نضال قسوم, دكتور جزائري وباحث في فيزياء الفلك، أستاذ جامعي، كاتب، مفكّر،
الدكتور نضال قسوم,  باحث جزائري في فيزياء الفلك، أستاذ جامعي، كاتب ومفكّر.

تابع الجميع اكتشاف موجات الجاذبية الذي أعلن عنه قبل أيام، وتراوحت ردود الفعل من طرف العلماء وعامّة النّاس من “رائع، إنّه اكتشاف القرن” إلى “ما الفائدة من هذا الإكتشاف؟” و”هل يستحقّ كلّ هذا المال والجهد؟”…

قبل أن أتناول هذه التعليقات، التّي تبدو كلّ منها منطقية وتحمل شيئا من الصحة، أحتاج لشرحٍ مختصرٍ للاكتشاف ووضعه في سياقه العلميّ السّليم.

قبل مئة عامٍ بالضبط، نشر ألبرت آينشتاين، العقل الأعظم في القرن العشرين، نظريةً جديدةً حول الجاذبيّة، حيث وصفها كانحناءٍ في الزّمكان، أي الأبعاد الثلاثة المعروفة (الطّول، العرض والارتفاع) بالإضافة إلى البعد الرابع وهو الزّمن. في تصوّر آينشتاين، يسبّب أيّ جسمٍ (الأرض، الشّمس، قمر صناعي، أنت، أنا) بحكم امتلاكه لكتلة، انحناءً في الزّمكان المحيط به، وهكذا ستشعر الأجسام في هذه المنطقة بهذا الانحناء وستنجذب وتتحرّك وفقًا لذلك. ويجب أن ننوّه إلى أنّ هذه النّظرية لا تجعل نظرية نيوتن حول الجاذبية خاطئةً، كما يعتقد ويقول بعض النّاس، ففي الواقع تبقى هذه الأخيرة صالحةً حيثما تكون الجاذبية غير قويّةٍ جدًّا، ولهذا فنحن نستمرّ في تدريسها للطّلبة وتطبيقها في العديد من الحالات في عالمنا.

ثم أوضح أينشتاين أنّه عندما تكون الجاذبية  قويّةً جدًّا، كما يكون الأمر مع جسمين ضخمين وقريبين جدًّا من بعضهما (مثل حالة اقتراب ثقبين أسودين من بعضهما إلى حدّ الاندماج، كما هو الحال في الاكتشاف الأخير)، ستحدث تموّجاتٌ في الزّمكان الواقع بينهما، ثم تنتشر في كلّ الاتّجاهات وفي كلّ مناطق الكون. لكنّ هذه التّموجات صغيرةٌ جدًّا (واحد من مليارٍ المليار من الأمتار) لدرجة أنّ أينشتاين اعتقد باستحالة رصدها.

إذًا، فالاكتشاف الأخير هو بالفعل إنجازٌ علميٌّ وتقنيٌّ مذهل، خصوصًا عند الاطّلاع على مدى تعقيد ودقة التّجربة. بالفعل، لقد حاول العلماء الوصول إلى هذا الإنجاز منذ ما يقارب الخمسين سنة، وقد شارك في الجهد الأخير 1000 شخصٍ من 80 معهدًا و15 بلدًا وبكلفة أكثر من مليار دولار.

هذا إذن ما يفسّر الإثارة الضّخمة التّي تولّدت عن اكتشاف أمواج الجاذبية هذا ووصفه “باكتشاف القرن”، ومن المؤكّد حصوله على جائزة نوبل قريبًا جدًّا.

وشهدت السّنوات القليلة الماضية انجازاتٍ عظيمةٍ فيما نسمّيه عادةً بـ”المشاريع العلميّة الكبرى” أي الأبحاث التّي تتطلّب الآلاف من الأشخاص ومليارات الدولارات وعقودًا من الزمن للقيام بها وإتمامها.  ففي يوليو 2012 اكتشف بوزون “هيغز”، والذي لُقّب بـ”جسيم الإله”، في مسارع “سيرن” CERN الضّخم (ذي محيط دائري قدره 27 كم) والذي كلّف 13 مليار دولار، حيث عمل الآلاف من العلماء والمهندسين بلا كللٍ  لسنوات. وفي مارس 2013، قامت مركبة بلانك الفضائيّة التّابعة لوكالة الفضاء الأوروبية برسم خريطةٍ للكون في مجال الموجات القصيرة، ممّا سمح لنا بتحديد عمر الكون بشكل أدقّ (13.8 مليار سنة) وأخذ لمحةٍ عن التوسّع المبكر للكون وتشكّل البنيات المجرّية. ثم في يوليو 2015، ذهل العالم بالصّور التي أُرسلتها مركبة وكالة ناسا “نيوهورازنز” التي وصلت إلى بلوتو بعد قطعها لمسافة خمسة مليار كم في فترة تسع سنواتٍ ونصف بتكلفة 700 مليون دولار. كل تلك  أمثلةٌ مثاليّةٌ على المشاريع العلميّة الكبرى التي يبدو أنّها ستصبح مهيمنةً في مجالات العلم اليوم.

ولعلّ الناس محقّون عندما يتساءلون: هل تستحقّ هذه الإنجازات العلميّة كلّ  تلك الاستثمارات، من المال، والوقت، والموارد البشرية؟ وللإحابة على هذا  يجب أن ننتبه إلى أنّ عدّة ملياراتٍ من الدولارات قد تعتبر ضخمةً مقارنةً بكلفة حملات التّلقيح أو إيواء الفقراء في إفريقيا وآسيا، لكنّها زهيدةٌ جدًّا بالمقارنة مع ميزانيات أخرى مثل العسكرية، فميزانية الدّفاع للولايات المتّحدة وحدها بلغت 600 مليار دولار في 2015.

بدلًا من ذلك، فالسّؤال الأكثر أهميّة هو: هل هذه النّتائج العلميّة هي انجازاتٌ حقيقيّةٌ أم أنها مجرّد إضافاتٍ صغيرةٍ غامضةٍ إلى الطيّف الضّخم من المعرفة العلميّة؟ في الحقيقة، الإجابة هنا ليست جازمة. من المهم للعلم فعلًا التحقّق من نظرياته وتنبّؤاته على أكمل وجهٍ ممكن، وفي بعض الحالات لا يمكن أن ينجز هذا الأمر إلا بواسطة “المشاريع العلميّة الكبرى”، التي بدونها ستبقّى بعض أهمّ النظريّات الأساسيّة للعلم موضع تساؤلات وشكوك. لكن هل تستحق كل هذه المليارات من الدولارات التي يمكن إنفاقها في أبحاثٍ علميّةٍ أخرى؟  هذا سؤال موجّهٌ للمجتمع (العلماء، صنّاع القرار، الإعلاميين) للنّقاش.

بالفعل، ينبغي طرح السؤال: ما هو حجم المال الذي يجب تخصيصه للعلم مقارنةً بالنّفقات الاجتماعيّة الأخرى؟ ثم ما حجم الميزانية العلميّة التي يجب أن تذهب “للعلوم التطبيقية”، وما المقدار الذي يجب أن يذهب إلى “العلوم الأساسية”؟ وكم من هذا الأخير يجب أن يخصّص للمشاريع العلميّة الكبرى؟ إنّ كل تلك التساؤلات تحتاج للمناقشة بشكلٍ منفتحٍ وعقلانيّ.

لقد وصل العلم إلى نقطةٍ أصبح فيه طيف مواضيعه ضخمًا ومسارات البحث فيه متعدّدة ومتنوّعة بشكلٍ مذهل. علاوة على ذلك، فإن الكثير من أسئلة العلم لا يمكن الإجابة عليها إلاّ من خلال المشاريع الكبرى فقط. فاليوم، نحن بحاجة  لكلّ الحكماء في المجتمع من الرّجال والنّساء للمساعدة في توجيهنا لتلمّس طريقنا عبر هذه المسارات المتشابكة.

ترجمة أ. جهاد حسام الدين صوالح ومراجعة أ. بسمة ذياب لمقال نضال قسوم الصادر بجريدة غولف-نيوز

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقان 2

اترك رد

  • السلام عليكم، أشكرك أخي جزيلا على فتح مثل هذه النوافذ العلمية التي نحتاجها كثيرا للخروج إلى آفاق أرحب من العلم والمعرفة مواكبة للتسارع الشديد في الآبحاث والتقنيات في العالم المعاصر. على كل حال، وعدت في أول المقالة أن تسرد تفصيلا لهذا البحث الجديد بشكل مبسط يمكن استيعابه من عموم القراء، ولكن انقطع المقال دون ذلك. في العموم، ما يحدث في عالم اليوم هو طفرات علمية مادية مهولة بالتأكيد؛ ولكن أرى أن هذا ليس كل شيء، فكل ما نراه مجرد أبحاث واكتشافات مادية في الآفاق والأنفس، وأرى أن أهم من ذلك إعادة اكتشاف وصياغة وتحديث ما يزخر به ثراتنا العربي من العلوم الروحية والنفسية والإنسانية كما عند الفلاسفة العظماء كالغزالي في كتاب الأحياء وغيره، لأن هذا هو الشطر المفقود من العلوم المتسارعة ولا يحتاج لكل تلك المليارات وكل ما يتطلبه رؤية علمية حديثة ومزاوجة تطبيقية للعلوم المتجددة من فيزياء الكم وبحوث الروحانيات، وأرى أن هذا دورنا لنظهر هذه النفائس وتعديل الكفة العرجاء للعلوم المعاصرة التي تهتم بعلوم المادة في الغالب، وسيكون ذلك من أكبر الفتوح التي سنرتقي بها ونقفز نحو المستقبل أسوة بالآخرين؛ والله أعلم.

    • لا فض فوك. بحق إنّ رصيدنا يزخر بما لذ وطاب. وربما الحال ذاتها مع أرصدة الأمم الأخرى. ربما نستطيع أن نقول عموما إنّ الأرصدة السابقة حبلى بالمفاجآت في ظل التطورات الهائلة حاليا … إذ إنّ القرون الأسبق خير من القرون الأقل سبقا منها حسب حديث : خير القرون قرني ثم الذي يليه وهكذا، أو كما قال عليه الصلاة والسلام. بظني أنّه كلما تعاظمت الاكتشافات، كلما تحسـّـنت جودة مجهرنا الذي نفحص به ما سبق من معارف وصولا إلى كتاب الله محيط المعرفة الهادر مما يمكــّــننا من سبر أغوار أعمق ونيل كنوز ولآلئ أكثر.

%d مدونون معجبون بهذه: