برنامج آفاق

عمر السيدة عائشة عند زواجها من رسول الله ﷺ

 

أهلاً بكم في حلقة جديدة من برنامجكم (آفاق)، حلقة اليوم – أيها الإخوة والأخوات – ستدور حول تحقيق القول في مسألة سن أم المُؤمِنين عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – حين تزوَّج بها رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

طبعاً هذه المسألة الجماهير فيها على رأي واحد تقريباً معروف للكافة، وهو أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – تزوَّجها – أي عقد عليها، الزواج هنا بمعنى العقد، وليس بمعنى الدخول أو البناء – وهي بنت ست سنوات أو سبع سنوات، ثم دخل بها – عليه الصلاة وأفضل السلام – في المدينة المُنوَّرة وهي بنت تسع سنوات، هذا هو المشهور، لكن هناك مَن يُشكِّك ويطرح أسئلة وتساؤلات بصدد هذه القضية التي تُشبِه أن تكون مُسلَّمة لدى جماهير المُسلِمين في القديم والحديث.

لنبدأ – إخواني وأخواتي – اختصاراً للوقت بسوق وسرد أدلة الجماهير، استدلوا بمجموع أدلة، الدليل الذي يُعَد مُصرَّحاً أو صريحاً فيها هو حديث أم المُؤمِنين – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، وهو مُخرَّج في الصحاح وعند أهل السُنن وعند غيرهم من الكثيرين، وصرَّحت فيه أن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – تزوَّجها وهي بنت ست أو بنت سبع، وبنى بها – أي دخل بها – وهي بنت تسع، هذا الحديث عن أم المُؤمِنين له طرق كثيرة، تقريباً أربعة عشر طريقاً، أي لهذا الحديث أربعة عشر طريقاً!

ثم حديث آخر، وهو الحديث الذي أخرجه الإمام ابن ماجة في سُننه، من حديث عبد الله بن مسعود – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه -، وفيه يُصرِّح عبد الرحمن أن النبي تزوَّجها وهي بنت سبع، ودخل بها وهي بنت تسع.

فأما حديث ابن مسعود فنُسارِع إلى القول إنه حديث مقطوع، فيه انقطاع، هذا الحديث فيه انقطاع بالأحرى، لأن أبا عُبيدة – وهو عامر بن عبد الله بن مسعود، رضيَ الله تعالى عنهما – لم يسمع من أبيه، لم يسمع من أبيه فالحديث مُنقطِع، الحديث مُنقطِع وليس فيه حُجة.

أما حديث عائشة – رضيَ الله عنها وأرضاها – بطرقه الكثيرة ففيه كلام كثير، لا يُمكِن أن تتسع حلقة كهذه ولا ربما بضع حلقات لتفصيل القول فيها وتقويمها، على أن هناك عالماً فاضلاً مُعاصِراً وهو الدكتور محمد عمراني من المغرب العربي الأقصى له بحث جيد ومُستطاب، تكلَّم فيه على طريقة التحقيق في هذه الطرق الثلاثة عشر، وانتهى إلى أنه لا يصح منها شيئ (وفقاً لمعياره) – بين قوسين نقول هذا – الذي نستطيع أن نقول إنه ابتكره للحكم على موثوقية الأحاديث، أسانيدها بالذات ومتونها أحياناً، وهو للحق معيار مُبتكَر، لابد أن يُولى الاعتبار والاهتمام، وأن ينظر فيه أهل العلم نظر الجد ونظر الاجتهاد، وفقاً لهذا المعيار هذه الثلاثة العشر طريقاً لا يصح منها شيئ، كلها تُعتبَر في نهاية المطاف أضعف من أن يُوثَق بها.

لكن أمثل هاته الطرق تقريباً هو طريق هشام بن عُروة، عن أبيه، عن أم المُؤمِنين – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -، هشام هو ابن عروة بن الزُبير، وعُروة بن الزُبير خالته عائشة – رضيَ الله عنها وأرضاها -، لأن الزُبير كما تعلمون وتعلمن جميعاً كان مُتزوِّجاً بأسماء بنت أبي بكر – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين -.

على أن هذا الحديث – حديث هشام بن عُروة، عن أبيه طبعاً، عن عائشة، وهو مُخرَّج أيضاً في الصحاح – يُعاني من بعض المشاكل، فهشام بن عُروة – هذا التابعي الجليل، الذي أخرج له أصحاب الكُتب الستة وغيرهم – اتُهِم بالتدليس، وثبتت عليه تُهمة التدليس، لكن هذا ربما لا يضر لاعتبارات اصطلاحية معروفة لدى أهل الفن.

لكن من جهة أُخرى هذا الحديث يلفت فيه – أيها الإخوة والأخوات – أنه لم يروه عن هشام بن عُروة تقريباً إلا العراقيون، وقد يقول قائل وماذا في العراقيين؟ لا شيئ طبعاً، الثقة ثقة سواء أكان عراقياً أم مصرياً أم شامياً أم حجازياً، لكن الذي يلفت – إخواني وأخواتي – أن هشام بن عُروة مكث أول خمسين سنة من حياته – أول نصف حياته أو أول نصف قرن من حياته – في المدينة المُنوَّرة، وله بها تَلاميذ كُثر، من أمثلهم وأشهرهم الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس صاحب الموطأ، والذي تُنسَب إليه المالكية، أي صاحب المذهب الفقهي الشهير.

الإمام مالك بن أنس لم يرو هذا الحديث عن هشام بن عُروة، ولذلك لا أثر لهذا الحديث في موطأ مالك، وهذا شيئ لافت، كيف يعيش هشام بن عُروة خمسين سنة في المدينة ثم لا يُروى عنه هذا الحديث من طرف مدني واحد ولا من طرف هذا الإمام الجليل – أي مالك بن أنس، وهو من تَلاميذ هشام -؟!

ولذلك ثبت تقريباً عن مالك بن أنس – رحمة الله تعالى عليه – أنه كان يُنكِر على هشام بن عُروة بن الزُبير حديثه لأهل العراق، كان يُنكِر حديثه لأهل العراق، كما ثبت هذا عن عبد الرحمن بن خراش وعن غيره، غير معقول وغير مفهوم أنه يعيش أول خمسين سنة من حياته في المدينة ثم لا يُروى عنه هذا الحديث، وهذا الحديث يتعلَّق بمَن؟ يتعلَّق برسول الله وبأزواجه، بأم المُؤمِنين عائشة وهي مَن هي – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، وأهل المدينة أدرى بأحوال رسول الله وبأحوال أولاده وأبنائه وأزواجه، فكيف لا يُروى هذا عنه في المدينة؟! ثم بعد ذلك – أي آخر تقريباً عشرين أو ثلاثين سنة قضاهن هشام بن عُروة في العراق وبالذات في الكوفة – يبرز لنا هذا الحديث من هناك، ورواته كلهم عراقيون، هذا شيئ لافت، هذا شيئ لافت ولابد أن يُجاب عنه بطريقة مقبولة.

ثم إن حفظ هشام بن عُروة قد تراجع، وهذا شيئ طبيعي كما قال الإمام الذهبي، بعض الناس أشار إلى اختلاطه، كأبي الحسن بن القطان، لكن الذهبي رد عليه رداً مُوجِعاً ورداً مُنكراً، وقال أحسن الله عزاءنا فيك، مع اعتراف الذهبي أن حفظ الرجل بتقدم سنه وعلو سنه يتراجع ولا شك.

في هذا الصدد يُذكَر عن هشام بن عُروة أنه شدَّد النكير على محمد بن إسحاق، محمد بن إسحاق صاحب السيرة، المُتوفى سنة إحدى وخمسين ومائة للهجرة، لأن ابن إسحاق ادّعى أنه فهم من فاطمة بنت المُنذِر، المُنذِر بن الزُبير، وفاطمة بنت المُنذِر كانت زوجة هشام بن عُروة، فشدَّد عليه النكير قائلاً دخلت بها وهي بنت تسع سنوات، ثم لم تلق أحداً، لم تر أحداً من الرجال، لم يتتلمذ عليها الرجال، لا ابن إسحاق ولا غير ابن إسحاق، حتى لقيت الله – تبارك وتعالى -.

لكن العجيب أنه يُروى أيضاً عن هشام بن عُروة بالإزاء أنه قال وكانت أسن مني بثلاث عشرة سنة، أي فاطمة بنت المُنذِر كانت أسن من هشام بثلاث عشرة سنة، إذن إذا كانت أسن منه بهذا القدر وكان دخل بها وهي بنت تسع سنوات فيكون دخل بها قبل أن يخلقه الله – تبارك وتعالى – بحوالي أربع سنين، غير معقول! يُوجَد شيئ هنا غير مفهوم، فلعل فعلاً حفظ الرجل تراجع، فهذا بالإضافة إلى تُهمة التدليس يُشكِّل لنا محور أو مركز تساؤل حول صحة هذه الأحاديث، على كل حال بعد قليل سوف نستعرض مزيداً من الأدلة والمُقارَنات والمُقابَلات التي تجعلنا فعلاً نُبرِّر شكنا في رواية هشام بن عُروة – رحمة الله تعالى عليه -.

وهناك ثمة أحاديث أُخرى يحتج بها الجماهير على صغر سن أم المُؤمِنين حين دخل بها رسول الله وحين تزوَّجها بعامة رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، منها أحاديث اللُعب، أنها كانت تلعب بلُعب لها، أي ببنات وبعرائس، وأيضاً بالفرس المُجنَّح الذي كانت تضعه بين عرائسها أو بين بناتها، هذا الحديث مُخرَّج أيضاً في الصحاح، في البخاري ومُسلِم، أيضاً من حديث هشام بن عُروة، عن أم المُؤمِنين – رضوان الله تعالى عليها – أن النبي رآها وهي تلعب أو كانت تلعب مع صواحبها، فكان إذا دخل الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – يتقمعن، أو ينقمعن، يتقمعن منه أي يتسربن شيئاً فشيئاً، يهبن رسول الله، قالت فكان – عليه الصلاة وأفضل السلام – يُسربِّهن إلىّ، ليلعبن معي، أي كانت صغيرة تلعب، تلعب مع بُنيات صواحب لها.

أيضاً هناك – كما قلت لكم – حديث لعب أم المُؤمِنين بالألعاب، عند أبي داود وعند غير أبي داود، أيضاً هناك حديث ستر الرسول – عليه الصلاة وأفضل السلام – لأم المُؤمِنين بردائه، لكي تنظر إلى لعب الحبشة، كانوا يلعبون بالمسجد، وطبعاً وفد الحبشة أتى تقريباً في السنة الرابعة، هؤلاء كانوا من الحبشة، ووفدوا على رسول الله تقريباً في السنة الرابعة، قيل في السنة الرابعة، وقيل بعد ذلك، وسوف نعود إلى تحقيق هذه المسألة، على كل حال وكانوا يلعبون في المسجد بالحراب، عائشة تُحِب أن تنظر إليهم، والنبي سمح لها، تنظر من فوق كتفه، ويسترها بردائه – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

تقول حتى أكون أنا التي أسأم، أنا التي أمل، أنا التي أكتفي، من النظر إليهم، ثم تختم حديثها بقولها فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو، لأن الجارية الصغيرة تحرص على اللهو واللعب، قالوا وهذا فيه تقريباً أنها فعلاً كانت صغيرة، لماذا؟ لأن النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – سمح لها أن تنظر إليهم، سمح لها أن تنظر إليهم لصغر سنها، كما أنها صرَّحت بطريق الإشارة بأنها جارية صغيرة السنة، هي حريصة على اللهو – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، والحديث طبعاً في الصحيحين.

أيضاً هناك حديث الإفك، وهو ثابت في الصحاح، هناك حديث الإفك! وفي حديث الإفك تذكر – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – أنهم بعثوا الجمل، تقول وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل، فساروا، تُريد أن تقول لم يشعروا بأنني لست في الهودج، لأنني كنت جارية صغيرة السن، لم أحمل اللحم، خفيفة الوزن، فلم يشعروا، فلم يشعروا حين قام الجمل بأنها لم تكن في هودجها، هذا مُرادها.

وأيضاً في حديث الإفك قيل لرسول الله وسل الجارية، أي سل جاريتها، ويُقال هي بريرة، قيل له سل جاريتها تصدقك، فسألها فقالت يا رسول الله والله إن رأيت عليها شيئاً أغمصه عليها، أي ما رأيت عليها شيئاً أُنكِره عليها، غير أنها كانت جارية حديثة السنة، أي جارية صغيرة، تنام عن عجين أهلها، فربما أكلته الداجن، قالوا وهذا فيه تصريح بأنها كانت جارية صغيرة السن، وذلك في سنة الإفك.

أخيراً احتج بعضهم برواية رواها الإمام محمد بن إسحاق صاحب السيرة عن عائشة – رضوان الله تعالى عليها – في حديث طويل، وفيه تذكر الهجرة، وفيه تذكر كيف ابتُليَ المُسلِمون ثم كيف أذن لهم رسول بالله بأن يُهاجِروا إلى المدينة، وأن أبا بكر لما أخبره الرسول بعزمه على الهجرة قال يا رسول الله الصُحبة، أي أسألك الصُحبة معك، فقال – عليه الصلاة وأفضل السلام – الصُحبة، أي هي الصُحبة، قالت فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح، رأت أباها – أبا بكر الصدّيق رضوان الله تعالى عليه – يبكي من الفرح، تقول لأول مرة أنا أفهم وأُدرِك وأشعر بأن المرء يبكي من الفرح كما يبكي من الحُزن، قالوا فهذا فيه دليل على صغر سنها، لأن الكبير يعرف أن المرء يبكي من الفرح كما يبكي من الحُزن.

تقريباً هذه عُمدة أدلة القوم على صغر سن أم المُؤمِنين – رضوان الله تعالى عليها – حين تزوَّج بها رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، ونأتي الآن إلى الجواب، كيف يُمكِن أن يُجاب عن هذه الأدلة؟!

بالنسبة لحديثها – رضوان الله تعالى عليها – الذي كما قلت لكم له أربعة عشر طريقاً تكلَّمنا فيه، ثلاثة عشر منها وفقاً للدكتور محمد عمراني لا تصح، وأما طريق هشان بن عُروة فذكرنا لكم بعض ما يحضرنا فيه، والكلام طويل في هشام بن عُروة والكلام حوله.

بعد ذلك نأتي إلى حديث ابن مسعود، أيضاً تكلَّمنا وقلنا هذا الحديث حديث مُنقطِع، هذا حديث مُنقطِع فلا نُطوِّل بالكلام فيه ولا حوله.

يبقى الآن حديث لعب أم المُؤمِنين بالألعاب، بالعرائس المُسماة بعرائس البنات في بيت الزوجية، قلت لكم هذا الحديث بالذات من رواية هشام بن عُروة، والعجيب أن رواته مرة أُخرى كلهم عراقيون باستثناء واحد، باستثناء واحد كان مدنياً، أما سائر الرواة فعراقيون.

لكن – أيها الإخوة والأخوات – حري أن نلفت وأن نلتفت إلى أنه ليس بين أيدينا من أدبيات العرب – أي من شعرهم وترسلاتهم ونثرهم وكلامهم ومأثورهم – ما يدل على أن العرب عرفوا ألعاب البنات المُسماة بالعرائس، ليس بين أيدينا مما توفَّر من أدييات العربي في الجاهلية وصدر الإسلام ما يُستَدل به أو ما يدل بذاته على أن العرب عرفوا ألعاب البنات المُسماة بالعرائس، غير موجود لدينا ولا بيت شعر ولا حكاية على الإطلاق تُؤكِّد أن العرب عرفوا ألعاب البنات.

ولذلك العلّامة أحمد تيمور – رحمة الله تعالى عليه – في كتابه لُعب العرب لما أراد أن يتكلَّم عن هذه اللُعب لم يجد إلا أثر عائشة، وهو كتاب مُستقصٍ وضافٍ وأفاض فيه العلّامة – رحمة الله تعالى عليه -، لما أراد أن يتكلَّم عن هذه اللُعب لم يجد إلا أثر عائشة، لم يجد إلا خبر أو أثر عائشة هذا، لكن أين الأدبيات الأُخرى؟ أين الأدبيات الأُخرى؟

في ديوان امرئ القيس هناك بيت أو بيتان يُفهَم منهما بل هما مُصرِّحان بأن العرب عرفوا هذه الألعاب، لكن بعد التحقيق والتدقيق تبيَّن أن هذين البيتين كما قال المُحقِّقون – كما قال المُحقِّقون لديوان امرئ القيس – منحولان، تبيَّن أن هذين البيتين منحولان على امرئ القيس، ليسا من شعره، دُسا بعد ذلك ونُسِبا إليه.

فالعرب لم تعرف هذه اللُعبة، لُعبة العروس، لُعبة العروس أو عرائس البنات، والغريب أنه في حديث أبي داود أيضاً ورد الآتي، هذا الحديث تقول فيه أم المُؤمِنين بأن الرسول عاد من تبوك أو من خيبر، عاد من تبوك أو من خيبر! تبوك متى كانت؟ تبوك كانت في السنة التاسعة، هذه العُسرة، غزوة العُسرة أو تبوك في السنة التاسعة للهجرة، وخيبر كانت في السنة السابعة، فإن كانت في السنة السابعة فعائشة تقريباً بنت خمس عشرة سنة، فإذن هل هذه جارية أيضاً صغيرة وتلعب وتلهو؟ هذا شيئ يستدعي الاستغراب بلا شك، ويبعث على العجب، وإن كانت في تبوك فهي بنت سبع عشرة سنة، فهل هي أيضاً لا تزال جارية صغيرة تحرص على اللهو واللعب؟ هكذا يُنسَب إليها، والله – تبارك وتعالى – أعلم بحقيقة الحال.

النبي عاد من خيبر أو من تبوك، ونظر فكان لها سهوة، والسهوة شيئ أشبه بالصُفة، والصُفة مساحة هكذا تكون أمام البيت، أو شيئ أشبه بالطاق أو الرف يكون في الغُرفة، وهذا ربما يكون أشبه، وعليها ستر، أي على هذه السهوة سواء كانت بمعنى الصُفة أو بمعنى الرف أو الطاق يكون في الغُرفة ستر، كان عليها ستر، أي ملاءة، فحرَّكها الريح، فانكشفت عن بنات، فقال رسول الله ما هذا يا عائشة؟ فقالت بناتي، ألعب بهن، وبينهن فرس له جناحان، أي فرس مُجنَّح، قال وما هذا؟ قالت هذا فرس بأجنحة يا رسول الله، أما تعلم ان سُليمان بن داود كان له فرس وله أجنحة؟ قالت فضحك حتى بدت نواجزه – عليه الصلاة وأفضل السلام -.

أيضاً نُلاحِظ على هذا الحديث – إخواني وأخواتي – فوق ما لاحظنا شيئاً، وهذا مُهِم جداً، هذا الحديث بنصه يقول الآتي بناءً على تسليمنا بالسن التي يدّعون التي كانت عليها آنذاك، أي حين بنى رسول الله في شوال من السنة الأولى للهجرة الشريفة كانت بنت تسع سنوات، إذن في سنة خيبر تكون – كما قلنا – بنت خمس عشرة سنة، في سنة تبوك تكون بنت سبع عشرة سنة، هذه ليست جارية صغيرة تلهو وتلعب، لكن هكذا يُنسَب إليها، هكذا يقول الحديث، والله – تبارك وتعالى – أعلم بحقيقة الحال.

فوق هذه المُلاحَظة نُسجِّل مُلاحَظة أُخرى جديرة بالاعتبار، وهي أن العرب أيضاً لم يعرفوا الفرس المُجنَّح، ليس لديهم خُرافة أو أُسطورة الفرس المُجنَّح، وهي الأُسطورة المعروفة كثيراً والشائعة لدى الإغريق أو الأغارقة، أي الــ Pegasus، الفرس المُجنَّح! الفُرس أيضاً عرفوا الأفراس المُجنَّحة، والهنود عرفوا الأفراس المُجنَّحة، لكن العرب لم يعرفوا هذا، ليس بين أيدينا ما يدل من أدبيات العرب على أن العرب دخلت إليهم أو تسرَّبت إليهم هذه الخُرافة والأُسطورة.

أول إشارة – إخواني وأخواتي – وردت إلى الفرس المُجنَّح أو الأفراس المُجنَّحة في كتاب ابن الكلبي، وابن الكلبي مُتوفى سنة أربع ومائتين، أي في مطلع أو طوالع القرن الثالث الهجري، في كتابه أنساب الخيل في الجاهلية والإسلام وأخبارها، ذكر قصة مُتناقِضة لا معنى لها، يُحاوِل أن يُفسِّر بها آية سورة ص من شأن سُليمان – عليه السلام – مع الخيل – الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ ۩ -، وكما ادّعوا أنه عرقبها لأنها ألهته عن ذكر الله، إلى آخر ما هُنالك، لكن هذه القصة بلا إسناد، ليس لها إسناد مُعتمَد، وابن السائب الكلبي مردود أيضاً، غير ثقة، وهي مُتأخِّرة جداً، وواضح أنها مُبتكَرة، من مُبتكَرات الناس في ذلكم العصر تأثراً بالأساطير التي تطرَّقت أخبارها إليهم من الهند والفُرس والأغارقة، فهذه المُلاحَظة أيضاً لابد أن نأخذها بعين الاعتبار.

أما حديث نظر عائشة – رضوان الله تعالى عليها – إلى الحبشة وهم يلعبون فكما قلنا لكم ابن حبان يذكر في صحيحه أن الحبشة قدموا على رسول الله ثم قاموا يلعبون في المسجد، الحافظ ابن حجر يُعلِّق ويذكر سنة قدومهم، يقول إنها كانت السنة السابعة، إنها السنة السابعة! وقيل غير ذلك، لكن ابن حجر يُرجِّح أنها كانت في السنة السابعة، أي سنة خيبر تقريباً أيضاً، هذا في سنة خيبر، فتكون عائشة بنت خمس عشرة سنة، ويكون الحجاب قد ضُرِب على أمهات المُؤمِنين، لأن الحجاب تقريباً كان في السنة الخامسة للهجرة، بمُناسَبة كما تعلمون زواجه – عليه الصلاة وأفضل السلام – من أم المُؤمِنين زينب بنت جحش – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، فالحجاب يكون مضروباً عليها، وهذا يُناقِض المعروف، لأن هناك أحاديث أُخرى أيضاً تُفيد بأن رسول الله قال أفعمياوان أنتما؟ أي تنظران إلى عبد الله بن أم مكتوم، لكن نحن طبعاً أيضاً مع الذين شكَّكوا في صحة حديث أفعمياوان أنتما؟ وظاهر هذا الحديث أنه جوَّز لها أن تنظر، دون أن ينظروا إليها، ولذلك كان يسترها بردائه.

على كل حال موضع الشاهد غير هذه النُقطة قولها فاقدروا قدر الجارية الصغيرة الحديثة السنة الحريصة على اللهو، فإذن كيف تكون جارية وهي بنت خمس عشرة سنة؟ كيف تكون جارية حديثة السن؟

يبدو أن هناك مَن كان يُصِر على وصف أم المُؤمِنين بالجارية، أو يبدو – والله تبارك وتعالى أعلم – أنها كانت منها على عادة النساء، خاصة اللاتي لهن ضرائر، أي ضرات، اللاتي لها ضرائر هذه عادتهن، كانت تُدِل بصغر سنها في كل مُناسَبة، في كل مُناسَبة كما لاحظ مرة الأستاذ الكبير عباس العقاد – رحمة الله تعالى عليه -.

ولذلك إخواني وأخواتي لاحظوا أنها – رضيَ الله عنها وأرضاها – في حديث أخرجه البخاري في صحيحه تقول الآتي، هذا حديث صحيح، تقول لقد أُنزِل على محمد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – بمكة وإني لجارية ألعب – وصفت نفسها بمكة بأنها كانت جارية وتلعب، قالت وإني لجارية ألعب – سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ۩ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ ۩، وسورة القمر نزلت إما في السنة الخامسة أو السادسة، والأرجح أنها تقريباً في السنة السادسة، والأمر يحتاج إلى تحقيق مُطوَّل، لكن الخُلاصة أنها تقريباً في السنة السادسة.

إذن هذا في السنة السادسة وتقول وإني لجارية ألعب، وسنعود إلى هذا الحديث، هذا حديث مُهِم جداً، لماذا؟ لأن الذي يذكره العلماء وأصحاب التراجم من تاريخ تولد أو ميلاد أم المُؤمِنين في مكة أنها وُلِدت إما في السنة الرابعة من البعثة أو في السنة الخامسة وهذا هو الأشيع، لأنها إذا وُلِدت في السنة الخامسة فسيكون عمرها أو سنها عند الهجرة – أي عند التاريخ – ثماني سنوات، وهذا الذي يقولون به، وعند الدخول بها في شوال من السنة الأولى تسع سنوات، إذن إما في السنة الرابعة وإما في السنة الخامسة، وإما في السنة السادسة أيضاً، فهذا عجيب، سورة القمر نزلت في السنة السادسة تقريباً، وتقول وإني لجارية لألعب.

رأينا أنها وصفت نفسها في حديث الإفك بأنها كانت جارية حديثة السن، قالت فبعثوا الجمل، فساروا، إذن هي أيضاً مرة أُخرى جارية، جارية! وفي هذا الحديث تصف نفسها بالجارية، أي في حديث الحبشة، في حديث الحبشة تصف نفسها بالجارية.

أغرب من هذا أنها في حديث رواه الإمام أحمد تتحدَّث عن وفاة رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، وتقول فيه – أي أم المُؤمِنين – تُوفيَ أو قُبِض رسول الله بين سحري ونحري، وفي ليلتي، لم أظلم فيه أحداً، قالت لم أظلم فيها أحداً، لأنها كانت ليلتي، البيتوتة عندها – رضوان الله عليها -، تقول فمن سفهي وحداثة سني – تقول فمن سفهي وحداثة سني، أي تصف نفسها أيضاً بأنها كانت صغيرة السن، بأنها صغيرة – أن رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام – قُبِض في حجري، ثم وضعت رأسه على وسادة، وقُمت ألتدم، قالت وقُمت ألتدم، أي تضرب وجهها، ندمت المرأة وجهها إذا ضربته، وذلك إذا مات لها حبيب أو قريب، فهي تُصِر هنا أيضاً في سنة وفاة رسول الله وكانت بنت ثماني عشرة سنة على أنها كانت صغيرة السن، تقول حداثة سني، وهذا شيئ لافت، فإما أن يكون – كما قلت لكم – بفعل فاعل يُريد أن يُفهِمنا دائماً أنها حديثة السن، ففي مكة – كما قلنا – في السنة السادسة هي جارية صغيرة السن، وفي المدينة هي صغيرة السن، هي كذلك في كل الأحوال التي ذكرناها، حين تُوفيَ رسول الله وهي بنت ثماني عشرة سنة هي حديثة السن أيضاً، ما القصة؟! أو هو – كما قلنا لكم – إصرارها على الإدلال بصغر سنها، ربما غمزاً لضرائرها، أنني أنا الوحيدة التي أتمتع بهذه الميزة، أنني أصغركن سناً، والله أعلم بحقيقة ذلك، لكن هذه المُلاحَظة تجعلنا نكون مُرتابين أو مُتشكِّكين في أحاديث الجارية صغيرة السن، لابد أن يُعاد فيها النظر.

طبعاً لابد أيضاً أن نبحث في معنى الجارية، الذي يُؤخَذ بمُطالَعة كلام العلماء أصحاب المُعجَمات والقواميس كما يُقال أن الجارية – أيها الإخوة والأخوات – يُمكِن أن تُطلَق على البنت مهما كانت صغيرة وعلى الشابة الفتية، بل يُفهَم من كلام بعضهم وعلى المرأة بعامة، تُطلَق على المرأة بعامة، هذا طبعاً غير معنى الجارية بمعنى الأمة، قال فمَن رُزِق جاريتين – مثلاً -، أي ابنتين، هنا ليس بمعنى الإماء، لكن أيضاً يُفهَم أن الجارية – إخواني وأخواتي – مأخوذة من شيئ يدل على القوة، الجراية! على القوة والفتاء، لذلك قيل الشابة الفتية، فيُمكِن أن تُسمى جارية البنت الصغيرة التي تستطيع الركض واللعب والتنقل بقوة وهمة، أي بنت خمس سنوات تقريباً، وربما إلى سن ثلاث عشرة أو أربع عشرة سنة أيضاً تُعتبَر جارية.

كونوا معنا بعد هذا الفاصل، بارك الله فيكم جميعاً.

أهلاً وسهلاً ومرحباً بكم إخواني وأخواتي.

أيها الإخوة والأخوات:

أما ما احتج به الجماهير أو بعضهم من خبر أو رواية ابن إسحاق أنها – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – لم تكن تعرف قبلما ترى بكاء أبيها الصدّيق من الفرح لمُوافَقة رسول الله على اصطحابه معه في هجرته أن المرء أو الإنسان قد يبكي من الفرح كما يبكي من الحُزن فهذا الحديث أو هذا الخبر أصله في صحيح البخاري، أي أصله صحيح، لكن هذه الزيادة بالذات من زيادة ابن إسحاق، وهي زيادة غير مقبولة، لأنه رواها عن مُبهَم، فقال – رحمه الله – وحدَّثني مَن لا أتهم، وحُكم حديث المُبهَم هو نفسه حُكم حديث مجهول العين، هو غير مقبول، جهالة العين تضر، إلا أن يكون مجهول العين صحابياً، فجهالته لا تضر.

نأتي الآن إلى جُملة أدلة بالإزاء أو بالمُقابِل تدل على أنها لم تكن صغيرة كما أفادت تلك النصوص والأدلة، من هذا ما رواه الإمام البخاري في صحيحه في كتاب المناقب، في باب هجرة النبي – عليه السلام – وأصحابه إلى المدينة، في كتاب المناقب من صحيح البخاري تقول عائشة – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها – لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، ولم يكن يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار بكرة وعشية، فلما ابتُليَ المُسلِمون خرج أبو بكر – أي الصدّيق، تعني أباها – نحو أرض الحبشة مُهاجِراً، حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة وهو سيد القارة… إلى آخر الحديث!

أولاً ما معنى لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين؟ أو ما المُراد بقولها – رضوان الله عليها – لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين؟ هذه العبارة مُحتمِلة، تحتمل أنها تُريد أن تصف أبويها بالسبق إلى الإسلام، أنهما كانا من السُبّق إلى الإسلام، فدخلاه في أوائل الناس، بل هما مِن أول مَن دخله مِن الناس، ويُحتمَل أيضاً – إخواني وأخواتي – أو هذه العبارة تحتمل أن يكون معناها أنها أدركت سبق أبويها إلى الإسلام، فحين دخلا في الإسلام مع السابقين أو في أول السابقين هي أدركت هذا، والسياق الآن يُعين على ترجيح الاحتمال الثاني هذا، قالت لم أعقل أبوي إلا وهما يدينان الدين، هل تعرفون لماذا؟ لأنها قالت بعد ذلك ولم يكن يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله، إذن هي تتحدَّث عن ماذا الآن؟ عن ذكرياتها، تتحدَّث عن ذكرياتها، قالت ولم يكن يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله طرفي النهار بكرة وعشية، ثم قالت فلما ابتُليَ المُسلِمون، ومتى ابتُليَ المُسلِمون؟ بعد أن جاهر الرسول وأصحابه بالدعوة، بعد ثلاث سنين من الإسرار بعدها، وبدأ الأذى، واشتد بعد ذلك، حتى أذن لهم رسول الله بأن يُهاجِروا إلى الحبشة، والمشهور أن الهجرة إلى الحبشة كانت في السنة الخامسة للبعثة.

أبو بكر الآن يُريد أيضاً أن يتبع المُهاجِرين، ويُهاجِر إلى الحبشة، وهذا كله من ذكريات عائشة، لكن هذا غريب جداً، الهجرة إلى الحبشة كانت في السنة الخامسة – كما قلنا -، وعائشة المفروض أنها وُلِدت في السنة الخامسة للبعثة، فكيف؟! ومتى كانت يأتيهم رسول الله؟! ومتى عقلت أبويها ثم رتبت على ذلك سرد بعض ذكريتها؟! شيئ لافت ويُثير الحيرة – أيها الإخوة والأخوات -، إلا أن يكون الواقع أنها وُلِدت قبل الزمن الذي عيَّنوه لميلادها بزمان، فقد تكون وُلِدت قبل البعثة بقليل، أو في أوائل البعثة، وهذا أيضاً ربما لا يكون الأقوى.

ولذلك الإمام محمد بن إسحاق في السيرة حين رتَّب أسماء السُبّق – أي السابقين والسابقات – إلى الإسلام رتَّب أسماء بنت أبي بكر الصدّيق في المرتبة الثامنة عشرة، تلتها وأعقبتها عائشة في المرتبة التاسعة عشرة، قال وكانت يومئذ صغيرة، وطبعاً نحن نعلم أن هذا العدد كان في السنة الأولى، أي أول عشرين من المُسلِمين أسلموا في السنة الأولى، في السنة الأولى من البعثة، فكيف هذا إذن؟! كيف يكون هذا في السنة الأولى وعائشة المفروض أنها وُلِدت في السنة الخامسة وقيل في الرابعة وقيل في السادسة؟! شيئ غريب ومُحيِّر.

لذلك بعض العلماء نقل هذا عن ابن إسحاق دون أن يُعقِّب عليه بشيئ، وبعضهم وهَّمه، وذكر أنه مما تفرَّد به ابن إسحاق، وفي الحقيقة تفرَّد به، لكن هناك – كما رأينا قبل قليل – حديث البخاري وأدلة وأشياء أُخرى كثيرة تُشكِّكنا في مسألة تسليم سنة ميلادها، وبالتالي عمرها عند زواجها من رسول الله – عليه الصلاة وأفضل السلام -، فهذه مسائل تحتاج إلى إعادة بحث – إخواني وأخواتي -.

من جهته الإمام أبو جعفر بن جرير الطبري – المُؤرِّخ والمُفسِّر الكبير – حين ترجم لأبي بكر الصدّيق بمُناسَبة وفاته في السنة الثالثة عشرة للهجرة ذكر أزواجه اللاتي تزوَّج بهن في الجاهلية، فذكر قُتيلة وأنه رُزِق منها بولدين، وهما عبد الله وأسماء، ثم ذكر بعد ذلك أم رومان، وأنه رُزِق منها بعائشة وعبد الرحمن، وعبد الرحمن هو أكبر ولد أبي بكر الصدّيق، ثم عقَّب فقال فكل هؤلاء الأربعة من أولاده وُلِدوا من زوجتيه اللتين سميناهما في الجاهلية، أي وُلِدوا في الجاهلية، لأن قوله في الجاهلية لابد أن يكون له مُتعلَّق، والمُتعلَّق هنا فعل، قد يكون المُتعلَّق هو قوله سميناهما، لكن هذا مُستحيل، مُستحيل أن تكون وقعت التسمية من الطبري الذي تُوفيَ في أول القرن الرابع الهجري في الجاهلية، مُستحيل أن تكون وقعت التسمية من الطبري في الجاهلية، مُستحيل! فلم يبق إلا أن يكون المُراد وُلِدوا في الجاهلية، وهذه أيضاً تلفت النظر.

في صحيح البخاري – كما ذكرنا لكم قُبيل قليل – تقول عائشة – رضوان الله تعالى عليها – لقد أُنزِل على محمد – صلى الله عليه وسلم – بمكة وإني لجارية ألعب سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ۩ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ ۩، من سورة القمر، وقلنا لكم بالتحقيق تقريباً سورة القمر نزلت في السنة السادسة للبعثة، وهذا الذي أفهمه صنيع البخاري، لكن بطريقة ذكية وغامضة قليلاً، على كل حال هذا هو التحقيق، نزلت سورة القمر في السنة السادسة، والمفروض أنها وُلِدت إما في الخامسة أو السادسة أو الرابعة، فكيف كانت جارية وتلعب؟! أي ربما تكون بنت ست سنوات أو سبع أو ثماني أو تسع سنوات، جارية تلعب وتُدرِك، لأنها تُدرِك القرآن الكريم، تعي القرآن الكريم، ليس مُجرَّد بنت ثلاث أو أربع سنوات، لا! تعي القرآن، وحفظت الآية، وتعلم أنها آية وأُنزِلت على رسول الله، وتعرف هذه الآية، فهذا الشيئ لافت جداً، وهو من أقوى الأدلة التي تُشكِّك في تسليم سنها – رضوان الله تعالى عليها وأرضاها -.

أيضاً أخرج الإمام أحمد والإمام ابن سعد – كاتب الواقدي – في الطبقات وغير هؤلاء أن رسول الله خطب إلى أبي بكر عائشة – رضيَ الله عنها وأرضاها -، فأخبره أبو بكر الصدّيق – وكان أبو بكر يحفظ مواعيده وعهوده ومواثيقه، لا يُخِل بها، رضوان الله عليه، وهذا من أخلاقه – أنه خطبها قبل ذلك المُطعِم بن عدي لابنه جُبير، فانتظر يا رسول الله حتى أرى، وفي رواية قال له حتى أسلها منهم، إذا كانوا لا يُريدون فأنا أسلها منهم، والعكس إذا كانوا طبعاً ما زالوا عازمين، على كل حال بعد ذلك ما حدث أن أم جُبير بن مُطعِم بن عدي خاطبت أبا بكر لما كلَّمهم في هذا الشأن بأنها تخاف على ابنها أن تُصبئه عائشة، أن تُصبئه بمعنى ماذا؟ أن ترده عن دينه، والمُطعِم بن عدي ساكت، لا يتكلَّم، فقال له أتقول بقولها؟ فأكَّد له أن يقول بمثل قولها، وهكذا فُسِخ العقد.

السؤال متى حدث هذا؟ في بعض الروايات ما يُشير إلى أن هذا حدث في ذروة اشتداد أذى المُشرِكين للمُسلِمين، في بعضها ما يُفهِم أن هذا حدث بعد وفاة خديجة، فلم تقع الخِطبة من رسول الله لعائشة إلا بعد وفاة خديجة، وهذا أرجح، لكن هذا لا يضر بالقضية، لماذا؟ لأن خديجة تُوفيت في السنة العاشرة من البعثة كما هو معروف، فعلى تقدير عمر عائشة كما عليه الجمهور تكون عائشة المُتولِّدة في السنة الخامسة بنت خمس سنوات تقريباً، بنت خمس سنوات! لكن الآن السؤال: متى خطبها المُطعِم بن عدي لابنه؟ نحن نستبعد جداً أن يكون خطبها في وقت أذى اشتداد المُشرِكين بالمُسلِمين، في هذا الوقت صار بعض المُشرِكين الذين عقدوا على مُسلِمات أو بنات لمُسلِمين يفسخون هاته العقود ويعودون عنها، كما فعل ابنا أبي لهب – عم النبي – حين طلَّق ابنتي رسول الله، طلَّق ابنتي رسول الله! كان قد عقد عليهما – رضيَ الله تعالى عنهما وأرضاهما – فطلَّقهما، فهذا بعيد جداً، أي أن يكون المُطعِم بن عدي جاء يخطب عائشة من أبي بكر لابنه في ذورة اشتداد الأذى، والمُرجَّح أن يكون قبل ذلك، فلعله خطبها في المرحلة السرية من الدعوة، وربما قبل ذلك.

على كل حال إن خطبها في المرحلة السرية فهذا يُعيدنا مرة أُخرى إلى قولها أُنزِل على محمد بمكة وإني لجارية ألعب سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ۩ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ ۩، نعم كانت جارية وكبيرة، ويُعيدنا إلى ترتيب ابن إسحاق لها في المرتبة التاسعة عشرة من المُسلِمين، أي إنها كانت من المُسلِمين والمُسلِمات في السنة الأولى للبعثة، فهذا أيضاً لابد أن يُعاد فيه النظر وأن يُؤخَذ بعين الاعتبار.

لكن قد يقول قائل إن كان كذلك فلِمَ لم يدخل بها الرسول حتى بعد وفاة خديجة؟ يبدو أنه لم يدخل بها – هكذا سيُقال – لأنها كانت صغيرة لا تحتمل الدخول بها، لا! هذا غير صريح وغير واضح، هل تعرفون لماذا؟ لأنه ورد عند ابن سعد أيضاً أنه حين سار النبي إلى المدينة سأله أبو بكر الصدّيق مرة لِمَ لا يدخل بأهله؟ أنت عقدت على عائشة، فلِمَ لا تدخل بها؟ فقال له الصداق، أي قلة ذات اليد، فأعطاه أبو بكر – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – ثنتي عشرة أوقية ونشاً، والنش هو نصف أوقية، الأوقية أربعون درهماً، والنش عشرون درهماً، إذن قلة ذات اليد، ليس بسبب الصغر كما قد يُتوهَّم، هذا ليس مقطوعاً به.

هناك دليل آخر، يُذكَر في عمر أسماء – رضوان الله تعالى عليها – أنها حين هاجرت كان عمرها سبعاً وعشرين سنة، يقولون كان عمرها عند التاريخ – أي عند الهجرة – سبعاً وعشرين سنة، أي إنها وُلِدت – أيها الإخوة والأخوات – قبل التاريخ بسبع وعشرين سنة، أي تقريباً في السنة الرابعة عشرة قبل البعثة، لأن المشهور أن المُسلِمين بقوا في مكة ثلاث عشرة سنة، وقيل عشر سنوات، فهناك رأي – وهو رأي قوي – يُفيد بأن النبي نُبئ على رأس ثلاث وأربعين سنة من عمره الشريف، ومكث في مكة عشر سنوات، ومكث في المدينة عشر سنوات، لكن المشهور لدى العامة أنه مكث في مكة ثلاث عشرة سنة، ومكث في المدينة عشر سنوات، فيكون نُبئ على رأس أربعين، وعلى كل حال هذه أقوال معروفة للعلماء.

وتُوفيت أسماء سنة ثلاث وسبعين للهجرة عن مائة سنة، وهذا يُؤكِّد فعلاً أنها عند التاريخ كانت بنت سبع وعشرين، العجيب أن التابعي الجليل عبد الرحمن بن أبي الزناد المُتوفى سنة أربع ومائة للهجرة يقول وكانت أسماء أسن من عائشة أختها بعشر سنين، وهذا ما نقله النووي في تهذيب الأسماء واللُغات، وهذا أيضاً ما وافق عليه ابن كثير، ولعله لم ينتبه إلى تناقضه مع الحقيقة المعروفة أو ما يُدعى أنه حقيقة، قال ابن كثير في البداية والنهاية وهي أكبر من عائشة بعشر سنوات، وتقريباً هناك شبه اتفاق أن أسماء حين تُوفيت تُوفيت عن مائة سنة – رضيَ الله عنها وأرضاها -.

إذن إذا كانت أسماء عند الهجرة بنت سبع وعشرين، وهي أكبر من عائشة بعشر سنين، فستكون عائشة عند الهجرة بنت سبع عشرة سنة، ما يعني أنها وُلِدت – أيها الإخوة والأخوات – قبل البعثة بزُهاء أربع أو خمس سنوات، ولعل هذا هو الأرجح، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

في صحيح مُسلِم عن أم المُؤمِنين – رضيَ الله تعالى عنها وأرضاها -، تقول خرج رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قِبل بدر، تتحدَّث عن مسيرهم إلى بدر، هذه معركة بدر، تقول قِبل بدر، أي جهة بدر، فلما كان بحرة الوبرة أدركه رجل، وكان يُعرَف ويُذكَر منه جرأة ونجدة، ففرح به الصحابة، وقال لرسول الله أتبعك على أن أُصيب معك، أي من الغنائم، فقال له رسول الله تشهد شهادة الحق؟ فقال لا، فقال فإنا لا نستعين بمُشرِك، فتركه.

تقول حتى إذا كنا – تقول عائشة حتى إذا كنا – بالشجرة أدركه الرجل، وطبعاً حرة الوبرة تبعد عن المدينة أربعة أميال، هي غربي المدينة، تقع غربي المدينة بأربعة أميال، وأما الشجرة فتقع على بُعد ستة أميال، أي على بُعد ستة أميال من المدينة، المُهِم والشاهد أن أم المُؤمِنين تقول حتى إذا كنا، فواضح من هذا أنها كانت مع القوم، عائشة كانت مع القوم الذين خرجوا للجهاد في بدر.

بدر متى كانت؟ بدر كانت كما تعلمون في السنة الثانية من الهجرة، في السابع عشر من رمضان، يوم الفُرقان! في السابع عشر من رمضان، في السنة الثانية من الهجرة، ورسول الله دخل بها كما يقولون في شوال من السنة الأولى وهي بنت تسع، فتكون الآن بنت عشر سنوات، هل يُعقَل أن يأخذ زوجته وهي طفلة صغيرة بنت عشر سنوات إلى هكذا معركة؟! مع أن المعروف عنه من سيرته – عليه السلام – أنه كان يُجنِّب الصبية وهم أشد وأقدر وأجلد على احتمال ما قد يعرض لهم من المشاق وربما حتى من ذل الأسر، والذل الذي يحصل بأسر البنات والنساء أعظم وأشنع وأبشع من الذل الذي يحصل بأسر الرجال والغلمان، والنبي عُرِف عنه أنه كان يُعيد الغلمان الذين لم يبلغوا مبلغ الرجال على الأقل.

في معركة بدر رد مَن؟ رد عبد الله بن عمر، وكان ابن ثلاث عشرة سنة، بدليل ما ثبت في الصحيح أنه عرضه يوم أُحد وكان ابن أربع عشرة سنة فرده، هذا في السنة الثالثة، ثم عرضه يوم الخندق في السنة الرابعة – والخندق قيل في الرابعة، وقيل في الخامسة، لكن هذه تُؤكِّد أنها كانت في الرابعة – وكان ابن خمس عشرة سنة فقبله، على أنه رده في بدر وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وهو غُلام، وليس فتاة صغيرة، ورد البراء بن عازب، ورد أسامة بن زيد، ورد زيد بن ثابت، وكذلك في معركة أُحد في السنة الثالثة للهجرة رد سمرة بن جندب ورد غيره، وكان في الخامسة عشرة من عمره، رد رافع بن خديج، وكان في الخامسة عشرة من عمره.

ولذلك هذه النُقطة بالذات لفتت الإمام النووي في شرحه على مُسلِم، قال هكذا هو في النُسخ: حتى إذا كنا، ويحتمل أنها كانت معهم للتوديع، أنها تُودِّع الجيش، لكن لا تذهب إلى المعركة، فالنووي تنبَّه إلى هذا، لكن نحن نقول بعيد جداً أنها تذهب معهم للتوديع مسافة أربعة أميال، بل مسافة ستة أميال، لأنها قالت حتى إذا كنا بالشجرة، هذا يُضعِف الاحتمال الذي أورده الإمام النووي، أو قال يكون المُراد بحتى إذا كنا أي كان المُسلِمون، وهذا أيضاً ضعيف، هذا فيه تكلف واضح جداً جداً، هناك تكلف واضح جداً جداً، فالحديث كله حديث عن المُسلِمين، أي عن شأن المُسلِمين، وليس فيه مُقابَلة بين المُسلِمين والكافرين أبداً، الحديث عن المُسلِمين – أيها الإخوة والأخوات -، والله أعلم.

على كل حال حتى لو انفصلنا من هذه الشُبهة أو من هذه النُقطة كيف يُجيبون عن مُشارَكتها في معركة أُحد؟! وأُحد بعد بدر بزُهاء سنة، أي كانت بنت إحدى عشرة سنة، وثبت أنها شاركت في أُحد، ثبت أنها شاركت في أُحد لما في الصحيح من حديث أنس، لما انهزم الناس عن رسول الله في أُحد رأيت أم سُليم – وهي أمه، أي هي أم أنس، وأم سُليم هي الغُميصاء أو الرُميصاء بنت ملحان، أختم أم حرام بنت ملحان، زوجة عُبادة بن الصامت، على كل حال قال رأيت أم سُليم – وعائشة وإنهما لتنقزان القرب، قال غيره تنقلان القرب، على متونهما، ثم تُفرِغانه – أي الماء – في أفواه القوم، ثم تعودان فتملأنها، ثم تُفرِغانه – أي الماء -، إلى آخره!

إذن كيف هذا؟ هنا أيضاً شاركت وهي بنت إحدى عشرة سنة، والقربة كبيرة، تحتاج إلى امرأة قوية حتى تحملها وتحتملها على ظهرها، وبعد ذلك ما المُناسَبة بين عائشة وبين أم سُليم التي رجَّحنا أنها كانت في السابعة والعشرين من عمرها؟ أنس في السنة الأولى للهجرة كان ابن عشر سنوات، في أُحد كان ابن ثلاث عشرة سنة، وحملت به سنة، ولعلها تزوَّجت وهي بنت ثلاث عشرة أو أربع عشرة، فتكون في أُحد – أي أم سُليم – تقريباً على الأقل في زُهاء السادسة أو السابعة والعشرين، ما المُناسَبة بين امرأة قوية شديدة – كانت تحمل الخنجر أيضاً لتُدافِع عن نفسها وعن رسول الله كما ثبت في الصحيح – وبين فتاة صغيرة في الحادية عشرة من عمرها؟! ويذكرون من مهزوليتها أنها كانت مهزولة وضعيفة، فما المُناسَبة؟! وكيف يُخاطِر النبي بالسماح لها بأن تشهد حومة الوغى وهي في الحادية عشرة؟! يبدو أن الصحيح أنها كانت فوق ذلك، كانت امرأة راشدة قوية.

في التاريخ الكبير للإمام البخاري صاحب الصحيح وفي معرفة الصحابة للإمام أبي نُعيم الأصبهاني والإمام أيضاً ابن منده كما قال السيوطي وغير هؤلاء أن بشير بن عقربة الجُهني استُشهِد أبوه يوم أُحد، يقول فجئت النبي أبكي، فقال لي يا حبيب ما يُبكيك؟ أما ترضى أن أكون أباك وعائشة أمك؟ فقلت بلى، بأبي أنت وأمي يا رسول الله.

يقول فمسح بيده على رأسي، فكان موضع أثر يده أسود وسائر شعري أبيض، هذا بعد ذلك، حين تقدَّم وعلت سنه، من بركة تلك المسحة المُصطفوية، يقول وكان بي رتة – أي بلساني، الأرت الذي في لسانه عُقدة وحُبسة – فتفل فيها فحُلت بإذن الله، وسماني بشيراً، قال له ما اسمك؟ قال بحير، قال بل أنت بشير، الحديث!

الآن نفس الشيئ، هذا غُلام مُميِّز، وواضح أنه مُميِّز، لأنه يبكي على أبيه ويعرف معنى الفقد، ثم يقول لرسول الله مُجيباً له بلى، بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ولعله كان في نحو السادسة أو السابعة على الأقل، فكيف يُمكِن أن يُقال لابن السادسة أو السابعة أما ترضى أن تكون عائشة أمك وعائشة في الحادية عشرة؟! هل يصلح أن تكون أماً لمَن هو في السادسة أو السابعة؟! كلام غير معقول – أيها الإخوة والأخوات -، لكن هذا الموجود!

أيضاً أخرج الإمام أحمد في مُسنَده وصحَّحه الشيخ الألباني وغير الإمام أحمد أن أسامة بن زيد عثر بالباب، وفي رواية بأسكفة الباب، أي بالرزة، فشُج وجهه، وفي رواية فدمي، فقال لها – صلى الله عليه وسلم – الآتي، قال لها – أي لعائشة – أميطي عنه، نحي عنه الأذى، قالت فكأني تقذرته، تقذرت أن أميت عنه هذا الأذى، تقذرته! فقام إليه – عليه السلام – فجعل يمصه، يمص الدم، ثم يمجه، ويقول لو كان أسامة جارية لحليتها ولكسوتها، حتى أُنفِّقها، أي حتى يخطبها الخطّاب وتتزوَّج، صلى الله على مُعلِّم الناس الخير – الرحمة للعالمين – وسلم تسليماً كثيراً.

الآن يا إخواني أسامة بن زيد متى عساه تكون هذه الحادثة وقعت له؟ أُرجِّح أنها كانت في السنة الأولى، لماذا؟ لأن أسامة حين تُوفيَ رسول الله كما قال ابن عبد البر إما كان في العشرين وإما في التاسعة عشرة، وأقل ما قيل كان في الثامنة عشرة، إذن هذه تكون في أول الهجرة، فيكون عندها تقريباً ابن كم – أي أسامة -؟ إما ابن عشر سنوات أو إحدى عشرة سنة، لنقل إنه كان ابن عشر سنوات، وفي السنة الأولى التي بنى بها رسول الله بعائشة تكون عائشة أيضاً بنت تسع سنوات أو عشر سنوات.

هل يُعقَل أن يأمر رسول الله بنت تسع سنوات وهي امرأة أو بنت أو عشر سنوات بأن تفعل هذا بغُلام في سنها؟! ولعله أسن منها، لأنهم اتفقوا على أن الرسول تُوفيَ وهي بنت ثماني عشرة سنة، لكن اختلفوا في سن أسامة، قيل كان ابن عشرين، أي إنه أسن منها بسنتين، أو أسن منها بسنة، أو سنينها، أي أو كان سنينها، هل يُعقَل أن يأمر الرسول عائشة أن تفعل هذا بغُلام أسن منها بسنتين أو بسنة أو سنين لها؟ غير معقول! إلا أن تكون فعلاً كانت امرأة أكبر منه بكثير، ربما كانت في نحو العشرين أو في التاسعة عشرة، هذا معقول، أما أن تكون في مثل سنه فهذا غير معقول – إخواني وأخواتي -.

روى الإمام النسائي في الكُبرى والصُغرى والإمام ابن حبان والحاكم في المُستدرَك وصحَّحه على شرطهما ووافقهم الذهبي، وهذا الحديث على كل حال صحَّحه الشيخ الألباني، كلهم رووا عن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه بُريدة بن الحصيب – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم -، أن أبا بكر وعمر خطبا إلى رسول الله فاطمة – عليها السلام -، فقال إنها صغيرة، النبي اعتل بصغرها، قال إنها صغيرة، بالقياس إليكما إنها صغيرة، فخطبها عليّ، فزوجَّه إياها أو منها، قال العلّامة الحافظ السندي فخطبها عليّ أي بعدهما بلا مُهلة، كما تدل عليه الفاء، متى كان ذلك؟! قيل النبي أنكح عليّاً فاطمة بعد أن ابنتى بعائشة بأربعة أشهر ونصف، أي تقريباً يكون أنكحه إياها في أول السنة الثانية، في الرُبع الأول من السنة الثانية للهجرة، النبي دخل بعائشة في شوال من السنة الأولى، وهذا بعد ذلك بأربعة أشهر ونصف، إذن في أول السنة الثانية للهجرة، ثم دخل بها عليّ بعد ذلك بتسعة أشهر ونصف، أي في آخر السنة الثانية تماماً، أو ربما في طوالع السنة الثالثة الهجرية.

إذن كم كان عمرها؟ الآن السؤال: كم كان عمر فاطمة؟ ابن حجر وابن عبد البر رأيا أنها كانت بنت خمس عشرة سنة، لكن العلماء الآخرون اختلفوا، كثيرون رأوا أنها كانت في العشرين من عمرها، لأن أقوى الأقوال أنها تُوفيت بعد أبيها بستة أشهر عن ثلاثين سنة، وهذا الذي يقوله بعض أحفادها وأولادها كعبد الله بن الحسن، كعبد الله بن الحسن الذي قال هذه أمي، سلني عن أمي، ونحن نسألك عن أمك، تُوفيت عن ثلاثين سنة، فإذا كانت فاطمة في أدنى الأقوال حين خطبها أبو بكر وعمر بنت خمس عشرة سنة والرسول اعتل بأنها صغيرة، والرسول هو أكرم الناس وأعف الناس نفساً، فهل يُعقَل أنه يتزوَّج – أي يعقد – عائشة بنت ست أو سبع سنوات ويدخل بها بنت تسع سنوات ثم يرد أبا بكر حين يطلب فاطمة وهي في أدنى الاحتمالات بنت خمس عشرة سنة؟! وهو القائل لا يُؤمِن أحدكم حتى يُحِب لأخيه ما يُحِبه لنفسه، وهو القائل أيضاً مَن سره أن يُزحزَح عن النار ويُدخَل الجنة فلتأته منيته وهو يُؤمِن بالله واليوم الآخر، وليأت إلى الناس مثل الذي يُحِب أن يُؤتى إليه.

كل هذا – أيها الإخوة والأخوات – يُثير علامات استفهام كبيرة، في الحقيقة وقد أدركنا الوقت للأسف الشديد لم تكن العرب آنذاك تُعنى بضبط الولادات، بل أقول لكم وظلوا على هذه الطريقة تقريباً إلى طوالع العقرن العشرين الميلادي، لم يكونوا يُعنون بضبط الولادات وضبط تواريخ التولد، لم يكونوا يُعنون بهذا، ولذلك لديهم مُجازَفات فاحشة ومُنكَرة في تقدير أعمار الناس، فهذا موجود – مثلاً – حتى فيما يتعلَّق برسول الله وبأولاده، فلم يحصل الاختلاف حتى في متى وُلِد وإنما في وجوده، حصل هذا في وجود بعض أولاده، كما قيل رزقه الله من خديجة أربعة ذكور، وهم القاسم، عبد الله، الطيب، والطاهر، قيل رزقه الله ثلاثة، وقيل رزقه الله اثنين، وهما القاسم، وعبد الله فقط، لكن رزقه الله أربع بنات، متى تزوج بخديجة؟ قيل وهي بنت خمس وعشرين سنة، قيل وهي بنت ثماني وعشرين سنة، قيل وهي بنت ثلاثين سنة، قيل وهي بنت خمس وثلاثين سنة، وقيل وهي بنت أربع وأربعين سنة، بفارق تقريباً تسع عشرة سنة بين الأدنى والأعلى، خديجة مُختلَف في سن زواجها، ونحن نُرجِّح أنها كانت في حدود الثلاثين، مُستحيل أن تكون بنت أربعين أو بنت خمس وأربعين أو بنت أربع وأربعين، لماذا؟ كيف رزقها الله بهؤلاء كلهم – رزقها بأربع بنات، وهذا قطعاً، وهن زينب، أم كلثوم، رقية، وفاطمة، ورزقها بولدين على الأقل – وهي في هذا السن؟! فحتى خديجة مُختلَف في سن زواجها، وهناك أمثلة كثيرة – إخواني وأخواتي – تدل على أنهم لم يكونوا يضبطون الولادات.

نكتفي بهذا القدر، وإلى أن ألقاكم في حلقة أُخرى أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

تعليق 1

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: