إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيهِ ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله -سُبحانه وتعالى – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ:

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ۩ وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩ قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩ قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط. آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الاخوات الفاضلات:

قصة أبوينا – عليهما السلام – قصة مأثورة ومطروقة ومكرورة، وكم وكم للسادة العلماء في القديم والحديث من وقفاتٍ وأنظارٍ واستبصاراتٍ حول هذه القصة الأساس الرئيسة! إنها قصة مفتاحية لضروبٍ من الوعي، لضروبٍ من الاستبصار، ولضروبٍ من إنارة الطريق أيضاً.

ولنا أيضاً ضمن هذه الوقفات وقفات طويلة على هذا المنبر، أما اليوم فنجهد أيها الإخوة أن نُضيء هذه القصة من زوايا مُختلِفة أو من زاويةٍ على الأقل فيها شيئٌ من الاختلاف.

طبعاً تتمة القصة تعلمونها جميعاً، وهي التي يدخل فيها الساحة عنصر جديد لم يُذكَر في السياق السابق، إنه إبليس، والذي يختار القرآن العظيم بمُنتهى الدقة والحذاقة أن يُصِر على عنونته بهذا الاسم أو بهذا العنوان، ولا يستحيل إلى الشيطان إلا بعد أن يُغري أبوينا بالمعصية، بعد ذلك يُؤكِّد القرآن عنواناً جديداً أو يشترع القرآن ويفتجر عنواناً جديداً له، إنه الشيطان، قبل ذلك كان هذا، قبل ذلك كان إبليس، لكنه بعد ذلكم صار الشيطان، وهذا من دقة الكتاب الكريم.

ونبدأ القصة من أولها، نبدأ مع هذا الاستفهام التعجبي ولا نقول الاستنكاري، فليس من شأن الملائكة أن يستنكروا خياراً ومشيئةً وإرادةً إلهيةً، لكن يعجبون! أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء ۩، إذن البداية مع السؤال الذي هو مفتاح المعرفة أو مفتاح من أكبر مفاتيحها على الإطلاق، السؤال الذي يعني ضمن ما يعني وفيما يعني الحيرة والدهشة والوله والحافز والدافع والتطلع والسُلطة، سُلطة الاعتراض وسُلطة الامتحان وسُلطة الكشف أيضاً، كشف الزيف، كشف الدجل، وكشف التدليس! أتحدَّث عن السؤال بعامة وليس عن سؤال الملائكة، إنه السؤال أيها الإخوة، سُلطة امتحان موروثاتنا وعقائدنا، اختبار مداركنا ومفهوماتنا، اختبار ما أُلقيَ إلينا ويُلقى إلينا ونُلقيه إلى غيرنا، إنه السؤال مرةً أُخرى، إنه أيضاً عنوان ودلالة الانفتاح، الاتساع، الإثراء، والتخصيب، السؤال! ولذلك يُعتبَر دائماً دليلاً أو إندكساً – Index – كما يُقال للعلم والجهل في وقت واحد، لكنه ليس بداية الطريق نحو العلم أو نحو الحقيقة، إنه نصف الطريق حقيقةً، إذا طُرِحَ السؤال وتبرَّر طرحه من ناحية منهجية فإنه يُشكِّل نصف الطريق إلى الحقيقة.

والذين لا يسألون ولا يتساءلون هم إدراكياً جماعة من البُكم، إنهم بُكم! كما تقريباً كان أبوانا في حالة البراءة الأصلية، كانا أبكمين! وتُلاحِظون أيها الإخوة أيضاً في عجيب أن أبوينا في كل هذه القصة الجنائنية التي تمت في العالم العُلوي في جنة عدن – في الجنة – لم يتأت منهما سؤال ولا اعتراض ولا أي شيئ، حتى حين استزلهما الشيطان لم يحك لنا القرآن أي شيئٍ أدلى به الأبوان، وإنما الفاعلية كلها لإبليس الذي آض وعاد شيطاناً بعد ذلك بفعلته النُكر هذه.

كانا أبكمين تقريباً، لماذا؟ ليسا أبكمين عن الكلام، كانا يتعاطيان هذه الصناعة، صناعة الكلام! لكن الكلام بلا سؤال يقتضي جواباً يُوشِك أن يكون بكماً، وأكثر الكلام الذي لا يكون جواباً لسؤال يختصر هماً وقلقاً وحيرةً حقيقيةً هو لغوٌ كلغو الطير، يجعل الإنسان آلة للحكي وآلة لاستحفاظ واستظهار ما يُلقى إليه فقط وليس كائناً درّاكاً وكائناً مُفكِّراً.

متى بدأ أبوانا إذن الكلام الحقيقي؟ سوف نرى، لم يبدأه هناك في حالة البراءة الأصلية التي يحسدهم الكُسالى وغير الراغبين في الكمال والاستكمال عليها، وكأنها حالة مثالية تُطلَب، كلا! فالتكوين الإنساني أو هذه البنية الآدمية لم تُهيأ ولم تُخلَق ولم تُعَد لتبقى في حالة براءة أصلية، كلا! هذا غير مُناسِب لها البتة.

نعود إلى السؤال، أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۩، ملحظٌ عجيبٌ جداً، ما هو؟ ما هو مُبرِّر الاستخلاف؟ في ظن الملائكة ووهلهم المُبرِّر هو التسبيح والتقديس، ينبغي لمَن يُسبِّح ولمَن هو مُستهتَر ومُستغرَق في التسبيح والتقديس والتمجيد أن يحظى بشرف الخلافة، أن يكون خليفة! لكن الله – تبارك وتعالى – أعطى جواباً مُخالِفاً تماماً، هذا الجواب معلومٌ لديكم ولديكن جميعاً، لا! إنه ليس التسبيح والتقديس فقط، وليس التسبيح والتقديس كشيئ رئيس يُراد إرادة أولية، إنه شيئ غير ذلك، يقتضي بعد ذلك التسبيح والتقديس لكن على أنهما من مُقتضياته، وحينئذٍ يُصبِح التسبيح والتقديس فعلاً واعياً لا فعلاً مُبرمَجاً، إنه المعرفة، إنه العلم! وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، إلى آخر الحكاية!

إذن بحسب القرآن الكريم نفسه وبحسب إرادة الله – سُبحانه وتعالى – ليس مُبرِّر الاستخلاف – إذن ليس جوهر الاستخلاف – أن تكون مُستغرَقاً في التسبيح والتحميد، هذا يُعطينا راحة – راحة ضميرية أو ضمائرية – من أجل تأكيد أفكارنا التي ننتهي إليها كل حين وحين، من أن هناك خطأ ما وهو خطأ حقاً فادح، فادح في تفكير المُسلِمين أو أكثر المُسلِمين المُعاصِرين، أعني بالذات الإسلاميين أو كما يحلو لبعض أن ينتعهم الإسلامويين، أي الذي يتخذون من الإسلامية والتوجه الإسلامي حلاً وتفسيراً وتوصيفاً لكل شيئ من حيث أتى، لكل شيئ! هذا معنى الإسلاموية، كأنهم غائبون أو مُغيَّبون عن هذا العالم بكل كوامنه، بكل طاقاته، بكل أيديولوجياته، بكل أفكاره، بكل توجهاته، بكل منازعه، وبكل مشاربه، ولا ينظرون إلا من خلال هذا الثقب أو من خلال هذا المنظور، هذا معنى الإسلاموية، وهذا إلى حدٍ ما صادق، ليس على إطلاقه ولكن إلى حدٍ ما للأسف، وهذا الذي يُبرِّر لنا الحديث – مثلاً – عن موقف الإسلام والفكر الإسلامي من أشياء يصعب تبرير طرحها ضمن هذه العنوانات، الإسلام – مثلاً – والتكنولوجيا Technology، شيئ عجيب! الإسلام والعلم، خاصة العلم الطبيعي، الإسلام والكون، الإسلام – هنا طبعاً أكثر تبريراً – والديمقراطية والعولمة والعلمانية، أكثر تبريراً! لكن كيف يُقال الإسلام والتكنولوجيا Technology أو الإسلام والكون أو الإسلام والجيولوجيا Geology؟ شيئ عجيب جداً، ما هذا؟ هناك خطأ ما!

هذا الخطأ جر المُسلِمين إلى أن يظنوا أنهم إن استغرقوا أوقاتهم – ليلهم ونهارهم – في شؤون طقوسية وعبادية محض فإنهم يكونون أكثر قرباً من الله وأكثر تحقيقاً لمُراد الله من خلق هذا الإنسان وتهيئته واستخلافه في الأرض، وهذا غير صحيح بالمرة بدءاً من هذه القصة المفتاح أو المفتاحية، ليس صحيحاً!

لو كان هذا المُراد لاستخلف الله الملائكة، لأنزل الملائكة هنا وانتهى كل شيئ، هي فهمت الأمر على هذا النحو ومن هذه الزاوية، نحن نُسبِّح بحمدك، نحن نُقدِّس لك يا الله، الله قال لا، ليس هذا ما أُريده، أنتم تُسبِّحون وتُقدِّسون في الملأ الأعلى، في الصفيح الأرقى هناك، هذا مطلوب منك وأنتم مُهيئون لذلك، أما هنا في هذا الكوكب وفي هذا العالم الأرضي الوضع مُختلِفٌ تماماً! قوى الإنسان وإمكاناته المذخورة الظاهرة والمُستتِرة تعمل جدلياً وبسبيل مُباشِر مع هذا الكوكب ومع هذا العالم، إنه مخلوق لهذا العالم والعالم مخلوق له ومُهيأ له، هذا الكوكب بالذات! لماذا؟

قوى هذا الإنسان لا تُستفَز ولا تُحرَّك ولا تبدأ تتفاعل تصارعياً وتقابلياً كيما تتناسخ وكيما تتخصَّب أيضاً في نفس الوقت إلا في هذا العالم بالذات أو ما يُهيئ إليه، كأن هذا العالم يستفز هذه القوى، هناك قوى جاذبة لبعضها على حساب بعض، فتحدث هذه القفزات وهذه التقابلات وهذه الجدلية المُستمِرة!

العجيب أن القرآن يتضمَّن إشارة في مُنتهى الدقة، تُخبِرنا أن الملائكة أنفسها أو ذواتها لو نزلت إلى هذا العالم لتكون من قاطنيه – أي لتقطن هذا العالم، الملائكة موجودة في هذا العالم لكن على سبيل قلقة، على سبيل عدم الاستقرار، يبدو أنها لا تجلس ولا تطمئن ولا تستريح، دائماً هي في حالة تحليق وفي حالة إنجاز عمل مُعيَّن كالكاتبين مثلاً، لكنها لا تطمئن في هذا العالم كقُطّانه، قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ ۩ – ولو وُجِدوا هنا ليطمئنوا بالإقامة في هذا العالم إذن لعملت قوى هذا العالم عملها في طبيعتهم النورانية فاختل التجانس ولوقعت المعصية ولوقع الخطأ ولوقع التوتر لكن ضمن طبيعة واحدية وهذا عجيب، إنه طبيعة نورانية، قال قُل لَّوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَّسُولًا ۩، سيحتاجون إلى رسالة لأنهم سيضلون، سيحدث لهم توتر، وهذا مع كائنات واحدية، فكيف بكائن ازدواجي ثانوي؟ ثانوي! فيه سماء الروح وفيه أرض البدن، فيه هذه القبضة الطينية التُرابية اللامُتجانِسة من كل صنوف طين الأرض وتُربتها كما قال المُصطفى – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – وفيه هذه النفحة والنفخة الإلهية العُلوية، إنه كائن يعيش توتراً دائماً، ويُهبَط إلى هذا الكوكب! إذن لابد أن يبدأ التفاعل والجدلية بشكل مُستمِر إلى أن يموت هذا الإنسان، إلى أن ينتهي وإلى أن يقضي هذا مُستمَر.

هكذا أراد الله – عز وجل – أن يقف بنا على مُراده في قصة الخلق والاستخلاف، ليست القضية أن نُسبِّح وأن نُقدِّس، لا! إنها أكبر من ذلك، طبعاً بعد ذلك لابد أن يأتي التسبيح والتقديس وحتى طقوس العبادة، لكن من رحم المعرفة، من رحم التبرير، من رحم التجربة، ومن رحم المُعاناة، مكتوبٌ على هذا الإنسان في أكثر شوطه ومراحله ألا يفوز إلا بما يُعانيه، من رحم المُعاناة تخرج المكاسب أو كما يقول الأجانب No pain, no gain، لا مُعاناة، لا مكسب، هكذا! وهذا بعض معنى قوله – جل من قائل – لَقَدۡ خَلَقۡنَا الۡإِنسَانَ فِى كَبَدٍ ۩، من رحم هذا الكبد ومن رحم هذه المُعاناة تثرى التجربة الإنسانية، تتخصَّب التجربة الإنسانية! ما يعني تتحقَّق إنسانية الإنسان قُدماً إلى أن يبلغ سدرة مُنتهاه، هذا هو الإنسان، وهذه هي دراما الإنسان.

إذن في موقف الملائكة ملحظان رئيسان كبيران، ملحظ السؤال الذي لم يُقمَع ولم يتم إخراسه ولم يتم إقصاؤه، وإنما حظيَ بالجواب أيضاً، وحظيَ بالجواب وأي جواب! جواب في صيغة اختبارية امتحانية في مشهد تمثيلي أكثر من رائع، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، إلى آخر هذه القصة كلها، هذا هو الجواب! مَن المسؤول؟ رب العزة والجلال، لا إله إلا هو! مَن السائل؟ هذه الكائنات، لا أقول المعصومة، لأنها بطبيعتها الواحدية النورانية في عالمها العُلوي ليست أصلاً عُرضةً للخطأ، إذن هي لا تملك هذه الملكة أصلاً، لذا لا يصح أن نقول إنها معصومة، إنها ملائكة وحسب، انتهى! لو تأتى منها الخطأ أو لو أمكن أن يتأتى منها الخطأ لصح أن تُوصَف بالعصمة كالإنسان، الإنسان يُمكِن أن يُوصَف بالعصمة، طبعاً قطاع يسير جداً جداً، إنهم الأنبياء والمُرسَلون منه، فقط لا غير!

السؤال حظيَ بالجواب على الوصف الذي ذكرنا، ماذا يعني هذا أيضاً؟ يعني ضمن ما يعني أن الإيمان ليس من شرطه أن يكون تسليماً محضاً، هذا التسليم يأتي مُبرَّراً أيضاً، وهنا تبرَّر هذا التسليم، طبعاً أذعنوا وسلَّموا وسجدوا لمسجودهم بأمر الله، فقد جعل الله من آدم مسجوداً للملائكة، لكن تسليمهم جاء مُبرَّراً بعد هذا السؤال العاجب أو المُتعجِّب المُندهِش، أَتَجْعَلُ فِيهَا۩، هكذا يُعلِّمنا رب العزة!

أين نحن من هذه النغمة المكرورة المملولة التي تسرَّبت إلينا عبر أربعة عشر قرناً؟ لا يجوز طرح مسائل من نوع كذا وكذا، لا يجوز إثارة شُبهات من نوع كذا وكذا، حفظاً لعقائد الناس، حفظاً لطمأنينة المُسلِمين! ما هذا؟ هذا أولاً وقوع في منطق الوصاية القبيح أو المقبوح، بعض الناس إلى الآن لا يزال يظن أنه يُمارِس وصاية حقيقية على الناس، للأسف هناك مَن يقبل أن تُمارَس عليه هذه الوصاية، لا وصاية لأحد على أحد! قصة أبينا مُنذ البداية تُؤكِّد هذا، لا وصاية لأحد على أحد! لقد أعطى الله – لا إله إلا هو وجل في عليائه – مخلوقه المُستخلَف هذا فرصة – لا أقول من أول يوم بل قبل اليوم الأول، لأنه خليفة في يومه الأول في الأرض، قبل هذا اليوم – أن ينتخب وأن يختار وأن يُخطئ، أن يتجاوز الأمر الإلهي الذي هو حظر في الحقيقة! تجاوزه وتعداه في الجنة هناك بين يدي الله، تعداه!

هذا معنى أن أكون إنساناً، أن لي حريتي، هذه هي الأمانة التي حُمِّلتها، لا يجوز لأحد أن يُواصِي الوصاية على الناس، أن يدّعي هذه الوصاية على الناس، ثم يظن هؤلاء المُنحدِرون فعلاً من أربعة عشر قرناً بتفكيرهم وبغيبتهم عن العالم وعن الآخر أن الأبواب مُوصدة وأن هذا السائل المسكين المُتهَم الظنين في عقيدته وإيمانه هو الذي سيشرع هذه الأبواب على مصاريعها، هل هذا صحيح؟ مَن قال لك إن الأبواب مُوصدة؟ أنت لا تظن أن الأبواب مُوصدة إلا لتقلص معرفتك بما عند الآخر، الأبواب كلها مُشرَعة، علماً بأنه انتهى زمان وحين وصد وصك الأبواب والشبابيك، انتهى! الآن كل شيئ مفتوح على الإطلاق، يستطيع الآن مُراهِق صغير جداً بمحمول – بتليفون خلوي يدوي – يدسه في أي مكان من جسده وفي ثيابه أن يُمارِس الاطلاع على ما في العالمين من أفكار ومن مُباحات ومن إباحيات ومن كل شيئ، هذا في تليفونه، انتهى! ولا تستطيع أن ترقبه فضلاً عن أن تُراقِبه بشكل مُستمِر، انتهى هذا العصر، انتبهوا! ومع ذلك يُمارسون منطق الوصاية على الناس.

أظن – ثالثاً وأخيراً – أن هؤلاء لا يخافون على عقائد الناس بمقدار ما يخافون على عقائدهم وأفكارهم وعلى الحالة البسيطة الساذجة من التصالح مع الذات، هم مُتصالِحون مع أنفسهم ومع أفكارهم ومع موروثاتهم ومع مقولاتهم ومانشيتاتهم العريضة والمكرورة دائماً في كل مُناسَبة، هم يخافون عليها، يخافون حتى من أنفسهم عليها! كما يخافون من سُلطة السؤال الافتضاحية الكاشفة للزيوف أن تفضح ما عندهم للأسف، انتهى! القرآن من أول سوره وفي أول آياته يُعلِّمنا أن السؤال إذا تبرَّر لابد أن يحظى بجواب، السؤال لا يُخرَس، السؤال لا يُسكَت، ولذلك يأتي الإيمان بعد ذلك مُبرَّراً، ليس على مبدأ التسليم وإنما على مبدأ التبرير الحقيقي، هذا ملحظ كبير جداً!
نعود الآن إلى آدم عليه الصلاة وأفضل السلام، ما الذي حصل لآدم؟ يُقال إنه كان يعيش هو وأمنا المُكرَّمة في حالة ما يُعرَف بالبراءة – البراءة التامة – الأصلية، البراءة الأصلية فعلاً! هذه الحالة غير موجودة في هذه العالم الدنيوي، في هذا العالم غير موجودة، الطفل الصغير لو تم له إدراك يلتقط التناقضات والمُفارَقات لأول ساعات شهوده هذا العالم لأدرك ما في العالم من نزاعات ومن خصومات ومن أنانيات ومن صراعات ومن تقابلات وأضداد، لأدرك! لكنه ربما غير مُهيأ لذلك في أول ساعات قدومه إلى عالمنا.

هناك كل هذا مفقود، كل هذا غير موجود، الموجود فقط إمكان، إمكان لهذا الكائن الذي خُلِقَ أصالةً من طين الأرض ومن ترابها ومن حمئها المسنون وصلصالها الذي هو كالفخار، موجود هذا الإمكان لكنه نائم، لم يُنشَّط! طبعاً هناك أيضاً النفخة – كما قلنا – الإلهية العُلوية، كيف تم تنشيطه؟ وهذا مُراد الله عز وجل، كيف تم تحفيزه وتنشيطه وتحريكه، أعني هذا الإمكان النائم الغافي؟ بمنطق جديد لأول مرة يُواجِهه آدم، إنه منطق الحظر التابو Taboo والتحريم، لا تفعل! هناك حد، وهذا المنطق بداهةً وبداءةً يتحدى ماذا؟ يتحدى ما مُتِّع به هذا الكائن الثانوي من الحرية والتطلع وإرادة التجاوز والذهاب إلى أقصى ما يُمكِن الذهاب إليه، هناك إذن تحريك وتوفيز وتنشيط!

العجيب أن الكتاب الكريم لم يحو إشارة واحدة – ولا أدنى إشارة – إلى تميز هذه الشجرة المحظورة، هل قرأتم هذه الإشارة؟ أبداً! مُجرَّد ذُكِرت بعنوان أنها شجرة، فقط! ما هي هذه الشجرة؟ هل هي مُتميِّزة في شكلها أو في هيئتها أو في حجمها أو في ثمرها؟ ليست مُتميِّزة في شيئ، حتى في لونها! لم يذكر القرآن مثل هذا ليدل أنها ليست مُتميِّزة، لم يبق إذن لها شيئ من تميز إلا في محظوريتها، في كونها محظورة! وهذا تميز، هذا التميز – تميز المحظور – هو ما أخل بحالة البراءة الأصلية عند الإنسان الأول، تميز المحظور أخطر التميزات، انتبهوا!

بالمُناسَبة كثير من الوعّاظ والتربويين والمشايخ لا يُدرِكون سر هذه المسألة ويظنون أن التربية الحقيقية والإرشاد السليم والهداية التامة تتم على مزيد من تأكيد المحظورات ومن تهويل المحظورات ومن تشديد العقاب الإلهي عليها في الدنيا وفي الآخرة بالذات، بالعكس! لعل هذا ما يحفز الناس ويجعلهم مُستوفِزين إلى ارتكابها والوقوع فيها مزيد حرص وارتكاب!

لدينا المُسلِمون من قديم يقولون – وهذا حتى في الكُتب العرفانية – لو مُنِعَ الناس فت البعر – أكرمكم الله وأجلكم جميعاً، البعر هل يُفَت ويُؤكَل؟ – لفتوه، لو جُعِل محظوراً لبرز له نوع تميز، ولاشرأبت إليه أعناق الإرادة وأعناق الحرية، حرية ماذا؟ حرية أن أفعل، حرية أن أُجرِّب يا سيدي، شيئ خطير جداً! هؤلاء الوعّاظ لا يُدرِكون هذا المنطق، مع أنهم يُكرِّرون في مُناسَبات أُخرى قضية تحريم أمريكا للخمر في فترة الكساد العظيم – Great Depression – من التاسع عشر إلى الثلاث والثلاثين، قانون فولستيد Volsted! قانون فولستيد Volsted في تحريم الخمر، بعد سن هذا القانون وتشريع أقصى وأقوى وأشرس العقوبات ضد مَن يخرق هذا القانون زادت التجارة السوداء بالخمور بشكل غير مسبوق وزاد حرص الناس حتى على دفع ما لا يملكون – كان يُوجَد كساد عظيم – من المال الزهيد لقاء هذا المُدمِّر المُهلِك، وذهب الآلاف ضحايا القانون الجديد، ولم تجد الحكومة بُداً في النهاية من أن تُلغي هذا القانون، لتُفاجأ بأن مُعدَّلات استهلاك الخمور عادت إلى المنسوب الطبيعي، لكن أيام الفقر والكساد العظيم والمنع والسجون والعقاب الصارم زاد حرص الناس على الخمور!

هذه بعض تناقضات الإنسان الكاشفة عن حقيقة هذا الإنسان، الجُزء الجوهري من حقيقتي أنني حرية، دائماً نقول الأولوية للإنسان، وأولوية أولويات الإنسان الحرية، بعد الحرية كل شيئ يأتي، لكن هي في البداية، لا تقل لي حتى الدين، لا! لأنك باسم الدين سوف تُصادِر حريتي، ولا يبقى لي بعد ذلك من حقيقة جوهرية، باسم الدين! وسوف يتم تنميط الأفراد وقولبة الناس ليتم بعد ذلك استغنامهم، أي مُعامَلتهم كالأغنام على ما قال أينشتاين Einstein، قال لكي تُعامِل الناس كغنم لابد أن تستغنمهم في البداية، أن تُحاوِل أن تُحوِّر في ثقافتهم، في بنيتهم الثقافية، لكي يُصدِّقوا أنهم أغنام وليسوا بشراً، كفوا عن أن يكونوا بشراً، لا! الأولوية للحرية، وهذا ما أعطاه الدين، هذا ما ذكره القرآن بصراحة في أكثر من وضع، لكن هذه موضوعة أُخرى.

نعود إلى ما كنا فيه، إذن ما هو التميز في هذا المحظور؟ أنه محظور، كل ما هو مُتميِّز فيه أنه محظور، ولذلك لم يحك لنا القرآن مُقاوَمة عاتية من آدم لإبليس، بعض العلماء استسهل وقال كل ما حصل أن إبليس ضحك على آدم وآدم كان ناسياً، نسيَ ماذا؟ قالوا نسيَ النهي الإلهي، كيف نسيَ وإبليس نفسه يقول له مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ ۩، ما هذا؟ نسيَ ماذا؟ هذه غفلة، هذه غفلة عظيمة جداً من المُفسِّرين، لا! إنما معنى نسيَ آدم نسيَ الوفاء بالعهد، ولم ينس النهي، أو نسيَ بمعنى ترك، لأن النسي يأتي بمعنى الترك، نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۩، أي تركهم، والله لا ينسى بمعنى يغفل عن الشيئ، أعوذ بالله! وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا ۩، فكيف نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۩؟ أي تركهم، ترك آدم الوفاء بعهد الله، لكن لا يُقال إنه نسيَ الحظر والنهي، لم ينسه! حتى لو كان فقد نبَّهه إبليس على ذلك، مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا ۩، هو لم يكن، لم يكن ناسياً وإنما لعب اللعين إبليس على بعض قواه وغرائزه، على بعض نحائزه كما يقول العرب الأقحاح، لعب على بعض نحائزه، الأشياء الجبلية المغروسة في الفطرة، إنها رغبة التطلع إلى الدوام، إلى الخلود، لماذا؟ كما قلنا هذه الرغبة ضمن رغبات كثيرة كرغبة التملك – أن يتملَّك كل شيئ – وكرغبة أن يعلم – أن يعلم كل شيئ – وكرغبة أيضاً أن يبقى – يبقى في كل زمان وحتى بلا زمان، أي ألا يفنى – مُبرَّرة من كائن وجوده عارية، وجوده هدية من الله، ليس من ذاته وليس لذاته، ليس وجوداً حقيقياً بإطلاق، لا! ولذلك أنا سأُجازِف الآن مُجتهِداً بقول شيئ، لعله يكون صواباً إن شاء الله تعالى، وإلا فالخطأ مني ومن شيطاني.

هذا الضعف الأصيل في الإنسان وهذه الرغبة في الامتداد والاستكمال هل تستمر معه هناك أيضاً في الجنة في الدار الآخرة؟ نعم، المنطق الفقهي البسيط والعقدي الساذج يقول لا، الدنيا دار تكليف والآخرة ليست دار تكليف – دار إمتاع وإلذاذ – وينتهي كل شيئ، لكن هل فكَّرتم في قوله – تبارك وتعالى – يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ۩؟ إنها لا تزال تعمل الرغبة في الامتداد والاستكمال، أن نستكمل مزيداً من المعرفة، مزيداً من الإيمان، مزيداً من الاقتراب من المُطلَق الذي لن تصل إليه وصولاً حقيقياً وإن ادّعي الصوفية بالمُطلَق، لأن الهوة بين التراب ورب الأرباب لا تُردَم بالكامل، مُستحيل! وإلا لاستحال المربوب رباً، مُستحيل! ولذلك التطلع مُستمِر حتى في الجنة وإلى الأبد، وهذه الدعوة دعوة مُمتَدة أيضاً، رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا ۩، يا لضعف الإنسان الذي هو سر عظمته! ضعفه هو سر طلبه للكمال، سر طلبه للمزيد، هل من مزيد؟ إنه منهوم إلى الكمال، لأنه ليس كاملاً في ذاته، ليس من أصل الكمال، إنما هو صنعة الكمال المُطلَق، رب العزة لا إله إلا هو، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

إذن هذا ما كان من آدم وما كان من بني آدم من بعد، آدم كان في البراءة الأصلية كما يُقال، البراءة المُطلَقة الكاملة أو التامة! متى اهتزت هذه البراءة؟ بمعرفة جديدة، مع أن آدم حاز قصب السبق وجاز الامتحان حاصلاً الدرجة النهائية كما يُقال، ومع مَن؟ مع الملائكة، في قضية المعرفة، وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ۩، إلى آخر القصة! آدم فاز في الامتحان بدرجة أولى، لكن الملائكة رسبت مُباشَرةً واعترفت، وعادت إلى وضع الأشياء في نصابها كما يُقال هذه المعرفة لم تُنقِذ آدم، لم يُمارِس بها آدم دوراً استبصارياً ودوراً إنقاذياً في أول امتحان عرض له وفشل في الامتحان، عجيب! الملائكة فشلت في امتحان المعرفة، آدم فشل في امتحان آخر، إنه ليس امتحان المعرفة، إن شئتم هي معرفة من نوع مُختلِف تماماً، إذا تعلَّق الأمر بالأشياء الخارجية – بما يتخارج، بكل شيئ خارجي، أي بالعالم والكون الطبيعي، سواء كان هنا أو هناك – فهذه المعرفة مُمكِنة للإنسان فرداً ومُمكِنة للإنسان بارئاً البراءة الأصلية، مُمكِن أن يكون بارئاً براءة كاملة وأن يحتاز هذه المعرفة، مُمكِن أن يكون فرداً وحده – آدم هكذا برأسه وبحياله – وأن يحتاز هذه المعرفة، لكن فكِّروا معي يا إخواني وأخواتي، هل يُمكِن أن يكون آدم كائناً أخلاقياً فرداً وحده؟ كلا! وبالتالي آدم لم يكن كامل الإنسانية وهو في الجنة، آدم شرع ليكون إنساناً حقيقياً حين أُهبِط إلى الأرض، لأنه بدأ يُجرِّب ويختبر معنى أن يكون موجوداً أخلاقياً هنا، ومع هذه التجربة بدأ ينبثق السؤال من توترات جديدة حاصلة، زايله البكم وبدأ الإنسان يطرح الأسئلة، ليس الأسئلة الاستفهامية الاستعلامية بل الاستنكارية والتقريرية والتعجبية وأحياناً الأسئلة المُجدِّفة حتى على رب الأرباب من خلال هذه التوترات الحاصلة التي زايله بسببها وبها اتزانه وطمأنينته الأولى التي كانت ثمة، اختلف الوضع الآن بالكامل!

إذن آدم لم يكن ليكون كائناً أخلاقياً هناك؟ كان يُمكِن أن يكون كائناً عالماً، كائناً عارفاً، عنده معرفة بكل ما هو خارج، نعم! وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ۩، هذه دلالة خطيرة جداً، معنى ذلك أن هذه القصة تُعطينا جواباً عن سؤال كبير صدَّع آراء زُمرة وجماعة من فلاسفة الغرب وعلمائه، هل يُنقِذنا العلم؟ ويعنون بالعلم الــ Wissenschaft، أي الــ Science، العلم الطبيعي الذي يتعلَّق بالخارج، بالمُناسَبة كثيرٌ منهم إلى الآن لا يزالون – ومعهم بعض الحق نسبياً – في الشك من تسمية الإنسانيات علوماً، قالوا لا، العلم الحقيقي ما يقبل التكميم، هذا علم! أما أن تقول لي التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة وعلم النفس والأنثروبولوجيا Anthropology فلا، هذه ليست علوماً، لا! العلم علم مثل الفيزياء ومثل الأسترونومي Astronomy ومثل الكيمياء، هذه العلوم قالوا، هذه العلوم! إنها تتحدَّث بلُغة الرياضيات Mathematics، لُغة التكميم!

على كل حال هل يُنقِذنا العلم بهذا المعنى؟ الجواب قرآنياً مُستحيل، لو أنقذك لأنقذ أباك من قبل الذي عُلِّم الأسماء كلها وفاز في الامتحان لكنه أمام أول اختبار للذات – ما معنى للذات؟ للاحتفاظ بتوازن القوى في ساحة الذات – فشل مُباشَرةً، نزعة غلبت على نزعة، جانب شال بجانب كما يقولون، جانب شال بجانب ونزعة غلبت نزعة! ومن هنا ما يحتاجه آدم هو نوع آخر من المعرفة أو العلم، إنه العلم بالذات، هذا العلم غير مُتاح في ساحة البراءة، انتبهوا! ولذلك قرآنياً وانطلاقاً من هذه القصة نحن في شك كمال الذين يعتزلون العالم كالمُتنسِّكة والمُترهبِنة، يعتزلون العالم اعتزالاً حقيقياً، ليس على طريقة أرنولد توينبي Arnold Toynbee اعتزال ثم عودة، لا! هؤلاء مُصلِحون، أما الذين يعتزلون ويظلون مُعتزِلين نحن نشك في كمالهم، هؤلاء لا يزالون فطيرين غير ناضجين وإن نضجوا أسناناً ودعاوى ومزاعم في الاتصال والقرب من رب الأرباب، لا! هؤلاء ليسوا كائنات أخلاقية، ليسوا أناسي مثلنا، نحن أخلاقيون، سواء أصابنا أو أخطأنا نبقى في النهاية أخلاقيين، لأننا نُختبَر بمنطق الصواب والخطأ.

براءة آدم من نوع براءة ماذا؟ من نوع براءة الجهل وبراءة العمى، براءة الجهل بإمكانات الذات وإمكانات الواقع، حين برزت له معرفة جديدة من إمكانات الواقع – تميز المحظور بإزاء قوى النفس التي بدأت تتحرَّك الآن نحائزها ورغباتها – اختلفت القضية تماماً، وهنا دخل اختباراً جديداً وخرج منه ببراءة من نوع مُختلِف، إنها براءة ممهورة بمهر التوبة، فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۩.

بالمُناسَبة بعض الناس لديه اعتراضات، قرأت لفيلسوف غربي يسأل سؤالاً يعترض به على الإسلام والمسيحية واليهودية جُملة واحدة، يقول هذه الأديان السماوية التوحيدية تُحدِّثنا عن قصة آدم وقصة حواء وما كان منهما، وأنا أسأل أين الحكمة وأين العدالة الإلهية في أن يبقى الجنس البشري يُعاني العذابات والمحن ويتعرَّض للشقاء العام بذنب أبويه في الجنة؟ أين الحكمة؟ هما أذنبا، لماذا نتحمَّل نحن تبعات هذا؟ علماً بأن هذا السؤال يُشكِّل إثارةً وتحدياً للمنطق الإسلامي الصحيح في حد ذاته والذي لا يعترف بالخطيئة الموروثة، لكن أليس هذا من نتائج الخطيئة الموروثة؟ إذن هذا السؤال أو هذا الاعتراض يُساعِد النصارى أكثر ما يُساعِد اللاهوت الإسلامي أو علم العقيدة الإسلامية، والجواب عنه قريب سهل.

أولاً نحن – أنا، أنت، هو، وهي – لم نُعان الفرق بين الحالتين، الذي عانى الفرق وعُذِّب بالفرق بين الحالتين – بين النعيم الذي لا شقاء فيه وبين العالم الأرضي الداني الذي هو عالم معجون بالشقاء والكبد – هما أبوانا، هما بذاتيهما، لسنا نحن! هذه واحدة! فأن تقول لي نحن عانينا كأنك اختبرت الحالتين فهذا كذب، أنت تكذب على نفسك وعلى خبرتك، أنت لم تختبر الحالتين، أنت اختبرت حالة واحدة وهي الحالة المرجعية الوحيدة بالنسبة إليك، أما هما – نعم – فقد عانيا ذلك وهذا جزاء وفاق، هناك خطأ وهناك عقوبة مع قبول التوبة، هذا كان أولاً.

ثانياً – من جهة ثانية – نحن نفهم أن ما حصل لأبوينا كان تمهيداً لكي تبتدئ حكايتنا، وابتدأت حكايتنا هنا في هذا العالم، ما هذه الحكاية؟ هل هي محض فعلاً نكاد وكبد وشقاء ومُعاناة ومحنة عامة؟ كلا! بالعكس، إنها فرصةٌ وتحدٍ، والإنسان الفاعل يرى في التحديات فرصاً، يرى في كل تحدٍ فرصةً جديدةً يهتبلها وينتهزها، كيف؟

هذه الحياة فرصة وتحدٍ لننتقل من الكائن إلى الكامن أو مما هو بالفعل إلى ما هو بالقوة، كما قلت حتى ننتهي إلى سدرة مُنتهانا، حتى إبليس – أحد أبطال هذه الرواية – هو عنصر رئيس ولابد منه، لأنه عنصر رئيس في توفيز وتحريك هذه القوى المُتقابِلة، طبعاً لحساب قوة على قوة، لابد منه! في نهاية المطاف بمنطق مُجرَّد هكذا هو يخدمنا، كيف؟ أنا سأقول لكم كيف.

نحن لا نرى في الشر شراً يُحيِّرنا ويُقلِقنا ويُدهِشنا إلا الشر الذي يُزلزِلنا ويُقلقِل مواقعنا الإيمانية وقناعاتنا اليقينية، أما الشر الذي نهزمه ونُنزِل به هزيمة نكراء فهذا الشر يخدمنا، نحن مدينون له، لأن هزيمته لا تعني فقط انتصاراً منا عليه أو انتصاراً على ضعفنا، لا! أكثر من ذلك، إنها تعني تخصيب تجربتنا، إثراء شخصياتنا، من خلال التجربة ذاتها! لأن لولا هذه التجربة لما خُضنا هذا النزاع، لما وُجِدَت ساحة لهذا النزاع بين هذه القوى التي تطلب ساحتها، في الجنة لم تكن لها ساحة حقيقية، ولذلك كان تميز المحظور – تميز الشجرة – هو الساحة الوهمية، ونجحت القضية، لكن هنا ساحة حقيقية، الشر يعمل فيها جُزءاً، بهذا المنطق أنت سترى هذا الشر يخدمك ويخدم قضيتك في نهاية المطاف، وحينئذٍ ستفهم – بعض الفهم طبعاً وليس كل الفهم – لماذا سُمِح له بالوجود؟ لماذا سُمِح لنا أن نتعاطى معه أيضاً؟

ما أُحِب أن أقوله أن الإنسان مخلوقٌ ومركَّبٌ ومُهيأٌ ليتكامل ويثرى ويعمق هنا، في هذا العالم وعبره ومن خلاله، لا في عالم مُتمحِّض للخير وللنور وللقُدس، إنهم الملائكة أو أولئكم الملائكة، أما نحن مُعدَون ومُهيئون لكي نعمق ونثرى هنا، في هذا العالم!

إذن ما الذي يحصل مع الخُطاة من جنس إبليس نفسه؟ ما الذي يحصل مع الغارقين في الإثم حتى أذقانهم؟ الذي يحصل أنهم لم يفهموا التجربة، ولذلك لم يستفيدوا منها، استهلكتهم التجربة بدل أن يستثمروها!

بالمُناسَبة من أكبر التحديات تحدي الفناء وتحدي الزمن، يود كل منا أن لو يقبض بأنامله أو حتى بكلتا يديه أو بجُمع كفيه على أيامه الذاهبة، أيام طفولته وشبابه العذبة، لكنه لا يستطيع، كل شيئ يتفلت، وتسري إليه الشيخوخة، يدب إليه الضعف والفناء، إذن هل الزمن يعمل فينا ولا نعمل فيه؟ لا! من المُمكِن أن نعمل فيه، كيف؟ من المُمكِن أن نستخدم هذا الزمن، أن نُخدِّمه، أي نجعله خادماً لنا، بماذا؟ بقوة الالتقاط، بقوة الاستذكار، بالذاكرة! بالذاكرة المُنتعِشة – Fresh – اليقظة، بحيث تغدو أيامنا الأولى كساعات لا تُبارِح، إنها أمامنا، لكن بقوة الاستذكار!

مأساة الإنسان أنه كائنٌ ناسٍ، ينسى كثيراً، ولذلك تُمارِس عليه هذه القوى فعلها بعنف أحياناً، وهو يرى نفسه ضحيةً لها، لكن أنا يُمكِن أن أستنجز اللحظة التي لم تأت وكأنها ملء كفي الآن، كيف؟ بقوة التخيل مشفوعة بقوة العمل، واللحظة الهاربة الماضية يُمكِن استنجازها بقوة التذكر، واللحظة الحاضرة الفاعلة كالمنشار يُمكِن استنجازها بقوة الفعل والإنجاز، لا أترك نفسي هملاً بين يديها، وهكذا أنا سأفعل أيضاً في الزمن، مُقابِل فعله هو في، هكذا! هذا مُمكِن للإنسان، الإنسان عالم من الإمكانات، عالم من الطاقة!

نعود إلى موضوع الخطّاء، الذي يحصل مع الغارقين إلى أذقانهم في الخطيئة أنهم لم يفهموا التجربة حقاً ولم يستثمروها وبالتالي فقدوا قدرة التمييز بين الوهمي والحقيقي، بين الزائف والحقيقي الأصيل، كيف؟ آدم – كما قلنا – أُغريَ بوهمية ماذا؟ بوهمية تميز، وهمية تميز المحظور! لكنه طلع في النهاية ليس مُتميِّزاً، بل أفقده بعض مزاياه، وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ۩، كل أثمار الجنة وكل نبت الجنة الذي كان آدم وحواء يتناولانه ويتعاطيانه يخرج بشكل إفرازات طاهرة جميلة لا تُحوِج إلى التخلي، الشجرة هذه بالذات أحوجتهما إلى التخلي مع ما يتعانى الإنسان من شعور أحياناً قد يكون مُؤلِماً وفي كل حين هو شعور مُخزٍ، شعور بالافتضاح، شعور بالضعة بلا شك، شعور التخلي حال من أحوال الإنسان للأسف، هذا هو التميز!

يا ابن آدم – يا أنا، يا أنت، يا هي، يا هم، يا أولئكم، نحن بني آدم – مسموح لنا بل مُقدَّر علينا – في الحديث لو لم تُذنِبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم غيركم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم، هذا مسموح ومُقدَّر علينا – أن نُخطئ، لكن دائماً ينبغي أن نستفيد من تجربة الخطأ ماذا؟ الإمساك بالخيط الذهبي والخيط الحريري المائز والفارق بين الوهم والأصالة، الزيف والحقيقة، سنرى أن هذه الساحة لهذا الموضوع – ساحة الخطأ لموضوع الخطيئة – إنما هي ساحة وهمية للذات ورغبات لا تجد إشباعها هنا، وإنما في مجال آخر!

الخاطئ لا يفهم هذا، ومن هنا يُمارِس في اجترار خطئه، إنه يعلق في خطئه، الخطأ بدل أن يكون فرصة للإنماء والإثراء والتخصيب يُصبِح – والعياذ بالله – فخاً – Falle – وشَركاً يعلق فيه المسكين ويبدأ يتهالك ويبدأ يزوي ويضعف باستمرار حتى ينتهي!

هل تعرفون قصة أبي النواس “الحسن بن هانئ”؟ هذا الشاعر الداعر المشهور لم يكن ليجد أي لذة في إتيانه أهله – مع أنها كانت صبيحة الوجه وأصغر منه سناً – أبداً، كان يجد هذه اللذة – والعياذ بالله – مع الخاطئات الساقطات من أمثاله دائماً، هذا المسكين استحال الوهم عنده إلى ما أفهمه أنه حقيقة، وهو ليس بحقيقة، إنه استهلاك، استهلاك للفرصة، فرصة الاستكمال وفرصة الرقي، للأسف علق المسكين في هذا الشَرك، وذات مرة ذهبت زوجه التي لم تكن تفهم هذه النفسية – لم تستطع أن تفهم هذه النفسية، كيف يتركها وهي الغادة الخمصانة الجميلة المُمتلئة البضة إلى هؤلاء الساقطات العجائز أحياناً؟ – إلى إحداهن ليلة وأقنعتها أن ترقد في مضجعها وأن تُطفئ السراج ففعلت، فجاء الشقي المُعثَّر – أعني أبا نواس – وأتاها على أنها ساقطة ثم أُضيء المصباح، فجفل هكذا أو أجفل وقال ما أحسنكِ زانية! وما أقبحكِ زوجة! لقد علق المسكين.

انتبهوا، هذا تحذير أختم به الخُطبة، تحذير لكل الخُطاة والخاطئين، إياكم أن تعلقوا في أفخاخ وأشراك أخطائكم، ليس العيب أن نُخطئ، كلنا خطّاؤون، كل ابن خطّاء، لا عصمة لأحد منا، كل ابن خطّاء، لنا أخطاؤنا، بعض الناس يقول أنت تُعطيني يا شيخ – مثلاً – جوازاً أو إجازة بمُمارَسة أي خطأ أُريد وبعد ذلك سأستئنف توبة، لكن انتبهوا، من حكمة الله – تبارك وتعالى – ومن رحمة الله ومن كرم الله – لكن هي أدخل في باب الحكمة، الشيئ في موضعه تماماً – أنه حين خلق المعاني كالأشياء جعلها مُتدرِّجة، أي كالمُتصَل Continuum، جعلها مُتدرِّجة! الألم له درجات، اللذة لها درجات، الجوع له درجات، العطش له درجات، وكذلك الحال مع العلم والجهل والجمال والقوة، كل شيئ له درجات! الخطأ والخطيئة والمعاصي مُدرَّجة أيضاً ولها درجات، ومنها الصغائر ومنها الكبائر ومنها فواحش الإثم – والعياذ بالله – وأرذلها الشرك بالله، أعظمها فُحشاً الشرك بالله، مُدرَّج! ما معنى هذا التدريج في كل شيئ مخلوق؟ ليس نسبيته فقط وإنما يعني أيضاً أن عندك فرصة بدل أن تهلك بمُمارَسة خطأ قد تعلق فيه إلى الأبد وتنتهي – انتبه لأن بعض الناس قد يُمارِس خطأً فيعلق فيه وينتهي كل شيئ – هناك فرصة أن تُمارِس هذا الخطأ مُخفَّفاً، محلول من هذا الخطأ، محلول خطأ مُخفَّف! درجة بسيطة جداً جداً.

هناك – مثلاً – الخيانة أو الفاحشة، والنبي أشار إلى هذا في حديث البخاري، قد تكون الخيانة هذه بالعين، يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ۩، قد تخون أخاك في الله أو جارك أو صديقك أو رجلاً فاضلاً كريماً حافظاً لأعراض الناس، قد تخونه في عرضه مع أهله بالعين، تنظر إليها النظرة الشاهية، والله يعلم خائنة الأعين، لو نظرت إليها بطرف عينك بقصد شاهٍ هذا معلوم عند الله، معلوم! انتبه إلى هذا، لا إله إلا هو، معلوم عند الله تبارك وتعالى، قد تخونه! بعد ذلك بهذه التجربة المُخفَّفة من الفاحشة هل أنت مُرتاح؟ هل تجد هذا يخدم تكاملك، شخصيتك، تصالحك مع ذاتك، طمأنينتك، إثراءك، وتعميق ذاتك؟ مُستحيل، كيف بما هو أكثر من ذلك؟ ما يكون باللمس – مثلاً – أو بالقُبلة أو وبالضمة والعياذ بالله، إذن تراجع! تعلم أنت من خلال هذه المُمارَسة المُخفَّفة أن ما سيكون أشد منها سيكون أشد تحطيماً لذاتك، فالخطيئة تحطيم للذات.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين وسَلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة:

فقط جُملة أخيرة، يعترضني بعضكم ليقول مارست هذا الخطأ أو هذه الخطيئة المُخفَّفة فجرتني إلى ما هو أعظم والعياذ بالله، إلى ما هو أدون! سأقول له مرةً أُخرى لأنك لم تفهم تجربتك، أنت أيضاً لم تفهم ولم تستثمر تجربة هذه الخطيئة المُخفَّفة، لم تفهمها ووقعت أيضاً أسيراً في يد الوهم مرةً جديدةً، علماً بأن حتى ما هو أحط وما هو أنزل لن يكون النهاية، ستبقى عالقاً أحياناً وتُكرِّر إلى أن يشاء الله ربي شيئاً، فانتبه!

من هنا نعود لنُؤكِّد مرة أُخرى على مسألة الخيار، لتكن أفعالنا مُنتقاة ومُنتخَبة تكعس خيارنا بدءاً من الإيمان، وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۩، هذا سؤال تقريري.

بالمُناسَبة كل ما له أصل ينحل في النهاية إلى أصله، يذكر العلماء الأصوليون والبيانيون أكثر من عشرين غرضاً يُمكِن أن ينحرف إليها السؤال، لأن الأصل في السؤال هو الاستعلام، لكن يُمكِن أن ينحرف إلى واحد من عشرين غرضاً آخر، هذا صحيح لكن ما انحرف إليه يُمكِن وبخُطوة بسيطة جداً – ليس برحلة Trek وإنما بخُطوة بسيطة – أن نُفسِّره أو أن نُحلِّله – نجعله مُنحَلاً – إلى أصله أيضاً، هو يتضمَّن أيضاً الأصل.

أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۩، فهذا مُباشَرةً يتضمَّن سؤالاً للذات، أهو ربنا؟ طبعاً، الدلائل كلها تقول ومن صنعة يديه نعم، قَالُوا بَلَى ۩، إذن مُنذ البداية حتى الإيمان هذا في عالم الذر وفي عالم الأنفس المحضة كان لابد أن يخضع لاختيار ولانتخاب، ونحن نجحنا في الامتحان ابتداءً، هذا ما تُعطيه الفطرة بإلحاحها وسلامتها وحُسن توجهها، البوصلة الفطرية!

اللهم إنا نسألك أن تهدينا وتهدي بنا، وتُصلِحنا وتُصلِح بنا، اللهم اجعلنا مفاتيح للخير، مغاليق للشر، اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم في هذا المقام الكريم ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا ميتاً إلا رحمته ولا مريضاً إلا شفيته ولا غائباً إلا رددته ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه بفضلك ومنّك إلهنا ومولانا رب العالمين.

اجعلنا نخشاك حتى كأنا نراك، وأسعِدنا بتقواك ولا تُشقِنا بمعصيتك، وخِر لنا في قضائك، وبارك لنا في قدرتك، حتى لا نُحِب تأخير ما عجَّلت ولا تعجيل ما أخَّرت، واجعل اللهم غنانا في أنفسنا، ومتِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا واجعلها الوارث منا واجعل ثأرنا على مَن ظلمنا.

اللهم أحسِن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجِرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اغفر لنا ولمَن حضر، اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وللمُسلِمين والمُسلِمين، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات بفضلك ورحمتك إنك سميعٌ قريبٌ مُجيب الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

(مقطع هام مُلصَق بآخر الخُطبة)

هذه المرة كان ملفوفاً بقطعة قماش أحمر، ورفعه على رؤوس الأشهاد وبدأوا يتصايحون ويُغشى على بعضهم ويصرخ بعضهم، تهيَّجوا جميعاً! ثم اكتُشِف بعد ذلك أن القسيس بارتلمي نفسه حين شعر بحراجة الموقف حتى النهاية انسل في جنح الليل دون حتى أن يراه النبيل – حارس الرمح لأنه كان قد غلبه النوم والنُعاس – ودخل في الحفرة بعد ان أخفى في طيات أثوابه نصلاً لرُمح عربي – أي من جُند المُسلِمين – ثم هناك ادّعى أنه وجده في أسفل الحُفرة.

المُهِم أن إدوارد جيبون Edward Gibbon قال المجلس العسكري كله صادق على أن الرُمح وُجِدَ هناك، قال لا أدري هل كانوا مُؤمِنين بذلك أو غير مُؤمِنين، لكن الذي أدريه أن مصلحتهم اقتضت أن يُؤكِّدوا إيمانهم بهذا، هذا طبعاً لكي يقدروا على قيادة هذه الجماهير الغبية من الجيوش الصليبية، وهكذا تُخدَع الشعوب والجيوش ويُكذَب عليها باسم الدين وباسم الرب وباسم القدس!

سأحكي لكم قصة أكثر مسخرةً من هذه القصة، للأسف من تاريخنا الإسلامي هذه المرة ومن المصادر التركية، الخواجة نصر الدين خوجة تعرفونه، جحا! هذه شخصية حقيقية طبعاً تاريخياً لكن نُسِب إليها الكثير طبعاً، وكان فيه بعض الظرف والدعابة بلا شك.

كان نصر الدين خوجة الشهير بجُحا مُريداً عن شيخ جليل القدر من أولياء الله الكبار في بلاد تركيا يُدعى حاجي بكير، أي الشيخ حاجي بكير! حاجي بكير هذا من أين أخذ شُهرته؟ من شُهرة شيخه ولي أولياء الله تعالى والمُقدَّس الكبير الشيخ فلان ابن علان ابن سُلطان المدفون في مسجد والذي صار كعبة للقُصّاد ومزاراً لذوي الحاجات من العوانس والأرامل والمُطلَّقين والمُطلَّقات والذين لا خلف لهم ولا عقب ولا مال ولا رزق، الكل يأتي هناك! وكذلك الحال مع المغمومين والمحزونين والمقطوعين، الكل يأتي هناك وينذر ويذبح ويُهدي ويدفع الأموال، حتى تأثَّل حاجي بكير ثروة عظيمة، تأثَّل ثروة عظيمة من المال! وصار له الكثير من البساتين والأوقاف، وقصة طويلة عريضة! وجُحا المسكين هذا – نصر الدين خوجة – مُجرَّد مُريد فقير عنده، عرضت له في يوم من الأيام سفرة أو رحلة، فاستئذن حاجي بكير أن يُسافِر، قال له سأُعيرك أتاناً – أُنثى الحمار، قال له سأُعيرك أتاناً، وهي عجوز شمطاء مُتعَبة – تذهب بها وتُسافِر على أن تذهب وتعود في كذا وكذا يوم، أي ثلاثة أو أربعة أيام، ليس أكثر من هذا لأنه يخدمه، يشتغل ويُنظِّف ويقم هذا المسكين، فذهب بها! لكنها لفرط عجزها وضعفها نفقت في الطريق، في نصف الطريق ماتت هذه، فاحتار طبعاً وأُسقِط في يده، بماذا يعود إلى شيخه حاجي بكير؟ ماذا يقول له؟ ماتت الأتان! والرجل حبّاب للمال، الشيخ الولي الكبير حبّاب للمال جداً، وهذا تورَّط لأنه ماذا سيقول له في شأن الأتان؟ ثم عرض له أن يدفنها، وبين هو يدفنها خطر له خاطر شيطاني، لِمَ لا أبني عليها ضريحاً حتى إذا سُئلت أجبت؟ وفعلاً بدأ يُشيِّد الضريح ويُجمِّله، فسأله أحد المارة لمَن هذا؟

طبعاً أمة تعبد الأولياء، انتبهوا! تعبد الأموات، ما عادت تعبد الله حقاً وتطلب من الله، عادت تعبد هؤلاء، وطبعاً هذا انحطاط وبدائية، محمد رفعنا إلى رُتبة المُتجرِّدين، أمة لا إله إلا الله، لا نعبد إلا الله، لا نثق إلا بالله، لا نسأل إلا الله، ثم بعد ذلك كلنا نحن بشر، محمد مثلنا مُحتاج إلى الله، ولا يعلم خيره من شره، انتبهوا! قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ ۩، قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۩، لكن الأمم البدائية حين تُصبِح بدائية أو تنحط إلى بدائية لا يُعجِبها هذا، يُعجِبها الشيئ المحسوس الملموس، له لحية أو له لعمامة أو له ضريح أو له اسم أو له مكان نقصده بخُطوات، مائة خُطوة أو مائة ألف خُطوة حتى أو مائة كيلو متر، لا تُوجَد مُشكِلة، لابد من شيئ محسوس، أصبحنا بدائيين، أصبحنا مُنحَطين مُتوحِّشين، بعد أن كنا أمة ذات عقل وذات رقي، لذلك لا أُؤمِن أن هناك نهضة روحية مع غياب العدل، انتبهوا! هذا مُستحيل، لا يجتمعان، النهضة الروحية الحقيقية تُنتِج نهضة عقلية حقيقية، لكن يُمكِن أن تكون نهضة عقلية بلا نهضة روحية لكن ستأكل نفسها، ستسهلك نفسها كنهضة الغرب هذه العقلية لكنها ليست روحية.

على كل حال فسأله، قال هذا شيخي فلان ابن فلان، هذا من كبار أولياء الله، صاحب سر باتع – كما يقول العوام – ونافذ، وأوصاني بأن أبني على قبره كذا وكذا، ما هي إلا أيام معدودات وليالٍ منزورات حتى كثر القصّاد يا حبيبي وحجّاج هذه الكعبة الجديدة من النساء والرجال، فقلَّ رزق حاجي بكير، أغلب الذين كانوا يذهبون إلى شيخه هناك توقَّفوا عن الذهاب، قليل ظل يرتاد حاجي بكير، فغضب الشيخ الكبير حاجي بكير، شيخ جحا نفسه! فجاء إلى نصر الدين خوجة وألح عليه واستحلفه وعزم عليه إلا أخبره بنبأ هذا الشيخ الجديد، فقال يا سيدي أتُريد الحقيقة؟ لكن عزمت عليك بالله أكتم علىّ ولا تقطع رزقي، قال ما هو؟ ماذا هناك؟ قال هذه ظريفة، وهذا اسم الأتان، أي اسم الحمارة هذه، كان اسمها ظريفة، سماها ظريفة! بالتركي اسمها ظريفة، قال هذه ظريفة، قال ظريفة؟ قاتلك الله، قال يا سيدي، اكتم علىّ يا سيدي كذا وكذا، هذه مُصيبة والناس سوف يقتلونني، قال شريطة، قال اشرط، قال الشَركة، نشترك! المعلوم والمدخول لي ولك، رزق الهبل على المجانين، إذا هذا استهبال فهؤلاء مجانين، طوّاف يأتون لكي يبكوا ويدعوا وما إلى ذلك، مجانين! أمة مجانين للأسف، والله شيئ يُقرِّح الأكباد، أُقسِم بالله، حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۩، أين نحن من الله يا أخي؟ لا يُسَد بابه، لا إله إلا هو! ماذا أُريد من صاحب القبر هذا؟ رحمة الله عليه أياً كان، لكن رحمة الله على ظريفة؟!

على كل حال قال على أن نشترك، قال لك ذلك، ولكن يا سيدي – هذا جحا – ماذا ستقول للشيخ صاحب المقام هناك عندك؟ فعلمي أنه شيخ كبير وسره نافذ جداً، لعله يعود علينا بعقاب، أنا وأنت! قال اسكت، الشيخ ذاك هو أبو ظريفة يا حبيبي، نعم! هذه قصة من التاريخ، الشيخ هناك هو أبو ظريفة، كان حماراً قوية – قال – رحمة الله عليه، كان جحشاً مُمتازاً – قال – قوياً ونفق، وكان رزقي على متنه، على ظهره! فتحيَّلت بهذه الحيلة وفتح الله علىّ بها، صرت أنا شيخاً من الشيوخ وهو صار من الأولياء، قال والحمد لله، ربي كريم، ربي لطيف، قال كريمته – ظريفة بنت ظريف – على العهد والطريق، الحمد لله تُواصِل طريقه، وربما تستمر المسألة!

أين العقل يا أحبابي؟ أين العقل؟ ما أدراني أن هذا صحيح؟ الدكتور العلّامة الكبير أحمد أمين هو مُؤرِّخ الفكر الإسلامي في وقته – رحمة الله عليه – وصاحب فجر وضُحى وظُهر الإسلام ويوم الإسلام، ختمها بيوم الإسلام! أحمد أمين – رحمة الله عليه – العلّامة المصري الكبير في كتابه قاموس العادات والتقاليد الشعبية ذكر قصة عجيبة جداً، قصة رجل اسمه صالح وما هو بالصالح بل هو طالح، طالح الطالحين! اسم على غير مُسمى، هذا كان يدّعي الدروشة وأنه تقريباً شبه أخرس لا يُبين، يجلس هكذا في ضعف، وكلما به رجل أو امرأة ذو أو ذات هيئة – كيف يعرف أنه ذو هيئة؟ يُوجَد ذهب مثلاً في رقبته أو في يديه أو يلبس لباساً جيداً – يقول يا واحد، يُوحِّد الله، ما شاء الله، مجذوب! فيختفي الرجل أو تختفي المرأة ثم لا يعود، لماذا؟ حين يقول يا واحد تخرج جماعة من قطّاع الطرق السلّابين النهّابين القتلة فيأخذونه ويقتلونه ثم يدفنونه أو يرمونه في الترعة أو في النيل ويأخذون ما عنده، اختفى عشرات الناس! شكت الشرطة المصرية في هذا، أيام الخديوي إسماعيل هذا، هذا أيام الخديوي إسماعيل إسماعيل! أي أنه قريب جداً، شكت الشرطة المصرية فنصبت كميناً، أخونا الشيخ الدرويش قال يا واحد فخرجوا، قال فأخذوا المُوحِّد ومَن يُوحَّد بهم، تعالوا! اكتشفوا وقالوا لابد من إنزال أشد العقاب، فجاءت مُغنية – والعياذ بالله – سُمعتها في الطين كما يُقال، وحلفت وأقسمت أن هذا درويش ومسكين ولا علاقة له وأنها تعرفه ولابد من تركه، وطبعاً شفَّعوها لأنها مُغنية، حكومة فاسدة – للأسف – وإدارة فاسدة، فشفَّعوها فيه فأخذته ووضعت القيد في يديه، لذلك سُميَ بعد ذلك صالح أبي حديد، اسمه صالح أبي حديد! ربما المصريون يعرفون جامعاً كبيراً في القاهرة اسمه جامع صالح أبي حديد، يُزار إلى اليوم! ويُقال إنه تُحفة معمارية، عليّ مبارك باشا صاحب الخُطط التوفيقية قال أنا غير قادر على أن أفهم كيف بُنيَ على اسمه وعلى جثمانه النجس هذا المسجد العظيم، سوف نرى أن هذا بأمر الخديوي إسماعيل، أمة لا عقل لها – كما أقول لكم – للأسف، إلا ما بقيَ لها من عقل طبعاً، فالمُهِم أخذته وهكذا فترة حتى نُسيت قصته، ثم أشاعت في الناس أنه وليٌ مُكاشَف وأنه مُخاطَب وأنه ينطق بالغيوب، فحدث نفس الشيئ، قصده أصحاب الحاجات والملهوفون، وكثر الناس وهو لا يكاد يُبين، يُغمغِم بحروف لا يستبين السامع منها شيئاً، ثم تأخذ هي المعلوم، وكوَّنت ثروة طائلة جداً جداً حتى قضى، هلك هذا الفاسق المُجرِم، السلّاب النهّاب القاتل هلك، فبلغ صيته وسُمعته – أنه من الأولياء الكبار ورحمة الله عليه وقدَّس الله سره الكريم – الخديوي إسماعيل فأمر بناء المسجد على قبره ويُسمى مسجد سيدي الشيخ صالح أبي حديدة.

ما أكثر الأسياد في بلادنا! سيدي بوزيد، سيدي بوسعيد، سيدي فلان، وسيدي علان! أسياد كثر بالآلاف في كل مكان، الله أعلم، الله المرجو – تبارك وتعالى – ألا يكون أكثرهم أتانات وحميراً، شيئ عجيب في هذه الأمة!

النبي – عليه السلام – أراد تعقيل – لا أقول أراد عقلنة وإنما أراد تعقيل – هذه الأمة، أراد لها ألا تنحط إلى هذه الوهدة، لكنها فعلت حين آثرت ألا تتبعه، فقد اكتفت هي أن تتغزَّل بطول حاجبيه وسواد عينيه وجلاحة جبينه وجمال وجنتيه الأزهرتين، جعلوه كأنه ما يُتغزَّل به، هذا الذي أخذوه منه – صلى الله عليه وسلم – للأسف الشديد، وبعضهم أخذ منه الطقوس والمراسيم الظاهرية، أين روح محمد؟ أين رسالة محمد؟ أين مشوار محمد؟ أين مسيرة محمد؟ أين تركة محمد الحقيقية أيها الإخوة؟ أين هي؟ أين هي؟ للأسف لابد أن يُنبَش عنها من جديد!

اسمعوا هذا الموقف الذي تعرفونه جميعاً لكن فكِّروا في إطار خُطبة اليوم في دلالته، يا له من موقف! أخرج مُسلِم وأبو داود والنسائي عن جابر بن عبد الله – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال مات إبراهيم ابن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وانكسفت الشمس، أي في اليوم الذي مات فيه إبراهيم – عليه السلام – ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الناس ما انكسفت إلا لموت إبراهيم!

طبعاً هذه عقلية الجماهير، نفس الشيئ! تُريد مُعجِزة، تُريد خُرافة، تُريد خيالاً، تُريد سُلطاناً في القمر، هذه هي! هذه الأمم، قالوا ما انكسفت إلا لموت إبراهيم، واضح! إبراهيم مات وهو ابن النبي، ابنه الوحيد الذكر، يقول جابر فقام النبي – صلى الله عليه وسلم – وصلى بهم ست ركعات بأربع سجدات حتى آضت الشمس – أي رجعت، تجلت! آض تعني رجع، أي أنها عادت ورأوها – ثم قام، انتبهوا الآن، كان بوسعه مثل كل القادة والزُعماء – أستغفر الله العظيم – والدجاجلة والأنبياء الكذبة أن يقول نعم، قد رأيتم ولا أدّعي أنني أُريكم ما لا أرى، رأيتم! كُسِفت لموته عليه السلام، ولو قد عاش لكان وارث أبيه، إلى آخر هذا الكلام الفارغ! قام بأسلوب مُختلِف تماماً ليقول – صلى الله عليه وسلم – أيها الناس – بعد أن حمد الله وأثنى عليه وقدَّسه ومجَّده، عبد الله ورسوله، اللهم اجزه عنا خير الجزاء واجمعنا به، اللهم أحينا على سُنته وأمتنا على مِلته، هذا ما نرجوه والله – إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله – قضايا كونية هذه – لا تنكسفان لموت عظيم أو قال لموت أحد في رواية، غير صحيح الكلام هذا، هذا ليس له علاقة بابني إبراهيم بالمرة لا من قريب ولا من بعيد! فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة.

قال هذه آيات يُخوِّف الله بها مَن شاء مِن عباده والحل في الصلاة، لا تقل مات إبراهيم أو وُلِدَ فلان أو مات فلان، قال هذا الكلام أساطير الأولين، خُرافات لا وجود لها، الله أكبر! أعظم فرصة كان لنهّاز أو كذّاب أن ينتهزها، أليس كذلك؟ خاصة في شعوب مثل هذه، هي التي ألَّفتها، هي التي أطلَّقت هذه الخُرافة، بعضهم لا أقول يهتبل السوانح وينتهز الفرص أو يفترصها بالعكس يخلقها ويُهيء لها!

رسول الله يا أحبابي – وفكِّروا مرة أُخرى – كان شديد التبسط في ثيابه ومسلكه ومجلسه ومأكله ومشربه، وكثير الاندماج في جماعته، أليس كذلك؟ والزُعماء لا يفعلون هذا، أنا قرأت في كتاب تنوير القلوب للشيخ محمد أمين الكُردي – قدَّس الله سره – شيئاً عجيباً، هذا شيخ كبير وله كرامات يُحكى عنها، المُهِم قال – رحمة الله عليه – في آخر كتابه – وهذا ليس عند الشيخ الكُردي فقط بل عند كل مشايخ الصوفية – من آداب الشيخ ألا يتبسَّط مع تَلاميذه، ممنوع تخرج عليهم في ثياب النوم، ممنوع تخرج عليهم بشعرك من غير العمامة أو بدون الكحل أو بدون اللحية المُسرَّحة، ممنوع! كله ممنوع ممنوع، لماذا؟ حتى لا تنزل الهيبة، لابد أن تظل لك هيبة دائمة عليهم، عندك مجلس مُعيَّن، عندك شكل مُعيَّن، عندك معيار – Standard – مُعيَّن، لا ينبغي أن تنزل عنه، لكي تقدر على أن تستلب عقولهم!

محمد على كل حال من أول يوم رسالته ليست هي أن يستلبنا، لا والله! أن يهبنا، هو أعطانا ما سُلِبناه، محمد من أول يوم ما أراد أن يُغرِّبنا عن أنفسنا، بالعكس أراد أن يُوحِّدنا بحقائقنا، أن يُعيد فرديتنا واستقلالنا، ولذلك كان لا ينحاش عنا ولا منا، يجلس بيننا، يأكل مثلنا، ينام بين أصحابه على التراب وعلى الحصير في المسجد وفي قارعة الطريق تحت شجرة وجاء مَن أراد أن يغتاله صلى الله عليه وسلم، عادي! بكل بساطة يجلس حيث انتهى به المجلس، محمد يلبس مثلما يلبسون وليس هذا فحسب، ذات مرة جلس فبقوا هم قائمين، فقال ما هذا؟ مَن أحب أن يتمثَّل له الناس قياماً – أو قال يمتثل – فليتبوأ مقعده من النار، لا تقوموا لي كما تقوم الأعاجم لملوكها، أجلس وأنتم تظلون واقفين! أي Bodyguards، تعرفون الــ Bodyguards، كلهم الآن يُحِبون الــ Bodyguards حتى بعض المشايخ البُسطاء من أمثالنا كان عندهم Bodyguards، كلنا صرنا خطيرين، ما شاء الله علينا، نُهدِّد أمن العالم! ما هذا؟ محمد لم يكن كذلك، قال لا، اجلس وتجلسون، مثلي مثلكم، لا يُوجَد فرق!

ونجح مع هذا كله أن يسوسهم أعظم سياسة، أليس كذلك؟ وأن يختلب عقولهم دون أن يستلبها، ليُحِبونه حُباً جماً وعقولهم معهم، يُطيعونه طاعة شبه مُطلَقة لكن فيما تُبرِّره عقولهم، فإن خالف أمره ما يقتنعون به لووا والتووا بين يديه حتى يُقنِعهم، لأنه هكذا رباهم صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذاب شديد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسَلَّم تسليماً كثيراً.

اللهم إنا نسألك في هذا اليوم الكريم في هذه الساعة المُبارَكة في هذا المقام الكريم ألا تدع لنا ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرَّجته ولا كرباً إلا نفَّسته ولا مريضاً إلا شفيته ولا ميتاً إلا رحمته ولا غائباً إلا رددته ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه ولا أسيراً إلا أحسنت فكاكه وطلاقه يا رب العالمين.

اللهم إنا نسألك ألا تدع لنا حاجة من حوائج الدنيا لنا فيه صلاح ولك فيها رضا إلا أعنت على قضائها ويسَّرتها بمنّك وفضلك إلهنا ومولانا رب العالمين، اغفر لنا ولمَن حضر ولوالدينا ولإخواننا وأخواتنا وقراباتنا وأزواجنا وذرارينا وأخلافنا جميعاً برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من فضله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهى المقطع بحمد الله)

فيينا 07/09/2007

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

تعليق 1

اترك رد

  • تقول : ( ..تمت ف العالم العلوي وجنة عدن في الجنة…) الأسئلة على هذا القول: كيف نزل آدم من الجنة الموجودة خارج الكون؟ وهل كان على الأرض حيوانات؟ وهل خلق آدم خلق إبداع أي لم يسبقه أحد أم خلقا تركيبيا أي شبيه بمخلوقات غيره كالحيوانات مثلا؟

%d مدونون معجبون بهذه: