خطبة لفضيلة الشيخ العلامة عدنان إبراهيم بعنوان: كنتم خير أمة أخرجت للناس، ألقاها فضيلته بالمركز الإسلامي بسترازبورغ الفرنسية

أيها الإخوة المسلمون الأحباب يقول الله – سبحانه وتعالى – في مُحكَم الكتاب بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ :

وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ۩ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ ۩ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ ۩ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ۩

إخواني وأخواتي:

كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩”، على ما أُثِرَ عن أسلافنا الصالحين – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – ليست تُثبِت هذه الآية حالةً قارة وراسخة لهذه الأمة بل هى دعوةٌ مشروطةٌ إنها تنقل هذه الأمة من وهم الكينونة إلى نشاط الفعل، ولذلك روى الإمام البخاري – رضوان الله تعالى عليه – والإمام النسائي في سُننه عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – تفسيراً لهذه الآية الجليلة أن الصحابي الجليل قال:” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ۩” تعني خير الناس، أي كنتم خير الناس للناس، فيصير على ذلكم معنى الآية كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ ۩ للناس أخرجها الله – تبارك وتعالى -، فأنتم خير الناس للناس، فأنتم أكثر الناس عطاءاً، أكثر الناس تسامحاً، أكثر الناس إيجابيةً وفاعلية، أكثر الناس إنجازاً وتعميراً للأرض ومُبارَكةً لأثمارها وارتفاقاً لكظائمها واستخراجاً لأسرارها، وهكذا كانت هذه الأمة المرحومة، ونحو هذا يُروى عن الحبر ابن عباس – رضيَ الله تعالى عنهما – أنه قال خير الناس للناس، فهذا هو معنى خيرية الأمة في الجُملة، كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۩، ولعل في هذه الآية الكريمة ما يكشف النقاب عن أمرٍ طال فيه اختلاف السادة المُفسِّرين، أعني ما ورد في آيةٍ تسبقها بقليلٍ في سياقها من السورة الكريمة ” وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ۩”، فاختلفوا في ” مِّن ” هنا في موضعها، فمن قائل إنها للبيان ومن قائل إنها للتبعيض ومن مُوفِّق ٍجامع بين الرأيين كالإمام المُحدَث محمد عبده – رحمه الله – في تفسير المنار الشهير الذي قال فيه إنها تجمع الوجهين، فالأمة كلها مُخاطَبةٌ بهذا الخطاب، مدعوةٌ ومحفوزةٌ همتها إلى هذه الغاية البعيدة، ثم إنها من وراء ذلكم تنتخب نُخبة منها وتصطفى جماعةً تتخصَّص في هذا العمل الكريم الجليل لتُتقِنه وتحذقه، وهكذا جمع بين البيان وبين التبعيض، ولعل الأرجح أنها أصالةً للبيان لقوله – تبارك وتعالى – كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۩، فليس يقف المعروف عند حد ما تعارفه بعض المسلمين، إنما تنداح دائرته وينبسط معناه ليشمل كل الخيور، ومن هنا قال الراغب في مُفرَداته – رحمه الله تعالى – “الخيرُ ما عرفه المرء بالعقلِ أو بالشر”، وقال – سبحانه وتعالى من قائلٍ – في الأعراف خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ۩ “، والمقصود بـوَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ۩” أي ما تعارفه الناس في تقاليدهم وأعرافهم المأثورة مما يلتقي مع الفطرة ويتساوق مع الشريعة المُصطفوية، فهذا هو المعروف، فهو يشمل أشياء كثيرة، ومن ضمن مشمولات ومُضمَرات هذا المعروف أن هذه الأمة كانت وينبغي أن تعود إلى ما كانت عليه بأن تكون صوت العدالة وضمير المسحوقين ولسان حال المُستضَعفين في الأرض، لأن الله – تبارك وتعالى – ما أرسل الرسل ولا أنزل الكتب ولا سنَّ الشرائع إلا  لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ ۩، وقد كانت هذه الأمة أمة العدل والقسط، ليس في ما بين بعض أفرادها فقط وإنما مع الأمم جميعاً، فهم أعدل الناس مع الناس وهم أقسط الناس في الناس سواء اتفقوا أو أختلفوا في قضيةٍ يحتكمون فيها أو في حكمٍ يُطلِقونه على الآخرين، فهم أعدل الناس في الناس، وكيف لا يكونون والله – تبارك وتعالى – يأمرهم قائلاً يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ۩؟!

وفي المعنى عينه يقول – سبحانه وتعالى – يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ  وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ۩،

وهذا عجبٌ عاجب، فعجبٌ أن يكون من مشمولات التقوى ومن علائمها وشياتها أن نعدل مع أعدائنا المقيتين وليس مع أودائنا المُخلِصين فقط وإنما مع العدو الذي نمقته ونكرهه ملء القلوب والجوانح، فنحن مأمورون لنُقيم برهاناً على تقوانا لله – تبارك وتعالى – أن نعدل في هذا العدو وأن نعدل معه لأن هذا من التقوى، وبعيدٌ جداً أن يفهم هذا المنطق الإلهي السامي الذين ذهبوا إلى أن قُصارى تدين المُتدين هو أن يتخلَّص برأسه – الخلاص الفردي، الخلاص الشخصي -، وهذا خطأ فنحن مأمورون بهذه المعاني حتى مع العدو.

والامم كانت ولا تزال تجعل عصمةً لكبرائها وعليتها إن هم تجانفوا وإن هم مانوا أو ظلموا أو تجاوزوا خاصة في حق مَن لا ينتمي إلى ملتهم ومَن لا يستن بهديهم ومَن لا يتقيل طريقتهم، أما في هذا الدين العظيم الأمرُ جد مُختلِف، ففي سورة النساء  نحو تسع آيات مُثرِّبات راعدات مُدمدِمات من أعجب ما يكون، إذا تلاهن المرء أو تُلين على مسامعه اقشعر بدنه ووجل قلبه ومن هن قوله “إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ۩”، وهنا الله يقول لا تُخاصِم لمَن؟!

لصفوته، لحبيبه، لخيرته من خلقه، فيقول له يا صفوتنا ويا خيرتنا” وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ”.

ولكن مَن الخائنين هنا؟!

إنهم جماعة من الأنصار- من أنصار رسول الله في المدينة المُنوَّرة .على مُنوِّرها ألف تحية وألف سلام – تواطأوا في الشهادة كذباً على نسبةِ جريمة سرقة لدرعٍ إلى يهودي، فنسبوها إلى يهودي وتواطأوا على الكذب في شهادتهم وصدَّق النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – وهذا مُقتضى البشرية ما لم يُصحِّحها ويُقوِّمها الوحي العلوي، فأنزل الله – تبارك وتعالى – هاته الآيات الراعدات “وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ۩”، أي لا تُخاصِم عن هؤلاء الخونة الذين خانوا الله ورسوله بهذه الشهادات وبهذا الجُرم العظيم، وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً  وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا ۩ يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ۩ هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ۩،وإلى أن يختم هذا السياق الراعد الراهب المُدمدِم بقوله – عز من قائل وعز من خاتم – وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ  ۩، أي أنك شارفت وكدت أن تقع في مهواة الضلالة، في وهدة الإثم والظلم لبريء، ومَن هذا البريء؟!

يهوديٌ، يهوديٌ لا حول له ولا طول ولا عزوة ولا عشيرة تُطالِبُ برد اعتباره، ولكنه العدل السماوي، وهنا لم يكن حتى لرسول رب العالمين – لخيرته من خلقه – ضمانة ولا عصمة أن يتجاوز ثم يستر عليه الوحي لأنه الرأس الأعلى أو الرأس العُليا – الرأس تُؤنَّث – في الدولة، فهو أعلى رأس بإطلاق ولكن حتى هذه الرأس ليس لها عصمة لأن القضية قضية العدل، وهذا هو الإسلام وهذا هو نبي الإسلام وهذا هو قرآن المسلمين وهذا هو شرع المُؤمِنين، ولكن لا أدري، فيبدو أن بعض الأخلاف الحيارى قد ضلوا كثيراً أو قليلاً عن معاقد هذا الشرع، عن فضائله وعن فواضله، ومن أسف لم يحكموا أنفسهم بهم فضلاً عن أن يُنوِّروا ويُضوِّءوا العالمين بأنواره وأضوائه، فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يعود بنا إلى دينه عوداً حميداً.

أيها الإخوة والأخوات:

ويوم انطلق هؤلاء الأبرار المُمجَّدون يفتحون العالم في شرقه وغربه، في أقصاه وأدناه،  كانت المُعجِزة وكان السر، كان اللغز الذي لا يزال كبار الدارسين والمُؤرِّخين والمُستشرِقين هنا في الغرب الأوروبي والأمريكي يدعونه لغزاً – لغز وسر الفتح الإسلامي – فلا يكادون يفهمونه، فالمُعاصِرون من أبعد خلق الله عن فهم وفك سر هذا الطلسم، لأن الغرب بطريقته التي تقوم على العنف وعلى استعمار الشعوب وعلى استذلالها وعلى استخزائها وعلى نهب ثرواتها وإرخاص قضاياها في المحاكم الدولية وغير الدولية ترك انطباعاً – كما يقول السياسي والصحفي والرجل الحُر الألماني يورغين تودنهوفر Jürgen Todenhöfer – في الناسِ أن القوة يُمكِن أن تُحقِّق ما تُريد، وهذا انطباعٌ يُعادِل وعداً بالكارثة، فلو أن البشر جميعاً انطلقوا يُفكِّرون على هذا النحو لكان هذا وعداً حقيقياً بالكارثة، وعداً ببشرية ستكون مكروثة، يكرث بعضها بعضاً ويأكل فيها القوي الضعيف، ولا منجاة من هذا المصير الكارثي للأسف.

ولذلك نحن أبعد ما يكون – أعني المُعاصِرين في شرقٍ وغربٍ – عن أن نفهم سر هذا اللغز، أن نحل هذا الطلسم المُعمى – وما هو بمُعمى عن ذوي الأبصار والبصائر التوحيدية -، فالسر أن المسلمين انطلقوا يُترّجِمون عن رحمانية الرحمن الرحيم عبر شرعه، عبر أمره ونهيه – وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ  ۩ فصارت أقوالهم كما أفعالهم تُترّجِم هذه الرحمة إن أخذوا وإن ودعوا، إن ذهبوا وإن جاءوا، إن فعلوا وإن قالوا، إنما هم أمة الرحمة كما كان نبيهم نبي الرحمة  – إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ -، وفي المُقابِل يُحدِّثنا التاريخ الغربي – ولست هنا أقتبس حتى المُؤرِّخين الإسلاميين  –

 عن  الصليبيين في العصور الوسيطة، فيوم دخلوا بيت المقدس سنة ثنتي وتسعين وأربعمائة من هجرة المُصطفى – صلوات ربي وتسليماته عليه – افتعلوا واجترحوا مذبحةً راح ضحيتها سبعون ألفاً من البرءاء، من الشيوخ العجزة والأطفال والنساء والمدنيين، وتقول المُؤرِّخة الألمانية الشهيرة  زيغريد هونكه  Sigrid Hunke “وكان البطريرك وبيده الصليب الكبير يقفزُ فرحاً جزلاناً مسروراً وبيده السيف – بيده الأخرى السيف – يقط به رؤوس البرءاء أينما اتفق، أينما تعثَّر بهم، حتى انتهى ويداه تقطران دماً إلى كنيسة القيامة فغسل يديه الداميتين الآثمتين ثم قعد أو وقف يُقيم القدّاس وقال: يشهد الرب في الأعالي أنني ما تقرَّبتُ إليه عبر حياتي بطولها بمثل ما تقرَّبت إليه اليوم من قُربان، بدماء هؤلاء”
وسنة ثلاث وثمانين وخمسمائة – بعد زُهاء تسعين سنة وتزيد – يُقيِّض القدر – أي يُقيِّض الله تبارك وتعالى – الملك الناصر صلاح الدين – طيَّب الله ثراه وسقاه بشآبيب رحماته – فيفتح بيت المقدس ويستردها من هؤلاء الأوغاد، فما الذي يحصل ؟!

قطرة دم واحدة لم تسل، عفا وأطلق مرسوم الصفح والتسامح والليان، وسمح لكبرائهم من رجال الدين وغيرهم أن يخرجوا مُحمَّلين بما شاءوا من الأموال بقدر ما يُمكِنهم حمله، فضرب مثلاً عجيباً جداً لا يكاد يفهمه بعض الناس أو كثيرٌ منهم في هذا العصر، لماذا؟!

سنة خمس عشرة وستمائة من الهجرة أيضاً الصليبيون في شمال مصر – كنانة الإسلام – يضعون أيديهم على دمياط فيقول المُؤرِّخون الغربيون “ويأتون على كل مَن فيها من البرءاء والمدنيين تقتيلاً وتذبيحاً”، أي أنهم قاموا بمجزرة مُروِّعة مُخيفة، وبعد ثلاث سنين فقط يُكتَب النصر والظفر للملك الأيوبي الكامل فيقول هؤلاء المُؤرِّخون”والعجب يتكرَّر مرةً أخرى فلم يفعل معهم إلا كما فعل رسول الله مع الذين طاردوه وأخرجوه وأحرجوه على مدى قريب من عشرين سنة – اذهبوا فأنتم الطلقاء – فأطلقهم الملك الكامل وأحسن إليهم”، بل أكثر من هذا حيث أنه أطعم أسراهم أربعة أيام، ففي أربعة أيام عجاف كان يُطعِم أسراهم ويبعث إلى جيشهم – الجيش الصليبي – الذي يتضور جوعاً ثلاثين ألف رغيف من الخبز، وهنا يقول التاريخ الغربي:

ووقف الفيلسوف اللاهوتي والقسيس أوليفروس Oliveras يقول:

بحق السماء مَن ذا الذي يشك أن هذا التسامح وهذه الرحمة ليست من عند الله؟!

 يصرخ أوليفروس Oliveras  بملء الفم قائلاً” هذه الأمة ربانية، هذه الأمة أخرجها الله للناس، متى شهد التاريخ مثل هذه الرحمة، مثل هذه المُصالَحةلا المُصادَمة، مثل هذه المُسامَحة لا المُعاقَبة والمُقاصَة، مثل هذا الليان لا المُخاشَنة والمُغالَظة ؟!

متى شهد التاريخ هذا؟!

ولذلك عوداً إلى الآية كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ ۩ “، إنه مُخطَّط القدر، إنه القدر نفسه – ينسج هذه الأمة وينسج أحداثها وعظائمها ومجدها، لأن هذه الأمة هى ضمير العدالة، صوت العدالة، أما أنهم صوت المُستضَعفين والمسحوقين فهذا ما سنتطرَّق إليه في الخُطبة الثانية.

أقول هذا القيل وأستغفر الله لي ولكم  فاستغفروه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(الخُطبة الثانية)

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صلى الله – تعالى عليه – وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليماً كثيراً.

أما بعد إخواني وأخواتي:

كم كان عدد المُشرِكين الذين وقعوا في حروب النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام -، في غزواته وسراياه؟!

سبعون في بدر وبضعة عشر مُشرِكاً في اُحد وثلاثة في الخندق وزُهاء عشرة يوم فتح مكة وعددٌ قليلٌ جداً في هوازن ” حنين “، وتُطوى صفحة الشرك ويمضي الإسلام والسلام ُ في سلام إلى ما شاء الله – تبارك وتعالى -، ثم يُقال رغم ذلك “دينٌ دموي ونبيٌ سفّاح دموي”، وبالمُقارَنة نجد أن حروب الكتاب المُقدَّس بجمع الأرقام في الوقائع المُختلِفات تنتهي إلى مليونين وسبعمائة وخسمين ألف ضحية، وهذا لا يُقال إن له علاقة بالإرهاب ولا بالرغبة الدموية وهو ما يُعَد شيئاً عجيباً جداً، أما أن هذا الدين صرخة المُستضَعفين ولسان حال المُستذَلين والمُهانين فالقرآن طافحٌ مملوءٌ بما يُبرّهِن هذه المقولة، وأما في السُنة فكثيرٌ جداً، فهناك الحديث الذي أخرجه البخاري وغيره:

 ابغوني  في ضعفائكم – وفي رواية بلفظٍ آخر ابغوني ضعفاكم -، هل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم؟!

بدعائهم وصلاتهم!
وفي الطبراني من حديث ابن مسعود لما سار النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – إلى المدينة المُنوَّرة جعل يُعطي المُقلين المُعدمين من أمثال ابن مسعود – أعطاهم لكي يُضيِّق الهوة والفارق بين الطبقات – فكأن بعض الناس وجد في نفسه فقال” يعطي هؤلاء الفقراء المُعدمين ويتنكبنا ” – أي نكبةً عنا، يغض الطرف عنا – فبلغت مقالتهم الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – فقام فتكلَّم أو فخطب قائلاً:

فلم بعثني الله إذن؟!

أنا مبعوثٌ لأُنصِف هؤلاء، أنا مبعوث لآخذ لهؤلاء.

والإمام عليّ – كرَّم الله وجهه – حين ردَّ على الخوارج مقولتهم الجاهلة – إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ۩قال ” كلمة حق يُراد بها باطل” ، نعم إِنِ الْحُكْمُ إِلا لِلَّهِ ۩ ولكن هؤلاء يقولون لا إمرة – أي إلا لله والعياذ بالله – وأنه لابد للناس من أميرٍ باراً كان أو فاجرا – أو قال برٍ أو فاجر -، لماذا؟!

يعمل المُؤمِن في إمرته ويستمتعُ الكافر.

شيئٌ عجيب أن يقولها أمير المُؤمِنين في زمانه ، فقد قال ” في إمرة الخليفة – في إمرة أمير المُؤمِنين-  يستمتع الكافر”،متاعٌ للكفّار، سلام ونجاة ومأمنة للكفّار على أشكالهم ما لم يُحارِبوا وما لم يخضدوا شوكة المسلمين أو يُقلقِلوا استقرارهم، إلى أن قال “ويُؤخّذ فيها  – أي في إمرة المُؤمِن –  للضعيف من القوي حتى يستريح برٌ ويُستراح من فاجر”، فهذا هو البيان بكلمات قصار جوامع وموانع، إذن هذا الإسلام جاء لنُصرتنا ونُصرة أمثالنا!

أحسب أن على المسلمين اليوم أن يُعيدوا أيضاً التعبير والبيان عن غايات هذا الدين بانخراطهم وانهمامهم وانهماكهم في قضايا المُشتضَعفين، في قضايا التحرير، ليس فقط في بلاد المسلمين وإنما في العالمين، وأن يكونوا هم الضمير الصاحي واللسان الناطق بقضايا هؤلاء وهمومهم، فهذا تكليفٌ ديني، ونحن ما أُخرِجنا إلا لهذه الأغراض، لأن الله – تبارك وتعالى – ندبنا وحمسنا بل أمرنا وحرَّج علينا أن نُحارِب أو أن نُقاتِل معنوياً وأدبياً ومادياً إن اقتضت الأحوال والضرورات من أجل المُستضَعفين حول العالم، وهذا سيكون باباً عظيماً للدعوة!

وحتى لا أُطيل عليكم فقد أدركنا الوقت:

يروي الإمام ابن جرير شيخ المُفسِّرين في تفسيره والإمام ابن المُنذِر أبو بكر – رحمة الله تعالى عليهما – عن قتادة – رضيَ الله تعالى عنه – يقول:

بلغنا أن عمر بن الخطاب – رضوان الله تعالى على الفاروق ومُلهَم هذه الأمة – تلى هذه الآية  ” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ۩ ” ثم قال “مَن سره أن يكون من هذه الأمة المنعوتة بهذا النعت ، الموصوفة بهذا الوصف الشريف فليؤد  شرط الله فيها”.

فالمسألة ليست بُمجرَّد الانتساب وليست بمُجرَّد التعزي بالالتحاق، وإنما بتأدية الشرط ومُقتضى الشرط، فقد قال عز من قائل:

 لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ۩ –ليست بالتمني المسائل – مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ۩وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ۩وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ۩

(31/12/2010)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: