تُريد أن تُنزِّله في واقع الناس وفي حياة الناس، يحمل العكس، صمام الأمان الدائم لكل الانحرافات، لكل الاجتراءات، ولكل الخروقات، وهذه هي ميزة الوحي الإلهي، واختصار أيضاً، كما قلنا ليس مُجرَّد إرشاد وتقويم، بل واختصار ربما لعشرة آلاف وربما لمائة ألف وربما اختصار لعمر البشرية كله، لا تستطيع! ولو كان رب العزة – تبارك وتعالى – يعلم أن الإنسان قادر بعد مرحلة – بعد ألف أو ألفي سنة – أن يصل إلى اختطاط خُطة هدائية راشدة تُقوِّم مسيره وتُبارِك خطوه على وجه أمثل لكان من المُمكِن أن يتركه الله يفعل ذلك، لكن الله يعلم أنه لا يستطيع، ربنا يعرف أنه لا يستطيع، وسوف يبقى يُكرِّر أخطاءه باستمرار، ولذلك لا أمل لهذا الإنسان في أن يُقوِّم خطوه حقاً وأن يُصوِّب مسيره بغير وحي الله تبارك وتعالى، ومن هنا الضرورة الحقيقية لهذا الدين في عالم اليوم، كما في عالم الأمس وكما في عالم الغد، لكن اليوم بالذات يضح هذا، لأن هناك تأزماً حقيقياً على مُستوى العالم، الآن البشرية وصلت بقدراتها – بقدراتها التقنية بالذات – إلى نُقطة وصفها أحد الفلاسفة الفرنسيين بأنها نُقطة أصبح المصير الإنساني – مصير الكوكب الأرضي كله – مرهوناً لبعض نزوات مجانين السياسة، هذا لم يحصل في التاريخ الإنساني، لم يكن في يوم من الأيام مصير البشر جميعاً مُرتهِن بنزوته، لا نابليون بونابرت Napoléon Bonaparte ولا يوليوس قيصر Julius Caesar ولا الإسكندر المقدوني Alexander of Macedon ولا خالد بن الوليد ولا أي أحد يُمكِن أن يكون مصير البشر جميعاً مُرتهِن بنزوته، الآن هذا مُمكِن! رجل أهبل مثل بوش Bush وأحمق – Foolish – يُمكِن في لحظة ما هو وجماعته أن يتسبَّبوا فعلاً ليس في قتل أمة أو إبادة حضارة وإنما في تدمير كوكب الأرض لخمسين ألف قطعة، في لحظة واحدة ينتهي كل شيئ، هذا لم يحصل من قبل، وهذا مُخيف! أول مرة البشرية تصل إلى هذه الدرجة، غير طبيعي الوضع هذا، فهذه الخبرة أيضاً لم تمر بها البشرية، خبرة التخوف والاختطاف كما يُسميها بعضهم، الآن البشرية فعلاً تشعر بأنها مخطوفة، مثل جماعة يركبون متن طائرة وهم مخطوفون، إذن مصيرهم رهن نزوة هذا المجنون الخاطف، في أي لحظة يُمكِن أن يُطلِق رصاصة فتقع الطائرة وينتهي كل شيئ، البشرية الآن في حالة اختطاف، تعيش تجربة خوف الاختطاف، مصيرها كلها – كوكب، كعالم، وكتاريخ، وكحضارة – رهن بنزوة أحد هؤلاء المجانين المهووسين، فالوضع مُخيف! ولذلك لابد فعلاً أن تبحث هذه البشرية عن منفذ، ما هذا المنفذ؟ ما المنفذ هذا؟ ليس في مُصالَحة وليس في مواءمة – هذا لاينفع! انتهى عهد المُصالَحات والمواءمات – وإنما في خُطة، خُطة تسير على هديها بقناعة وبإيمان، ومن هنا ضرورتنا نحن كمُسلِمين، أن نقول ما عندنا، أن نُحسِن التعبير عما عندنا، وأن نُبلِغ ما عندنا.

أخشى أن الله – عز وجل – سيُؤاخِذنا ويأخذنا يوم القيامة ليس بذنونبا وليس بأوضاعنا فقط وإنما بأوضاع البشر جميعاً، بأحوال البشر جميعاً! سوف يقول لنا طبعاً أنتم كنتم الوحيدين الذين عندكم هذه الخُطة، أنتم كنتم الوحيدين! وفعلاً هذا صحيح، ولماذا نحن كنا الوحيدين؟ هل هذا غرور منا؟ لا ليس غروراً، لأن – كما قلنا أمس في الخُطبة – القرآن آخر الكُتب وهذا يعني أننا الوحيدون، لا يُوجَد إلا هذا، لا يُوجَد غيره! فضلاً عن أن النسبي لا يستطيع أن يُقارِع المُطلَق، إذن لا تُوجَد إمكانية أن يصل عقل بشري إلى خُطة مثل الخُطة الإلهية، لا يقدر، مُستحيل! لا يقدر وإلا لوصل لها من قديم، لا يُمكِن! ويبدو حتى في الأفق أن هذا غير موجود إلى الآن، في الأفق غير موجود! نحن نرى أحياناً فلاسفة عظماء جداً ومُمتازين، يبدأون فلاسفة إنسانيين وبعد فترة ينقلب الواحد منهم إلى فيلسوف شبه نازي، يُبرِّر الإبادات ويُبرِّر الحروب بفلسفته أيضاً، مارتن هايدجر Martin Heidegger فيلسوف وجودي، أليس كذلك؟ الفلسفة الوجودية أصلاً كانت فلسفة الإنسان، أليس كذلك؟ شعرت بمُعاناة الإنسان، لامستها مُلامَسة حقيقية، أرادت أن تُعين هذا الإنسان لكي يخرج من هذه المُعاناة، يأتي هذا – أي هايدجر Heidegger – ويتحالف مع النازي، لم يكن عنده أي مُشكِلة، ما هذا الفيلسوف الوجودي الكبير؟

نيقولا بيرديائيف Nikolai Berdyaev فيلسوف بدأ اشتراكياً، يُسمونها الاشتراكية الشرعية، أي الــ Legal socialism، بعد ذلك صار فيلسوفاً مسيحياً مُتألِّهاً، وبعد ذلك صار فيلسوفاً وجودياً من خلال المسيحية، وآخر شيئ – في آخر كتاب له، وهو إنسان عظيم، أنا قرأت له – انتهى إلى رجل يُبرِّر الحروب ضد الأمم الأُخرى، طبعاً لمصالح الإمبراطورية والقيصرية، ما هذا؟ لا يُمكِن أن نثق بهذا، الفكر البشري النسبي البسيط هذا لا يُمكِن أن تثق بأي عقل فيه، لا بفيلسوف، ولا بمُصلِح، ولا بكاهن، ولا بسياسي! لا يُمكِن، تحتاج إلى مرجعية غير نسبية، الكل يقطع لها، الكل يُنزِّل رأسه لها، هذه مرجعية إلهية! أرأيت؟ لذلك هؤلاء المخابيل والمهووسون الذين يتحدَّثون عن تاريخية النص – هم فرحون ويُريدون أن يُقدِّموا خدمة كبيرة للفكر الإسلامي وربما للفكر الإنساني – يُريدون أن يُجرَّدوا القرآن من إطلاقيته، فيُصبِح القرآن كتاباً تاريخياً من تأليف محمد وعكس فقط ضرورات مرحلة بسيطة زمانياً ومكانياً أيضاً في الجزيرة العربية، بعض البدو عكس ضروراتهم ومُتطلَبات حياتهم، وانتهى الزمان وعفا عليه، ما شاء الله على هؤلاء! أذكياء جداً هؤلاء، قدَّموا خدمة كبيرة! ويُريدون أن يُطوِّروا الخدمة الإسلامية من خلال هذا الفكر، تدمير هذا! تدمير لنا ولغيرنا.

على كل حال كل هذه مُقدِّمات، للأسف طوَّلت بشرحها على عادتي، فسنبدأ في الموضوع حتى لا نُطوِّل أكثر من ذلك، أكثر مما كان! أنا أُريد فقط أن أُناقِش مقولة واحدة اليوم، وهي مقولة الدولة، وطبعاً هذه ليست أول مرة، تكلَّمنا كثيراً عنها وعن الدولة وتسلطيتها واستبدادها، إلى آخره! ما هي المُشكِلة؟ الآن طبعاً يُوجَد تقريباً شبه إجماع في العالم كله على أن هناك أزمة بين المُجتمَع والدولة، ليس في العالم العربي فقط أو العالم الثالثي وإنما في العالم كله، حتى في العالم هنا! في الغرب الرأسمالي الديمقراطي تُوجَد مُشكِلة، تُوجَد أزمة حقيقية، حتى الدولة والمُجتمَع في عهود العبودية – عهود الأسياد والأقنان – وفي عهود الإقطاع كانت أفضل بكثير من شكل الدولة المُعاصِرة، أفضل! لماذا؟ لم تكن تُشكِّل تهديداً بابتلاع المُجتمَع، أن ينتهي شيئ اسمه المُجتمَع، ولكي أُوضِّح هذه المفاهيم لابد أن أشرح في الأول – هذا أول شيئ – ما هي الدولة.

بعض الناس للأسف – وسنتحدَّث بطريقة إجرائية – يحسب أن الدولة هي الحكومة، وخاصة نحن العرب، لأننا حقيقة لا نعرف ما هي الدولة، لا نعيشها للأسف بشكل سليم وصحي، فنظن أن الدولة هي الحكومة، لكن هذا غير صحيح! الحكومة جُزء بسيط جداً – وهو الجُزء المُتغيِّر – من هذا البنيان الكبير، من هذا الــ Structure الهائل المُسمى بالدولة، وخاصة في العصر الحديث، أصبح بنياناً هائلاً جداً ومُتغوِّلاً، فهذا البنيان الكبير يُوجَد جُزء منه اسمه الحكومة بدواوينها، ببروقراطيتها ومُوظَّفيها جميعاً، هذا اسمه الحكومة، وهذا مُتغيِّر، يذهب ويجيء، أليس كذلك؟ تسقط حكومة وتأتي حكومة أو يحدث انقلاب، لكن بقية الدولة كمُؤسَّسات طبعاً – إنتاجية، تشريعية، تنفيذية، وإلى آخره! مُؤسَّسات كثيرة جداً جداً – ثابتة، تُشكِّل العناصر الثابتة، تأتي حكومة وتذهب حكومة والعناصر الثابتة في الدولة موجودة – لا تريم – كما هي، يحدث تغيير أحياناً لكن للأسف يكون نحو الأسوأ، نحو مزيد من البقرطة، أي من البيروقراطية، الدواوينية كما يقول أهل المغرب العربي، يحدث مزيد منها للأسف! لكن يبقى الجهاز كما هو، هو كما هو، حتى وإن أتت الحكومة الجديدة على جناح ثورة كما يُقال أو بطريق ثورة، نفس الشيئ! وهذا يحدث دائماً للأسف الشديد باستمرار، حتى ماركس Marx لاحظ هذا، قال دائماً – في تعليقه على كومونة باريس باريس، أي Paris Commune، في تعليقه على كومونة باريس قال هذا – كانت الثورة حين تأتي تزيد إتقان وتحسين آلة الدولة، وأما بخصوص كومونة باريس فإن هذا بالضبط ما لا ينبغي أن يصير، الذي ينبغي أن يكون هو تحطيم هذه الدولة بالكُلية، لأنه طبعاً كان يُعاني كفيلسوف وكرجل يُحلِّل الوضعه ويُفكِّكه ويفهمه، مُشكِلة الدولة الحديثة! طبعاً أيام ماركس Marx في القرن التاسع عشر لم تكن الدولة قد تغوَّلت كما حدث في القرن العشرين، الدولة في القرن العشرين – رأيتم كيف كان الشكل الفاشي والشكل النازي والشكل السوفيتي أو السوفياتي، أي السوفييتات! كان شكلاً مُخيفاً جداً – تغوَّلت بالكامل، وهدَّدت كما لاحظ أيضاً ماركس Marx مرة بذكاء بابتلاع المُجتمَع، هذه الدولة الحديثة – الدولة الحديثة والسُلطة في هذه الدولة – يُمكِن أن تُهدِّد بابتلاع المُجتمَع برُمته، دائماً كان لدينا دولة ولدينا مُجتمَع وهناك هامش، تقريباً انتهى شيئ اسمه مُجتمَع وشيئ اسمه هامش، بقيت فقط السُلطة هذه المُتغوِّلة والتي ابتلعت كل شيئ، هذا حدث! لكن بعد الحرب العالمية الثانية طبعاً الوضع تلطف قليلاً مع ما عُرِف بدولة الرفاه، أي الــ Welfare state، دولة الرفاه التي حاولت أن تُعطي أكبر قدر من التأمينات للمُواطِن، وهذا طبعاً كان من مُقتضيات قيام الحرب العالمية الثانية ومجاريات الحرب العالمية ومُجرياتها، بمُقتضاها! رأينا رجلاً مثل تشرتشل Churchill، وهذا الرجل أيضاً أديب وسياسي لا إنساني واستعماري، عقليته وتركيبته النفسية استعمارية بشكل شرس حتى مع شعبه، هذا الرجل طبعاً هو الذي أطلق شعار الدموع والدماء، مزيد من الدموع ومزيد من الدماء! هذا الوطن وطنكم، كلكم ستُشارِكون فيه وما إلى ذلك، طبعاً بعد ذلك اضطُر رُغماً عنه إلى أشياء، بعد النصر هو أراد أن يخيس ببعض وعوده، فخسر في الانتخابات خسارة ساحقة، أليس كذلك؟ طبعاً، الحزب الآخر – العمّال – قالوا بالعكس، سوف نُقدِّم لكم كل ما وُعِدتم به، وهكذا كان! وفاز فوزاً ساحقاً، فدولة الرفاه جاءت من مُقتضيات الحرب نفسها، لماذا؟ لأنها احتاجت إلى الجمهور، احتاجت إلى الناس! أليس كذلك؟ لكي تكسب المعركة لابد أن تلتحم بالناس وأن تعد الناس وأن تُعطيهم وعوداً خلّابة، ولذلك هنا نشأ ما يُعرَف بدولة الرفاه، وهي امتصت كثيراً من التوترات واستطاعت أن تُنشئ أو تُبلوِر لون مُصالَحة بين الطبقات المُتسيِّدة – أي السائدة سياسياً، ومصلحياً طبعاً بلا شك من خلال كونها سائدة سياسياً – وبين الجماهير أو بين الشعب أو بين الناس، حصل هذا كاستثناء بسيط، امتصاص لنوع من التوتر الحاصل، لكن ليس حلاً نهائياً، لم يكن حلاً نهائياً! الآن الأحزاب اليمينية كلها تُقلِّص هذه الضمانات، أليس كذلك؟ وتُنادي بتقليصها باستمرار، سوف نرجع إلى إلى الأول وربما إلى ما هو أسوأ من الأول، فهناك أزمة حقيقةً بين الدولة وبين المُجتمَع، أزمة حقيقية موجودة! سوف نرى كيف تعاطى الإسلام مع هذه الأزمة أو كيف يُمكِن للفكر الإسلامي أن يتعاطى معها، طبعاً كيف تعاطى؟ تجربة تاريخية، دولة النبي – عليه السلام – ودولة الخلفاء الراشدين نموذج مُهِم جداً لنا، لماذا دولة النبي ودولة الخلفاء الراشدين؟ بعض الناس يبخس هذه الدولة حقها، يقول هذه ثلاثون سنة! ثلاثون سنة ليست قليلة، في ثلاثين سنة كان هناك إمبراطورية إسلامية، ليست في حجم مصر أو العراق أو تونس أو الجزائر أو فلسطين، إمبراطورية! في ثلاثين سنة كان هناك إمبراطورية إسلامية، ثُلث العالم! ثُلث العالم دخل في الإسلام أو تحت حكم المُسلِمين، ثلاثون سنة ليست قليلة بكل المعايير! والفتح الإسلامي بالمُناسَبة بحسب التوصيف الغربي أو عند أكثر الغربيين هو مُعجِزة، يُسمونه مُعجِزة – Miracle – الفتح الإسلامي، غير مفهوم كيف! كيف هؤلاء في ثلاثين سنة فعلوا هذا الشيئ كله؟ من أين؟ كيف؟ أتسحق الإمبراطورية الرومانية والفارسية ويحدث هذا في ثلاثين سنة؟ شيئ غير طبيعي وغير عادي!

أيضاً ليس هذا فحسب، ثلاثون سنة ليست قليلة في عمر الأمم، دائماً يُقال هذا قليل، لكن هذا ليس قليلاً، بالعكس! في الأمم الفاعلة ثلاثون سنة ليست قليلة، لكن نحن الآن كأمة مخذولة للأسف وأمة كسلانة أو كسلى دائماً نُردِّد أن خمسين سنة في عمر الأمم ليست بشيئ، بالعكس! كما دائماً كنا نقول مائة سنة ليست كثيرة فقط بل فُرصة كاملة، أي نستطيع أن نقول فرصة كاملة Perfect chance، مائة سنة فُرصة كاملة، ليست فُرصة كبيرة نسبياً وما إلى ذلك فقط، لا! أستطيع أن أُسميها بهذا المُصطلَح الجديد فُرصة كاملة، أي Perfect chance، كيف فُرصة كاملة؟ فُرصة كاملة لأي أمة لكي تُناضِل من أجل مشروعها وأن تُحقِّق مشروعها وأن يستنفذ مشروعها أكثر أغراضه، لكي تبدأ دورة جديدة، ومن أين أخذت هذا الشيئ؟ أخذته من الحديث الذي ذكرناه عدة مرات، إن الله يبعث في هذه الأمة على رأس كل مائة سنة مَن يُجدِّد لها دينها، هذا يعني أن مائة سنة فترة كافية، تُعطيك فُرصة كاملة! إذا لم تستغل مائة سنة وبقيت تُراوِح مكانك فهذا يعني أنك شبه ميت، عندك حالة استعصاء فكري، استعصاء في الفاعلية، أنت عندك مُشكِلة! لابد أن تُناقِشها حقيقةً، والغريب – سُبحان الله – ما يقوله هيجل Hegel، قبل أيام كنت أقرأ في أحد كُتب هيجل Hegel، الفيلسوف الألماني المثالي! ماذا يقول هيجل Hegel؟ يقول لقد لاحظت عبر التاريخ وبالذات – هو يتحدَّث عن تاريخ الشعوب العربية، أي هيجل Hegel – في تاريخ الشعوب العربية أنه لا تكاد تمضي مائة سنة – وهو طبعاً لا يعرف الحديث هذا، لو سمعه لاستغرب – إلا وتظهر فيها هبة ثورية كُبرى تُغيِّر مُجمَل الأوضاع وصورتها، سُبحان الله! بذكائه تحصَّل على الشيئ هذا.

بالمُناسَبة الآن بعض المُؤرِّخين العرب الأذكياء والناشطين فعلاً بدأ يُؤمِن بمنطق المُجايلة التاريخية، أي يُحاوِل أن يرى التاريخ بمنطق مُجايلي، من أجيال Generations، كل جيل ماذا يُمكِن أن يُنجِز؟ مُمكِن! تستطيع أن تُلاحِظ هذا، فكيف بفترة مائة سنة؟ هذا ما أُسميه بالفُرصة الكاملة للأمة، لأي أمة! وإذا لم تُحسِن في استثمار هذه الفُرصة وأن تُغيِّر أوضاعها برُمتها فهذا يعني أنها أمة كسلى عاجزة سلبية وتعاني من حالة استعصاء في الفاعلية، لابد أن تُناقِش أدواءها ومشاكلها بجدية أكثر!

قبل قليل – قبل أن آتي إلى هذه المُحاضَرة، وهذا يحصل معي دائماً، سُبحان الله – عبرت فوجدت زوجتي تستمع إلى شيخ يأخذ في الدعاء، الرجل يُريد أن يحل أزمة الأمة كلها عبر الدعاء والابتهال والبكاء، ويا الله ونحن وذنوبنا! فشعرت بأسى والله العظيم، والرجل يبكي ويُبكي الناس، شعرت بأسى! إلى متى سنبقى على هذه الحالة؟ أُؤمِن بالدعاء بلا شك – وهو لُب الإيمان ولُب العبادة – لكن هل تحسبون أن بالدعاء أولاً من غير فهم عميق ومن غير فاعلية حقيقية ومن غير نقد – لا يبلغ درجة التجريح أو جلد الذات لكنه نقد حقيقي مرير، يضعنا أمام الحقائق العزلاء المُجرَّدة – يُمكِن أن تتغيَّر أوضاعنا؟ لا يُمكِن! إذن إلى متى سيبقى هؤلاء الناس الذين آتاهم الله أمور تصريف العقول للأسف يفعلون هذا؟ والمفروض أن العقول لا تُصرَّف، العقول لا تُصرَّف ولا تُرتهَن ولا تُستناب، لكن للأسف هكذا نحن الشعوب العربية، هناك مُتحدِّثون باسم الإسلام وغير الإسلام آتاهم الله للأسف هذه القدرة وهذه الفُرصة على تصريف عقول وذهنيات البشر، ذهنيات الناس! إلى متى سيبقى هؤلاء مُصِرين على أن يتحدَّثوا مع الجماهير المُسلِمة بهذه الطريقة؟ بالعكس! يجب أن يتعوَّدوا أن يتحدَّثوا معها تفتيحاً لعيون بصائرها، تفتيحاً لوعيها، تفهيماً لأسس مشاكلها، وبطريقة علمية واقعية ووقائعية أيضاً، بعيداً عن الهمهمات والهواجس هذه والمنطق العجيب هذا، يُمكِن أن نُسميه حتى المنطق التغيبي حقيقةً، لأن يُغيِّب الناس، وتبكي الناس وتمسح دموعها وترتاح، تقول لعل الله استجاب، كيف تقول لعل الله استجاب؟ مُستحيل! ليست الأمور هكذا أبداً، الله لا يتعاطى مع الشؤون بهذه الطريقة والله العظيم، لا يتعاطى هكذا أبداً أبداً، الدعاء هذا يأتي – كما قلنا مرة في خُطبة – متى؟ هل تعرفون متى؟ الدعاء طبعاً يأتي قبل العمل ويأتي مع العمل – إبان العمل – ويأتي بعد العمل، لكن لابد أن نُفصِّل بين حالات، إذا أردت النصر لابد أن تتسلَّح بكل مُقوِّمات النصر وبكل أسباب النصر المُستطاعة لك، ومع ذلك تتسلَّح بسلاح الدعاء، أما أن تتسلَّح بسلاح الدعاء وأنت أصلاً لم تبحث مسألة النصر ولا كيفية تحقيق النصر فلا تحلم بنصر إلى يوم يُبعَثون إن شاء الله، مُستحيل! غير موجود هذا، أليس كذلك؟ 

رحمة الله على ابن الجوزي، هذا الرجل له أنظار ذكية، أبو الفرج بن الجوزي عنده كتاب لطيف جداً، أنصح كل أخ أن يقرأه وكل أخت، اسمه صيد الخاطر، فيض الخاطر لأحمد أمين – مقالات في عدة مُجلَّدات، في عشر مُجلَّدات – لكن صيد الخاطر لابن الجوزي، عجيب! كتاب عجيب ورهيب، أُوتيَ بلاغة – سُبحان الله – وأُوتيَ فكراً فيه، فيه أفكار حتى مُهِمة جداً، يقول مثل الإنسان الذي يفزع إلى الدعاء ولا يأخذ بالأسباب كمثل رجل يجلس في بُستانه وما بينه وبين أن يسقي زرعه إلا ضربة أو ضربتين بالفأس – اضرب يا أخي، خُذ من الغدير واضرب ضربتين -، وهو يترك كل ذلك ويقوم يقلب ثوبه ويُصلي صلاة الاستسقاء، ما هذا؟ مُستحيل! صل من الآن إلى يوم يُبعَثون ولن تُسقى إن شاء الله، ما الهبل هذا؟ ونحن هكذا صرنا بصراحة، نفرح ونبكي وندعي ونتحاذق في الدعاء، بالعكس! المفروض أن يكون هذا قدراً قليلاً جداً، ما قل ودل! والتفكير والعمل يأخذان المساحة الأكبر في كل شيئ، حتى في الخُطبة! الدعاء لنصف دقيقة، الوعي والفكر هما جسم الخُطبة، لا تكون المُقدِّمة رُبع ساعة والدعاء ثلث ساعة والخُطبة عشر دقائق، ثم نفرح بأنفسنا لأننا تكلَّمنا وأبكينا الناس، عندنا مُشكِلة للأسف في الذهن وفي الفكر بصراحة، ولذلك الآن حتى لو صرنا إلى التحرير وصرنا إلى الدولة صدِّقوني سوف نرى أنفسنا تقريباً مُضطَرين أن نبدأ من دون الصفر، وسوف نُعاني من مشاكل كبيرة جداً جداً، من مشاكل كبيرة! وسوف نرى هذا، بالمُناسَبة مُحاضَرة اليوم كلها تتحدَّث عن هذه المسألة، مسألة إذا لم يكن عندنا وعي نظري حقيقي ودقيق ومُستوعِب للمسألة – لمُقدِّماتها، لمُجرياتها، لاستعصاءاتها، لحلولها، ولكل ما يُمكِن أن يختص بها – فهذا يُمكِن أن يجعل الأمة تدفع ثمناً باهظاً جداً بعد ذلك عملياً، ثمناً غير عادي! وهذا لا يقتصر على الأمة الإسلامية، كل الأمم وكل الشعوب! فكيف؟ سوف نرى مسألة اليوم.

قلنا يُوجَد شبه إجماع أو إجماع حتى حقيقي على وجود مُشكِلة الآن بما يخص الدولة والمُجتمَع في العالم كله، وبالذات في العالم طبعاً الثالث، تُوجَد مُشكِلة حقيقية بين المُجتمَع والدولة! الدولة الحديثة دولة مركزت السُلط بشكل غير مسبوق، السُلطة العلمية، الاقتصادية، السياسية، العسكرية، التخطيطية، والتنموية، كلها! كل السُلط مركزتها، ولذلك هي دولة مركزية، دولة تغوَّلت على المُجتمَع، تُحاوِل – ونجحت للأسف في أكثر هذه البُلدان – أن تُهيمن هيمنة مُطلَقة وأن تُسخِّر هذا المُجتمَع، لمَن إذن؟ لمَن؟ لصالح الفئة السائدة المُتنفِّذة سياسياً وغير سياسياً فقط، لصالح فئة قليلة جداً جداً، وهذا وضع غير طبيعي، أليس كذلك؟ هذا وضع غير طبيعي! فنُريد أن نرى كيف الفكر الإسلامي عالج أو يُمكِن أن يُعالِج هذه المسألة؟ وقلت لكم نُريد أن نستهدي بتجربة الرسول مثلاً – عليه الصلاة وأفضل السلام – وتجربة الراشدين بلا شك، ولا نبخسها حقها فنقول ثلاثون سنة، ثلاثون سنة مُهِمة جداً، لماذا؟ في المُقابِل نحن سنُناقِش التجربة الماركسية طبعاً، هذا مُهِم جداً! لماذا الماركسية إذن؟ لأن كان عندها نظرية في هذا الصدد، ولها تجربة فوق كارثية، أليس كذلك؟ تجربة مُخيفة، تجربة – كما يقول – أحد المُفكِّرين الماركسيين لم يشهد التاريخ – يقول لا تاريخ الإمبراطور ولا تاريخ السُلطان ولا الدوتشي ولا تاريخ الفرعون ولا أي تاريخ بشري – مثل هذه الدولة في تغولها ومركزيتها وتسلطها وهيمنتها، مُخيفة! دولة مُخيفة جداً جداً، الاتحاد السوفيتي السابق شيئ من عجب، التاريخ كله لم يشهد مثلها، فلماذا؟ عكس النظرية تماماً، ماركس Marx وإنجلز Engels ولينين Lenin يُبشّرون بدولة ستكون دولة العمّال ودولة الكادحين، وليس فيها جيش مُنظَّم وليس فيها بيروقراطية، ومن كلٍ حسب جُهده ولكلٍ حسب حاجته، سوف نفتح الأسواق وخُذ ما تُريد، خُذ سيارة أو سيارتين أو ثلاث سيارت أو عشر سيارات، خُذ ما تُريد، ما تحتاجه خُذه، جنة! وعدوا الناس بجنة على الأرض، ليس فيها قمع، بالعكس! الذي سيُمارِس القمع هم الأغلبية، لا يُوجَد أي جهاز يُمارِس القمع، الأغلبية ستُمارِس القمع بحق الأقلية، الأقلية المُجرِمة العميلة والتي هي ضد الثورة وما إلى ذلك، هذه ستُقمَع! مَن سيقمعها؟ لا يُوجَد جهاز قالوا، لا يُوجَد! لا شرطة ولا KJV ولا استخبارات ولا جيش أحمر، لا يُوجَد كل هذا! سيكون هذا للشعب نفسه، الكادحون! البروليتاريا ستُنظِّم نفسها، الشعب مُسلَّح، لا يُوجَد جيش مُسلَّح، يُوجَد شعب مُسلَّح سوف يقمع هؤلاء، الشعب فقط! ولا تُوجَد سُلطة تشريعية في جانب وسُلطة تنفيذية في جانب، لا! الشعب هو نفسه تشريعي وتنفيذي، ما هذا؟ هذا لم يحصل مثله في التاريخ، مُمتاز هذا! قالوا نعم، هذا سيحدث، عكسه تماماً هو الذي حصل بالكامل، تماماً! 

على كل حال هذه النظرية مِما استُوحيَت؟ ما هو أكثر مكان استوحوها منه؟ من تجربة لم يصل عمرها إلى ثلاثين سنة – نقول هذا للعلمانين العرب أو للمُتعلمِنين العرب، ليس من تجربة الخلافة التي وصل عمرها إلى ثلاثين سنة، يقولون ثلاثون سنة استثناء هامشي بسيط حقير – وإنما من تجربة كومونة باريس، أي Paris commune بالإنجليزية، ويسمونها بالألمانية Pariser kommune، هذه الكومونة كم استمرت؟ بضع سنوات، هذه ماركس Marx ألَّف عليها كُتباً وإنجلز Engels ولينين Lenin، تكلَّموا عنها وقالوا هذا شيئ لم يحدث، أي Extraordinary، مسألة استثنائية في التاريخ كله جعلتهم يعملوا نظرية في الدولة والتغيير والناس، كومونة باريس! لكن نحن ليس عندنا كومونة استمرت لسبع سنوات وما إلى ذلك، عندنا تجربة استمرت لثلاثين سنة، والتجربة مُختلِفة تماماً بحمد الله تبارك وتعالى، بدايةً ونهايةً تختلف على كل حال، وسياقاً! فسوف نرى، سوف نرى كيف هي المسألة بإذن الله تعالى.

إذن أول تنبيه – كما قلنا – الدولة شيئ والحكومة شيئ، هذا الشيئ هو جُزء من الدولة، وهو الجانب المُتغيِّر، كيف تُعرِّف النظرية الماركسية اللينينية الدولة؟ كيف تُبرِّر نشوء الدولة؟ طبعاً ما معنى الماركسية اللينينية؟ معناها باختصار هي الشروح الضافية والمُوسَّعة التي بلورها وتقدَّم بها لينين Lenin على أفكار ونصوص ماركس Marx، كثير جداً من هذه الشروح تُعتبَر شروحاً نصوصيةً، يُمكِن أن نُسميها شروحاً نصوصيةً، فهي تلتزم النص الماركسي وتدور حوله، طبعاً تزيد أحياناً وتقطع معه وأحياناً تتجاوزه قليلاً وما إلى ذلك، لكن على كل حال هذه الإضافات اللينينية أصبحت لدى الشيوعيين والماركسيين في فترة طويلة للأسف أكثر قداسةً من النص الماركسي نفسه، أي كان يُمكِن أن يُخالَف ماركس MArx، لكن أن يُخالَف لينين Lenin لا، لأنه أصبح معبود الجماهير والعياذ بالله تبارك وتعالى، من الصعب جداً أن يُخالَف، حتى من كبار أقطاب الفكر الماركسي، من الصعب جداً! أُلِّه هذا الرجل تقريباً، أُلِّه! وهذا إلى الآن حتى، ادخلوا على الإنترنت Internet فهناك مواقع عنه، شيئ عجيب! يضعون خمسين أو ستين صورة له مُنذ كان صغيراً إلى أن مات، المزار الخاص به – الضريح يُزار فعلاً كما تُزار قبور كبار الأنبياء والأولياء – يُطاف حوله، يقومون بعمل  دورات وما إلى ذلك، موجود هناك في موسكو، يسمحون بذلك! نوع من الكهانة الجديدة، هذه كهانة علمية طبعاً، كهانة علمية والعياذ بالله، سوف نرى!

أولاً تقول النظرية الماركسية اللينينية باختصار الدولة هي الطبقة المُتسيِّدة، مُبرِّر تسيدها وتسلطها هو وجود التناقضات الطبقية، بين طبقات المُجتمَع! أي بين طبقة – مثلاً – الرأسماليين الكبار، بين طبقة البرجوازيين الصغار، يُمكِن أن نقول هذا، وطبعاً هناك البرجوازية الكبيرة – الــ Grande – وهناك البرجوازية الصغيرة – الــ Petite – وهناك الطبقة الكادحة، أي البروليتاريا! الطبقة الكادحة هي طبقة العمّال المسحوقين الذين كان يُسميهم ماركس Marx هم عبيد عبودية العمل المأجور أو العمل المدفوع، يشتغلون ويأخذون أجراً، هذا الأجر لا يُساوي إلا جُزءاً منزوراً – أي جُزءاً نزراً يسيراً – من حقيقة عملهم، ولذلك يتحدَّث ماركس عن اغتراب العامل عن عمله، المسكين يعمل عملاً وهذا العمل يُنتِج الكثير لكن هو ليس منه شيئ، العمل في جهة وهو في جهة، يقول حتى غدا هذا العامل في عهد الميكنة ذيل من لحم لماكينة من حديد، تعبير ماركس Marx! ذيل من لحم – بلا مشاعر، بلا حقوق، بلا التزامات حقيقية إزاؤه أو قبالته – لماكينة من حديد، هذا ما يُسمى باغتراب العمل عند ماركس Marx، اصطلاح ماركسي اغتراب العمل، هذه البروليتاريا! 

ما هي البرجوازية؟ البرجوازية – La bourgeoisie – كلمة فرنسية كانت تعني في العصور الوسيطة الطبقة التي تقبع وتثوي بين طبقة النُبلاء وطبقة الكادحين، كانوا يُسمونها طبقة – La bourgeoisie، البرجوازية! لكن بعد ذلك حين تطوَّر النظام الرأسمالي أخذت معنىً ثانياً، أخذت معنىً آخر! ماذا صار معناها؟ صار معناها باختصار كل المُرتبِطين والمُستفِدين من ارتباطهم بملاك وسائل الإنتاج، هناك طبقة تمتلك وسائل الإنتاج، وهناك أُناس يرتبطون بهم، كل مَن يرتبط بهم ويستفيد من ارتباطه معهم حتى السماسرة يُعتبَر برجوازياً، في الطرح أو في النص الماركسي البرجوازية قسمان: الجراند La grande bourgeoisie et la petite bourgeoisie، الصغيرة والكُبرى! أي البرجوازية الصغيرة والبرجوازية الكُبرى، يقولون من صغار البرجوازيين أو من البرجوازيين الصغار – يتكرَّر كثيراً جداً هذا في النص الماركسي واللينيني وما إلى ذلك – والبرجوازيين الكبار أو كبار البرجوازيين، البرجوازية الكبيرة العُظمى هي كبار الرأسماليين الذين يمتلكون وسائل الإنتاج الضخمة ومَن إليهم، كرؤوساء المصارف ومُدراء الأبناك، أي البنوك Banks! من كبار البرجوازيين، وأما البرجوازية الصغيرة فهم الذين يمتلكون وسائل إنتاج بدائية وبسيطة والمهنيين والحرفيين، هل هذا واضح؟ هذه تُسمى البرجوازية الــ Petite، أي الصغيرة! فهذا معنى البرجوازية الصغيرة والبرجوازية الكبيرة حتى نفهم.

طبعاً بعض الناس يعرف هذه الأشياء من قديم، لكن بعض الناس ربما لأول مرة يسمع بها أو سمع بها لكنه لم يُحقِّق المُصطلَح، فضروري أن نُوضِّح بعض الأشياء مثل هذه، فقال نشأت لماذا؟ وتسيَّدت هذه الطبقة لماذا؟ لماذا؟ لأن هناك تناقضات موجودة بين طبقات المُجتمَع، بين البرجوازية الصغيرة والكبيرة من جهة، بين العمّال من جهة، إلى آخره! وبين حتى الطبقة المُتسيِّدة من جهة ثالثة، هناك تناقضات! وطالما هذه التناقضات موجودة فالدولة موجودة، هل فهمتم كيف هي النظرية الماركسية في الدولة؟ أي هي موجودة لأن التناقضات موجودة، لو حُلت التناقضات تنحل الدولة، لن تكون هناك دولة، ستختفي الدولة! هذا طرح مَن؟ ماركس Marx ولينين Lenin، الطرح هذا بعض الناس يراه صحيحاً، لكن هو ناقص، هذا طرح منقوص! علماً بأن النظرية الماركسية في كل شيئ ناقصة للأسف، وليست علمية كما تزعم، بعيدة جداً جداً، هي أشبه بالنظرية الهوائية، تهويمية هوائية للأسف!

أولاً هذا الطرح الذي قد يبدو مُتمساكِاً – كما قلت – للبعض تغاضى وتجاهل وتغافل بالمرة عن ماذا؟ عن أن التاريخ يُعلِّمنا درسه، أن الحافز والسبب الرئيس لنشوء الدول واستدامتها ليس التناقضات الداخلية في المُجتمَع – هذه لها دور، (ملحوظة) قال أحد الحضور التناقضات الخارجية فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت – وإنما التناقضات بين الشعوب، بين الدول، بين الجوار، وبين الأمم! هذا أكبر سبب، هذا أكبر سبب نشوء الدول واستدامة الدول حتى وأحياناً خضوع المسحوقين للطبقات المُتسيِّدة، من أجل ماذا؟ من أجل الأمن والشعوب الأخرى ووضعنا وإمبراطوريتنا ودولتنا، هل فهمتم؟ هذا ما يقوله التاريخ، درس التاريخ يقول هذا! ولذلك للأسف الشديد مُنذ البداية جذر النظرية الماركسية في الدولة لم يلحظ هذه المسائل، للأسف الشديد! تغافل عنها، ولذلك سوف يُعاني من إخفاقات كثيرة في فهم الواقع وفي مُعالَجة الواقع، لن ينجح – سوف نرى أنه لن ينجح بالمرة – هذا التنظير، لماذا؟ لأن هناك نقصاً كبيراً مُنذ البداية، وهذا أولاً.

ثانياً هناك تناقضات أيضاً في الطبقة السائدة نفسها، التعاطي الماركسي مع الدولة ومع الطبقات دائماً يجعل الطبقة السائدة طبقة واحدة مُتجانِسة، أي Homo! مُتجانِسة بالكامل، تقف واحدة في فليق، في حين أن الطبقات الأُخرى تقف في جهات أُخرى، وهذا غير صحيح، بالعكس! التاريخ أيضاً مرة أُخرى يقول غير هذا، فحتى الوعي التاريخي عند ماركس Marx ولينين Lenin مجزوء، وعي مجزوء! بعض الناس يعتبر أن ماركس Marx رجل لا يُخطئ، حتى في العلم! قرأت مرة مثل هذا لأحدهم في كتاب ماركسي ماركسي، في الموسوعة الفلسفية – ترجمها سمير كرم وقدَّم لها العظم وجورج طرابيشي، وهي موسوعة روسية، هي بالأحرى Dictionary لكن هم ترجموها بالموسوعة، Dictionary of philosophy، في السابع والستين نشروها في روسيا، هذه ليودين Yudin وروزنتال Rosenthal – حين كان يُوصَف ماركس Marx وإنجلز Engels ماذا كان يُقال؟ هذان الفيلسوفان حقَّقا قفزة نوعية غير مسبوقة – بالحرف يقول غير مسبوقة، لم يفعل أحد مثلهما، في ماذا؟ – في التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة والطبيعة، أي في الفيزياء أيضاً! كيف في الطبيعة؟ ما علاقتهما بالطبيعة؟ قيل في العلم أيضاً، في العلم الطبيعي! لذلك لينين Lenin بالمُناسَبة وُجِّه له نقد، أنه دائماً يتمتَّع بدوجمائية، عنده اللُغة القطعية هذه، يتكلَّم بلُغة قطعية حتمية وكأن الرجل يفهم كل شيئ، كأنه يتكلَّم في قضايا الاجتماع والإنسانيات بلُغة العلوم الطبيعية، وُجِّه إليه هذا النقد! من سوء حظ هذا المسكين أنه في أحد مواضع كُتبه – في أحد المواضع فيها – قال هكذا ينبغي أن نتحدَّث عن قضايا المُجتمَع تماماً كما نتحدَّث عن قضايا الطبيعة، هو نفسه اعترف بذلك، المسكين كان مغروراً جداً بعلمه، كأن الرجل يعرف الأشياء بلُغة إلهية، هذا الرجل كان يتقمَّص وعياً إلهياً للمسائل ويعرفها تماماً، جاء التطبيق ككارثة طبعاً بعد قليل، عكس ما قيل تماماً، كما رأى التاريخ كله بحسب ما رأينا نحن، عكس تماماً كل ما كُتِب وكل ما نُظِّر، لم – كما قلنا – يلحظ هذا التنظير التناقضات بين الطبقة المُتسيِّدة ذاتها، هناك تناقضات كبيرة جداً جداً، والتاريخ كله يعكس ذلك، قراءة تاريخ أي أمة يعكس ذلك! هذا ما حدث مع الحكومة في روما والحكومة في أثينا، لماذا كان ينبغي أن يُوجَد مجلس شيوخ في روما وحاكم؟ لماذا إذن؟ لماذا هذا الحاكم؟ وبعد ذلك هناك مجالس إدارية صغيرة دونية أكثر بكثير، لكي تُنظِّم العلاقة بين مَن؟ بين الأسياد وبين الحكّام من جهة أيضاً، وبين الحاكم الأعلى – وهو قيصر – من جهة أُخرى، لماذا إذن؟ لأنها كانت تُدرِك بوعي أكبر من وعي ماركس Marx ولينين Lenin وإنجلز Engels أن هناك تناقضات حادة في الطبقة السائدة، وينبغي أن تُلجَم، إذا لم تُلحَظ وتُلجَم هذه التناقضات فسوف يكون الاحتراب والتآكل لا بين الطبقات السائدة وبين الطبقات الأُخرى وإنما داخل وفيما بين الطبقة السائدة ذاتها، بل يقول التاريخ ما هو أكثر من هذا، لو قرأنا قصة الحضارة لويل ديورانت Willi Durant – اقروا هذا، خاصة في تاريخ العصور الوسطى – سنجد أنه يقول حالات الحروب والاحتراب التي قامت بسبب النزاعات والتباينات بين المُتسيِّدين – وأدخلت الأمم في حروب أهلية – أكبر من حالات الحرب التي قامت بين السائدين وبين الطبقات الأُخرى، كأن ماركس Marx لم يقرأ التاريخ وليس له علاقة به، فالنظرية لا تحكي الكلام هذا وليس لها علاقة به، وهذا خطأ كبير ونقص كبير من الأصل في جذر النظرية.

كما قلنا في المُقدِّمة اليوم – مُقدِّمة هذا الدرس أو هذه المُحاضَرة – لم تلحظ النظرية التناقضات بين الشعوب والأمم والدول، تحدَّثت فقط عن التناقضات الطبقية، وأين بالذات؟ لدى حديث ماركس Marx ولينين Lenin عن بناء الدولة وطبيعة الدولة ونشوء الدولة بشكل أساسي من حيث أتى كما يُقال، أي من حيث الأصل! لكنه حدَّثنا عن هذا الجانب لدى تناوله مسألة السياسات الإمبريالية للدولة الرأسمالية، هذا سياق آخر، سياق آخر! وسوف تدفع النظرية ثمنه باهظاً فيما بعد، وهناك الظاهرة الستالينية – يقولون ظاهرة ستالين Stalin – للأسف، واسأل أي ماركسي عن هذا، وأنا ذكرت في أول المُحاضَرة أن الفكر الماركسي الآن بدأ ينتعش، وبدأ ماركس Marx يستعيد اعتباره، قبل أسابيع قرأت لمحمود أمين العالم كتاباً حديثاً له، أتعرفون العالم هذا؟ هذا فيلسوف ماركسي مصري كبير، نشط في السبعينيات وبعد ذلك نام، في فترة تصاعد المد الإسلامي نام، وحتى كتاباته أصبحت شحيحة، الآن – ما شاء الله – الرجل يرجع يكتب بنشاط وازدهاء، مَن الذي أعطاه طوق النجاة؟ العولمة، الوعود المُتوحِّشة للعولمة هذه أنقذته طبعاً، وبدأ يتكلَّم بنفس اللُغة التسويغية التي كان يتكلَّم بها أي شيوعي قديم في الاتحاد السوفيتي، أن الأخطاء ليست في النظرية وإنما في التطبيق، لا نُحمِّل النظرية – وسوف نرى هذا اليوم، أي في درس اليوم – الأخطاء كلها في جذر النظرية، النظرية هي السبب الأصيل لكل هذه الأخطاء وليس التطبيق، وسوف نرى هذا، هذا النقد مُهِم! فالرجل يتكلَّم ويقول لا، لماذا نُحمِّل النظرية أخطاء ستالين Stalin وجماعة ستالين Stalin؟ لا، أبداً! النظرية مُتكامِلة وجيدة ومُمتازة وأكثر إنسانيةً لكن التطبيق هو الغالط، وماذا يقول؟ كما حصل خطأ في تطبيق الإسلام نفسه – قال – بعد الفترة الراشدة، أرأيت؟ يُناظِر هذا بهذا، أي الرجل يلعب بطريقة غير نظيفة كما يُقال، وسوف نرى هذا! فظاهرة ستالين Stalin عند الشيوعيين العرب عموماً وعند الشيوعيين السوفيت قديماً قالوا هي ظاهرة تُعلَّل بعامل مشهور، هو عامل البارانويا Paranoia، جنون العظمة عند ستالين Stalin، وتأليه الشخص وعبادة الذات عنده، الرجل كان عنده هذه السُلطة، كان عنده هذه النزعة، عنده هذه النفسية المُلتاثة، فقط هذا هو، هذا كل ما حصل، لكن هذا غير صحيح أبداً، التطبيق كله غلط، لأنه جاء يعكس نظرية مغلوطة ومجزوءة، سمحت بظهور هذه الظاهرة، بالعكس! إذا أردنا أن نقول مَن الضحية؟ فستالين Stalin ضحية للنظرية، الذي أعطاه فُرصة أن يكون مُتألِّهاً إلى هذه الدرجة النظرية الخاطئة، علماً بأن ستالين Stalin هو أحد شرّاح النظرية، أليس كذلك؟ شرحها طريقة باختزالية Reductionaly، طريقة اختزالية جداً جداً، وقدَّمها على أنها متون ينبغي أن تُحفَظ، أي مثل الإنجيل، Gospel يُحفَظ كما هو، وهو شرح اللينينية أيضاً ويُقال هو كان مُساهِماً في قتل لينين Lenin، هذا غير ثابت مائة في المائة، لكن يُقال قدَّم له السُم بطريقة مُعيَّنة، غير معروف! ويُقال مات بالإجهاد، لكن بعد ذلك جاء يتعيَّش على سُمعة لينين Lenin، وشرح وقدَّم مفهوم جديدة للينينية لا يعترف به أكثر الشيوعيين الآخرين، لكي يُبرِّر ويُسوِّغ كل مُمارَساته اللاإنسانية التوتالية العجيبة والتي لم يشهدها – كما قلت على لسان فيلسوف ماركسي – التاريخ كله، لا تاريخ الدوتشة ولا الإمبراطور ولا السُلطان ولا الفرعون، أسوأ تاريخ دولة وحُكم في تاريخ  الفكر كله هذا الاتحاد السوفيتي، شيئ مُخيف! وأيام ستالين Stalin بالذات، وسوف نرى!

إذن هذه النظرية – كما قلنا – لم تلحظ لا هذا ولا هذا، لا هذا الجانب ولا هذا الجانب، إذن هي أيضاً لم تلحظ ماذا؟ ما معنى هذا؟ بعبارة ثانية أعمق لم تلحظ تناقضات الإنسان الفرد، أليس كذلك؟ لأنها تعتبر أن الطبقة السائدة طبقة مُتجانِسة ومُسالِمة مع بعضها وجيدة ومُمتازة ومُتفاهِمة، لكن هذا غير صحيح، بالعكس! من موقع السيادة بالذات لابد أن يحصل التنازع، أليس كذلك؟ توزيع المغانم، توزيع المكاسب، توزيع السُلط، والمحاور، محاور النفوذ كما يُقال! ولابد أن تنشأ عقلية المحورة، محور يلتفون حوله وما إلى ذلك، ضروري! كما يقول المثل المصري وهو مثل مُعبِّر “ما بتهونش إلا على الفقير“، الذي ليس عنده أي شيئ لا يفرق معه الأمر، عكس الذي عنده شيئ وأمامه فُرصة، هنا تبدأ التناقضات الذاتية للإنسان، التعاطي القرآني مع هذه المسألة يختلف تماماً، يقول جذر هذه المسألة في نفسية الإنسان وفي طبيعة الإنسان، الماركسية لا تعترف بالطبيعة البشرية، ماركس Marx يقول لا يُوجَد شيئ اسمه طبيعة، ما الطبيعة؟ لا تُوجَد طبيعة، إذن ماذا يُوجَد؟ يقول يُوجَد تنميط اجتماعي، المُجتمَع يُنمِّط الأشخاص ويُقولِبهم بطريقة مُعيَّنة، والفرد – كما قلت – إن هو إلا مجموع علائقه الاجتماعية، أما أن تقول لي هناك طبيعة ثابتة فهذا غير صحيح، الطبيعة مُتغيِّرة بحسب التنميط الاجتماعي، وهذا التنميط الاجتماعي الأُس فيه أو العامل العتيد فيه هو شكل وسائل الإنتاج بالذات، أي العامل الاقتصادي، ولذلك الماركسية تُعاني من نزعة اقتصادوية، ما الفرق بين اقتصادي واقتصادوي؟ شرحنا هذا مرة! وما الفرق بين علمي وعلموي؟ الاقتصادي – عادي – منحى اقتصادي في التفكير، طبيعي طبعاً! كثير من الظواهر تُفسَّر اقتصادياً، تُفسَّر اجتماعياً، تُفسَّر ثقافياً، تُفسَّر دينياً، وتُفسَّر سياسياً، مُمكِن جداً! لكن حين تقول لي التفسير الاقتصادوي يكون المعنى أنه ينحاز إلى التفسير الاقتصادي فقط، يقول لك هذا هو التفسير فقط، وأي تفسير ثانٍ مرفوض وغير صحيح وغير مُؤثِّر، الاقتصادي هو الذي سوف يقول لي كل شيئ، فهذه النزعة يُسمونها اقتصادوية، يقولون هناك نزعة اقتصادوية، رجل آخر موبوء ومُلتاث بنزعة علموية، النزعة العلمية جيدة، ونحن حتى مع العلم، أي العلم التجريبي، لكن النزعة العلموية ماذا تفعل؟ العلم وفقط، أي علم؟ بالمعنى الإمبريقي، بالمعنى التجريبي، فتُحدِّثه عن الله أو عن جبريل فيقول لك لا، غير موجود، هل العلم أثبت الشيئ هذا؟ لم يُثبِته، هذا كلام فارغ وخُرافات!

أمس بدأت وشرعت في قراءة كتاب جديد لرجل يرد على الدكتور البوطي، وهو رجل سوري أيضاً، وظل ينتقد الدكتور البوطي من البداية، كسح! وطبعاً أنا مع النقد، بالعكس! أُحِب أقرأ حتى نقد الإسلاميين، لكن ليس بالطريقة هذه، هذه غير علمية بصراحة، لماذا؟ قال لماذا البوطي يُؤمِن بوجود الجن وبوجود عذاب القبر؟ وجعل ينتقده الرجل وظل يُسخِّف أفكاره ويسخر منه، وقال إنه غير علمي ويدّعي كذا وكذا، لماذا هو غير علمي؟ ما علاقة هذا بذاك؟ ما دخل العلم بالقضية؟ هذه القضية العلم إلى الآن لا يستطيع أن يُثبِتها كما لا يملك صلاحية أن ينفيها، أرأيت؟ لكن هذه هي النزعة العلمية، ولو سألت أي عالم مُتواضِع وفاهم سيقول لك مُمكِن، بالنسبة لي أنا لا أراني كعالم أجنبي ملزوزاً أو مُضطَراً أن أُؤمِن بشيئ اسمه جن وما إلى ذلك ولكن أنا لست أزعم أن هذا الشيئ هراء أو أسطورة، لا أدري! العلم لا يدخل في هذا الشيئ، هذا ميدان مُختلِف، مُتواضِع هذا وفاهم لحدوده، هذا العالم فاهم حدوده! لكن هذا العربي – وهو غير عالم ما شاء الله، هو دارس لعلم الدلالات، أي لجانب من الدراسات اللُغوية – علمي أكثر من العلميين نفسهم، وقال لا، هذا الكلام فارغ، لأن هذا الكلام غير علمي، مَن قال لك إنه غير علمي؟ أنت لست علمياً، أنت علموي، أليس كذلك؟ أي اتخذت العلم ديناً، رباً، وإلهاً تتعبَّد في محرابه، هو يتعبَّد في محراب العلم! ولو قرأ فلسفة العلم – وهذا غير تخصصه – وقرأ حتى العلوم بنوع من التعمق – خاصة من الناحية الفلسفية – لعلم الآن أن السؤال المطروح على كبار فلسفة العلم ومن ضمنهم حتى كان برتراند راسل Bertrand Russell نفسه وهو عالم وفيلسوف: هل العلم يكفي؟ صار هناك سؤال، وصاغه أحدهم في كتاب آخر: هل سيُنقِذنا العلم؟ أي هل العلم يمتلك أن يُعيطك الحكمة Wisdom؟ هذا معناه! هل يقدر أن يُعطيك الحكمة؟ العلم يُعطيك معرفة، يُعطيك معلومات، ويُعطيك تحكماً في الكون، لكن هل يقدر أن يُعطيك تحكماً في نفسك؟ كيف تُسيِّر المُجتمَع؟ كيف تتجاوز تناقضات المُجتمَع وتناقضات الإنسان نفسه والطبيعة البشرية؟ 

وخطأ الماركسية ما دمنا نتحدَّث عن الماركسية أيضاً مرة أُخرى أنها إذ ترفض الاعتراف بطبيعة الإنسان تجعل الإنسان في النهاية أشبه – تُعامِله بما يجعله أشبه – بظاهرة طبيعية، أي إذا كان ثمة طبيعة له فهي طبيعة القانون المادي، أرأيت؟ مثلما تُعامِل جُزيء الماء أو حجم الغاز أو قطعة من حديد، إلى آخره! تُعامِله بالطريقة هذه، ولذلك لينين Lenin – قلت لك – يتبجَّح ويقول لابد أن ندرس المُجتمَع كما ندرس الظاهرة الطبيعية، واحد زائد واحداً يُساوي اثنين، قوانين تُوضَع بشكل رياضي، وهذا مُستحيل وغير صحيح، ولذلك أخفقت نظريتهم مائة مرة بل مائة ألف مرة حتى، دائماً تُخفِق، دائماً تُخفِق! لماذا؟ لأن عالم الضرورة غير عالم الحرية، وقلنا هذا في الخُطبة السابقة، أليس كذلك؟ عالم المادة محكوم فعلاً بالضرورة، حتمي! عندنا هنا حتمية Determinism، مذهب حتمي! هذا صحيح، لكن هل عالم الإنسان حتمي؟ ليس حتمياً، مُستحيل! لا تستطيع، صعب جداً، أعظم علماء الدنيا لا يستطيع إذا جلس أمامك أن يتنبأ بأفعالك من هنا إلى ساعة نحو الأمام، أليس كذلك؟ لا يستطيع هذا أعظم فيزيائيي العالم، ائت بكل عقول العالم أو كل حواسيب العالم واجلس أمامي، لن تستطيع أن تتنبأ بما سأفعله بعد ساعة، في ستين دقيقة! لن تستطيع، لماذا إذن؟ الحرية، يُوجَد قدر هائل من الحرية داخل الإنسان، لا يُضبَط رياضياً ولا يُضبَط بقانون طبيعي أو غير طبيعي، صعب جداً! ومن هنا التناقضات التي دائماً تبرز في عالم المُجتمَع والإنسان تحتاج إلى نظرية أكثر تركيبيةً من تبسيط نظرية طبيعية، أليس كذلك؟ ومن هنا التبسيط في النظرية الماركسية مُنذ الأصل كان هو سر فشل هذه النظرية، فيها تبسيط بشكل غير طبيعي، للأسف كان لابد أن تكون أكثر تعقيداً من التعقيد لكي تقدر أن تنجح.

القرآن الكريم يقول العكس، كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۩ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ۩، ما الذي يُعطيك الاستغناء؟ الهيمنة Dominance، حين تبدأ تُهيمن – تُهيمن على أي شيئ في المُجتمَع – تستغنى عن كل مَن هم دونك، لأنك هيمنت عليهم، أليس كذلك؟ يبدأ الطُغيان! حتى لو كان عمر؟ حتى لو كان عمر بن الخطاب، يُمكِن أن يطغى، ولذلك عمر كان شديد الهيبة – رضوان الله تعالى عليه – والمُحاذَرة من طُغيان نفسه، ودائماً كان يستوصي الناس ويقول لهم لو رأيتم أي شيئ قولوا لي، انتبهوا! كان يخاف على نفسه، كان الرجل في حالة خوف مُستمِرة، لأنه يعرف أن السُلطة تُطغي وتُعمي وتجعل الإنسان يتجاوز، مثلما قال لورد أكتون Lord Acton في عبارته الشهيرة قليل من السُلطة قليل من المفسدة، والسُلطة المُطلَقة مفسدة مُطلَقة، معروف! ويقول أحدهم – وهذه خُلاصة الفكر الإنجليزي في هذه المسألة – السُلطة تفعل شيئين: تُفسِد الصالحين وتُعطي الفُرصة للمُفسِدين، هذه هي السُلطة طبعا! والقرآن قال لك كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ۩ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ۩، الفكر الإسلامي من قديم – أبو حامد الغزّالي في الإحياء وغيره – قال في كل إنسان نزوع إلى التأله والربوبية، خلق الله آدم على صورة الرحمن، أليس كذلك؟ هو عليم وأعطاك شيئاً من العلم، هو حكيم وأعطاك شيئاً من الحكمة، حتى هو جبّار وأعطاك شيئاً من الجبروت، هو قدير وأعطاك القدرة، هو مُريد وأعطاك الإرادة، وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ ۩، صورة! سُبحان الله، أي الصفات، أعطاك أقباساً من صفات لكن بحسب قدرك طبعاً كإنسان مخلوق، وأين التراب من رب الإرباب؟ فهذا يجعل عند الإنسان دائماً نزوع إلى التأله، أليس كذلك؟ وحين يبدأ الإنسان يقول لا قول إلا قولي ولا أمر إلا أمري سيعني هذا أن الرجل تأله، أياً كان! حتى لو كان شيخاً، حتى لو كان شيخ المشايخ، ولا يقبل أن يُناقَش ويقول لا، انتهى الأمر، ثم يغضب، سنقول له أنت تألَّهت، أين أنت يا رجل؟ أنت تكفر، ما هذا؟ أنت نسبي محدود، هل أنت أحطت بكل شيئ؟ اسكت، اقبل النقد واسمع، لكن إذا بدأ يغضب فهذا يعني أن هذا الرجل بدأ يتألَّه، فرعون قال مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي ۩، هو في النهاية بشر ويذهب إلى الحمام كل يوم، مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى ۩ قال لهم، وقد أخذ أرض مصر كلها، لم يُوجَد في مصر أيام فرعون رجل واحد يمتلك شبراً من الأرض، كلها له – تخيَّل – والكل أجراء عنده، كانت هناك عبودية حقيقية، كل الناس أُجراء في أرض فرعون، قال لهم أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ۩، كلها لي هذه، وفعلاً هذه كانت حالة نادرة، شيئ عجيب!

على كل حال التبسيطية لا تنفع في دراسة الحياة الإنسانية والاجتماعية أبداً، فلم تلحظ هذه النظرية مُنذ البداية التناقض الذاتي للإنسان، التناقض الحقيقي! التناقض للإنسان الفردي والتناقض للإنسان المجموعي، في المُجتمَع! شعب بإزاء شعب، أمة بإزاء أمة، هذا الذي يجعل أمة تُحاوِل أن تُهيمن على أمة أو أن تستعبد أمة، وبالمُناسَبة حديث إنجلز Engels في أصل العائلة ومن بعده ماركس Marx ولينين Lenin عن نشوء الطبقات – أي Classes – وكيف نشأت الطبقات غير صحيح أيضاً، أي حديثهم، لماذا؟ لأن السبب الرئيس في نشوء الطبقات لم يكن التناقضات البينية في المُجتمَع الواحد، بالعكس! واقرأ الآن لأي مُؤرِّخ، السبب الرئيس في نشوء الطبقات كان استعباد طائفة من الناس، الاستعباد الذي كان النتيجة الأولى للحروب، أمة تُحارِب أمة فتستعبد أفرادها ثم تأتي بهم وتضعهم في طبقات عندها، أليس كذلك؟ مفهوم البرابرة عند اليونان نفس الشيئ، الجنتايلز عند الرومان نفس الشيئ، والجوييم عند اليهود نفس الشيئ، إذن نشأة الطبقات لم تكن بسبب التناقضات الداخلية بين طبقات مُجتمَع واحد، وهذه طبعاً تجلت بعد ذلك في التاريخ، موجودة ولا نُنكِرها، لكن النشأة والأصل والسبب الرئيس – أي البوابة والمنبع Source – الحقيقي ما هو؟ الحروب بين الشعوب وبين الأمم، هذا هو! أيضاً هذا لم يُلحَظ، ولم يُول أهميةً، وكما قلت لكم موقف ماركس Marx من استعمار الشعوب لم يكن بالموقف العنيد القوي كما يُقال، من أحسن ما كتب لينين Lenin – صحيح – كتابه الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية، وهو من أجود كُتبه وفيه أنظار جيدة وذكية نُوافِق عليها، مُمتاز! لكن هذا كتبه لينين Lenin، أما ماركس Marx فلم يكن كذلك أبداً، رؤوساء الأحزاب الشيوعية عموماً – أتحدَّث طبعاً عن الغربيين – لم يكونوا مُتحسِّسين كثيراً لمسألة استعمار الشعوب الأُخرى، لا تعنيهم! لأن النظرية لا تُعطيهم الاستعداد لهذه الحساسية الزائدة أبداً.

موريس توريز Maurice Thorez كان رئيس الحزب الشيوعي الفرنسي الذي كان من أنشط الأحزاب في أوروبا الغربية، كان يُؤيِّد – لم يغض الطرف وإنما كان يُؤيِّد – استعمار فرنسا للجزائر، أليس كذلك؟ الاشتراكيون الديمقراطيون الكاوتسكيون الذين يُسميهم لينين Lenin الانتهازيين الأنذال السُخفاء – دائماً يُسميهم هكذا! يُسميهم الانتهازيين الأنذال السُخفاء، أتباع كارل كاوتسكي Karl Kautsky الألماني – حين قامت الحرب العالمية الأولى – نعم – صوتوا لصالح الحرب، فانزعج! قال هذه نزعة شوفينية، هذه ماركسية شوفينية، أي تُعلي المسألة القومية الوطنية على أي اعتبار آخر، والمفروض أن تكون الشيوعية في النهاية نزعة أُممية، أليس كذلك؟ عالمية! ليس لها علاقة بالخلافات الوطنية الضيقة، هذه هي الشيوعية، فهذه برزت حتى في الأحزاب الشيوعي نفسها، وصحيح هي خارجة على النص الماركسي اللينيني، على كل حال هذه أول نُقطة، ويُمكِن أن نتحدَّث فيها كثيراً، لكننا نختصر كما قلنا، نأتي إلى الشيئ الثاني.

إذن ما دامت التناقضات بين الطبقات موجودة فالدولة موجودة، متى ستزول الدولة؟ إذا زالت التناقضات بين الطبقات، كيف يُمكِن أن تزول التناقضات بين الطبقات؟ كيف يُمكِن؟ باستيلاء الطبقة التي تُشكِّل الأغلبية – الجُزء الأعظم من الطيف المُجتمَعي – وهي الطبقة الكادحة، أي البروليتاريا، طبقة العمّال، طبقة الكادحين المسحوقين المساكين والمُغترِبين عن عملهم وعن عرق جبينهم، إذا هذه الطبقة – البروليتاريا – على جميع الطبقات وأخذت بالسُلطة في الدولة في المرحلة الأولى – لأن في النهاية لن تكون هناك دولة – فستبدأ هذه التناقضات تخف تدريجياً، حتى تضمحل بالكامل، وبالتالي نصل إلى مرحلة اللادولة، هذا حلم الشيوعيين، ألا يكون هناك حتى دولة، ممنوع! لأنهم ضد ظاهرة الدولة، كيف يُمكِن أن يتم ذلك؟ بالعنف، ولينين Lenin وماركس Marx أيضاً كان مُتشدِّدين جداً في هذه المقولة أو في هذه الموضوعة، أن لابد من العنف، في مرحلة مُعيَّنة لابد من استخدام العنف! وفي قول لينين Lenin المشهور على كارل كاوتسكي Karl Kautsky أكثر ما عنفه بسببه مسألة أن كارل كاوتسكي Karl Kautsky هذا وأتباعه لا يُؤمِنون بالعنف، وهم من الأُممية الثانية طبعاً التي أسسها إنجلز Engels، وطبعاً بسبب الخلاف وحالة الاستقطاب الحادة بين الكاوتسكيين وبين اللينينيين اضطر لينين Lenin أيضاً أن يُؤسِّس ما يُعرَف بالأُممية الثالثة، الأُممية الأولى أسَّسها ماركس Marx مع جماعة آخرين، الثانية أسَّسها إنجلز Engels، الثالثة أسَّسها لينين Lenin، الرابعة أسَّسها تروتسكي Trotsky، أي ليون تروتسكي Leon Trotsky، فأكثر شيئ أخذه عليه أن كارل كاوتسكي Karl Kautsky الألماني لا يُؤمِن بالعنف، قال لا، لماذا العنف؟ يُمكِن هذا بالطريقة السلمية، وحتى يُمكِن بالطريقة البرلمانية، الأحزاب والبرلمانات! فقال له أنت خائن لفكر ماركس Marx، هذه خيانة لفكر ماركس Marx! في مرحلة مُعيَّنة لابد من العنف ولابد من تحطيم كل شيئ، العنف! أي عنف البروليتاريا، الطبقة الكادحة، وهذه ديكتاتورية البروليتاريا، تسمعون بهذه الكلمة كثيراً! تبدأ بالعنف ثم تُمارِس بعد ذلك ديكتاتورية حقيقية، لصالح نفسها ولصالح الأكثرية، كفى هذه الأكثرية سُحقاً ومهانةً وذُلاً واستنزافاً، انتهى! هي الآن ستُمارِس ديكتاتورية لصالحها، ومَن الذي سيُقمَع؟ الأقلية الظالمة المُضطهِدة، أقلية المُستكبِرين ستُقمَع من هذه الأكثرية بالعنف، إذن بالعنف سيحصل هذا الشيئ!

بعد أن تُحطِّم هذه الطبقة الكادحة هؤلاء المُتسيِّدين وكثير من مرافق الدولة وأجهزتها ما الذي سيحصل؟ قالوا – كما قلت – سوف تبدأ تخف حدة التناقضات الطبقية شيئاً فشيئاً، لماذا؟ لأن هذه الطبقة الكادحة حين تستلم السُلطة أو السُلط سوف تُشكِّل هيئة تشريعية تنفيذية، سوف يُبدأ ويُصار إلى حل الجيش، لأن أيضاً الشيوعية لا تُؤمِن بالجيش، لا يُوجَد جيش مُنظَّم! سوف تقول لي كيف والجيش الأحمر أكبر جيش في العالم؟ عكس النظرية، عكسها تماماً! وهذه المُشكِلة، إخفاق! إخفاق مُخجِل، لم يحدث إخفاق لنظرية في العالم مثل هذه النظرية، قالوا أسَّست كذا وكذا، هناك عالم يقول ماذا تُريدون من الشيوعية؟ شيَّدت دولة وأسَّست إمبراطورية، إمبراطورية ماذا يا أخي؟ عكس نظريتك بالكامل، أنت أم ماركس Marx يا عالم؟ هل أنت ولينين Lenin وماركس Marx في جهة ثانية؟ مُستحيل! لم تفعل شيئاً، فعلت العكس تماماً وسحقت الإنسان، فهم لا يُؤمِنون بالجيش المُنظَّم ولا يُؤمِنون أيضاً بالدواوينية، وهي البيروقراطية، من Bureau، البيروقراطية هي الدواوينية، أي لا يُؤمِنون بمُوظّفي الدولة، كل الوظائف في كل أجهزة الدولة تُسمى بيروقراطية أو دواوينية، ماركس Marx ولينين Lenin وإنجلز Engels أيضاً يُسمون البيروقراطيين والجيش المُنظَّم المُحترِف – الجيش المُحترِف وليس الشعب المُسلَّح – طُفيليي المُجتمَع البرجوازي الطُفيلي، أي أنهم Parasiten بالألمانية أو Parasites بالإنجليزية، طُفيلي Parasitic، مُتطفِّل بالفعل والوصف، لأنه يعيش على غيره، تعرفون كيف حال الطُفيل، وحتى عندنا في اللُغة العربية التطفيل وحكايات الطُفيليين، كتاب للخطيب البغدادي، عن الإنسان الذي يُريد أن يأتي إلى موائد الأثرياء والأغنياء دون أن يُدعى، يأكل من غير أن يُدعى، لكن هنا بمعنى أنه حيوان أو نبات مُتطفِّل، يعيش على غيره دون أن يُنتِج هو شيئاً، فقالوا الجيش طُفيلي، لماذا إذن؟ لأن الجيش والبيروقراطيين أو الدواوينيين لا يُساهِمون في عملية الإنتاج، صحيح! هل الجيش يُنتِج؟ لا يُنتِج، الجيش يجلس على أساس أنه يحمي الأمن وما إلى ذلك، لكن لا يُوجَد إنتاج، هل الدواوينيون يُنتِجون؟ قالوا لا يُنتِجون، هذا كلام مَن؟ ماركس Marx وإنجلز Engels ولينين Lenin، طُفيلو المُجتمَع البرجوازي الطُفيلي، لأن حتى المُجتمَع البرجوازي نفسه طُفيلي، لماذا المُجتمَع البرجوازي الطُفيلي؟ لأنه يعيش على عرق وعلى فائض أعمال الطبقة الكادحة المسكينة، تعمل له عشرة أشياء فيُعطيها واحداً ويأخذ تسعة، طُفيلي! هو جالس ينظر ويُعطي الأوامر، فهكذا لقَّبوهم! ولذلك قالوا نحن في مُجتمَعنا الجديد لن يكون عندنا بيروقراطية ولن يكون عندنا جيش، لكن كيف هذا يا لينين Lenin؟ هل هذا يعني أنك طوباوي – Utopian – وخيالي؟ لكن هو كان أذكى من هذا، قال لن أكون طوبوياً وأقول سنُحطِّم هذه الدولة مُباشَرةً وما إلى ذلك، لا! قال، خُطوة وخُطوة، ليس من مرة واحدة، ليس من أول يوم سيُقال لا جيش ولا دواوينية، وإلا طبعاً سوف تقعون في فوضى مُطلَقة، وسوف تُصبِحون مع جماعة الفوضويين، يُوجَد مذهب اسمه الفوضوية، كان ضد حتى الاشتراكية هذه، هو اشتراكي – مذهب اشتراكي – ويُؤمِن بقضية المسحوقين العادلة – إلى آخره – وهو ضد الدولة المُتغوِّلة – إلى آخره – لكنه لا يُؤمِن بالدولة مُطلَقاً، من البداية حتى النهاية لا تُوجَد دولة، المُجتمَع يقود فقط وينتهي الأمر، لكن كيف هذا؟ لأنه يُقدِّم نظرية في ذلك، فسموا بالفوضويين، ولينين Lenin أيضاً كتب عنهم كراسة مرة.

على كل حال سوف تقعون في الفوضوية، قال لا، سوف نتدرَّج في ذلك حتى لا نكون طوباويين، سوف نتدرَّج! لكن كيف ستتدرَّج؟ أنت عند دولة الآن، أليس كذلك؟ وعندها أجهزة كثيرة جداً وهي مُعقَّدة بشكل غير طبيعي، أي أجهزة الدولة، فهل تُريد أن يأتي عامل من كذا وكذا أو فلاح مسكين أو برجوازي صغير يأتي فجأة ويقود الأجهزة؟ لا يستطيع، مثلما فعل محمد عليّ في مصر، وهذا أحد أسباب فشل خُطوات محمد عليّ الإصلاحية في بناء الدولة المصرية الحديثة، أتى بفلّاحين وبأُناس من الصعيد ذات مرة، وعلَّمهم سريعاً كيف يقرأون ويكتبون، ثم أدخلهم في المصالح، فلم يعرفوا شيئاً، صعب يا أخي! هذه عملية فنية وتقنية تحتاج إلى تدريب وتحتاج إلى مهارات، ليست مسألة قراءة وكتابة! أليس كذلك؟ نفس الخطأ، فلينين Lenin قال جيد، نحن نفهم النُقطة هذه، ماذا سنفعل؟ سنستأجر، هذا جوابه! قال سنستأجر، من أين سنستأجر؟ قال سنستأجر من الطبقات الماضية، الآن هم أصبحوا مسحوقين وساكتين، سنأتي بهم! سنأتي بهم – مثلاً – في وزارة الصحة، في وزارة المالية، في وازرة المُواصَلات، في وزارة الإعلام، وفي كل الوزارات! وكذلك في كل الدواوين الخاصة بهذه الوزارات، وفي كل الغُرف التابعة لها، سنأتي بآلاف من هؤلاء ونستأجرهم، وسنُعطيهم أجوراً مدفوعة، أي سيُرجِّعونهم إلى عهد عبودية العمل، يُرجِّعونهم إلى هذه الطبقة ويقولون هم يستأهلون، طبقة كادحة! لكن هذا الكلام أيضاً هوائي أو غير هوائي؟ ما هذه الدولة – ما شاء الله – التي يحكمها قلة من الكادحية أو كثرة من الكادحين – الأغلبية من الكادحين – وأكثرهم جهلة وأحسنهم حظاً ربما الذي يكتب ويقرأ، أي يفك الخط؟ يُريدون أن يأتوا بأُناس مُؤهَّلين – وربما يكونون Over حتى، أي بشكل زائد عن اللزوم، عندهم خبرة – ويستأجروهم بالآجار، طبعاً أي آجار؟ قالوا سنفعل هذا، لكن كيف سنُعطيهم أجوراً؟ ما المعيار؟ قال هنا تُعطينا كومونة باريس – Paris Commune – المعيار، كومونة باريس!

باختصار – تسمعون عن هذا – ما كومونة باريس؟ كومونة باريس كالآتي، بعد الثورة الفرنسية لكي لا تُغتال الثورة ولكي لا تُعطى فُرصة للثورة المُضادة في باريس بالذات ماذا عملوا؟ عملت جماعة الثوّار انتخابات شارك فيها الشعب تقريباً كله، هكذا! اشتراك مُباشِر، انتخب مَن؟ انتخب مَن يُمثِّله ومَن يقوده، أي كأنها بلدية، وهذه البلدية أو الكومونة مشاعة أو مشاعية، هي في الأصل معناها المشاع، وطبعاً هذه كلمة قديمة قبل الثورة الفرنسية، في العصور الإقطاعية كانت تُستخدَم كلمة الكميون Commune، بمعنى القرية المشاعية، إلى آخره! فهذه موجودة، واستُخدِمت في الدولة السوفيتية أيضاً، استُخدِمت الكوميونات هذه، إلى آخره! إذن كومونة باريس Paris Commune، فهناك شبه بلدية عملها الثوّار، بانتخاب الناس، كل المُوظَّفين فيها أو كل المُتنفِّذين كانوا في انتخاب مُباشِر، ويُمكِن تغيير أي واحد فيهم في أي لحظة، إذا بدر منه أي شيئ غير طبيعي فإنه يُغيَّر مُباشَرةً، هذا أولاً، ثانياً لا تُوجَد علاوات بالمرة، لا تُوجَد امتيازات، أي نوع من الامتيازات للجميع انتهى، والأجور من أعلى واحد إلى أدنى واحد مُتساوية وهي أجور عامل، فحتى الرئيس وحتى العامل – كالكنّاس في الشارع – يأخذان نفس الأجرة، هذه كومونة باريس، ثالثاً الشعب مُسلَّح، لا يُوجَد جيش نظامي، هذه التي استلهم منها ماركس Marx وإنجلز Engels كل قصة الدولة الخاصة بهم، كومونة باريس Paris Commune! لا يُوجَد جيش نظامي بالمرة، إذا ماذا ستفعلون ولا يُوجَد جيش مُسلَّح؟ قالوا الشعب مُسلَّح، الشعب كله مُسلَّح، غير مُحترِف – صحيحح – لكنه يُدافِع عن نفسه، وهذا الشعب يملك السُلطتين التشريعية والتنفيذية، ومن هنا أيضاً مُناكَدة ومُناقَضة التفكير الماركسي أو النظرية الماركسية اللينينية للبرلمانية، هم ضد البرلمانيين، ضد شيئ اسمه برلمان وما إلى ذلك، قالوا هذا كله كلام فارغ، لأن الدولة تُدار، الرأسمالية دائماً خلف الكواليس، وما يتم في البرلمانات مُجرَّد لعبة، ضحك على الذقون وذر للرماد في العيون قالوا، هذا الآن غير موجود فيها، لا نُريد أي مسعى برلماني، الكومونة نفسها تحتكر السُلطتين التشريعية والتنفيذية معاً، جهاز القمع ليس جهازاً مُنفصِلاً، الشعب نفسه أيضاً وأبناء الكومونة هم الذين يقمعون كل مَن يستحق القمع.

هذه هي أبرز مُميِّزات كومونة باريس التي ألهمت ماركس Marx وإنجلز Engels مع أنها لم تعش إلا بضع سنوات وانتهت إلى الإخفاق الذريع، كيف يُمكِن أن تستنبط نظرية وأن تُنظِّر – وتُريد أن تُنظِّر على مُستوى عالمي – من تجربة بهذا العمر الضئيل جداً والتي لم تصمد أمام اختبار الحياة؟ كيف يا أخي؟ أين العلمية في الكلام هذا؟ لا يُوجَد علم، فقط التعجل، أفكار هكذا قيلت، وهذا الذي حصل! فهم قالوا نحن نُريد أن نستلهم كومونة باريس، لماذا؟ لأن هذه المسألة خطيرة جداً في الفكر الماركسي، ماركس Marx في المانيفستو Manifesto – المانيفستو Manifesto طبعاً هو البيان الشيوعي، في ألف وثمانمائة وثماني وأربعين نشره إنجلز Engels – لم يتحدَّث عن هذه المسألة، ولذلك الآن حتى في مُقدَّمة الطبعة الألمانية – وهي آخر طبعة طبعها ماركس Marx – قال مُهِم جداً لدي أن تُضاف هذه الفقرة – أي هذا الــ Paragraph – إلى المانيفستو Manifesto الخاص بنا، ما هذه الفقرة؟ ما هي؟ لابد من استخدام العنف ولابد – هذه النُقطة مُهِمة جداً جداً – من تحطيم آلة الدولة، ماركس Marx يقول بالنص والفص في الماضي قبل الثورة الفرنسية كان دائماً الحال يجري على هذا الشكل أو على هذه الصورة، يُزاد إحسان وإتقان – هو يقول يُحسِّنون ويُتقِّنون – آلة الدولة، وهذا بالضبط ما لا ينبغي أن يكون الآن، والذي ينبغي أن يكون هو تحطيم الدولة بالكُلية، لا نُريد دولة! وهذا الذي حصل أين؟ في كومونة باريس، لم تكن هناك دولة، لم يُوجَد جيش مُنظَّم ولم تُوجَد بيروقراطية، أليس كذلك؟ فضلاً عن كل الصفات التي ذكرتها، قال نُريد أن يحدث هذا، حتى على مُستوى أوسع وحتى على مُستوى العالم كله بعد ذلك حين يمتد هذا الأثر والنفوذ والتجربة الشيوعية أو الاشتراكية، فقال هذه نُريد أن نُضيفها إلى المانيفستو Manifesto، مُهِمة جداً عندي! ما هي؟ تحطيم دولة، علماً بأن الأُممية الثانية كانت مُتنصِّلة من هذه الفكرة، كانت تتغاضى عنها بالكامل، والكاوتسكيون الشوفينيون الانتهازيون الأنذال – بوصف لينين Lenin – لم يُؤمِنوا بالفكرة هذه، ولا كأنها كانت موجودة عند ماركس Marx، علماً بأن التناقض في الفكر الماركسي بشكل عام – ليس في فكر ماركس Marx وإنما في الفكر الماركسي – يعكس التناقض في أفكار ماركس Marx نفسه كشخص.

روجيه جارودي Roger Garaudy في كتابه الرائع جداً – وهو تجربة نقدية مُمتازة وجريئة، كلَّفته ثمناً كبيراً طبعاً – ماركسية القرن العشرين يقول كل شيئ تُريد أن تنسبه إلى ماركس Marx تستطيع أن تجد عنده ما يسند هذه النسبة، مُتناقِض! لكن هناك مَن يقول إنه ليس مُتناقِضاً، فالرجل مُتطوِّر فكرياً، أليس كذلك؟ ويُقال هذا خطأ، لكن – بالعكس – هذا يُحترَم في الرجل، لأنه كان يُطوِّر نفسه باستمرار، أهلاً وسهلاً بهذا، فهذا من حقه كمُفكِّر، لكن الخطأ أين؟ حين تجعله نبياً فتأخذ كل شيئ قاله، وبالمُناسَبة هو يُعامَل كنبي، من خلال قرائتي في الفكر الماركسي وجدت أنه يُعامَل كنبي حقيقي، كنبي! كيف نحن كمُسلِمين نُعامِل القرآن الكريم؟ حين نجد – مثلاً – إشارة مُعيَّنة في آية نقول هذه الإشارة يُمكِن أن نبني عليها نظرية اجتماعية، أليس كذلك؟ هم يفعلون نفس الشيئ، حين يجدون كلمة تائهة وساقطة – من سقط الكلام – في طرف هامش لماركس Marx يقولون ماركس Marx قال هذا وهذا يعني أنه يُمكِن كذا وكذا، ما يا أخي الكلام هذا؟ لكن هو ألَّف كتاباً كاملاً ضد كلامك هذا، لكن لأن قال في يوم من الأيام هذه الكلمة يُمكِن أن نعمل عليها جنين نظرية كامل، كأن كلامه إلهام، كأنه – أستغفر الله العظيم – رب فكر، وحي! وحي كل كلامه، بالعكس! المفروض أن يُقال يُوجَد تناقض، أليس كذلك؟ أو تُوجَد مُفارَقة ويُوجَد تباين، ثم ندرس هل الذي قال الكلام هذا ماركس Marx الشاب أو ماركس Marx الكهل أو ماركس Marx الشيخ؟ أليس كذلك؟ ونأخذ بآخر ما قيل، لا تجعله نبياً، حتى النبي عندنا يا أخي – سُبحان الله – قد يُوجَد عنده موقفان، وهذا ما حدث مع رسول الله وهو نبي، عندنا قاعدة في أصول الفقه تُفيد بأنه دائماً يُصار إلى آخر الأمرين، أليس كذلك؟ في حديث جابر بن عبد الله – وهو حديث صحيح – قال كان آخر الأمرين من رسول الله – ما هو؟ – ترك الوضوء مما مست النار، في الأول كان يتوضأ وبعد ذلك توقَّف، ومن ثم سنأخذ بأنه توقَّف، أرأيت؟ وهو رسول! لكن هم ليسوا كذلك، لا يُترَك أي شيئ من كلام ماركس Marx، ما شاء الله! أي شيئ كتبه – خطه قلمه المُقدَّس في أي يوم من الأيام – يُمكِن أن نأخذ منه جنين نظرية ثم نتكلَّم فيه ونُسوِّغ به الأوضاع، لا يُمكِن بالطريقة هذه! ثم يقولون اشتراكية علمية، هذا ليس فكراً علمياً، بالعكس! هذا فكر تهويمي وفكر هوائي، فكر هوائي كامل!

فكومونة باريس هي التي ألهمتهم، فجاء السؤال الآن: بعد أن نُحطِّم الدولة – هذا السؤال، هنا التحدي الكبير، هنا مأزق النظرية الماركسية – ماذا سنفعل؟ بماذا سنستعيض عن هذه الدولة أو من هذه الدولة؟ هنا السؤال الخطير، طبعاً بعض الماركسيين المُتعصِّبين يقولون لا، لينين Lenin أجاب عنها في الدولة والثورة، وماركس Marx أجاب، حين قال تُقدِّم كومونة باريس لنا نموذجاً مُلهِماً بميزاتها الأربعة، وعدد لها ماركس Marx أربع ميزات مما عددت، ذكرت هذا! فهم قالوا ماركس Marx قال الكلام هذا، لكن هذا لا يكفي، ولذلك العالم والمُفكِّر الماركسي أيضاً الكبير ريمون آرون Raymond Aron كان مُحِقاً حين قال لا تتجاوز النظرية الماركسية أكثر من كونها نقداً قوياً للمشروع الرأسمالي وعبثاً تُحاوِل إذا أردت أن تبحث في تضاعيفها أو في مطاويها عن شكل دولة، لن تجد! كلام فارغ هذا، لن تجد! الدولة ليست لعباً، والآن هذه مأساة الإسلاميين الأيضاً، المشايخ أمثالنا يظنون أن الدولة لعب، يظنون أن الدولة مسجد سيُديرونه، كأن يُقال هيا يُمكِن أن نفعل كذا وكذا بأي طريقة – أعني بعضهم – وبعد ذلك سوف نصل ونحكم، مساكين أنتم! أكبر ورطة الدولة هذه، أكبر ورطة، هذا شيئ آخر وأتتم لم تُجرِّبوه، ليس من السهل أن تقود دولة، ولذلك ما لم يكن عندك – كما قلت – تصور نظري واسع مُحيط مُعمَّق بشكل غير طبيعي سوف تدفع ثمن كل ثُغرة في النظرية، أليس كذلك؟ وبعد ذلك سوف تُحسَب على الإسلام، خطأ هذا، خطأ كبير! والآن هذا يُمارَس طبعاً، عندنا أخطاء في التجربة السودانية، في التجربة الجزائرية، وفي التجربة الأفغانية، دعنا نقول في التجرية السودانية والأفغانية بالذات، أليس كذلك؟ وحتى في الإيرانية، وكل هذا لأن الوعي النظري لم يكن مُكتمِلاً في البداية، ومن خلال التجريب الخاطئ والتخبط تحدث مشاكل كُبرى جداً جداً، الآن في التجربة السودانية – لن أدخل فيها – يُعلَّل ما حصل فيها من أخطاء ومن تجاوزات بنفس التعليل الذي سمعناه قبل قليل، التعليل الشخصي! أن الشخص الفلاني – لن نقول مَن هو – للأسف عنده نزوع إلى المركزية، غير صحيح، مُستحيل! لو كان البناء النظري صحيحاً والتطبيق وفق البناء النظري كان صحيحاً ومُستوعِباً لن تُترَك فُرصة لا لهذا ولا لهذا لكي تقتات أو تنتعش غرائز التسلط وغرائز المركزية وغرائز كذا وكذا عنده، لن تكون هناك فُرصة أصلاً! ومن هنا حرص سيدنا عمر – رضوان الله تعالى عليه إلى يوم الدين – على ماذا؟ على مأسسة الأفكار، لكن طبعاً لم يُسعِفه العمر – سُبحان الله – ووافته المنية، أنا مُتأكِّد من أن عمر سر عبقريته في الحُكم كما قال الشيخ رشيد رضا رحمة الله عليه، عمر عبقري! والنبي قال لم أر عبقرياً يفري فَرْيَهُ أو فَرِيَّهُ، فعلاً عبقري! في ماذا كان عبقرياً؟ هل كان عبقرياً في الفقه؟ كان يُوجَد مَن هو أفقه منه وهو كان يعرف هذا، في القضاء عليّ كان أقضى منه، في أشياء كثيرة فاقه الكثير من الناس، لكنك لا تجد في التاريخ الإسلامي كله – ويُمكِن حتى في الإنساني حقيقةً من غير مُبالَغة – رجل دولة مثل عمر بن الخطاب، مُستحيل! لا تجد رجل دولة مثل عمر، صعب جداً جداً أن تجد، ربما هذا في التاريخ كله حقيقةً من غير مُبالَغة! رجل عجيب في هذا الجانب، لذا قال رشيد رضا عبقرية عمر كانت فعلاً في إدراكه إدارة الحُكم ومعرفة السُنن، سُنن الله في الخلق وفي المُجتمَع! عمر كان رجلاً عجيباً في هذا الشيئ، سُبحان الله، لذا عمر كان يُحاوِل أن يُمأسس الأفكار، وهذا اليوم أُريد أن أخلص إليه، هذا أهم شيئ أُريد أن أخلص إليه اليوم! حتى لا نقع كإسلاميين في نفس المطب وندفع نفس الثمن الباهظ الذي دفعه غيرنا لابد أن نُمأسس بعض الأفكار التي عندنا، فلا نكتفي بها كأفكار وتنظيرات، بالنسبة للشورى ألم يُحاوِل سيدنا عمر أن يُمأسسها؟ حاول، وعمل شيئاً نُقدِر أن نُسميه الآن مجلس شورى، أليس كذلك؟ كان مجلساً حقيقياً من الأنصار والمُهاجِرين ويرجع إليهم، لم يكتف بشورى هكذا تهويمية كأن يقول هيا سنستشير  فلاناً أو علاناً أبداً، مجلس! أعضاء كانوا موجودين وهم من علية الناس، وكان هذا بحسب والاقتدار، حتى ابن عباس – ولد عمره عشرون سنة – كان أحياناً يُدخِله في مجلس شوراه، لأن عنده عقل وعنده علم وعنده حكمة، يقول له تعال ويأخذ برأيه، لماذا لا؟

الجهاز الثاني الذي لم يُسعِفه العمر للأسف ولم يُمهِله ليُمأسسه ما هو؟ الرقابة، (ملحوظة) قال أحد الحضور الجهاز المالي، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لا،بالعكس! كان عنده بيت المال والدواوين وما إلى ذلك، المقصود هو جهاز الرقابة، للرقابة على الحكومة وعلى السُلطة، مُهِم جداً! ممنوع أن نكتفي بترك الرقابة هكذا للأمة تهويماً، الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر ومَن رأى في إعوجاجاً! هذا جيد لكنه غير كافٍ، لابد أن يتمأسس هذا في شكل جهاز، وجهاز مُستقِل عن السُلطة، انتبهوا! أي ينتمي إلى الأمة أكثر ما ينتمي إلى الدولة، هل فهمتم كيف؟ وهذا يُعطي الأمة قوة بإزاء الدولة، قوة زائدة على ما أعطتها التجربة الإسلامية الحقيقية، سوف ترون هذا، التجربة الإسلامية بالمُناسَبة عبر التاريخ كانت فيها الأمة بشكل عام – إذا أردنا أن نزنها – أقوى من الدولة، وهذا سر أن الإسلام لم يمت بحمد الله تبارك وتعالى، تعرفون هذا! بالاستبداد الذي حصل في تاريخنا والقمعية التي حصلت – يُوجَد استبداد حقيقي في تاريخنا وكان مُخيفاً، قتل العلماء، قتل الناس، وقتل الثوّار – كان يُمكِن أن ينتهي وينفق هذا الإسلام، لكن لماذا لم ينته؟ عوامل القوة أكثرها ظلت بيد الأمة، حتى الجانب المالي! قد تقول لي لا، فهم أخذوا كذا وكذا، لكن لا تتحدَّث عن مال الفيء والغنائم، نعم كان يأخذها السُلطان أو الخليفة لكي يلعب بها ويُبعثِر دون أن تكون عنده مُشكِلة، لكن ليس هذا مال الأمة، عندك وسائل إنتاج، وهذه كانت في يد مَن؟ في يد الأمة، أليس كذلك؟ عندك جسم – رأس المال الخاص بالأمة – أيضاً كان في يد مَن؟ في يد الأمة، وكيف كان يُفتَت؟ هذا غير الميراث وغير الصدقات وما إلى ذلك، الأوقاف والأحباس والمشاريع الخيرية، أمة كانت غنية بحمد الله تبارك وتعالى، والضربة التي فعلاً ضُرِبت بها هذه الأمة بدأت مع محمد عليّ للأسف الشديد حين ألغى نظام الأحباس والأوقاف، أليس كذلك؟ أمَّم الأراضي وأخذها له وللدولة، فبدأت الأمة تضعف، الآن في الدولة العربية الحديثة – وهي دولة مركزية مُتغوِّلة – فعلاً الأمة أصبحت ضعيفة، ومن هنا نستغرب ونقول لماذا هذا الخنوع عند العلماء؟ لماذا هذا الخنوع عند المُفكِّرين؟ الدولة مُتغوِّلة، العالم يأكل من كيس الدولة، أليس كذلك؟ المُثقَّف يأكل من كيس الدولة، الشيخ يأكل من كيس الدولة، والمنبر يُبنى من كيس الدولة، الكل يأخذ من الدولة! فالدولة إذا مسكت السُلطة والأمن والجيش والمُخابَرات وأرزاق الناس فالأمة ستنتهي، ستكون عندك أمة ضعيفة، ضعيفة جداً جداً! هذا صعب على المسكينة، هي مخنوقة لعدم وجود مسام لها، لكن عبر التاريخ لم تكن كذلك أمتنا، أليس كذلك؟ كان عندها الكثير من المنافذ التي تتنسم منها الخير – بحمد الله – والعافية، فكانت مُعافاة وقوية، سُبحان الله! وصمدت في حين أن الدول كانت تسقط بسهولة، أليس كذلك؟ ابن حزم حدَّثنا عن اثني عشر خليفة وأمير مُؤمِنين بُويعوا في يوم واحد في الأندلس، ما شاء الله! لأنها كانت مُمزَّقة، لكن الأمة بشكل عام – سُبحان الله – بمرجعيتها النصية للقرآن الكريم والدين وما إلى ذلك كانت قوية ومُعافاة بحمد الله تبارك وتعالى، علماً بأن هذا فرق كبير، وهذا يرجع فقط إلى شيئ واحد، يرجع إلى قدسية النص، النص كان حاكماً على كل شيئ، ما الذي جعل الأمة بهذه العافية وبهذا الغناء وبهذا الثراء وبهذه القوة؟ الدين، الذي هو مُتجسِّد في النصوص بالذات، النصوص هي التي جعلتها كذلك، على كل حال هذه مسألة ثانية، نعود إلى ما كنا فيه.

هو قال سنستلهم كومونة باريس، هذا الحل عندنا! سنستلهم كومونة باريس ونفعل مثلها، لكن – كما قال لينين Lenin – بالتدريج، أولاً سنستخدم العنف، وبعد ذلك سنستأجر، سنستأجر رجال الدولة، سنستأجر البيروقراطيين، هل هذا الكلام صحيح؟ لا يُمكِن! هل تعرف لماذا؟ لأنت حين تستأجر – مثلاً – بروفيسوراً Professor كبيراً جداً جداً – علّامة كتب مائتي أو ثلاثمائة بحث، رجل في مرتبة عالم – وتُعطيه نفس أجر الفرّاش الذي يشتغل عنده سيقول لك لا أُريد أن أشتغل، هذا أحسن لي، سأقعد في بيتي، فهذا أفضل لي وأشرف في، لكي أُمارِس بحوثي، وهذا حصل! أنا درست لسنوات في يوغوسلافيا وحدثت مرة قصة – قبل أن آتي إلى هنا أيام تيتو Tito، أي جوزيف تيتو Josip Tito – لها علاقة بهذا الموضوع، كان فعلاً بروفيسور Professor الطب يأخذ أجر الفرّاشة، هكذا كان يفعل تيتو Tito، فذات مرة كانت هناك فرّاشة تمسح وما إلى ذلك، ومر بروفيسور Professor – جرّاح كبير وهو أستاذ في الجامعة أيضاً – فلم تُوسِع له، وظلت تمسح الأرض، فقال لها هل يُمكِن أن تُوسِّعي لي الطريق؟ فقالت له لا، أنا مثلي مثلك، أنت لست أفضل مني، أنت تأخذً مثلي، أرأيت؟ أنت تأخذ مثلي وأنا آخذ مثلك، وطبعاً هذه النظرية الماركسية، أن الناس يكونون هكذا فقط من الناحية المادية، لكن هذا غير صحيح يا أخي، هناك أسباب أُخرى لتفاوت الناس بصراحة، هناك فروق حتى فردية، سُبحان الله! فهو قال لها مُمتاز، وهذه القصة حقيقية وقد وقعت، خلع المنديل الخاص به وقال لها أنا الآن كنت سأذهب لإعطاء مُحاضَرة في التشريح، تفضَّلي أنتِ وأنا سأمسح مكانك، ليس عندي أي مُشكِلة، الآن سأمسح في دقيقة، هو سيتعلَّم المسح في دقيقة، لكن لكي تتعلَّم هذه الغبية وتصير بروفيسورة Professor في التشريح ستحتاج إلى خمسين سنة، هذه غبية فعلاً، أليس كذلك؟ لأن مَن يتعامل مع بعالم بالطريقة هذه يكون إنساناً بليداً، هو خلع منديله فعلاً وأحرجها، بدأت تتوسَّل إليه، فقال لها لا، لا يُمكِن! لابد أن نضع حداً للعبث هذا، ما المُشكِلة هذه؟ من خمسين سنة في العلم وعيناي ضاعتا ثم تقولين لي لا وأنا مثلي مثلك! فقال لها أنا سأمسح، هو كان ذكياً جداً، أرأيت؟ بالطريقة هذه شطب وبصق على كل أفكار ماركس Marx ولينين Lenin حقيقة، كلام فارغ يا أخي! وكذلك أفكار كومونة باريس، ما الهبل هذا؟ قال لها أنا سأمسح واذهبي أنت لكي تُعطي المُحاضَرة، ماذا لو قال لها اعملي عملية جراحية في الدماغ أو في القلب؟ مُصيبة! لا تستطيع، فهو قال سوف نُعطيهم أجر عامل واحد كلهم! الذي حصل عملياً أن لينين Lenin نفسه مشروعه التطبيقي فشل، لم يقدر! الناس فعلاً حدث لها نوع من تصلب الشرايين، وذلك في الطبقة العاملة حتى نفسها، فضلاً عن اللامُبالاة! عاقبوا الدولة بالكسل كما يُقال وبالسلبية، قالوا لا نُريد، في سنة ألف وتسعمائة وثنتين وعشرين ماذا فعل لينين Lenin؟ النيب NEP، معروف! وهي السياسة الاقتصادية الجديدة، اسمها النيب NEP، قال لا، وبدأ يمد جسور الثقة مع البرجوازيين، قال لهم تعالوا، لا تُوجَد مُشكِلة! وكذلك الحال مع ملّاك الأراضي، الكولاك Kulak! قال لهم تعالوا يا كولاك Kulak وخُذوا أراضيكم، خُذوها ولن تُوجَد أي مُشكِلة، وقال للبرجوازيين تعالوا وخُذوا المصانع، طبعاً ملّاك المصانع أُخِذت منهم المصانع، أليس كذلك؟ فهذه بعد أن أُخِذت من ملّاكها هجرها المُهندِسون والفنيون وكبار الخبراء أيضاً، الدولة كلها! قال لهم خُذوا ما تُريدون، ليس عندنا مُشكِلة! وبدأ الرجل يأخذ أفكاراً من الرأسمالية من جديد، لينين Lenin نفسه! وسماها السياسية الاقتصادية الجديدة، أي النيب NEP، فقط! في أربع سنوات – من أكتوبر ألف وتسعمائة وثماني عشرة إلى ألف وتسعمائة وثنتين وعشرين – كل شيئ فشل، لينين Lenin نفسه – ليس ستالين Stalin وإنما لينين Lenin – دفع الثمن وهو يُنظِّر لهذا الهبل، غير صحيح! لماذا؟ كما قلنا لأنه لم يقدر أن يفهم أيضاً – ولا هو ولا ماركس Marx ولا إنجلز Engels – تناقض الإنسان، الإنسان يا إخي هكذا، الله – تبارك وتعالى – خلقه هكذا، والإنسان حتى يقوم على مبدأ حُب الاعتراف، أليس كذلك؟ ليس مَن علم كمَن جهل، مُستحيل! صحيح هناك مُساواة لكن أصلاً ما معنى المُساواة؟ ماركس Marx نفسه وإنجلز Engels ولينين Lenin يقولون إن المُساواة نفسها لابد أن نُحدِّد معناها بدقة، الآن الناس كلهم يتحدَّثون عن المُساواة، أليس كذلك؟ هل تُؤمِنون أنتم بأن المُساواة قيمة – كقيمة Value – يُمكِن أن تتحدَّد ذاتياً؟ أي بلُغة الفلسفة هل هي قيمة مُطلَقة؟ يُسمونها المُطلَقة Absolute! هل هي قيمة مُطلَقة؟ مُستحيل! بالذات المُساواة، العدل يُمكِن أن يكون قيمة مُطلَقة، يُمكِن! يُمكِن أن نُناقِش في هذه المسألة، لكن المُساواة لا يُمكِن أن تكون قيمة مُطلَقة، العدل قيمة مُطلَقة، كيف؟ أنت مأمور أن تعدل من خلال ديننا مع مَن تُحِب ومع مَن تكره، مع الكبير ومع الصغير، مع الأسود ومع الأبيض، ومع المُسلِم ومع الكافر، مع الكل! حتى مع الحيوان، أليس كذلك؟ لابد أن تكون عادلاً، والعدل هو وضع الشيئ – ضد الظلم – في موضعه، الله قال وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۩، وجدت أكثر من مُستشرِق هزته هذه الآية والله! قرأت أكثر من تعليق في فترات مُتباعِدة لأكثر من مُستشرِق مُعجَبين جداً جداً بهذه الآية، ومن خلالها أُعجِبوا بالإسلام كله، دين عظيم! أين تجد ديناً مثل هذا؟ قال لك حتى لو هو عدوك ويُريد أن يقتلك أيضاً هذا لا يحملك على أن تُجافي العدل حين تتعامل معه، كُن عادلاً، اعدل! 

يهودي حصل نقاش بينه وبين جماعة في أيام سيدنا عمر، في خلافة سيدنا عمر! أتوا لكي يأخذوا ضريبة الأرض وما إلى ذلك، لكن هو تلكأ وماطل، فالمُهِم غضبوا منه وهددوه، فقال جيد، هل هذا يحملكم على ظلمي؟ فقالوا لا، الظلم لا، لن نأخذ إلا حقنا، فقال بالعدل قامت السماوات والأرض، عرف لماذا المُسلِمون مُنتصِرون، قال لهذا السبب أنتم مُنتصِرون، قالوا نحن لن نظلمك، رجل جاء – وهو قاتل أخي سيدنا عمر في الجاهلية – وتكلَّم مع عمر بغلاظة وما إلى ذلك، فعمر قال له لن أُحِبك حتى تُحِب الأرض الدم، قال له يا أمير المُؤمِنين وهل يحملك هذا على ظلمي؟ قال له لا، فقال له لا يأسى على الحب إلا النساء، اذهب! لا يهم يواء أحببتني أو لم تُحِبني، أرأيت؟ بجرأة – هو يُخاطِب أمير المُؤمِنين – قال له لا يأسى على الحب إلا النساء، لأنه قال له لن أظلمك، مُستحيل أن أظلمك، مُستحيل! هذا الإسلام.

حدَّثني أحد تَلاميذ الشيخ أبي زُهرة عنه، وهذا شيخ وفقيه مصري كبير، إمام – رحمة الله عليه – تُوفيَ في السبعينيات، في سنة ألف وتسعمائة وأربع وسبعين، رحمة الله عليه، هذا أبو زُهرة وهذا تَلميذه المُباشِر وهو أخ سوري، قال لي أنا كنت أقول كذا وكذا وأنا كنت ناصرياً وهو كان يكره شيئاً اسمه عبد الناصر، لأن أبا زهرة كان ضد عبد الناصر، وطوال فترة عبد الناصر كان المسكين في الإقامة الجبرية، ممنوع أن يطبع له شيئاً، ممنوع أي شيئ! لا في الإذاعة ولا في التلفزيون Television وما إلى ذلك، بهدله! وقال ألا يُوجَد في رجال الثورة والشباب المُمتازين مَن يُنتِّف لحية هذا الشيخ العفن؟ وطبعاً لم يتجرأ أي أحد على هذا، فهذا شيخ وعالم، رحمة الله عليه، فكان يكره شيئاً اسمه عبد الناصر، وهذا كان ناصرياً! فالمُهِم ذات مرة كان يتكلَّم وكان ينتقد التجربة الناصرية، قال فقمت له أنا ورددت عليه، فغضب غضباً شديداً وقال لي لعنك الله، قال لي لعنني! قال لي لعنك الله، اخرج من هنا، قال طردني من المُحاضَرات وما إلى ذلك، وبعد ذلك جاء الامتحان فقلت سوف يُرسِّبني، قال فامتحننا الرجل وكان مُتساهِلاً معي وأعطاني علامة مُمتازة، وقال من ذلك اليوم وأنا – قال لي إلى اليوم، وهو رجل كبير، أي مُحدِّثي، رجل كبير عجوز – أُحِب هذا الشيخ حُباً جماً، انقلب موقفي منه إلى حُب شبيه بالتقديس، قال سألته فقال لي لا يا ابني، لا! الخصومة الفكرية شيئ والعدل شيئ آخر، دين! يُوجَد وازع داخلي، تخيَّلوا! القانون هنا ليس له علاقة، القانون رادع، أليس كذلك؟ لكن الوازع لا يُنشئه إلا الدين، مُستحيل! لا يُمكِن للقانون أو للقضاء أو للمحاكم أن تخلق لي الوازع الداخلي، صحيح هذه تعمل ردعاً لي – مضبوط – فأخاف لكن هذا الوازع شيئ إلهي، شيئ من الله، وهذا الذي كان يُسميه كانط Kant بالمحكمة الداخلية، هذا شيئ من الله، هذا يُعطيه الدين، والإسلام بالذات!

فعمر كان يُحاوِل أن يُمأسس مسألة الرقابة على الحكّام، لو أمهله – كما قلنا – الأجل لفعل هذا لكنه لم يُمهِله، ولذلك لم يُمأسسها، لم تتم المأسسة، وهذا كان نقصاً كبيراً، لكن مُتأكِّد لو عاش لمأسس لها، لكي تُوجَد هيئة تُراقِب، وطبعاً لن نتحدَّث عنها وعن الكيفية التي يُمكِن أن تكون بها، فهذا موضوع ثانٍ قابل للتفكير وقابل حتى للاجتهاد، لكنها تنتمي إلى الأمة أكثر من انتمائها إلى الدولة، وتُراقِب بصرامة كل أجهزة الدولة وكل مُمارَسات الدولة، هل تعرفون لماذا؟ أي فكرة غير مُمأسسة تضيع، ويُمكِن أن تعود بالنقض على ذاتها، بالتبرير والتسويغ! ثم تُدمِّر نفسها، لماذا؟ ليس لأنها مُتناقِضة، لتناقض الإنسان نفسه الذي يستغلها باستمرار.

رئيس المحاكم العُليا في أمريكا – أي أكبر قاضٍ في أمريكا، هو قاضٍ كبير جداً – يتحدَّث عن نفسه، وهو رجل ذكي، ذات مرة وهو ينزل من السيارة قال له السائق الخاص به – سائق السيارة – يا سيدي لا تنس أن تعدل، احكم بالعدل، قال له ماذا؟ أنا لا أعرف هذه الكلمة، ما العدل؟ لا أعرف هذه الكلمة! قال له كيف؟ فقال له لا أعرفها ولا أُؤمِن بها، كيف تقول لي احكم بالعدل؟ لا أعرفها! قال له كيف؟ قال له أنا أحكم بالقانون، وهذا صحيح! وذكرنا هذا في درس سابق، أليس كذلك؟ قال له أنا أحكم بالقانون، القانون هو العدل المُمأسس، أليس كذلك؟ لو تُرِكَ الأمر للضمير الشخصي وقيل لك اعدل ستبدأ تتلوَّن في كل مسألة بحسب أهواءك الشخصية وتقديراتك الذاتية، أليس كذلك؟ وقد تظلم أكثر مما تعدل، لكن المسألة حين تُقنَّن – أي تُمأسس مفاهيمياً كما يُقال، هذه مأسسة مفاهيمية للعدل، أليس كذلك؟ ليست مأسسة حقيقية، أي Institutionalize – تُصبِح مضبوطة إن شاء الله، في الوظائف، في الرقابة، وفي كل شيئ! سوف تنجح هذه المسائل، والغرب نجاحاته حتى المحدودة في هذه المسائل بفضل هذه الفكرة، بفضل المأسسة لبعض هذه الأشياء، ولذا سوف تنجح، لكن من غير مأسسة لا يُمكِن أن تنجح، فهذا كلامنا حول هذه النُقطة.

قالوا نُريد أن نأتي بجماعة من الناس لكي نستأجرهم، وقلنا هذا كلام وهمي، لينين Lenin نفسه في التجربة فشل فيه بالكامل ولم ينجح، أخفق واتخذ سياسة جديدة مُختلِفة تماماً، أليس كذلك؟ إذن لدينا موضوع العنف والتغيير بالعنف، نأتي فقط إلى المُؤتمَر العشرين بعد موت ستالين Stalin، حين قام نيكيتا خروتشوف Nikita Khrushchev وقدَّم تقريره السري، وهذا أشهر مُؤتمَر شيوعي، لأن هذا كان فضيحة، فضح التجربة الشيوعية الداخلية في السوفيتات، المشاعيات والعمّال والجنود! فضح كل شيئ، فقام خروتشوف Khrushchev وقدَّم تقريره السري الذي ذكر فيه أصغر عبارة، قال إن ما حدث في الفترة أو في العهد الستاليني فاق بشاعةً وإجراماً ما حدث حتى في العهد القيصري، كانت عبارة مُزلزِلة هذه، مُستحيل! أسوأ من العهد القيسري؟ قال أسوأ من العهد القيصري، في كثير من النواحي، المُهِم ليست هذه هي القصة، ماذا فعل؟ هذا في المُؤتمِر العشرين، وإلى اليوم أكثر الأحزاب الشيوعية تُصادِق على ذلك، أكثرها في الشرق والغرب! قال لا، نُريد أن نعود لكي نُحيي طريقة ونهج الأُممية الثانية، وهي الاشتراكية الديمقراطية الشوفينية الانتهازية النذلة السخيفة كما يصفها لينين Lenin، ما هي مقولتها هنا؟ لابد من التغيير السلمي، الأحزاب والبرلمانات! لا تقل لي لابد من العنف وما إلى ذلك، لماذا إذن؟ لأنهم دفعوا ثمن هذا العنف من خلال الدماء الغزيرة، أربعة وعشرون مليوناً! باختصار قالوا ستصل البروليتاريا هذه وستمتلك وسائل الإنتاج، وهي ستحمكم وتُشرِّع وتُنفِّذ، وبعد ذلك ستتضمحل الدولة بالكامل، أي سيحدث لها اضمحلال Decline، ومن ثم سنُنفِّذ المبدأ الشيوعي الجناتي، من كلٍ حسب جهده ولكلٍ حسب حاجته.

هل حكمت البروليتاريا فعلاً؟ قال لينين Lenin سوف تحكم الطبقة الكادحة، فهل حكمت الطبقة الكادحة؟ لا، والذي فعله لينين Lenin نفسه كان تنظيراً للحزب، حزب الطليعة! أليس كذلك؟ قال يُوجَد حزب، هذا الحزب – حزب الطليعة، أي طليعة البروليتاريا – سوف نُربيه على الماركسية الحقيقية – يقول لينين Lenin – وليس الماركسية الانتهازية الكاوتسكية، لا قال! الماركسية الحقيقية، بحيث لا ينفصل قادته عن طبقتهم، قال لأن الانتهازيين الاشتراكيين قد انفصل جماعة منهم – من العمّال – عن طبقتهم واستطاعوا أن يُديروا أمورهم بشكل جيد مع الرأسمالية ونسوا هموم الطبقة، قال نحن لن نفعل هذا، سنقوم بعمل تربية، تربية روحية ما شاء الله! سنقوم بعمل تربية بحيث لا ينفصلوا، وهذا الحزب المُتعلِّم جيداً والمُتربي جيداً والمُتروحِن ماركسياً جيداً سوف يُعبِّر عن الطبقة ويمُثِّلها تمثيلاً كاملاً ومُطلَقاً، في الحقيقة هذا الكلام لم يحصل، حصل العكس تماماً! هذا الحزب فعلاً جاء وحكم باسم هذه الطبقة، وهنا يُوجَد الإشكال! أنه حكم باسمها، وماذا قال؟ نحن الدولة والدولة هي البروليتاريا والبروليتاريا هي الدولة والحزب هو الدولة والحزب هو البروليتاريا، نفس الشيئ! فالمُشكِلة الآن تكمن في أنه فعل ماذا؟ أمَّم وسائل الإنتاج، يُسمون هذا التأميم، أخذها كلها على أساس أنها للدولة، أليس كذلك؟ هي الآن ليست للناس، وإنما للمُتنفِّذين، تقاسموها! بعد ذلك ممنوع أن يرفع الآن أي واحد عقيرته بنقد أو بمُحاسَبة أو باحتجاج أو بمُطالَبة، لماذا؟ كيف الطبقة تقوم ضد نفسها؟ ممنوع! نحن البروليتاريا، أليس كذلك؟ علماً بأن هناك تجربة عربية تُمارِس نفس اللعبة القذرة هذه، نفس الشيئ! تقول نحن الشعب والشعب الذي يحكم والشعب الذي يقول، نفس الكلام ونفس الأكاذيب – سُبحان الله – لكن تحت أسماء أُخرى، نفس المُحتوى! نفس المحتويات والمضمونات والمشمولات، سُبحان الله! فممنوع أن تأتي تنتقد وأنت من الطبقة الكادحة الحزب الذي هو الدولة التي هي البروليتاريا، هو طليعة الطبقة، كيف تنتقدنا؟ أنت تنتقد نفسك وتُدمِّر نفسك، لا! سوف تُقمَع إذن وأنت تنتمي إلى البرجوازي، أنت برجوازي قذر فتُسحَق، ومن هنا تم سحق الكثير من الناس، بُرِّر السحق هذا! ستالين Stalin كان عنده مُبرِّر للسحق هذا، أليس كذلك؟ ممنوع، لأن أنا ستالين Stalin وأنا في رأس الحزب، والحزب يُمثِّل هذه الطبقة الكادحة، فالحزب هو الطبقة والطبقة هي الحزب، ممنوع أن يتكلَّم أي واحد، وأي واحد يُعارِض الطبقة هو ضد الطبقة، ومن ثم لابد أن نسحقه، لأن النظرية نفسها بصراحة تبسيطية بشكل غير طبيعي، هو قال الطبقة سوف تثور وبالعنف ستحكم فهل هي ستحكم بشكل مُباشِر Direct أو بشكل غير مُباشِر Indirect؟ قال ليس بشكل مُباشِر Indirect، الحزب سوف يحكم، فإذن أين مدى الاتصال والانفصال؟ أنت يا لينين Lenin نفسك أدركت أن الاشتراكية الديمقراطية النهّازة هذه تم فيها انفصال بين الحزب وبين الطبقة، لماذا حصل الانفصال هذا؟ يُمكِن أن يحصل عنك، وقد حصل عندك بشكل واضح، نفس اللعبة حصلت، نفس الشيئ! نفس الاستعصاء حصل، حصل انفصال وزاد هذا الانفصال مع الأيام، صحيح! هذا أولاً.

ثانياً هل فعلاً أُلغيَ الجيش النظامي؟ لا، وهل صار الشعب كله مُسلَّحاً؟ بالعكس! جيش من أكثر الجيوش الجرّارة عُنفاً وعُدةً وعتاداً في التاريخ، اسمه الجيش الأحمر، أليس كذلك؟ جيش رهيب مُخيف، طبعاً كل الشيوعيين أُبلِسوا وأُسقِط في أيديهم حين رأوا هذا الجيش، والمفروض أصلاً ألا يكون، الجيش المفروض ألا يكون وفق النظرية، ذهب واجتاح أفغانستان، وبعد ذلك ذهب واجتاح تشيكوسلوفاكيا، ثم هدَّد باجتياح بولندا، دخل على شعوب اشتراكية ثانية، أليس كذلك؟ وظل يُمارِس القمع وما إلى ذلك، ما هذا؟ بالعكس! هذا عكس النظرية تماماً، أليس كذلك؟ فضلاً عن القمع الداخلي، أنت حين صادرت الأراضي ووسائل الإنتاج هل أعطيتها للشعب وأعطيتها للناس فعلاً فأداروها ولم يتغرَّبوا بعد عن عملهم؟ الذي حصل هو العكس تماماً! هل تسمعون بمُعسكَرات الغولاغ Gulag؟ أكيد سمعتم بها! الغولاغ Gulag هذه مُعسكَرت العمل الإجباري الفلاحي، كان لينين Lenin يأتي بهم، وهم كانوا بالملايين! يأخذهم للأسف من المُقاطَعة ويذهب بهم إلى مكان على بعد ألف كيلو متر أو ألفي كيلو متر، يقول لهم هيا اشتغلوا في المزارع هذه، والسلاح كان فوق رؤوسهم، أي واحد يهرب يُقتَل مُباشَرةً، يُقال ضد الدولة هذا، ضد البروليتاريا، وضد مصلحة الأمة، يُقتَل! 

قبل أيام – ربما هذا من شهر أو شهر وقليل – نزل كتاب عن الغولاغ Gulag، كتاب غربي طبعاً وهو مُخيف، يذكر حقائق مُخيفة عجيبة، والكتاب هذا مبني على شهادات طبعاً من بعض الناس الذين لازالوا أحياء، أوثق شهادة قرأتها في عرض هذا الكتاب – أنا قرأت عرضاً له في الحقيقة – عن رجل يُحدِّث عن نفسه ويذكر كيف أنه استطاع أن ينجو هو واثنان من أحد مُعسكَرات الغولاغ Gulag، العمل الإجباري الفلاحي لستالين Stalin، هرب! قال وطيلة الطريق – لا أعرف عبر كم يوم – لم نذق كما يُقال طعم النوم أبداً، ولو لُحيظة! لماذا؟ لأن كل واحد منا كان يعلم أن الذي ينام قبل سوف يُقتَل، من شدة الجوع! يُجوِّعونهم ويُشغِّلونهم شغلاً شاقاً بالسُخرة، المساكين كانوا يُعانون من التجويع، وهؤلاء هربوا وكانوا جائعين ومُبهدَلين، هربوا من الجحيم، فضل الواحد منهم أن يأكل أخيه على أن يظل في الغولاغ Gulag هذا، ما هذا؟ ما هذه الحياة؟ وفي النهاية قال قدر الله نافذ، أحدهم نام فأُكِل، الاثنان أكلاه، مزَّعاه وقتلاه وهو نام ثم أكلاه، وبعد ذلك تدور الدائرة على أحدهما أيضاً، آلاف الكيلو مترات يقطعها هؤلاء المساكين، قال إنهما واصلا المسيرة وهما خائفان، يخافان من أن يُستدرَكا أو يُلحَقا بالأثر، وفي النهاية حصل نفس الشيئ، قال – هذا صاحب الشهادة وهو لا يزال حياً إلى اليوم – الآخر نام فأكلته، وحين وصل إلى موسكو أمسكوا به وكان في حقيبته الصغيرة بعض أجزاء لحم هذا الإنسان، هذه الجنة الشيوعية! جنة ماركس Marx ولينين Lenin وإنجلز Engels وستالين Stalin!

فهم يقولون هذا خطأ ستالين Stalin وما إلى ذلك، لكن هذا غير صحيح، هذا خطأ النظرية، النظرية غير واضحة، النظرية هشة اختزالية تبسيطية ولم تتحدث بطريقة واضحة عن أي شيئ، وهي غير علمية حقيقةً! أرأيت؟ ولم تُدرِك التناقضات كما قلنا، وبالذات تناقضات الإنسان نفسه، لم تُدرِكها! تحدَّثت عن التناقضات الطبقية فقط، لكن هناك تناقض لدى الإنسان نفسه، الفرد! إذا ستالين Stalin نفسه بتناقضاته الذاتية دفَّعكم كل هذا الثمن فيُمكِن أن يكون هناك مليون ستالين Stalin، أليس كذلك؟ مليون ستالين Stalin ومليون مليون أيضاً، هذه هي القضية!

نكتفي بهذا القدر إن شاء الله، وسوف نُكمِل الكلام مع مُقارَنة – كما قلنا – بالتجربة الإسلامية في العهد النبوي والعهد الراشدي، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

مَن عنده أي إضافة أو استفسار أو أي شيئ فليتفضَّل، (ملحوظة) أشار أحد الحضور إن النقد الذي يُوجَّه إلى الماركسية قد يُوجَّه إلى الحُكم الإسلامي أيضاً خاصة في موضوع تغول السُلطة، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم هذا ما سنسمع عنه الرد في المُحاضَرة الجائية إن شاء الله، أنا عقدت المُحاضَرة من أجل هذه الموضوعة بالذات، لأن هذا الكلام يُقال كثيراً دائماً، يُقال إن حتى التجربة الإسلامية غير معصومة من نفس الشيئ، لا! سوف ترى أن هناك آليات مُعيَّنة لا يُمكِن أن تُوقِعنا في نفس المطب بهذا العنف الذي حصل في التجربة الشيوعية إن شاء الله، وبعد ذلك انظر إلى النتيجة، ما النتيجة التي حصلت؟ عبر التاريخ الإسلامي كم مرة سقطت الدول! الأمويون الظلمة، العباسيون الظلمة، المماليك القتلة، والعثمانيون الكذا، أليس كذلك؟ هل في مرة من المرات حدث للأمة نوع من الرد على الدين؟ هل قالوا هيا، لا نُريد الدين أو الإسلام وما إلى ذلك؟ هل هذا حصل ولو مرة؟ لا، لكن هذا الاتحاد السوفيتي حين نفق وطلعت روحه خرج مُنظِّرون ماركسيون كبار من الروس – وهذا يحدث الآن – وجعلوا ينعقون بالعولمة، مع الفكر الرأسمالي في أسوأ تجلياته، مكفروا بكل شيئ اسمه ماركس Marx ولينين Lenin بالكامل، يا سيدي دع هذا، أنا أقول لك لينين Lenin حين جاء وقدَّم أول نقد قدَّمه لمَن؟ للأُممية الثانية، وهو نقد قاسٍ جداً جداً، وصفهم بالانتهازيين السُخفاء الأنذال وما إلى ذلك، قال هؤلاء خونة الفكر الماركسي، هذا قاله عن الأُممية الثانية، أليس كذلك؟ التي أسَّسها إنجلز Engels نفسه، ويُوجَد فكر ماركسي، بعد ذلك ذهب لينين Lenin وجاء ستالين Stalin، خروتشوف Khrushchev قدَّم نقداً حاراً لمَن؟ لستالين Stalin، أليس كذلك؟ وقال أسوأ من القياصرة، أسوأ من التجربة القيصرية، ذهب خروتشوف Khrushchev وجاء مَن؟ بريجنيف Brezhnev، تكلَّم عن خروتشوف Khrushchev بمثل ما تكلَّم به خروتشوف Khrushchev عن ستالين Stalin، قال من أسوأ الفترات في حياتنا، فذهب بريجنيف Brezhnev وجاءت هذه الجماعة، وجاء غورباتشوف Gorbachev الذي انتقد كل السابقين، في النهاية بعد ذلك وصل كما يُقال الغرق والبلل إلى مَن؟ إلى ماركس Marx نفسه، أصبحت أفكار ماركس Marx نفسها مُستهدَفة، لأن هذه الأفكار فيها خلل كبير وفيها تجاوز للعلمية، لم يُوجَد أحد معصوم، هذه هي المسألة! فماذا لو قلنا هذا أيديولوجيا والإسلام أيديولوجيا – كما يقولون – أو هذا دين وهذا دين؟ وفعلاً الماركسية بالمُناسَبة تحوَّلت إلى دين حقيقي، دين عنده طقوس وعنده الكهنة وعنده أنبياء وعنده كتاب، دين بالمعنى الحقيقي! وأنا وجدت حتى في بعض كُتب لينين Lenin وفي بعض كلماته أيضاً ألفاظ دينية، وهو لا يشعر بها، لو كان شاعراً بها لما أمكن أن يستخدمها، ما معنى الردة؟ هو يقول كلمة الردة، وهذا مُصطلَح ديني، أليس كذلك؟ الردة، كيف تقول ردة عن فكر ماركس Marx؟ عدة مرات استخدم هذا المُصطلَح، وهذا المُصطلَح ديني، لكن هو يخضع له.

فلم يحدث – بحمد الله – عندنا رغم تجارب سقوط الحكومات والخلافات والسلطنات مرات عديدة أن الأمة في يوم من الأيام كفرت بالنص، بالعكس! ما الذي يحدث؟ الأمة كلما ضُغِط عليها وكلما شعرت بالاستبداد وبالظلم كلما جأرت بالنص ورفعت القرآن الكريم! لماذا إذن؟ لأن هذا النص عكس النظرية اللينينية الماركسية، وهو واضح جداً جداً في انحيازه لك ولي، في انحيازه للمُستضعَفين، في انحيازه للناس، واضح جداً جداً موقفه من الفراعنة ومن المُستبِدين والمُترفَين في الأرض والفئات المُتسيِّدة بالباطل، أليس كذلك؟ أي من الطُفيليين بالاصطلاح اللينيني، جداً واضح! فهل تعرف ما هو كل الذي حصل؟ لم يكن تجلياً وتمظهراً للنص لدى التطبيق، بالعكس! خيانة وخياسة للنص، هذا تجاوز للنص، لكن تجربته – بالعكس – عكست النص، أنت تُلاحِظ  في النهاية أن تجربة ستالين Stalin نفسه هي مُجرَّد إخضاع الواقع للنص اللينيني الماركسي، هو أخضع الواقع، وهنا الخطأ! هم لو تعاطوا حتى مع النظرية الماركسية اللينينية على أنها نظرية في الاجتماع، في التغيير، في الثورة، في الدولة، وفي أي شيئ يا سيدي لكان الوضع أحسن بكثير مما حصل، لماذا إذن؟ لأنه بمنطق علمي سيقول لك هذه نظرية ونحن – والله – اكتشفنا فيها بعض جوانب القصور، لن نُؤمِن بها، سنُعدِّل، سنُضيف، وسنُقيِّم، أليس كذلك؟ كان يُمكِن أن ينجح، لكن مُنذ البداية هم اتخذوها كخُطة عمل سياسية، انتبهوا! اتخذوها كُخطة عمل سياسية، ما الفرق بين الموقف السياسي والموقف العلمي؟ الموقف السياسي أقرب إلى الموقف الديني أو أقرب إلى الموقف الأيديولوجي، السياسة عموماً بالمُناسَبة – أُريد أن أُوضِّح لكم النُقطة هذه – لا يُمكِن تتوسَّل منطق العلم الحقيقي، تفشل، انتبهوا! تفشل، لماذا؟ السياسة لابد أن تقوم على هذا المحور الرئيس، تبسيطية واختزالية للأفكار إلى درجة تخفيضها إلى شعارات، انتبهوا! وهذا يُسمى بالأسلوب الفكري التحريضي، علماً بأن لينين Lenin كان يُمارِسه، لينين Lenin! الآن حين تقرأ لينين Lenin – تقرأ أي مُجلَّد له – لا تُلاحِظ أنك أمام أكاديمي حقيقي، لا! تُلاحِظ أنك أمام مُحرِّض سياسي، أمام مُحرِّض! وهو يعرف هذا ويستخدم كلمة تحريض، كان يقول الأفكار الكاوتسكية لا تستطيع أن تنجح في تحريض الجماهير، إذن هو نفسه مُدرِك وظيفته كمُحرِّض، انتبه إلى هذا الآن، أنت كمُحرِّض لا يُمكِن أن تكون علمياً، لا يُمكِن أن تكون أكاديمياً، أليس كذلك؟ الأكاديمي دائماً يقف على مبعدة حتى من ذاته، يُحاوِل! يُحاوِل أن يعمل مبعدة – مكاناً أو فاصلاً – بينه وبين نفسه، لكي يُمارِس النقد على أفكاره، أليس كذلك؟ بعد كل فترة وفترة، لكن السياسي ليس عنده وقت، أليس كذلك؟ السياسي عنده مشروع يُريد أن يُنجِزه، أليس كذلك؟ أنت لاحظت ما فعله لينين Lenin نفسه في ثورة فبراير ألف وتسعمائة وسبعة عشر، وهي ثورة البرجوازية الصغيرة، أليس كذلك؟ التي قامت بها البرجوازية الصغيرة أن تُسقِط الحُكم القديم السائد، وتأتي بهؤلاء البرجوازيين الصغار في شكل حكومة عُرِفت بالحكومة المُؤقَّتة، جاء لينين Lenin من منفاه – هو كان منفياً طبعاً وكانت رأسه مطلوبة – وما إلى ذلك، ومُباشَرةً اصطدم مع هذه الحكومة المُؤقَّتة، لا تُريده! أليس كذلك؟ رُغم أنهم جميعاً من أبناء الفكر الماركسي، أليس كذلك؟ لكن هؤلاء مناشفة وهؤلاء بلاشفة، المناشفة هم الأقلية والبلاشفة هم الأغلبية، لكن نفس الفكر ونفس الجدل النظري أيضاً بشكل عام، نفس النظرية! فطلبوا رأسه أيضاً، أعني المناشفة البرجوازيين، قالوا أنهوا حياته، فنحن لا نُريده، هذا الرجل يُزعِجنا، فهرب إلى فنلندا هناك، أليس كذلك؟ وألَّف أطروحة، ثم رجع بعد ذلك في أكتوبر وقال الآن الظروف أصبحت مُواتية لانطلاق ثورة تُنقِذ الشعب والجماهير، لابد أن نُحوِّل الثورة البرجوازية إلى ثورة بروليتاريا، الآن قال! لا يُوجَد وقت، وفاجأ كثيراً من زملائه وبعضهم عارضه وكتب بيانات ضده، بالعكس! فضح الثورة قبل أن تشتعل بيومين، كتب وقال هذا، لأنهم غير مُقتنِعين، لكن هو كسياسي ليس عنده وقت، ليس عنده وقت لكي يسمعك ويسمع مني ثم يُفكِّر وما إلى ذلك، ستضيع عليه الفُرصة! وبالمُناسَبة هنا يُشهَد له طبعاً بلا شك، لكن هو التقط اللحظة الأكثر مُناسَبةً كما يُقال دائماً، القائد المُلهَم والقائد الفذ يلتقط اللحظة الأكثر مُناسَبةً، هذه الشطارة! مثلما فعل محمد عليّ جناح ومثلما فعل لينين Lenin، لأن روسيا – القيصرية طبعاً – كانت في حرب عالمية كما تعرف، بعد ذلك الخبثاء في حكومة الأقلية من ذكائهم ماذا فعلوا؟ تسبَّبوا في هزيمة، هم بعثوا عدة فيالق بسيطة جداً جداً ضد الجيش الألماني، وعمداً هم خطَّطوا لهزيمتها، وهُزِمت وقُتِل آلاف منهم، لماذا فعلوا ذلك؟ انظروا إلى هذه السياسة القذرة، هذه قذارة السياسة! لكي يلتف الناس حولهم ويقولوا لا صوت يعلو على صوت المعركة، الذي حصل أن النتيجة جاءت مُعاكِسة، لماذا إذن؟ لأن هناك جناحاً آخر يُمثِّل فعلاً أغلبية لكنها لم تكن أغلبية في ذلك الوقت حتى، انتبه! هناك مُؤتمَر قام به المناشفة في الحكومة المُؤقَّتة، جماعة لينين Lenin من البلاشفة أخذوا فيه أقل من عشرين في المائة، فإذن في الحقيقة هم بلاشفة باللُغة، بالمُصطلَح! لكن هم مناشفة في الواقع وبالعدد، أليس كذلك؟ لكن هذه اللحظة الذكية لينين Lenin التقطها وعرف أن هذه الهزيمة لن تُساعِدهم، لكنها ستُساعِده هو، لأن هناك خياراً بديلاً، والخيار البديل فتي وشبابي وحاسم، لابد من إنهاء المعركة أصلاً، كان خُطة البلاشفة إنهاء المعركة، قصة طويلة قصة الثورة الروسية هذه، لكن المُهِم أنهم خطَّطوا لإنهاء الحرب أصلاً، السلام! كانوا يقولون السلام والخُبز، شعار لينين Lenin السلام والخُبز، لا نُريد حروباً، هذه ليست من مصلحتنا، هذه حرب إمبريالية – كان يقول هذا – ونحن ضدها، فالشعب قال نعم، كفانا هزائم وكفانا دموع ودماء، سُبحان الله! ارتفع البلاشفة وهو التقط اللحظة، فما قصدت قوله دائماً البرنامج السياسي – خاصة الثوري، انتبه – المحكوم بأيديولوجيا صعب جداً أن يتسم بالروح العلمية، لكي ينجح – انتبه – لابد أن يكون تحريضياً دعائياً تعبوياً، ولكي يكون تحريضياً تعبوياً لابد أن يكون اختزالياً، أليس كذلك؟ لابد أن يكون اختزالياً، يكون اختزالياً في شكل شعارات، شعارات تُلخِّص كل شيئ ببساطة هكذا، فهو ليس عنده ترف أن يُفصِّل أو أن يُراجِع نفسه أو أن يُعطي فُرصة للنقد وما إلى ذلك، لكن انظر – كما قلت لك – إلى الخُطة الإلهية، سُبحان الله! القرآن الكريم فعلاً ليس خُطبة بشرية وليس كتاباً بشرياً، موقفه في كل هذه القضايا دائماً كان واضحاً مُحدَّداً، فالأمة إلى اليوم بفضل الله – تبارك وتعالى – كلما ضُيِّق عليها الطوق بالذات من الاستبداد الداخلي أو حتى الاستعمار الخارجي تفزع إلى القرآن، وهذا يُفزِع العلمانيين الأغبياء، هم مزعوجون جداً، كيف هذه الأمة المسطولة بدل أن تتحلَّل من هذا الفكر الغيبي والقرآن والدين والغيبيات تذهب في لحظات الشدة إلى القرآن الكريم؟ لأنها تعرف أن لا نجاة حقيقية فعلاً إلا بهذا الكتاب، لماذا؟ لأن هذا الكتاب هو الذي يأمرها بالثورة والتمرد والجهاد والمُقاوَمة، أليس كذلك؟ المُجاهِد لا يُوجَد مَن هو أعلى درجة منه إلا أنبياء الله، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ۩، الصدّيقون قلة، هل تعرف لماذا؟ عددياً طبعاً، هم قلة، قلة جداً جداً! الصدّيقون هؤلاء ربما يكونون في عدد الأنبياء، قليل جداً جداً، لا تستطيع أن تقول الآن هناك طبقة صدّيقية، هذا قليل! حين تحدَّث الله عن المُقرَّبين ماذا قال؟ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ ۩، أصحاب محمد! وَقَلِيلٌ مِنَ الْآَخِرِينَ ۩، من المُقرَّبين! والصدّيق هذا رأس المُقرَّبين، فأيين الصدّيقية في هذه الأمة؟ هل أنت تعرف رجلاً غير أبي بكر الصدّيق أخذ هذا الرجل بإجماع الأمة؟ قليل! فأنت عندك الأنبياء وعندك الصدّيقون، بعد ذلك مُباشَرةً يأتي المُجاهِد الذي يقع شهيداً، فكتاب مثل هذا له دور، وأنا حدَّثتكم مرة عن نابليون Napoléon وعن جاك سوستال Jacques Soustelle، سوستال Soustelle هذا كان جنرالاً General فرنسياً كبيراً، جاء إلى الجزائر وقرأ القرآن، ترجموا له إياه! وكتب يقول هذا الكتاب عجيب وغريب، ليس ككتابنا يتحدَّث عن العالم الآخر والإسراريات والألغاز والماوراء، إنه يتحدَّث إلى الجماهير – بمعنى كلامه -، يُوعيِّها بقضاياها، ويُحرِّضها لعىا لتمرد على ظالميها وجلّاديها، وكان يستغرب كيف يكون كتاب إلهي بهذه الطريقة؟ هذه خُطة القرآن الكريم، مُلهِم! القرآن مُلهِم الثورة ومُلهِم التمرد.

ها نحن شباب صغار، ما شاء الله علينا، كل أفكارنا وكل إيحاءاتنا – بفضل الله – هي نبت هذا الكتاب العزيز، أليس كذلك؟ ولا نُريد أن نتحدَّث عن هذا، فهذا يحتاج إلى كلام طويل، كيف الكتاب يفعل هذا؟ ليس أن تأتي نظرية وتقول كذا وكذا، فرق كبير جداً! وهي التي سوَّغت كل المظالم التي حصلت، النظرية نفسها سوَّغت كل شيئ للأسف الشديد، والتفت على كل شيئ، وبعد ذلك حتى نفس المُنظِّر – أي لينين Lenin، الأب الروحي نفسه – لدى التطبيق تغيَّر، تطبيقه كان تسويغاً لكل ثغرات النظرية، هو نفسه! هو الذي كوَّن حزباً، أليس كذلك؟ هو الذي كوَّن حزباً، وهو الذي كوَّن جيشاً، أي لينين Lenin! كان يقدر على ألا يُكوِّن جيشاً، الغ الجيش يا سيدي – أنت قلت هذا – وسلِّح الشعب، لكنه فعل العكس، كوَّن جيشاً! وطبعاً دائماً هناك تبريرات كثيرة، علماً بأن في الطريقة الماركسية هناك تسويغات لا تنتهي دائماً، ما هي؟ يقولون الظروف محلية دولية، ظروف الحرب التي صارت مع الجوار، ظروف كذا وكذا، وإلى اليوم عندهم نفس المنطق، غير قادرين على أن يقفوا بتواضع لكي يقولوا لا، النظرية فيها خطأ، النظرية لم تكن مُكتمِلة، أليس كذلك؟ النظرية كانت تبسيطية اختزالية! لا يُحِبون أن يقولوا هذا، لا! يقولون النظرية كاملة لكن الواقع هو الغالط دائماً، فسوف نتحدَّث – إن شاء الله – عن الموضوع الإسلامي بالذات في الحلقة المُقبِلة.

(ملحوظة) سمح الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأحد الحضور بالمُداخَلة قائلاً تفضَّل يا أخ عمر، ويُمكِن تلخيص مُجمَل ما قاله على النحو الآتي: 

أشار إلى أن الله لم يُنزِل الإسلام كدين للناس من أجل العبادة فقط، وإنما ليكون منهج عمل ولكي يُؤسِّس دولة، ومع افتراض صحة هذا الكلام أوضح أن هناك إشكالية في تحول الإسلام إلى منهج عمل، مُشيراً إلى تكلس فكرنا الذي لا حياة فيه – على حد وصفه – عبر أكثر من ألف وثلاثمائة سنة.

ألمع إلى أن المُجتمَع العربي مُتخلِّف، ولذا يبحث عن نظرية وآليات عمل تُمثِّل حلاً لإنقاذ الأمة، لكنه لم يجد أناساً مُؤهَّلين لترجمة الدين الإسلامي، فهو يُريد حلاً عملياً ولا يُريد نظرية مُجرَّدة، لكن من الصعب تحويل النظرية إلى واقع عملي لعدم وجود آليات عمل، ولذا هو يبحث عن أُناس يملأون الفراغ الموجود، علماً بأن مَن يُحاوِلون ملء الفراغ يُتهَمون بأنهم أُناس غير دينيين.

ختم مُداخَلته مُتسائلاً ماذا أفعل؟ وذلك في إطار رغبته في معرفة آليات الحل، فأجاب الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم قائلاً الآتي:

باختصار، أولاً جميل أنك في النهاية انتهيت إلى أن الإسلام يبدو في ذاته قادر، لكن أبناء الإسلام غير قادرين أن يُحوِّلوا – كما قلت – هذا المخزون أو هذا المدخور من العطاء الإلهي إلى آليات عمل وإلى نظريات حتى قابلة أن تكون خُطط عمل دقيقة وواضحة، ثانياً كون الإسلام منهج حياة ودولة فهذا ليس كلام عبد الرازق، عبد الرازق رجل مسكين، اعترف – لكي نعرف القضية – في النهاية – أي في آخر حياته وهو رجل كسول، هو شيخ أزهري، شيخ أزهري عادي، درس ست أو سبع سنوات في المرحلة العُليا وانتهى الأمر، شيخ أزهري عادي، لم يُؤلِّف في حياته إلا كتابين، كتاب سخيف في البيان، في البديع والبيان،سخيف! أي كتاب تقليدي جداً، وهذا الكُتيب الصغير الذي اسمه الإسلام وأصول الحُكم، وهو اعترف في نهاية حياته وسجَّل ذلك تماماً – بأن فعلاً الكتاب أُلقيَ إليه، لا ألَّفه وليس له فيه شيئ، هل تعرف لماذا؟ لأن المسألة فُضِحت، الدكتور ضياء الدين الريس – رحمة الله عليه، علّامة مصري كبير، علّامة اقتصادي كبير، صاحب كتاب الخراج، عقل ضخم! علماً بأن عنده كتاب يُناقِش هذه المسألة، هل الإسلام دين ودولة أم هو فقط دين من غير دولة؟ كتاب مُمتاز، اسمه النظريات السياسية الإسلامية، واستشهد فيه بثُلة من كبار المُستشرِقين الذين لم يجدوا مناصاً من أن يعترفوا بأن الإسلام فعلاً أنشأ دولة وبأن الإسلام فعلاً دين ودولة، ليس عليّ عبد الرازق – وقع على نُسخة خطية، بخط مورغوليس Morgulis! ومورغوليس Morgulis هو مُستشرِق إنجليزي كبير وهو أستاذ طه حسين، ويبدو أن المسألة كانت عبر طه حسين – للأسف الشديد – المُخرِّب للفكر العربي، فوقع الدكتور الريس على النُسخة الإنجليزية بخط مورغوليس Morgulis، نفس الكتاب بالضبط! لكن هذا بالإنجليزي وهذا بالعربي، تمت ترجمته له، واعترف عليّ عبد الرازق فعلاً، قال هذا صحيح، الكتاب فعلاً للأسف كان خطيئتي، كان خطيئة حياتي! الكتاب أُلقيَ إلىّ وأنا تبنيته، ما هذه السخافة؟ لأنه رجل كسول، هذه المُشكِلة! وهذه عُقدة النقص بالمُناسَبة في أي شخص، وهي حتى الآن في بعض المُفكِّرين الذين نتحدَّث عنهم دائماً، سواء إسلاميين أو علمانيين، هي التي تجعل الإنسان يتحدَّث بمنطق استعاري، يستعير أفكار وأشياء ثم يُردِّدها من غير أن يفهم ماذا يقول، أنا لا أستطيع أن أفهم كيف يأتي إنسان ويُكرِّر مقولة هل الإسلام دين ودولة؟ ألم تُؤمِن بأن النبي أقام دولة حقاً؟ كانت دولة بالمعنى الحقيقي للدولة يا سيدي، ألا تُؤمِن بدولة أبي بكر وعمر؟ أقام عمر إمبراطورية، إمبراطورية! ليست دولة وإنما إمبراطورية حقيقية، ألم تكن هذه دولة؟ إلا إذا آمنا بأن النبي – عليه السلام – ربما والخلفاء الراشدين أسأوا فهم الخُطة الإسلامية، أسأوا فهم القرآن للأسف! أي حمَّلوا القرآن أكثر مما يحتمل، أي النبي غلط حين كوَّن هذا البناء السياسي لأن الدين لا يقول هذا، هذا يُصبِح جنوناً! أليس كذلك؟ أكثر الناس جدارة وكفاية أن يتحدَّث عن مقاصد القرآن هو الرسول وأصحابه الأولون وبالذات هؤلاء الخلفاء العظام، أكثر منا مليون مرة، هذا من غير الدخول في التفاصيل، فهل الإسلام دولة؟ دولة بلا شك تاريخياً، وحتى بنيانها النظري يُؤكِّد أنه دولة، هل تعرف لماذا؟ هل يُمكِن أن تفهم أو هل تستطيع أن تُدرِك أو هل يُسوِّغ عقلك أن – مثلاً – أمة تُؤمَر بالجهاد سواء جهاد الدفع أو جهاد الفتح من غير أن تُوجَد دولة؟ مَن سيُطبِّق النص هذا؟ لابد من دولة، أليس كذلك؟ أمة عندها عقوبات وسياسة جنائية، أليس كذلك؟ تشريع جنائي واضح، عندك الحدود وغير الحدود، مَن الذي لابد أن يُطبِّق هذه الأشياء؟ أليست الدولة هي مَن تفعل هذا؟ أليس هذا من أفعالها؟ عندك سياسة اقتصادية، الغنائم والأفياء وتوزيعها ومصاريفها والزكاة وما إلى ذلك، مَن يُطبِّق هذا الشيئ؟ هل يفعل هذا شيوخ المساجد أم الدولة؟ الدولة، اقرأ القرآن نفسه، البنية النظرية للقرآن الكريم تُؤكِّد أن هذا التشريع لا يكتمل إلا في وجود دولة، أليس كذلك؟ كما كان يقول مولانا الشيخ محمد الغزّالي رحمة الله عليه – كان يقول هذا وكان فعلاً يستغرب من هذا الفكر العلماني المفصول – يا ليت العلمانيين العرب يكونوا صرحاء جداً جداً – أنا أُحِب الصراحة – لكي يقولوا نعم نحن ملاحدة، لا نُؤمِن بالقرآن! ونقول هذا كما يُقال على بلاطة، هذا القرآن كتاب مُتخلِّف ورجعي، ومن ثم سيكون لنا حديث آخر معهم، لكن هذا اللعب المُزدوَج والانتقال بين الفيلقين غير مقبول، فيُقال لا، نحن مُسلِمون ونقول الشهادتين وفي نفس الوقت الإسلام ليس دولة وليس له علاقة بكذا وكذا، فالإسلام فقط مُجرَّد طقوس، علمنة الدين! ما هذا؟ هذا لعب، الذي أمر بالصيام وأمر بالصلاة هو الذي أمر بالزكاة، وهي أكثر من عبادة، يُوجَد جُزء كبير منها اجتماعي، أليس كذلك؟ والأئمة الثلاثة فهموا – الأئمة الثلاثة، باستثناء الحنفية – أن الجانب الاجتماعي فيها أكثر من الجانب العبادي، أليس كذلك؟ وعاملوها على هذا الأساس، أي الأئمة الثلاثة! أبو حنيفة قال لا، العبادة تطغى فيها على الجانب الاجتماعي، على  كل حال هم يفهمون هذا، لكن لا يزال يُوجَد ما هو أكثر من هذا.

الذي أمر بهذه الألوان والصنوف من العبادة هو الذي أمر بالجهاد، وهذه وظيفة الدولة، أليس كذلك؟ دور دولة وليس دور أفراد، والذي أمر بهذه الأشياء أيضاً هو الذي أمر بالحدود، السياسة الجنائية! وهذه وظيفة الدولة، فإذا قلت إن الرب يأمر ونحن نُطيع فلابد أن تُطيع الله في الصلاة كما تُطيعه في الجهاد كما تُطيعه في الحدود، أليس كذلك؟ ولا تستطيع أن تُطيعه إلا إذا أقمت دولة، من هنا ضرورة الدولة، مُستحيل! ولذلك كل الفرق الإسلامية تُدرِك هذا، وبالمُناسَبة الفكر الإسلامي – أنت تقول إنه تكلس وما إلى ذلك – غزير جداً جداً جداً، أغزر مما يظن هؤلاء العلمانيون، وأنا قلت لك أمس – وهذا فقط للتذكير – نصر أبو زيد حمل راية في هذا الكلام الآن وتسبَّب في دوشة في العالم كله، وحكيت لك أمس أن هذا الرجل سوَّد صفحات كبيرة في كتابه الإمام الشافعي وتأسيس الإيديولوجية الوسطية وظل يُحطِّم في رأس الشافعي، صحفات وهو يُؤكِّد أن الشافعي كان مُتمالئاً مع بني أُمية، كان خاضعاً للحُكم الأموي، وكان تحت القهر الأموي، ما شاء الله! وأنا قلت لك ببساطة لو نصر حامد أبو زيد – هذا المُتعالِم الكبير والعلّامة – قرأ التاريخ بطريقة سريعة – من سنة كذا إلى كذا عاش الرسول، من سنة كذا إلى كذا عاش بنو أُمية، من سنة كذا إلى كذا عاش بنو العباس – لما وقع في هذا الخطأ الفاضح، لأن الشافعي وُلِد في سنة مائة وخمسين وتُوفي في سنة مائتي وأربع أو مائتي وخمس، وبنو أُمية انتهوا في سنة مائة وثنتين وثلاثين، ما هذا الهبل يا أخي؟ ويُكلِّمك عن الإسلام وما إلى ذلك، ويأتون به فيتكلَّم عن تجديد الفكر الإسلامي ودوائر الخوف، وعنده كتاب اسمه التفكير في زمن التكفير فضلاً عن عدة كُتب أُخرى يدّعي من خلالها أشياء، فالفكر الإسلامي أكثر ثراءً وأكثر غزارةً مما يظن هؤلاء، هل تعرف لماذا؟ (ملحوظة) رغب الأستاذ عمر في المُداخَلة فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم دعني أُكمِل، وحتى هذه المقولة سنأتي إليها حقيقة! حتى لا نُردِّد أي كلام هكذا، أنت لو قرآت كُتب المِلل والنِحل أو كُتب الفرق كما يُسمونها – الفَرْق بين الفِرَق، مقالات الإسلاميين واختلاف المُصلين، الفصل في المِلل والأهواء والنِحل، المِلل والنِحل للشهرستاني، وإلى آخره – سوف ترى مدى الاندياح في دائرة الخلاف في العقل الإسلامي، والله بشكل غير مسبوق، شيئ لا تتخيَّله يا رجل، في كل مسألة عندك مئات الآراء، في كل مسألة! حتى في مسائل العقائد، أعني فروع العقائد طبعاً، مئات الآراء، هذا قال كذا وهذا قال كذا وهذا قال كذا، لأن كان عندهم نشاط غير طبيعي!

مقولة باب الاجتهاد أُقفِل – دعونا نكون صرحاء – لو قرأناها – وهذا تخصصنا، الفقه والتاريخ والأصول وما إلى ذلك – سوف نجد أنها مُجرَّد مقولة بصراحة حُمِّلت أكثر مما تحمل، لأن الاجتهاد كان ولا يزال، هو مُستمِر! وذلك بالمعنى الأصولي للاجتهاد، مثلاً متى قيلت المقولة هذه؟ في القرن الرابع الهجري، أليس كذلك؟ وفي ظروف تاريخية مُعيَّنة قيلت، وقالها بعض الفقهاء! مَن الذي يُملِك أن يُغلِق باب عقله؟ أنا، دعني أقول لك هذا ودعنا نكون موضوعيين، الذي يحصل دائماً أنك تقراً مثلاً: ابن دقيق العيد المُتوفى في سنة سبعمائة وثنتين للهجرة، هذا الرجل بلغ درجة الاجتهاد في المذهبين، فهو كان مُجتهِداً! وبعضهم يقول كان مُجتهِداً مُطلَقاً، أي مثل الشافعي، كان يقدر أن يُؤصِّل الأصول ويُفرِّع عليها، ليس عنده مُشكِلة! التقي السُبكي – التقي الكبير، ابن عبد الكافي – يقولون كان مُجتهِداً، وبعضهم يقول بلغ الاجتهاد المُطلَق المُنضوي، وهكذا! علماً بأن الإمام الشوكاني عنده كتاب في مُجلَّدين، أي أربعة أجزاء كبار، اسمه البدر الطالع بمحاسن مَن بعد القرن السابع، أي الذين عاشوا بعد القرن السابع إلى عصر وهو القرن الثالث عشر الهجري، ما هذا البدر الطالع؟ كتاب تراجم وطبقات، في ماذا؟ في طبقات المُجتهِدين، فقط يتكلَّم عن المُجتهِدين، الذين اجتهدوا في العلوم المُختلِفة، الأمة مليئة بالاجتهاد، مليئة فعلاً!

ما أُريد أن أقوله الآن – مسألة ثانية – هو أمر مُهِم جداً، انتبه! حتى لا يُقال الإسلام عبر ألف وثلاثمائة سنة لم يُقدِّم شيئاً، انتبه! هل في تاريخنا الإسلامي بشكل عام عُرِف دورات مُتواصِلة – مثلاً – أو حتى مُطرِدة من الجماعات؟ هل كان يموت الملايين منا؟ بالعكس! الأمة بشكل عام لم يكن عندها هذا المأزق، كانت تعيش وتأكل وتشرب، كانت في حالة من الترف، أي هذا كان موجوداً، كان موجوداً دائماً! سُبحان الله، رُغم أنها لم تدخل المرحلة الرأسمالية ولم تنهب الشعوب الأُخرى، أليس كذلك؟ ولم تظلم الآخرين، الناس كانوا يعيشون، أليس كذلك؟ حجم حتى الحريات – أنا أقول لك بصراحة – لا يُقارَن بحجم الحريات الموجودة الآن في الدولة القومية القطرية العربية هذه أبداً، كانت الحريات أكثر بكثير، أكثر بكثير مما هو موجود الآن، أليس كذلك؟ لماذا إذن؟ ليس لأن فلاناً أو علاناً كان أحسن من فلان أو علان اليوم، لا! ليس بسبب هذا، وإنما بسبب طبيعة تغول الدولة، وهذه النُقطة مُهِمة، لكننا لن نُناقِش كل المقولات التي ذكرتها، (ملحوظة) رغب الأستاذ عمر في المُداخَلة فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أنا سأُجيبك، هل تعرف لماذا؟ أنا سأقول لك لماذا، أنت قلت عدة مقولات وعدة أشياء، وأنا فقط أُحِب أن أقول لك كلمة واحدة يا أخي الكريم، لا تُحاوِل أن تُسقِط الآن بعض الأوضاع المُعاصِرة والوقائع الراهنة على التاريخ الإسلامي، فهي تختلف! وقائع التاريخ الماضية تختلف عن الوقائع الراهنة الآن، تختلف بالكامل! ولذلك من الغلط أن نضعها كلها في سلة واحدة ثم نُحاوِل أن نُفهِم أنفسنا أن التاريخ الإسلامي يعيش مأزق من ألف وثلاثمائة سنة بالكامل، أنا أقول لك لا، المأزق الوحيد كان مأزق فقط تداول السُلطة، والآن أنا أتحدَّث عنه، أليس كذلك؟ فيما عدا ذلك – وقلنا هذا اليوم – الأمة بشكل عام عفية قوية وُمنتِجة حتى حضارياً، الأمة دائماً كان عندها إنتاج، كان عندها عطاء، وكان عندها عمل! لم تتكلس الأمة، لا يُمكِن أن تقول إنها تكلست، غير مُمكِن! انظر حتى إلى حجم الإنتاج العلمي – ليس العلمي بالمعنى الإمبريقي طبعاً، لا! أتحدَّث عن العلم بشكل عام، العلم الذي يتعلَّق بالتأليف والعلماء والموسوعات والكُتب وما إلى ذلك – في القرن العاشر الهجري، شيئ مهول جداً جداً، غير طبيعي! أي وُجِد العلم ووُجِدَت الثقافة عند الشعوب وما إلى ذلك، وكانت هناك أمة مُعافاة وقوية، تصدت حتى للمُستعمِر، وتستطيع أن تتكامل داخلياً مع بعضها وتمنع التظالم والاحتراب الداخلي، الحمد لله كانت موجودة هذه الأمة، وهي مُتمسِّكة بمنهاجها وبدينها، هذا موجود! فكون الآن تغول الدولة حدث في العصر الحديث هذا غير مسؤول عنه الإسلام، وأنا ذكرت هذا اليوم، أول نُقطة في مُحاضَرة اليوم ذكرتها كانت عن تغول الدولة، هذه ظاهرة مُعولَمة اليوم، يُعاني منها الغرب والشرق على سواء، العالم كله يُعاني منها الآن! هناك مُفكِّرون الآن فقط يكتبون عن مأزق الدولة الحديثة وكيف يُمكِن الخروج من هذا المأزق، لأن هذا مأزق المُجتمَع كله، فهذا ليس مسؤولاً عنه الإسلام.

ولذلك حتى الفكر الإسلامي إلى الآن لا يستطيع أن يُقدِّم – مثلاً – طروحة واضحة في هذا الصدد، فهو معذور لأن الآخرين حتى هم الذين كانوا مسؤولين عن بروز هذه الظاهرة، الدولة الإسلامية من بني أُمية إلى بني عثمان لم تكن دولة مُتغوِّلة، أليس كذلك؟ متى تغوَّلت بصراحة؟ حين سقطت الخلافة وجاءتنا الدولة القطرية الحديثة هذه والعياذ بالله، هذه من أسوأ ما يكون! خنقت المُجتمَع بالكامل هذه، احتكرت كل شيئ، وابتلعت المُجتمَع! أين المُجتمَع المدني العربي؟ لا يكاد يكون موجوداً، والموجود منه شاهد زور كما قال بعض المُفكِّرين الإسلاميين، والله! الموجود منه شاهد زور للأسف الشديد، أي من هذا المُجتمَع المدني البسيط، فهذا الإسلام غير مسؤول عنه، السبب هو التجربة الحداثية الغربية حين استُنسِخت بغباء للأسف منا، أعني من العلمانيين العرب وغير العلمانيين العرب، هي المسؤولة عن هذا المأزق الحقيقي، الآن مأزق الدولة الإسلامي التاريخي وهو تداول السُلطة هل يُوجَد حل له في الإسلام؟ طبعاً يُوجَد حل، وهو بسيط جداً وواضح، لا يحتاج إلى كل هذه العبقرية بصراحة، الحل موجود عندنا وهو واضح تماماً، وقد طُبِّق في الخلافة الراشدة، التداول الإسلامي على السُلطة كان واضحاً، كان واضحاً جداً! ليس عنده أي مُشكِلة، هناك بعض المآخذ عليه، وبالأحرى لن نقول هناك بعض المآخذ، سنقول هناك بعض التنقيدات، الخليفة – مثلاً – يُعطى الخلافة مدى العمر، أنا شخصياً – مثلاً – الآن لست مع هذه المقولة أبداً، لا أُؤيِّدها! وأنا أقول المأزق الحقيقي الذي بدأ مع سيدنا عثمان بن عفان – عليه الرضوان والرحمة – كان يُمكِن ألا يقع، لو طوَّر المُسلِمون – وأنا مُتأكِّد لو عمر كان حياً لطوَّر هذا الشيئ بذكائه، هذا مُمكِن لأنه قابل لهذا الشيئ بعبقريته الإدارية فعلاً – قبل عثمان آلية مُعيَّنة في التداول السلمي على السُلطة – بحيث يبقى الخليفة مثلاً لعشر سنوات أو لأي فترة مُعيَّنة، المُهِم أن يُوجَد أي معيار مُعيَّن – لما حصل لعثمان ما حصل، فالذي حصل لعثمان بصراحة هو شارك فيه أيضاً لكي أكون واضحاً معكم، أنا علمي أيضاً! كيف هذا؟ طبعاً بعض الناس يقول كيف تقول هذا؟ ويُعامِل سيدنا عثمان كأنه معصوم، لكنه ليس معصوماً، عثمان على عيني ورأسي، الأرض التي مشى عليها أشرف مني والله، لكن هو بشر يُخطئ ويُصيب، وعمر بشر يُخطئ ويُصيب، عمر هناك أشياء فعلها وقال لو استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كذا وكذا، في عدة أشياء في السياسة والحُكم، قال أنا الآن غيَّرت رأيي، قال غيَّرته! لا تُوجَد مُشكِلة، فسيدنا عثمان قال لا أخلع قميصاً قمصنيه الله تبارك وتعالى، وهنا تُوجَد مُشكِلة، لماذا؟ لأنه يعرف أنه بُويع بالخلافة بيعة رسمية، وفعلاً كانت بيعة رسمية، لم يكن فيها أي نوع من الدغل أو أي نوع من التزييف، أليس كذلك؟ أو الالتفاف على الجماهير، كانت بيعة رسمية من الناس ذكوراً وإناثاً، وهذه البيعة بالمُناسَبة كسابقة تاريخية تُعتبَر مُشرِّفة جداً، اقرأها ضمن السياق التاريخي وليس ضمن السياق الموجود الآن بعقلية مُنجَزات القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين، لأن في هذا القرن كان الوضع مُختلِفاً، وبالمُناسَبة لما كانت هناك خلافة راشدة كانت هناك شعوب لا تزال تعبد الأباطرة، أليس كذلك؟ إلى عشية الحرب العالمية الأولى! وكانت هناك شعوب شرقية تعبد الأباطرة في اليابان وغير اليابان، أليس كذلك؟ ففي هذه الدولة قبل ألف وأربعمائة سنة كان يُؤخَذ رأي البنات الحوائض في الخدور، يُقال للبنت مع مَن أنتِ؟ أنتِ مع عثمان أم عليّ؟ أنت مع كذا أو كذا؟ انظر إلى هذا! هذه التجربة تُعتبَر سابقة تاريخية مُشرِّفة، فأنا أقول لو وُجِدَت هذه الآلية لما حصل لعثمان ما حصل، لقيل – مثلاً – أنت الآن بُويعت خليفة لكنك ستمكث خمس سنوات أو عشر سنوات ثم تتوكَّل على الله لما وقع هذا النزاع المُسلَّح، فهذا مُمكِن في بعض الأشياء التي ربما نتكلَّم عنها، صحيح! لأن التجربة التاريخية غير معصومة أيضاً عندنا، غير معصومة! نستلهمها لكن لا نُقدِّسها، فهذا تداول السُلطة عندنا، ليس عندنا أي مُشكِلة، ومن أول يوم من خلافة الصدّيق طوَّر المُسلِمون نظرية البيعة العامة والبيعة الخاصة، أليس كذلك؟ وأنت تعرف الكلام هذا! (ملحوظة) قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم للأستاذ عمر حين رغب في المُداخَلة أنا أجبتك، لكن دعني أُكمِل، أنت سألت فيما يتعلَّق بمقولة الدولة، وأنا أقول لك هذه المُشكِلة، المأزق التاريخي ما هو؟  دعني أتكلَّم علمياً، المأزق التاريخي للدولة الإسلامية هو تغول الدولة أو التداول السلمي؟ ليس التغول، التغول ظاهرة حديثة، عمرها ثمانون سنة فقط، تغول الدولة القومية هذا ظاهرة عمرها ثمانون سنة فقط ولسنا مسؤولين عنها، المسؤول عنها الفكر الحداثي الغربي، أليس كذلك؟ والآن لابد أن يتعاون الجميع لكي يُبلوِر حلاً بإزاء تغول هذه الدولة الحديثة المركزية، لا تقل لي هذا المأزق الإسلامي من ألف وثلاثمائة سنة، مأزقنا التاريخي فعلاً في الدولة هو التداول السلمي فعلاً، يأتي رجل ثم يأتي ابنه ثم يأتي ابن ابنه، وهكذا! والأمة ليس لها علاقة، صحيح هذا مأزق، لكن هل طوَّر المُسلِمون نظرياً وعملياً صيغة؟ نعم طوَّروها وطُبِّقت أيام الخلافة يا رجل ونجحت، وأنت إلى الآن لن تجد أحسن منها وفقاً للخطوط العامة، أليس كذلك؟ الآن ماذا تفعل الديمقراطية الغربية وهي زائفة؟ وأنا – إن شاء الله – أُعِد الآن مُحاضَرة مُطوَّلة جداً في نقد الديمقراطية الغربية وخاصة الأمريكية، هل تعرف ما هي الديمقراطية الأمريكية في النهاية؟ ديمقراطية ثلاثة عشر في المائة، ثلاثة عشر في المائة فقط ولك أن تتخيَّل هذا، هذه هي! كلام فارغ يضحكون به على الناس، الأمور غير واضحة.

ما أُريد أن أقوله التجربة الإسلامية طوَّرت هذا نظرياً وعملياً، ولن تجد وفقاً للخطوط العامة نظرية أحسن منها إلى الآن، أُناس يُرشَّحون – أليس كذلك؟ – للرئاسة وبعد ذلك الشعب يُصوِّت، يقول هل يُريد هذا أو يُريد ذاك، أليس كذلك؟ وهذا تقريباً بُلور في أول يوم يا رجل، وأين العبقرية؟ بدل أن نظل نلوم على ديننا ونُحقِّر تراثنا ونُحقِّر ديننا، بالعكس! العبقرية تمثَّلت في أمة – كما قلنا أمس – من أُناس كانوا تائهين ورعاة ولا يفهمون شيئاً في الدنيا يا رجل، فقط في ثلاث وعشرين سنة مع نبيهم فعلوا كل هذا، يموت اليوم النبي وغداً يُطوِّرون هذه النظرية، كيف هذا؟ كيف تم هذا؟ ولم يكن لهم أي علاقة لا بالفكر اليوناني – لم يكونوا ترجموه حينها – ولا بالتجربة الرومانية، أليس كذلك؟ لم يكن عندهم أي علاقة، لأي فقط بإيحاء تراث النبوة والكتاب العزيز، يا رجل هذه عملقة، المفروض أن ترفع الرأس، لكن بعد ذلك كيف خانت الأمة فعلاً هذا التراث وتقاعست عن حمايته وسكتت فقط في موضوع تداول السُلطة بالذات؟ هنا الخطأ التاريخي الذي حصل، فالمسألة ليست بهذا الاستعصاء، أنا أقول لك ليست بهذا الاستعصاء! لكن حصلت أيضاً أشياء أُخرى، ودائماً نحن نتصدى لها في المُحاضَرات والخُطب، مثل ماذا أيضاً؟ تحالف العلم مع السياسة، وهذا كان شيئاً حقيراً وسيئاً في تاريخنا، أليس كذلك؟ جُزء من العلماء ومن الطرح العلمي برَّر هذا الوضع وبرَّر حُكم الغلب، أليس كذلك؟ وحُكم القهر! وأيضاً لم يُحاوِل هذا الفكر الفقهي الإسلامي في مُعظَمه أو في جُزء منه على الأقل أن يُطوِّر آلية للمُمانَعة لهذا الظلم والاستيلاب والتغلب على الأمة، لم يُطوِّر هذا، بالعكس! طوَّرت آليات للتبرير والتسويغ، أليس كذلك؟ هذا الخطير، وهذا نحن ضده ولابد أن نكشفه مهما أزعج الفقهاء والمشايخ وإخواننا الإسلاميين، مهما أزعجهم لابد أن نُبديء فيه ونُعيد.

فالمسألة ليست بالاستعصاء الذي تتصوَّره – أنا أقول لك – أبداً، فهو قابل للحل، وأيضاً لا تنس – دعنا نختم بالكلمة هذه – أن المشروع الإسلامي الآن حقيقةً أيضاً كما تفضَّلت ليس في فراغ، أليس كذلك؟ ولا نقدر أن نتعامل معه بطريقة آلية أيضاً وميكانيكية، لابد أن نفعل هذا بطريقة جدلية اعتمادية، العالم كله معني بنا، أليس كذلك؟ عالم المُستكبِرين! والعالم كله أيضاً، وانظر إلى التجربة الجزائرية، بغض النظر عن العقابيل التي أتت بعد ذلك والآثار، هناك أُناس فازوا بنسبة ساحقة، لكن الغرب تدخَّل تدخّلاً سافراً وقال لا، أليس كذلك؟ هذا ممنوع، علماً بأن الليبرالية الغربية الآن بدأت تقول بالحرف الواحد إذا تطبيق الديمقراطية سيُؤدي إلى تجذر وتحكم الأصولية فلا كانت الديمقراطية، بدأوا يقولون هذا بالفم الملآن، هذا يعني أنها ديمقراطية لهم فقط، ليست لنا! ولذلك أنا أُبشِّر إخواننا من الحداثيين العرب بصراحة – هم يخدعوننا، والله يخدعوننا – وأقول لهم إذا كنتم تظنون أن الحداثة الغربية معرض ومسموح لكم – ما شاء الله – أن تستعيروا وأن تأخذوا منه ما شئتم وأن تُطبِّقوا على بركة الله فأنتم واهمون، والله العظيم! ولن يُسمَح لنا أصلاً بهذا، ولذلك لابد أن نُطوِّر آليات ذاتية تنبع من ضمير الأمة ومن هويتها ومن تراثها، وهذا سيُدخِلنا في صراع حقيقي مع المُستكبِرين في العالم، صراع حقيقي! وسوف ندفع الثمن باهظاً، لكن لابد من هذا، أما أن نستعير آلياتهم وما راقنا منهم ونحسب أنهم يُبارِكون ذلك فهذا غير صحيح، هم لا يُبارِكونه، بالعكس! وأنت ترى كيف هو مسعى أمريكا، أمريكا طيلة حياتها دائماً تشد على أيدي الجبابرة والديكتاتورين وظلمة الشعوب خاصة في بلادنا، هذه هي! هذه القضية، فالقضية أوسع من أن تُبتسَر وتُختزَل في مجموع مقولات، كأن يُقال كذا أو كذا أو كذا كما يفعل أيضاً بعض هؤلاء، ولنا عودة – إن شاء الله – في المُحاضَرة المُقبِلة حين نتحدَّث عن التجربة الإسلامية بالذات بتوسع إن شاء الله، والسلام عليكم ورحمة الله.

23/08/2003

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: