استمتعت بحق بمتابعة ثلاثين حلقة حتى الآن عن نظرية التطور أعدّها الدكتور عدنان إبراهيم تأييدا لها تمهيدا لنقدها مشكورا.

هدفي في هذه التدوينة التي أطمح أن أصيب بها هدفا من أهداف الحقيقة هو أن أبث ما خاطرني حول النظرية وحول كونها أداة فاعلة جدا – حسب الـ د.عدنان – في أيدي الملاحدة مستبقا بذلك سلسلته التي يعد لها لنقد النظرية – لا أقول لهدمها حسب ظني – بل لنقدها … أي – حسب الدكتور إن أصبت فهمه – لنقد كون النظرية تهدم الإيمان إن كان الإيمان يـَـنـْـبـَـني على فكرة إله يخلق خلقا مستقلا وبتصميم ذكي كونه إلها طبعا – سبحانه تقدست أسماؤه

ّمرة أخرى … أؤكد على أن ما فهمته من كلام الدكتور عدنان هو أن النظرية تنقض فكرة الخلق المستقل والمصمم مـُـسبقا بذكاء … فإن كان الإيمان مبنيا على تلك الفكرة وكانت النظرية تنقض هذه الفكرة فهي تنقض الإيمان … فالنظرية بهذا تشكّل معولا لهدم الإيمان

النظرية باختصار – حسب ظني القاصر – تفترض أن جميع الكائنات الحية على اختلاف أنواعها قد انبثقت تدرّجيّا عبر ملايين السنين – التى راكمت التغيّرات حسب سيرالطبيعة – من أصل واحد – على تحفظ حول الأصل وعدده .. وإلى حد ما حول قدمه

فمثلا … تدرجت القطّة عبر ملايين السنين الماضية من سمكة فبرمائية فزاحفة فثديــيــّــة نمرية أو أسدية فقطة فـ … فـ … فـ … عبر ملايين السنين القادمة. طبعا هذا المثال ليس مضروبا من مختص علمي … بل التدوينة كلها كذلك هي ليست بالمختصة ولا هي بالكـَـفـُـؤة الكفاءة العلمية اللائقة … وعليه فقد تكون حتى معطيات المثال غير صحيحة، إذ قد تنحدر القطة في مسارها من سلف انحدرت منه الأسود والنمور … لا أنها انحدرت من أحدها مباشرة … والعكس جائز أيضا بمعنى أن الأسود والنمور مثلا تدرجت في تغيّرها عبر السنين حتى أصبحت قططا … وقد تستمر القطط في التغيّر التدرجي البطيء إن استمرت الدنيا مثلا ملايين السنين لتتحول إلى أنواع جديدة أخرى … أو تعود أسودا أو أشباه أسود مرة أخرى … وهكذا دواليك

لقد نوّه الدكتور إلماحا – خلال السلسلة التي لم يـُـنـْـهـِـها بعد كي يشرع في سلسلتها المضادة – أنه يرى بالفعل أن التطور هو أسلوب الله في الخلق أو على الأقل أنه أسلوب ماثل لا مناص عن تجاهله بسهولة البتة … ولكنه أضاف أن التطور من وجهة نظره هو تطوّر موجّه – أي تطوير بفعل مطور لا تطوّرٌ بفعل متطور يتطور من تلقاء ذاته – بخلاف صاحب النظرية وأنصارهما – أنصار النظرية وصاحبها – الذين يرون أنه تطوّر ذكي – لا تصميم ذكي – يضع قدمه حيث ترفع الطبيعة قدمها خلال مسيرها اللّاذكي الأعمى نحو المستقبل … شيئا فشيئا

أي إن التطور حسب أنصار النظرية يقتفي ويتـتـبّـع بذكاء أثر سير خـُـطـَـى الطبيعة العشوائي الأعمى التخبّطي .. وطالما أن المتبوع يسير على غير هدى فإن مسير التابع هو على غير هدى أيضا – وإن كان يحرص بذكاء على الهداية إلى عدم هداية متبوعه

إذن ألخّص فأقول .. الدكتور يؤيد التطور في قالب ينفي التكوين المستقل المصمم سلفا بذكاء … وهذا القالب هو ذكاء التطور كونه موجّها .. أي أن التطوير يسير حسب خطة  … أي أنه فضلا عن كون التطور ذكيا في تتبع خطى الطبيعة، فالطبيعة أيضا ذكية كونها مسيّرة حسب مسيّرها – سبحانه – نحو وجهة صوب مراده

استباقي للأحداث الآن هو … أن الخلق سابق للتكوين بناء على كلام الدكتور أيضا. فالدكتور يعتقد بأن الخلق هو التصميم أو التقدير المسبق … أي إنّ الخلق هو خطة بـِـنـْـيَة الشيء، وأنّ التكوين هو عملية البناء ذاتها … كأن الخلق هو الوصفة والتكوين هو الإنجاز وفق الوصفة … والآن … إيرادي في الموضوع هو … شبهة أوردها اليهود وردّها الإمام الشعراوي كالآتي

عاب اليهود على المولى – سبحانه – استغراقه زمنا لخلق الكون رغم أن قدرته من شأنها ألّا تستغرق زمانا لـِـعـِـظـَـمِ قدرته … فرد عليهم الإمام الشعراوي بأن المولى لا يمنعه مثلا أن يقول كن …. ثم يأخذ الكون وقته كي يكون … أي أن الخلق لم يتطلب سوى إرادة الخلق، بينما أخذ تكوّن الكون – لاحظ تكوّن على وزن تطوّر – … أخذ هذا التكوّن ما أخذ من زمان

إيراد آخر: أتدارك أولا نقطة أغفلتها وهي أن الأنواع تتمايز – على خلاف في هذا – بكونها لا تتزاوج … وإن تزاوجت فلا يستمر نسلها بالتزواج، وإنما ينقطع … مثال … الأحصنة نوع متمايز عن الحمير … ولكن قد تتزاوج الأحصنة مع الحمير منتجة البغال أو النغال … ولكن هذه النغال/البغال عقيمة لا تستمر في التزاوج مما يمايز الحمير عن الأحصنة

والآن إيرادي هو … الأحمر قطعا هو لون غير الأزرق … ولكن الأزرق تدرّج من الأحمر إلى البرتقالي مرورا بالأصفر فالأخضر وصولا إلى الأزرق في طيف الضوء الأبيض المار بالموشور الزجاجي

إذن … الأزرق ليس إلا أحمر انفصل عنه في الموشور بعد أن كان متصلا به في شعاع الضوء الأبيض قبل الموشور

ولكنه انفصال تدرُج … إذ لم يتحول اللون الأحمر  إلى اللون الأزرق إلا مرورا بكل الألوان بينهما

وهكذا مثلا … لم تنفصل الهرّة عن النمر إلا مرورا بكل الأنواع بينهما تدرّجيـّـا

ربما كان يستطيع النمر مثلا أن يتزاوج مع كائن يليه في تدرجه نحو الهرّة … ولكنه الآن لا يستطيع مباشرة أن يتزاوج مع الهرة

كذلك اللون الأحمر … قد نقول عن البرتقالي أنه أحمر – تجاوزا وحسب تفاوت التدرّج … ولكن قطعا لا نستطيع أن نقول على اللون الأزرق أنه أحمر رغم أنه تدرج عنه على التراخي طبعا … لا على الفور كالبرتقالي في أول طوره المتدرج عن الأحمر

الخلاصة … هل نستطيع أن نقول أن الخلق يضاهي انفجار الشعاع الضوئي … وأن التكوين المتطور المتدرج عبر السنين مهما طالت يضاهي مرور الشعاع عبر الموشور مهما طال؟ وأن هذا التطاول الزماني تطاول نسبي كما أن طول أو حجم الموشور طول أو حجم نسبي قابل للمطّ – مجازا؟

هل نستطيع أن نقول أن عالم الخلق يوازي – مجازا – مجال الشعاع قبل مروره بالموشور؟… وأنّ عالم الأمر يوازي مجال التوان الألوان خلال الموشور إذ إنّ عبارة “كن فيكون” هي فعل الأمر “كن” متعدد على امتداد فعل المضارعة “يكون” … ألا له الخلق والأمر؟…. سبحانه .. والله أعلم وأستغفر الله من جراءتي

أي إنّ نظرية التطور أو التكوّن هي مثال يصوّر عالم الأمر … ومن هنا تبرز شموليّتها العجيبة لعلم الأحياء برمته تقريبا ولعلوم وحقول معرفية أخرى … لأنها تضاهي عالم الأمر برمته … والله أعلم

إذن ما الذي يصور لنا عالم الخلق …. هل هي المـُــثــُــل ؟؟ … الله أعلم … أو هي النوايا كونها مركّزة ثم تتترجم إلى الأعمال التي قطعا هي مقهورة على التقولب بقالب التدرّج التطوري؟ فحركة جذع المصلي في الصلاة مثلا للركوع هي متدرّجة

وهذا قد يتقاطع مباشرة مع تلازم الأعمال بالنوايا في حديث إنما الأعمال بالنيات تلازمَ عالم الأمر ” كن فيكون ” بعالم الخلق

وقد نوفّق بهذه الطريقة بين المثل الأجنبي الشهير

Whenever there is a will, there is a way

وبين حديث إنما الأعمال بالنيات – الشهير جدا أيضا – توفيقا يتماشى مع منظور التنموي بشريا الدكتور صلاح صالح الراشد لقانون الجذب إذ إنّ الأعمال تنجذب لنواياها على حد تعبيره – إن كنتُ دقيقا للفهم

إيرادان أخيران … أولهما … أن عبارة كن فيكون الشهيرة قرآنيا كان يكفي فيها مثلا أن تكون كن فقط – وربما وردت هكذا بالفعل مفردة دون “فيكون” – ولكن ربما تتلازم اللفظتان حتى تتم الصورة … وهي أن الأمر كن يتعدد للمخلوق الواحد، أليس سبحانه هو المبدئ والمعيد ؟… فالإبداء هو بـ “كن” والإعادة هي ماثلة في مضارعة “يكون” التي تجسّد قيومية المخلوقات لا بذاتها بل بقيومية المولى سبحانه لها المتواصلة … والله أعلم

وألـْـفـِـتُ هنا إلى آية برزت فيها عبارة كن فيكون بطريقة خطيــــــــــرة … مؤكدة مفهومي الذي – من منظوري ورأيي القاصر – أظن أن الآية تقصده … وهي آية : إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم … خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون … ما أود لفت الانتباه إليه هنا هو: أن السياق اللغوي يقتضي أن يكون فعل الكون ماضيا لا مضارعا آخر الآية … أي : … ثم قال له كن فكان، كما اقتضى السياق أن يكون فعل الخلق في الماضي … وعلى الجملة .. فإن عيسى – عليه السلام  حـَـدَثٌ في الماضي … تم خلقه في الماضي فانخلق لا فينخلق… وكذلك تناوَلـَـهُ أمرُ كن في الماضي فكان … لا فيكون .. ومن هنا أزعم والله أعلم طبعا أن المولى يعني بـ يكون أنها ملازمة لـ كن لأن كن ممتدة زمانيا .. والامتداد الزماني يساوقه زمن المضارعة المستمر

ما أود أن أرمي إليه آخر المطاف هو أن التطوّر هو هو الفعل : فيكون … أو هو الفعل كن متكررا على اختلاف مكوّناته

بطريقة أخرى … التطوّر هو طور … فـَـطـَـورٌ … فـَـطـَـورٌ … وهكذا

وعالم الأمر هو كن ثم كن ثم كن ثم كن ثم كن … وهكذا ولكن اختصارا هو كن فيكون

أي أن الزمانيّة المتطاولة التي يتدرج فيها التطوّر تضاهي الظرف الذي يتعدد فيه أمر كن

شيء أخير … وهو الإيراد الآخر … التقابل

سير الطبيعة يقتضي خط السير الذي ينبغي أن يسير عليه التطور … من هنا كان سير الطبيعة المتبوع متخبّطا، وكان سير التطور التابع متذاكيا … ولكن ألا نستطيع أن نقابل هذا السيناريو بالسيناريو المقابل؟ … يعني

أن سير التطوّر هو المتبوع المتخبّط وأن سير الطبيعة هو التابع المتذاكي … وهكذا يكون الذكاء من نصيب الطبيعة لا من نصيب التطوّر مما ينفي عن الطبيعة تلقائيتها المتخبطة ومما يكسبها صفة الغاية المنوطة هي بها

وأظن أن نسبيّة آينشتاين تسمح بالسيناريوهين على حد سواء بنفس درجة الاحتمال

بل … ربما يكون الاثنان – سير الطبيعة وتدرّج التطوّر – .. ربما يكونان هما “متبوع” و”متغيّر تابع له” يرسمان دالةً ذات قاعدة اقتران مكتوبة مـُـسبقا …. أليس هذا محتملا؟

أقصد أن العبثيّة والعمياويّة قد تـَـنـْـتـَـفي عن نموذج الوجود الذي يـَـتـَـنـَـمـْـذج رياضيّا بدالة سينُها – أي إكـْـسُـها –  هو سير الطبيعة وصادها أي – وايُها – هو التطوّر أو العكس … لم لا ؟

لطالما شبّه علماء الفيزياء – غير الملحدين منهم – خالق الوجود سبحانه على أنه مهندس عظيــــــــــــــم

استدراكات : … الانتخاب الطبيعي الذكي الذي يستبقي الأصلح ويستبعد الأطلح تدريجيا مع الزمن تم ذكره اختزالا خلال التدوينة على أنه سير الطبيعة … والتطوّر أو الانتواع هو نتاجات مستمرة لهذه المسيرة الطبيعية خلال الزمان

استباقي للأحداث هو أن الدكتور عدنان – والله أعلم – قد يسير وفق سلسلة نقده لنظرية التطور في نقدها للإيمان المنبني على التكوين المبدع المستقل … قد يسير وفق ما شرحته من نـَـمـْـذجـَـة الوجود رياضيّا بمعادلة التطوّر السيني والسير الصادي للطبيعة أو العكس طبعا

كانت التدوينة كالتوليفة لنظرية التطور بنكهة فيزيائية عـَـقـَـديّة …. والمولّـِف هو غمرٌ مبتدئ ٌ…. فاللهم غفرانك

كلي لـَـهـَـفٌ وتـَـوْقٌ أن تـَـقـَـعَ عـَـيـْـنا الدكتور عدنان أو من يتبنّى أفكاره على هذه التدوينة فـَـيـُـتـْـحـِـفـني برأيه فيها …. هلا أتـْـحـَـفـْـتـَـني أخي القارئ برأيك فيها أنت أيضا تكرّما ؟

قد أكون أخطأت في إسقاط النظرية على الأمثلة أو أخطأت أساسا في تعريف فهمي للنظرية … أو أخطأت في فهمي أساسا للنظرية

كتبت هذه التدوينة صابغا إياها بما تشرّبته من كلام الإمام الغزالي … فإن أخطأت فليس هذا يعني أن الإمام هو الذي أخطأ … مع كونه قابلا أن يخطئ فـِـكـْـرا كما أخطأت أنا تـَـشـَـرّبا .. والله أعلم وأستغفر الله

استدراك  ورد متأخرا … النظرية تفترض تطوّرا صغيرا وهو تفاوت التغيّر بما لا ينشئ نوعا جديدا، كما أن النظرية تفترض تطوّرا كبيرا يفضي في النهاية إلى إنشاء نوع جديد ليس من شأنه أن يتزاوج مع النوع السابق له والناشئ عنه  – نشوء الجديد عن القديم – عبر التدرج في مراحل التطوّر الصغير … كأني بالنظرية تقول إن اللون البرتقالي في بداية أطواره الأولى هو تطوّر صغير عن اللون الأحمر …. وكأني بها أيضا تقول إن اللون الأزرق مثلا هو تطوّر كبير أفضى إليه تطوّر اللون الأحمر إليه عبر التدرج في مراحل التطوّر الصغير البرتقالية … ثم عبر مراحل التطوّر الصغير للون البرتقالي متدرّجا لدرجات اللون الأصفر … وهكذا حتى الوصول إلى اللون الأزرق …. والمثال طبعا لا يزال معيبا قاصرا … والحمد لله على كل حال.

عن مدونة طنبوش

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليقان 2

اترك رد

  • جميل..
    نقطة خطرت لي و أحببت طرحها في التعليق كون علمي لا يرقى لأكتب تفصيلاً و أعصر قدراتي أصلاً لأفهم النظرية..
    لقد بدأ الكون بشيء و انتهى إلى استقرار نسبي فكان التغير في البداية يؤدي إلى التمايز لكن وحدة الأصل في الأشياء تدل على أن خالقها واحد و هكذا أراد الله (لا يُسأل عما يفعل و هم يُسألون) ، ثم تطورت الكائنات كل حسب منطقته و حاجاته و المناخ و ما إلى ذلك بالتصاحب مع تطور و تغير الكرة الأرضية بعد الإنفجار الكبير الذي نتج عنه خلق الكون، هذا لا يشمل الإنسان الذي جاء فيما بعد، بعد أن تهيأت الأرض لاستقباله.
    هذا و الله أعلم

%d مدونون معجبون بهذه: