البدري محمد
البدري محمد

مثلي مثل كثيرٍ من الشباب المسلم المتحمس و الحالم بقيام حتمي لدولة إسلامية تكون فيها الأحكام و القوانين سارية على منهاج القراَن و السنة النبوية, بات عقلي منشغلاً أكثر فأكثر بتحقيق هذا الوعدِ الجلل الذي بُشّرنا به منذ أكثر من أربعة عشر قرن. وأصبحت كلُّ اهتماماتي منصبّة على الدور الذي يلزمني القيام به كي تكون لي بصمةٌ و لو رمزية في هذا الحدث الكوني الذي بات حدوثة وشيكاً. أُحدِّثُ نفسي مراراً: لِتُحقق مبتغاك هذا, عليكَ ألاَّ تغتَرَّ بفتنِ الدّنيا و هوى أهلها, و ألا تَستمعْ لغير كلام الشيوخِ و الدعاة من أهل الدين.. كنتُ أواظب على الصلوات في المساجد بشكلٍ اَلي, أستمع باستمرار للمواعظ و الخطب و كلّي خشوع و خشية و ورع, أبكي ما إن صرخ أحدهم بمظلومية المسلمين و بعدوانية الغرب الكافر و في داخلي تتكَدّسُ حفنةُ من الأحقاد لن يخمد لهيبها و لن يرف لي جفن حتى أنتقم من هؤلاء الدنسة و أردُّ بذلك الاعتبار لدين الله و لدعوة رسوله.

في لحظة من اللحظات أحسست بأن أفكاري أصبحت مجرد نسخٍ مشوهة لأفكارهم و قناعاتي استحالت إلى غبارٍ تذروه الرياح من منبر شيخ إلى كرسي شيخ اَخر, هكذا تبخّرتْ ذاتي و لم تَعُد لها أية استقلالية تُذكر. يربّتون على كتفي ما إن يرونني جالساً بقربهم أومئ برأسي موافقا على كلّ ما يقولونه, تعودتُّ على ألا أتجرأ على طرح أي نوع من الأسئلة أو أن أعترض على تناقض لمسته فيما يتحدثون به للناس. في حضرتهم باستطاعتك تشغيلكل شيء, من فتح الاَذن للإصغاء إلى التلويح بالأيدي. باستثناء شيء واحدٍ, ألا و هوالعقل الذي يظل استعماله محظورا و يبقى محتفظا به في سجن الخداع و الغفلة إلى أجل غير مسمى.. و- يُربطُ كالحمار خارج منزل الشرع و لا يُسمحُ له الولوج إليه مطلقاً- كما سمعت من أحدهم ذات مرة يقول.

و مع اندلاع أولى الثورات العربية, بدأ الذي كان بالأمس حلما, تتضح شيئا فشيئا معالم تحقيقه على أرض الواقع. و أصبح لزاماً عليّ فرض ذاتي الوهمية بشكل من الأشكال و ايجاد مدخل لولوج أحد الجماعات الإسلامية. فكنتُ أتابع أولا بأوّل الأحداث الجارية بعدساتهم هم و أحللها بمنطقهم هم, منتظراً التقاط أية إشارة من أحدهم تساعدني على المضي قدماً فيما أصبو إليه. هكذا حتى جاءت الثورة السورية, و كنتُ حينئذ ما زلتُ متشبعاً بفكرهم و رافضاً لكلِّ فكرةٍ لا تنسجم و منطق -المشايخ الأجلاّء-. كَثُرَت مشاهد إسالة الدماء في سوريا, تعرضت الأسر للتهجير و التقتيل حيث لجأت العديد منها لدول مجاورة هرباً من شبح الموت. هنا جنَّ جنونهم فأخرجوا أفتك أسلحتهم و بدؤوا بإصدار الفتاوى الجاهزة بدعوة الشباب الغيور على دينه بالخروج للجهاد في سبيل الله لحقن الدماء المهدورة.. و أتسائل : كيف لدماءٍ مهدورة أن تُحقن بجهاد لن يكون في الأخير إلا دموياً ؟ طبعاً لم أطرح هذا السؤال وقتئذ. بل على العكس تماما, سلّمت لدعواتهم تسليما أعمى و عقدت العزم على نصر – إخواننا السنة المستضعفين الذين يتلقون شتى أنواع الإضطهاد من قبل الشيعة العلويين عليهم لعنات الله وغضبه -.

في خضم هذه الفوضى من الهواجس التي تنطُّ في داخلي كقطط بريّة, و بقدرةِ قادرٍ وقعت الواقعة التي لم تكن في حسبان أحد. فبينما كنّا جلوسا نخطّطُ و نتحدث عن كيفية اللحاق بركب المجاهدين, و قد كنتُ أصغرهم سنّا. اتفقنا في الأخير أن يسبق أحد – الإخوان- أولاً و من ثم يتبعه اللاحقون منّا ما إن نجحت محاولته. لما فرغنا من الحديث, قام أحدهم و كان شابا في الثلاثين من عمره و همّ بالقول : – و الله لن نهدأ و لن يرتاح لنا بال حتى نطهر الأمة من أعدائها و خونتها الذين يريدون تحريف دين الله و سنة نبيه-.. سألتهُ : تقصد اليهود و النصارى ؟ أجاب : أقصد أعداء الداخل من الشيعة الأنجاس و من ثم سنفرغ لأحفاد القردة و الخنازير.. نبرته صراخه المزعج لم أستسغها قطّ هذه المرّة و كأن صوتا في داخلي يقول: إنكَ تغرق إنكَ تغرق.. تركتُ المجلس غاضباً على غير عادتي و بطريقة لم يعهدونها منّي ممّا أثار حفيظتهم. لحقوا بي يترجّونني كي أفهمهم سبب تقلب مزاجي المفاجئ هذا, لكنني رفضت بالرغم من الحاحهم الشديد.

عُدتُ أدراجي, وقعت طريح الفراش لأكثر من ثلاثة أيام أقضي الليل بين كوابيسي و أحيا نهاري أفكّر في اللاشيء. بعد أن تحسّنت ظروفي الصحية بعض الشيء, زارني أحد أصدقائي بعد أن عَلِمَ بتواجدي في المدينة التي حطّ بها يومها ضيفاً. تجاذبنا أطراف الحديث و تناولنا عدة موضوعات, و سألني ما إذا كنت قد سمعت بشخص يُدعى – عدنان إبراهيم -.. أوقفته قبل أن ينتهي من نطق إسمه و طالبته بالكفّ عن الحديث عن ذاك الزنديق عليه من الله ما يستحق.. تسمّر وجه صاحبي, و استغرب من هيجاني إثر سماعي لاسمه. و استطردتُّ قائلا : لا يخفى على أحدٍ بأن هذا الضال عميل دسيس توظفه أيادي الغرب الصليبي و إيران المجوسية ليقضي على الإسلام من داخله.. سألني : هل استمعت إليه ؟ قلت : و ما الحاجة لذلك ما دام يسب الصحابة و يضرب في نصوص السنة الصحيحة.. أرجوك لا أريد الحديث أكثر عن كفريات هذا الرويبضة. انتهى حديثنا هنا.

بعد مرور أكثر من شهر على هذا الحوار, و أنا أتصفّح موقع اليوتيوب.. عثرتُ بالصدفة على مقطعٍ تحت عنوان ” عاقبة تعطيل العقل “. بعد أن تردّدتُ كثيراً قبل أن أنقر عليه, في الأخير قرّرت أن أدخل لأشاهده. شاهدته و عاودت مشاهدته أكثر من عشر مرات. كان المقطع قصيرا حيث يتكون من خمس دقائق فقط, لكنها غيرت فيّ كل شيء, شَيَّدَتْ بين ماضي و مستقبلي برزخا لا يبغيان. و كأني وجدت كنزا لم يكتشفه أحدا سواي. و منذ ذلك الحين, بدأت أرى الحياة بعدستي أنا و أحلّل الأشياء بمنطقي أنا و الأهم من ذلك أنني استرددت ذاتي و تصالحتُ معها و أصبحتُ متلهفا لمعرفة المزيد و المزيد كالأم التي التقت فلذة كبدها بعد أن يئست من رؤيته مجدّداً, كُلّها شغفٌ و حيوية لتعرف عنه كلّ صغيرة ز كبيرة عساها تعوّضُ الفراغ الذي سببه غيابه عنها.

لم أكنُ مهتما لا بالمعرفة و لا بالثقافة الفكرية, بل كنتُ أكره الكتب و قارئيها, لكن بعد أن عرفت الدكتور عدنان, أصبحت لا أملُّ أبداً من البحث و القراءة و التأمل. صارت حياتي تلفُّها المعاني الجملية و القيم النبيلة و أصبحتُ أنظر إلى الاَخر بعين الرحمة و التسامح و العفو و لا أكنّ له أي حقدٍ أو ضغينة.

مع الدكتور عدنان, عرفت الحب و تجلياته, أدركت أسرار الجمال و مكنوناته. تحوّلت من مجرد عبدٍ مطيع مسلوب الإرادة إلى إنسانٍ عاقلٍ و مسؤول يحملُ أهدافا جليلة في الحياة, له مهمة إنسانية في هذا العالم عليه القيام بها على أحسن وجه.

شكراً للدكتور عدنان لأنه حرّرني من سجنٍ أسواره عالية عرضها متين و حرّاسُهُ على الأبواب يسنّون السكين, لأنه أحيا ميتاً دفنَ نفسَه بنفسه, لأنه أيقظ جثةً من سباتٍ ما كانت لتستيقظ منه لولاه, شكراً لأنه أحيا فيّ الإنسان الذي لم أكن أدركُ أنه منطوٍ بداخلي ينتظر و يمنّي النفس بأن يأتيه الفرج يوماً ما.

و بهذا, فقد توحلتُ من حالمٍ بالحور العين إلى فاهم للُبّ الدين, من متعطش لدماء اليهود و النصارى إلى داعٍ للتسامح و بناء أواصر التواصل و تعزيزها داخل كل حضارة, من كارهٍ للشيعة الأنجاس إلى محب لهم و لكافة المختلفين من الناس, من متدينٍ لا يُحكِم في شيء عَقْلَه إلى مسلمٍ يُعملُ المنطق في كلّ ما جاء به الناس قَبلَه.

لولا الدكتور عدنان, لما لبقي عقلي أسير الجهالة و التكفير و تقديس الخرافة, لظلت أفكاري سجينة الحلم بقصة الخلافة, لكنت مجرماً سلاحُه الكره و التطرف و السخافة, لتأبّدت ذاتي في كهف الظلام و غياهب البؤس و التعاسة.

لولا الدكتور عدنان, لكُنتُ أشلاءً في معركة حربية لا خاسر فيها إلا أنا, لتقاذقت بأحلامي و اَمالي القذائف و الدبابات, لتحطّمت روحي على صخرة العبث و اللامعنى, باختصار لولاه لما كنتُ أنا.

 

بقلم : البدري محمد

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: