أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ ۩ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ ۩ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ۩ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ۩ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ۩ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ۩ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ۩ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ۩ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ۩ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مُبارَكاً فيه كما يُحِب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله تعالى عليه وعلى آله الطيبين وصحابته المُبارَكين وأتباعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً. اللهم آمين.

أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في الحقيقة كنت مُتحيِّراً بين أن أجعل هذا المجلس مجلس مُدارَسة وسؤال وجواب أو أن أجعله مُقدِّمة لا أقول لسلسلة وإنما لفُرص في دروس نستقبلها – إن شاء الله – مرة ومرة بين الفينة والأُخرى، نُناقِش فيها بعض الموضوعات من خلال منظورات علمية، على سبيل المثال الموضوع الذي طُرِح أمس في خُطبة الجمعة، هذا الموضوع يُتناول خاصة من الوعّاظ – مثلاً – والمُتكلِّمين دائماً بأسلوب غير علمي، لا يُمكِن أن يُحيط بجوانب هذا الموضوع فضلاً عن أن يُقدِّم وصفاً علمياً فضلاً عن أن يتقدَّم بخُطوة أُخرى ليُقدِّم تفسيراً علمياً مقبولاً إلى حد ما لهذه الظاهرة مثلاً، فهذا كان أثناء كلام وحديث جرى بيني وبين إخوة كرام أمس، وهو الذي أوحى إلىّ بهذه الفكرة، فكرة ماذا؟ فكرة ضرورة أن يتوفَّر عالم الدين على حد أدنى من الاطلاع – ولا أقول من التمكن أو الحذق، لكن من الاطلاع – على مناهج البحث العلمي وطرائق العلماء في إضاءة موضوعاتهم.

لماذا بالذات عالم الدين؟ أنا لا أُطالِب – مثلاً – عالم النفس أن يصطنع منظوراً اجتماعياً في دراسة ظاهرة نفسية، لا أُطالِبه! قد يكون جاهلاً في علم الاجتماع، لكنه عالم نفس كبير، كما لا أُطالِب – مثلاً – عالم الاجتماع أن يكون عالماً في حقل – مثلاً – علم النفس أو في حقل علم الاقتصاد السياسي أو ما إلى ذلك، لا أُطالِبه! لكن عالم الدين بالذات وبالذات في هذا العصر مُطالَب بشيئ من هذا، لماذا؟ هناك مُفارَقة، لأنه يُقدِّم نفسه كعالم كُلي وكثير من جمهوره يستقبلونه على هذا الأساس، خاصة – كما قلنا أمس – في بلاد تشيع فيها الأُمية ويشيع فيها الجهل للأسف وقلة الاطلاع، يُقدِّم نفسه ويُستقبَل كعالم كُلي، كعالم شامل! هو دائماً حريص على أن يُقدِّم نفسه على أنه يستطيع أن يجترح حلولاً لكل المُشكِلات، لذلك هو يتكلَّم، يتكلَّم في قضايا اجتماعية وقضايا سياسية وقضايا استراتيجية وقضايا نفسية وقضايا اقتصادية، لا يترك موضوعاً إلا ويُساهِم فيه.

لكن العجيب والمُحزِن – وهذه مُفارَقة في نفس الوقت – أنه لدى اطلاع المُتخصِّصين أو المُلِمين بهذه العلوم فإنه يتكشَّف عن جهل فاضح، ويُرى أنه لم يُطوِّر أي منظور علمي في مس أو تناول أو التعاطي مع موضوعاته، هذا شيئ فاضح ومُشين! وهذا الذي حذا ببعض نُقّاد الفكر الإسلامي الحديث وبعض الإسلاميين المشاهير إلى نقدهم بشكل لاذع، بالذات من هذه الزاوية ومن هذه الحيثية، أنهم يتعالمون ويتحذلقون ويهرفون بما لا يعرفون.

إذن هذا هو المُبرِّر الأول، لأنه يُقدِّم نفسه ويُستقبَل على هذا النحو، إذن عليه أن يكون على الأقل ذا مصداقية ولو في حدود دُنيا، ثانياً أنا أعتقد – وأعوذ بالله من كلمة أنا – أن طبيعة القرآن العظيم تُساعِد على إيجاد مثل هذه الحالة الفكرية، القرآن الكريم حتى تنظيمه تنظيم عجيب ومُتفرِّد، لم يتناول – ولم يفعل هذه مرة واحدة – أي قضية – مثلاً – من زاوية نظر مُفرَدة ومُعنوَنة، أبداً لم يفعل هذا! القرآن تختلط فيه جوانب ووشائج الغيب والشهادة، المادي والروحاني، الاقتصادي والأيديولوجي، مع الثقافي، مع الديني، ومع النفسي، كل هذه الجوانب مُختلَطة في القرآن الكريم، هذه طريقته!

مأساة العلوم الإنسانية عموماً والاجتماعية خصوصاً – وإن كان هناك مَن يُعادِل بين التسميتين، على كل حال هناك مَن يُعمِّم وهناك مَن يُخصِّص – إلى اليوم بل أزماتها الحقيقية – لأنها علوم بشرية في النهاية وعلوم نسبية – أنها لم تستطع أن تُطوِّر منظومات أو منظورات بالأحرى تُثبِت أنها فعلاً منظورات شاملة، بعضها طبعاً كالنظريات الصراعية – الآن سيأتي ربما الحديث عن بعضها – أو المناظير الصراعية أو المناظير الوظيفية أو التفاعلية وهذه أشهر المدارس الاجتماعية قدَّمت نفسها على أنها شاملة في الوقت الذي تبدى أنها شمولية وليست شاملة، هي شمولية! وبالذات المدارس أو المناظير الصراعية، هي شمولية وليست شاملة، هذه هي نسبية الإنسان وهذا هو ضعف الإنسان.

طبعاً هناك بعض المناظير التي جاءت كنوع من التلفيق، نجح بعضها أن يكون نوعاً من التوفيق بين هذه المنظورات، أنا أعتقد أن المُسلِم الذي يفقه القرآن جيداً وبعمق – طبعاً لا كفقه المُفسِّرين التقليديين ولا كفقه المُنظَّرين المُعاصَرين المُحدَثين، لا! بعمق حقيقي، ليس بعمق خطابي وإنما بعمق حقيقي – يُمكِن ألا يجد في نفسه حرجاً يفرضه ضيق أو حيرة التباس في تحديد إلى أي المناظير نتوجَّه وأي المناهج نعتمد، بالعكس! ويُمكِن فعلاً أن يحظى ببلورة صيغة – لا نقول كاملة، يجب أن نكون مُتواضِعين – أقرب إلى التفسير الشامل والتفسير الكُلي، أقرب! لكنها لن تكون كذلك بأي حال من الأحوال.

ولذلك لنبدأ دون أن نُطوِّل المُقدِّمات في إعطائكم فكرة عامة ومُبسَّطة جداً – إن شاء الله – إلى أقصى الحدود لكنها واضحة أيضاً وضرورية، في طريقي إلى هذا المسجد المُبارَك قلت لأخي أبي محمد مُشكِلة حتى الدراسات العربية والكتابات العربية أنك إذا أردت الآن – مثلاً – أن تقرأ في علم مُعيَّن ذي أصول غربية فللأسف كتابات لكثير جداً من إخواننا العرب لن تفهمها، لن تفهم! تجد فيها تعقيداً، اشتباكاً، والتباساً في المفاهيم، في الترجمات، وفي الاصطلاحات، بين الطريق الأقصر والأوفق أن تعتمد مُباشَرةً إلى الأصل، وخاصة الأصول التي كُتِبت على أيدي أساطين هذه العلوم، في قمة الوضوح، شيئ غريب! في قمة الوضوح والسلاسة، تستطيع أن تفهم بشكل جيد وأن تُحيط، لماذا؟ لأن الذي كتب يفهم ويفقه جيداً ماذا يقول وماذا يكتب، بخلاف المُقلِّدين الذين يُريدون للأسف – ليسوا جميعاً وإنما بعضهم – نوعاً من الاستعراضية العلمية أو نوعاً أحياناً من الضرورات الأكاديمية، أكل عيش وترقٍ من رُتبة مُساعِد إلى أستاذ وما إلى ذلك، وهكذا! لابد للواحد منهم أن يُقدِّم أبحاثاً وأن يُترجِم وأن يُنجِز، لكن هو لا يفهم، وهو يفتقر إلى الروح العلمية الحقيقية.

فسوف نجد – إن شاء الله – بعد أن نستمع إلى هذه التقدمات السريعة أننا سنستفيد كثيراً – إن شاء الله – من هذه المفاهيم على الأقل حين نقرأ أبحاثاً نوعية كما تُسمى في العلوم الإنسانية، أبحاثاً نوعية تُناقِش جوانب خاصة ومُشكِلات برأسها أو بحيالها، سوف نستفيد من هذه المُقدِّمات!

أولاً نبدأ بالعنوان، سنتحدَّث عن علم الاجتماع، أي السوسيولوجيا Sociology، علم الاجتماع! جرت عادة المُؤرِّخين لهذا العلم وأيضاً الكاتبين في هذا العلم من الغربيين أن يجعلوا بدايته الواضحة هي مع أوجست كونت Auguste Comte تَلميذ سان سيمون Saint Simon في القرن الثامن عشر، طبعاً للأسف يتجاوزون مَن؟ المُؤسِّس الحقيقي – الحقيقي فعلاً – عبد الرحمن بن خلدون رحمة الله تعالى عليه، ولنا مُحاضَرة طويلة قديمة عن هذا الرجل، طبعاً تناولت جانباً واحداً فقط من جوانب فكره الثري والخصيب والمُتعدِّد الوجوه، ولا نُريد أن نُطوِّل، ليست هذه المُحاضَرة عن ابن خلدون، هذه لها – إن شاء الله – مجالاتها الأُخرى، وطبعاً دراسات كثيرة – بفضل الله – أُنجِزت عن أسبقية ابن خلدون وابتكاريته فعلاً في هذا الباب، لكن باختصار ابن خلدون كتب لتاريخه الكبير – ديوان المُبتدأ والخبر – مُقدِّمة، وهذه المُقدِّمة هي أروع ما كُتِب في هذا الكتاب، أروع من تاريخه نفسه، أروع من تاريخه ذاته! هذه المُقدِّمة هي التي حاز بها ابن خلدون قصب السبق في تأسيس علم العمران كما دعاه، والذي هو بحذافيره علم الاجتماع الحديث، أسماه علم العمران!

نستطيع أن نستلخص من قرائتنا لمُقدِّمة ابن خلدون مبادئ ثلاثة مُهِمة جداً تُؤكِّد أن الرجل هو مُؤسِّس هذا العلم، أولاً يحكي ويُقرِّر الرجل ويُؤكِّد بشكل واضح أن للتاريخ وللمُجتمَعات الإنسانية قوانين حاكمة، هناك قوانين حاكمة! هذه القوانين تسمح في الأغلب بقدر من التنبؤ إذا ما فُقِهت وإذا ما دُرِست جيداً، بمعنى أنها هي التي تسمح بأن تأتي الأحداث وتأتي الكوائن بلُغته بأنماط مُحدَّدة، نسبياً طبعاً! حين نتكلَّم عن جانب إنساني لن يُوجَد تحديد كامل، نحن لا نتكلَّم عن عالم مادي، عن عالم فيزيقي طبيعي، مُستحيل! نتكلَّم عن عالم إنساني حر وواعٍ بذاته وواعٍ حتى بهذه القوانين، وواعٍ بوعيه بهذه القوانين، وهذا طبعاً ما نشرحه في ربما آخر المُحاضَرة لدى كلامنا عن المدرسة التفاعلية، وحتى عن اتجاه أنتوني غيدنز Anthony Giddens الحديث جداً طبعاً – الرجل لا يزال حياً – فيما يُعرَف بالتبادلية الاجتماعية، أي الــ Social reflexivity، التبادلية الاجتماعية أو بالأحرى الإنعكاسية الاجتماعية، هذا هو الإنسان، لذلك هو يُؤثِّر ويتأثَّر، وهو صنيعة المُجتمَع كما أنه صانعه، ويخضع للبُنى كما أنه يُركِّبها ويُعيد تشكيلها أيضاً، هذا هو الإنسان، لذلك دائماً نتحدَّث مع هامش تحوط واستثناء، دائماً في القضايا الإنسانية والمُجتمَعية! هذا ما قاله ابن خلدون.

ثانياً ابن خلدون أيضاً قال هذه القوانين والمبادئ الاجتماعية لا تتأثَّر بالأحداث المُفرَدة ولا بالأفراد، لا تتأثَّر أبداً! وإنما تتأثَّر بماذا؟ بالأحداث الكُلية وبحركة المُجتمَعات والجماعات الكُبرى، لا بأفراد وتجمعات صُغرى، لا تتأثَّر! لأنها فعلاً قوانين اجتماعية وتاريخية.

وثالثاً – وهذا ما نود أن نختم به – قال هذه القوانين تُنتج كما يُمكِن أن تُطبَّق بنفس المقدار أيضاً من الصحة والراحة على مُجتمَعات مُختلِفة في أزمنة مُختلِفة وأمكنة مُختلِفة إذا اتحدت البُنى، أي مُجتمَع حضري ومُجتمَع حضري، مُجتمَع بدوي ومُجتمَع بدوي، مُجتمَع رعوي ومُجتمَع رعوي، ومُجتمَع حصادي ومُجتمَع حصادي، إلى آخره! إذا كانت بُنية المُجتمَعات نفس البُنية فتنطبق نفس القوانين مهما تباعد الزمان والمكان، وهذا الرجل عجيب، فعلاً غريب هذا الرجل وخارق، مَن يقرأ علم الاجتماع المُعاصِر والمُحدَث ويفقه فيه جيداً ثم يعود إلى المُقدِّمة ويقرأ يستغرب، كيف استطاع هذا العقل المُفرَد اليتيم في زمانه والغريب أيضاً في زمانه أن يُنجِز كل هذا الاجتهاد تقريباً وحده؟ هناك أصول وهناك استنتاجات قريبة من الفلسفة اليونانية لكنها قليلة، فهو شخص بلا شك خارق، هذا الرجل كان خارقاً، والمُؤسِف والمُحزِن – وأشرنا إليه في المُحاضَرة القديمة عنه – أننا لم نفعلها ونكتشف هذا الرجل، الذي فعلها واكتشفه هو الغرب أيضاً للأسف، وصدَّره إلينا مرة أُخرى وعرَّفنا به، بالعكس! نحن كما أننا جهلناه فقد تجاهلناه، ربما قلت في المُحاضَرة القديمة شيئاً في هذا الصدد عن إمام كبير، وهذا الذي يجعلنا فعلاً مُضطَرين أحياناً أن نتوقَّف أمام التراث، أي أمام تراثنا التقليدي، رُغم ما فيه من جوانب كثيرة جداً مُضيئة وغنية وثرة وخصبة، ولابد من استلهامها وتمثلها، كما لابد من مُشاوَرتها ونقدها ومُحاكَمتها أيضاً، لكن في نفس الوقت هناك جوانب مُخزية ومُخجِلة ومُضحِكة للأسف الشديد، تعود أحياناً إلى مُنطلَقات منهجية خاطئة وأحياناً إلى شيئ أبعد من ذلك وأعمق، المُهِم هذا جعل إماماً مُؤرِّخاً مُحدِّثاً فقيهاً حافظاً كبيراً – وهو الإمام السخاوي رحمة الله عليه – في الضوء اللامع يغمز هذا الرجل ويطعن فيه بما لا مغمز فيه ولا مطعن، بأن ابن أُخته كان يُتهَم بالشذوذ الجنسي، ما الكلام الفارغ هذا؟ للأسف هذا الذي رآه فيه، طبعاً يبدو أنه لم يقرأ تاريخه ولم يقرأ مُقدِّمته ولم ير فيها ما يستدعي أن يُنوَّر للأسف.

لذلك ليس كل الصيد في جوف الفرا، والذين يُحِبون أن يعيشوا فقط مع التراث ومع كُتب التراث ولا يطلعون على أي شيئ مما كتب الآخرون وأنتج الآخرون هؤلاء حتماً يسيرون بخُطى سريعة إلى الفناء، يتجاوزهم طبعاً الزمان والأحداث وكل شيئ، مُستحيل! هذا كلام فارغ، هؤلاء مُتشرنِقون مُتقوقِعون، مُستحيل! هؤلاء المُنسحِبون من حياتهم.

إذن في نظرنا بلا شك وفي نظر المُنصِفين حتى من الغربيين المُؤسَّس الحقيقي والأول لهذا العلم هو ابن خلدون، لكن جرت عادتهم – كما قلت – أن ينسبوا ذلك إلى أوجست كونت Auguste Comte، الفيلسوف والمُفكِّر الفرنسي الشهير، تَلميذ أيضاً المُفكِّر الفرنسي الأشهر سان سيمون Saint Simon، والذي عرفه العالم العربي خاصة في فترة محمد عليّ الذي استعان بسان سيمون Saint Simon، المُهمِ هو معروف.

أوجست كونت Auguste Comte، أوجست كونت Auguste Comte أكبر فضله أنه مُخترِع الاسم، السوسيولوجيا Sociology، علم الاجتماع! هو الذي ابتكر وصك هذا الاسم والمُصطلَح، بعد أن كان قد سماه من قبل بعلم الفيزياء الاجتماعية، كان يُسمى علم الاجتماع أو المُجتمَع علم الفيزياء الاجتماعية، لكنه لما وجد أنه يتشارك هذه التسمية مع كثيرين غيره – وسبقوه إليه وبعضهم من أخصامه أو خصومه – عدل عنها وابتدع وصك المُصطلَح الجديد – السوسيولوجيا Sociology – الذي لا يزال حياً إلى اليوم، فله الفضل الكبير في ذلك، هذه واحدة!

أوجست كونت Auguste Comte دعا إلى أن نقرأ المُجتمَع ونشاطات المُجتمَع وحقائق المُجتمَع ووقائعه على أنها أشياء عيانية، على أنها أشياء هكذا بعبارته! وأراد طبعاً – طمح كما يطمح الإمبريقيون أو التجريبيون وكان إمبريقياً، وفيه تطرف بلا شك – لأنه كان تجريبياً أن يُطبِّق مناهج العلوم الطبيعية قدر الإمكان أيضاً على العلوم الاجتماعية، على هذا العلم الناشئ! كما يدرس الفيزيائي الطبيعة والكيميائي علم العناصر والمواد يُريد أيضاً بهذه المناهج المُكمَّمة الإمبريقية المُحدَّدة الواضحة أن ندرس أيضاً الوقائع الاجتماعية وحقائق المُجتمَع على أنها أشياء كما لخَّص ذلك بعد ذلك سلفه دوركايم Durkheim، إميل دوركايم Émile Durkheim أو دوركايم Durkheim الفرنسي، كلاهما فرنسيان أيضاً!

ودعا أوجست كونت Auguste Comte طبعاً إلى تأسيس ديانة جديدة، هو جاء ضد الأديان، واعتبر الأديان مرحلة بائدة من تاريخ الإنسان ولابد أن يُغلَق عليها، انتهى! فدعا إلى تأسيس دين جديد، أسماه دين الإنسانية، النواة في هذا الدين – مركزه ولُبه – هي علم الاجتماع، إذن هو اهتم جداً بعلم الاجتماع، أي هو أهم العلوم على الإطلاق في نظره في هذه الفترة، فلُب وجوهر دين الإنسانية هو علم الاجتماع.

لن نتحدَّث عن جوانب شخصية أوجست كونت Auguste Comte وكيف انتهى نهاية مأساوية، هذه قصة ثانية، المُهِم أننا نعرض مُقدِّمات سريعة وواضحة فقط أيضاً.

أوجست كونت Auguste Comte أيضاً شهير بقانون المراحل الثلاث أو الثلاثة، قانون المراحل الثلاث هو طبعاً قانونه، لكن في الواقع هو ليس أول مَن قال به، هناك مَن قال به قبله، هناك مَن قال به مُعاصِراً له، وهناك مَن أكَّده مع تقديرات مِمَن خلفه، لكن هو نُسِب إليه، هو نُسِب إليه في المشهور مع أنه مسبوق إليه، مسبوق إلى هذا القانون بشكل قطعي، ومعروف هذا عند العلماء المُحقِّقين.

قانون المراحل الثلاثة: المرحلة اللاهوتية الثيولوجية، المرحلة الميتافيزيقية، والمرحلة الوضعية، طبعاً كونت Comte هو مُؤسِّس ما يُعرَف بالوضعية، أي الــ Positivism، في المرحلة اللاهوتية كان يُنظَر إلى المُجتمَع على أنه تعبير بل هو إرادة الله، هو إرادة الله! وهو مظهر قدر الله سُبحانه وتعالى، طبعاً هذا بالنسبة لكونت Comte يُعَد خُرافةً وكلاماً فارغاً أكل عليه الدهر وشرب، لا يُصادِق عليه! في المرحلة الميتافيزيقية والتي اعتُمِدت ودُشِّنت في العصور الوسيطة ثم في بداية عصر النهضة أو الرينيسانس Renaissance نُظِر إلى المُجتمَع نظرة طبيعية، ليست هناك قوى خارج الكون مسؤولة عن هذا المُجتمَع، لكنها نظرة ميتافيزيقية، ما معنى هذا؟ معنى هذا أنها غارقة في التجريد وغارقة في التأمليات وغارقة فيما لا يُمكِن أن يكون عيانياً أو محسوساً، أي وضعياً! علماً بان هذا معنى الميتافيزيقا Metaphysics، ليس معناها دائماً الأشياء الغيرية التي خارج الكون، ليس هذا معناها، ومَن يدرس الفلسفة يعرف الكلام هذا، فهذه اسمها المرحلة الميتافيزيقية، تعداها الإنسان بعصر العلم الذي كرَّسه وربما حتى دشَّنه كبار العلماء المشاهير وفي رأسهم نيكولاس كوبرنيكوس Nicolaus Copernicus كما يقول كونت Comte ثم بعد ذلك جاليليو Galileo ثم نيوتن Newton، أي إسحاق نيوتن Isaac Newton، قال مع هؤلاء دخلنا المرحلة العلمية، المرحلة الوضعية! وتخلَّصنا من شوائب المرحلة الميتافيزيقية فضلاً عن الثيولوجية أو اللاهوتية، الآن العلم! المرحلة الوضعية، لا نُؤمِن إلا بالمحسوس، ولابد أن نستخدم مناهج العلوم الطبيعية في دراسة أي ظاهرة، حتى الظواهر الإنسانية والمُجتمَعية، هذا ما قدَّمه كونت Comte من حيث الجُملة!

تلاه – كما قلنا – العالم الفرنسي الشهير إميل دوركايم Émile Durkheim وتأثَّر به، إلا أنه انتقده واعتبره قد فشل في الوفاء بوعده أن يُنشئ هذا العلم نشأة صحيحة، قال لا، هو لم يعمل ذلك، أشياء مُعيَّنة – ثغرات وأشياء – تركها، وهذا إلى حد ما صحيح، فدوركايم Durkheim – مثلاً – أثره الباقي إلى الآن في علم الاجتماع أكبر من أثر أوجست كونت Auguste Comte وكتاباته عشرات المرات – إن لم يكن مئات المرات – بكثير، فتأثَّر به في بعض الأفكار، لكنه اعتبره فاشلاً على ما ذكرت.

دوركايم Durkheim أيضاً تبنى بعض المقولات، من حيث المُنطلَق الوضعي هو يُوافِق عليها، وهو الذي قال – كما قلنا – ولخَّص أيضاً كلمات كونت Comte واتجاه كونت Comte بقوله علينا أن ندرس المُجتمَع كأشياء، أي كما ندرس الأشياء، وهو أيضاً شيئ، أي المُجتمَع!

دوركايم Durkheim درس طبعاً مسائل كثيرة جداً دُرِست قبله، كالعمل وتقسيم العمل، أي Division of labor كما يُقال، وله كتاب – من أوائل كُتبه وكتاباته الرئيسة – في تقسيم العمل الاجتماعي، درس ظاهرة الانتحار، ظاهرة الفروق الإثنية، وظواهر كثيرة جداً جداً، لكن اختلف في دراسته لهذه الظواهر عمَن سبقه بأنه أبرز دائماً التأثير المُجتمَعي في هذه الظواهر، أشهر دراسة له في هذا الباب هي دراسة الانتحار، الــ Suicide! درس الانتحار، كان يُنظَر إلى الانتحار قبله على أنه فعل فردي، إنسان ضاقت به السُبل، عنده مشاكل، عنده أزمات، يُعاني مرضاً عقلياً أو مرضاً نفسياً أو ضائقة اجتماعية، فينتحر! دوركايم Durkheim رفض هذا الكلام، قال أنا لا أقبل هذا، لابد أن أدرس هذه الظاهرة كحقيقة، وطبعاً هذه الظاهرة يُسميها الحقيقة، يقول هناك حقائق اجتماعية، الانتحار حقيقة اجتماعية، مثل تقسيم العمل، هذه حقيقة اجتماعية، مثل اختلاف الجنسين مثلاً، هذه حقيقة اجتماعية، مثل عدم المُساواة في المُجتمَع، هذه حقيقة من حقائق الاجتماع، وهي تتغيَّر، كل شيئ قابل للتغير، لا تُوجَد مُشكِلة! هذه اسمها الحقائق الاجتماعية، وهو يدرسها وظفياً، سنشرح منهجه بعد قليل، المنهج الوظفي أو الوظيفي! فهو قال لا، لابد أن أدرس هذه الظاهرة كحقيقة من حقائق الاجتماع أو المُجتمَع، ولابد أن تُفهَم ضمن نطاق الحقائق الأُخرى، كما أنها تمدنا أو تُزوِّدنا بقدرة جديدة لفهم الحقائق أيضاً الأُخرى، كما قلنا هذا المنهج الوظيفي، هناك Interdependence، اعتماد مُتبادَل بين كل الحقائق والظاهرات الاجتماعية. 

فعاد إلى الوثائق الرسمية في باريس هناك المُتعلِّقة بالانتحار – إحصاءات وأشياء ووثائق – فلاحظ مُلاحَظات عجيبة، أولاً أن الانتحار يكثر بين الرجال عنه لدى النساء، عند الرجال أكثر! وهناك أرقام، هذا معنى أنها ليست مسألة فردية فقط، لا! مسألة اجتماعية هذه، وهذه من أنجح دراساته، نشرها في أواخر القرن التاسع عشر، ثانياً يكثر بين البروتستانت عنه لدى الكاثوليك، أي هو بين البروتستانت أكثر منه لدى الكاثوليك، الذين ينتحرون من البروتستانت أكثر! وذكرت هذا مرة في خُطبتي أو في مُحاضَرتي عن الانتحار، ثالثاً يكثر بين الأغنياء عنه لدى الفقراء، أو هو بين الأغنياء أكثر منه بين الفقراء، رابعاً هو بين العزّاب أكثر منه عند المُتزوِّجين، خامساً في أوقت الحرب يكون أقل، يكون أقل منه في أوقات السلم، في السلم أكثر! لكن في أوقات الحرب أقل، وهذا غريب، هذه أشياء ومُعطيات، هذه أرقام موجودة.

بحسب منهاجه أو منظوره – كما قلنا – قرأ هذه المُعطيات أو هذه البيانات أو هذه الوقائع ليخرج بتفسير، خرج بتفسير وتحدَّث طبعاً عن أربعة أنماط من الانتحار شرحناها في المُحاضَرة، المُهِم هذه ليست قضيتنا الآن، خرج بتفسير! قال الانتحار كظاهرة وكحقيقة اجتماعية أو مُجتمَعية يُمكِن أن يُفسَّر بعامل أو بعملية الدمج، كلما كان الفرد أكثر اندماجاً في المُجتمَع وأكثر تضامناً وكانت تطلعاته وآماله وبرامجه تُبرَّر بحسب معايير المُجتمَع أيضاً وقوانين المُجتمَع وقواعد سلوكه كلما ابتعد هذا الفرد عن الانتحار، وإلا اقترب من الانتحار، وهذا الذي يُفسِّر لنا – مثلاً – لماذا يكثر الانتحار بين البروتستانت ويقل عند الكاثوليك؟ المُجتمَع الكاثوليكي أكثر تماسكاً، مُجتمَع الكنيسة الواحدة – فعلاً هذا لدى البروتستانت من أيام التنظير الأول لهذه الحرب الاحتجاجية – يجعل الإنسان يقف حتى أمام الله في الدنيا والآخرة وحيداً، وحدك! أنت وحدك، مسؤول وحدك، وأيضاً مسؤول عن نجاحك وإخفاقاتك وحدك، أي يُوجَد تحميل للفرد مسئولية طبعاً شبه كاملة، وهذا إرهاق للفرد، التضامن بين أفراد المُجتمَع البروتستانتي أقل من التضامن بين أفراد المُجتمَع الكاثوليكي، التضامن والتراحم أقل! لذلك لا يُوجَد اندماج كبير، فيكثر بينهم الانتحار.

في أوقات الحرب يقل الانتحار، طبيعي! لماذا؟ لأن في أوقات الحرب فعلاً تتوحَّد الأمة، يحدث توحد غير طبيعي، يُصبِح هناك تضامن وتراحم، والإنسان يقسم اللُقمة بينه وبين جيرانه وأهله وأهل حارته في أوقات الحرب، فيقل الانتحار! وهذا غريب، مع أن الحرب فيها خوف وفيها فزع وفيها وعود سيئة جداً، لكن يقل الانتحار، وهكذا إلى آخر هذه الأشياء.

أحياناً طبعاً يحدث شيئ آخر، وهذا ما أسماه الانتحار الإيثاري، يكون أيضاً بعامل الدمج، لكن سلباً وإيجاباً، إذا كان الدمج بطريقة استثنائية أكثر من اللازم، يُوجَد اندماج كبير جداً جداً، الشخص مُندمِج في أمته، وهذا الذي حصل لنا نحن مثلاً، ويحصل لنا دائماً – سُبحان الله – في الأوقات العصيبة من حياة الأمة، وذلك حين نرى كيف تتخلى الأمة بعضها عن بعض مثلاً – كما حدث في لبنان -، كيف يتألَّب بعضها على بعض، كيف يشمت بعضها في بعض، كيف كذا وكذا، كيف تترك الأمة جُزءاً منها ليُذبَح – مثلاً – ويُنحَر ويُقطَع ويُبضَّع، شيئ غريب! هذا يجعل بعضنا – وأنا واحد من هؤلاء الناس، وقلت هذا صادقاً – يتمنى أن يكون الانتحار حلالاً، هذا يجعل الإنسان يتمنى هذا، أنا أتمنى في هذه اللحظات – أُقسِم بالله – أن يكون الانتحار حلالاً لأنتحر، لا أقدر! لا أقدر على أن أتحمَّل هذا العار كله وهذا الألم، شيئ فظيع! تصير لدى الإنسان رغبة غير طبيعية فعلاً في أن ينتهي، يرغب في أن يُنهي حياته! فلماذا؟ أنت تعيش في النمسا هنا مبسوطاً، فما الذي ينقصك؟ يُوجَد تضامين غير طبيعي مع الأمة، أنت مُندمِج معها، لا تشعر بأنك جُزءاً عضوياً في هذه الأمة بل أنت هذه الأمة نفسها، لا تنفصل ولا تستطيع أن تتحمَّل هذا الشيئ أبداً، وهذا ليس وقفاً على المُسلِمين، يُمكِن أن يحدث هذا مع أي إنسان.

على ذكر لبنان في الاجتياح في سنة ألف وتسعمائة وثنتين وثمانين مَن الذي انتحر؟ خليل حاوي، شاعر كبير جداً جداً، وهو مشهور في العالم العربي كله، وهو نصراني، أي مسيحي، انتحر! وكتب قائلاً يا إلهي كيف أستطيع أن أحتمل هذا العار كله؟ لا أستطيع قال، مُستحيل – قال – هذا، كيف يأتي شارون Sharon وما إلى ذلك؟ مُستحيل، قتل نفسه!

(ملحوظة) تحدَّث أحد الحضور عن بعض مَن انتحروا أيضاً، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لم أسمع بهم والله، لكن هذا مُمكِن، شيئ عجيب! يُمكِن – قال – أن يحدث الانتحار الإيثاري بسبب الدمج أو الاندماج الزائد عن الحد، أي أنه انتحار تضحوي، الإنسان يُضحي بنفسه من أجل الآخرين، وحدَّثتكم في خُطبة ربما أو في درس عن رئيس شركة يابانية انتحر لكي يُنقِذ الشركة من الديون، أخذوا راتبه التقاعدي وأعطوه للشركة، من أجل أن تعيش الشركة وأن يعيش المُوظَّفون، هذا في اليابان، ولكم أن تتخيَّلوا هذا، وهو مُدير شركة، شيئ غريب! هذا انتحار إيثاري، أي انتحار تضحوي، لكنه مُفسَّر بنفس العامل.

إذن ما الذي نجح إلى حد كبير وبعيد في إثباته إميل دوركايم Émile Durkheim؟ نجح في أن يُثبِت للناس ماذا؟ أن هذه الظواهر وهذه الحقائق ليست مسائل فردية أبداً، وإنما هي مسائل وحقائق ووقائع اجتماعية أو مُجتمَعية، ولابد أن تُدرَس من منظور مُجتمَعي وليس من منظور جُزئي فردي.

الطلاق مثلاً، أنت يُمكِن أن تنظر إلى الطلاق – مثلاً – على أنه مسألة فردية، مأساة فردية! لكن – بالعكس – الطلاق له جوانبه الاجتماعية الكثيرة جداً، أليس كذلك؟ الطلاق يُمكِن أن يكون له علاقة بموضوع الوظيفة، بموضوع البطالة، أليس كذلك؟ بموضوع مُستوى العيش، بموضوع الفروق الإثنية أو العرقية أو الطبقية في المُجتمَع، أليس كذلك؟ هذا هو طبعاً، الطلاق يُمكِن أن ننظر إليه من زاوية أُخرى تتعلَّق بالزوجين مثلاً، موضوع الفروق الثقافية، الفروق الحضارية، أي بين الحضارات، الزوج عربي والمرأة – مثلاً – أجنبية، هو ابن حضارة وهي بنت حضارة أُخرى، هو عنده عقلية – Mentality – وهي عندها عقلية – Mentality – مُختلِفة، هو على دين وهي على دين آخر، هذه كلها جوانب مُجتمَعية كُبرى لموضوع الطلاق.

لذلك يقول علماء الاجتماع هذا العلم مُعقَّد، بلا شك هو ليس علماً يُؤخَذ باستخفاف وباستسهال، مُعقَّد ومُركَّب جداً، لماذا؟ لأنه يتناول مسائل بسيطة جداً من جنس لقاء التحية أو لقاء سريع بين شخصين إلى مسائل مُجتمَعية كونية، كالعولمة هنا – مثلاً – أو الجندر Gender، هذا من أهم مباحث علم الاجتماع، وكذلك الثقافة، أي الــ Culture، ما هي الثقافة؟ وأشياء مثل هذه طبعاً.

أنا قرأت مرة لأحد علماء الاجتماع الكبار تحليلاً اجتماعياً لمسألة شرب القهوة، عملية مُعقَّدة جداً جداً! يدخل فيها الاقتصاد السياسي والاستراتيجية وعُقد الاستعمار والهيمنة وأشياء عجيبة وغريبة جداً جداً، هذا هو طبعاً، كل هذا من أجل أن تشرب فنجاناً من القهوة، وأنا يُمكِن أن أفعل نفس الشيئ، أستطيع أن أضرب من عندي أمثلة لأشياء كثيرة جداً جداً، مثل السيارة، أن تشتري سيارة مثلاً، هذه طبعاً مسألة لها أبعاد اجتماعية كبيرة ومُتشابِكة ومُتعالِقة، أولاً الماركة نفسها قد تكون دالة – Function – للمُستوى المعيشي فقط، لا يقدر على أن يشتري مرسيدس أس كلاس Mercedes S-Class – مثلاً – أي شخص، حين نعرف أن هناك سيارة مرسيدس Mercedes – أولاً هي مرسيدس Mercedes وليست أي شيئ آخر، ليست كودا Coda، ليست لادا Lada، وليست فاو فيتا Faw Vita صغيرة مُتواضِعة، وإنما مرسيدس أس كلاس Mercedes S-Class – تقف على باب بيت شخص يعني هذا أنها دالة – Function – للمُستوى المعيشي، هذا واضح بغض النظر عن أي شيئ، ثانياً المرسيدس Mercedes هذه التي تذهب لكي تشتريها تُوجَد علاقة بين نظرة الناس إليك وبينها، أي بين نظرة الناس إليك وبين هذه السيارة، حتى يُوجَد تشييء أحياناً، يُوجَد تشييء للإنسان نفسه دون أن يدري، فهناك علاقة بين نظرة الناس وبين الوضع الاجتماعي الخاص بك، يُمكِن أيضاً أن يكون لها بُعد سياسي، يُمكِن أن تُوجَد دول مُعيَّنة عندها موقف من ألمانيا – مثلاً – فلا تسمح باستيراد – مثلاً – هذه السيارة، ومن ثم لن نراها، لن نرى هذه السيارة في هذه البلاد، سوف نرى سيارات أُخرى، فالمسألة لها أبعاد سياسية، الفورد Ford – مثلاً – قالوا إنها شركة صهيونية وما إلى ذلك، فظلت دول لعقود من الزمان تمنع استيراد سيارات الفورد Ford، فلم نر الفورد Ford، وهذا سيكون لحساب زيادة شراء سيارات أُخرى، هذا تعويض طبعاً، لابد منه! عندك نسب مُعيَّنة من استهلاك هذا الشيئ أو هذه السلعة، وهكذا يُمكِن أن ترى للمسألة أكثر من جانب، يُمكِن أن تراها من جانب إيكولوجي بيئي، يُمكِن أن تراها من جانب بيئي بسبب علاقتها بالتلوث – Pollution – وما إلى ذلك، فهي طبعاً تدخل في مشاكل التلوث، وطبعاً موضوع التلوث من المباحث أيضاً التي يدرسها علم الاجتماع، ليس فقط علم البيئة والناشطون فيه مَن يدرسونه، وإنما علم الاجتماع أيضاً يدرسه وعنده أبحاث وكتابات فيه.

ولذلك يُقال هناك مُصطلَح الميكرو سوسيولوجيا Micro-sociology وهناك مُصطلَح الماكرو سوسيولوجيا Macro-sociology، الميكرو سوسيولوجيا Micro-sociology يُمكِن أن يدرس مسائل مُحدَّدة وبسيطة جداً،  الماكرو سوسيولوجيا Macro-sociology يدرس – كما قلنا – العولمة مثلاً، وكذلك الجندر Gender يدرسه الماكرو سوسيولوجيا Macro-sociology، فضلاً عن  الثقافات، أي الــ  Cultures، فهذه يدرسها الماكرو سوسيولوجيا Macro-sociology، لكن المسائل البسيطة تدخل في الميكرو سوسيولوجيا Micro-sociology، فهو علم مُعقَّد ومُتشعِّب، أي لم يترك شيئاً، لم يترك شيئاً إلا ودخل فيه، فهو بلا شك هو يدرس الإنسان، لكن ليس الإنسان الفرد، يدرس الإنسان مُجتمَعياً، من خلال البُنى الاجتماعية، من خلال العلائق والحقائق والوقائع الاجتماعية، من خلال كونه كائناً اجتماعياً أو بلُغة أرسطو Aristotle حيواناً مدنياً، كلمة أن الإنسان حيوان مدني التي قالها أرسطو Aristotle لا تعني ببساطة أنه يُحِب الناس ويُحِب أن يعيش بينهم، لا! ما يُحدِّد شخصيته وأحياناً ميوله وتطلعاته وطموحه وحركاته وهوامش نشاطه المُجتمَعي، لا تعني ببساطة أنه يُحِب أن يعيش بين الناس ولا يُمكِن أن ينفصل عنهم، ليس هذا معناها، مُعقَّدة جداً الكلمة هذه، مُعقَّدة جداً! وخاصة إذا تبنينا المنظور الوظيفي والصراعي دون التفاعلي اللذين يُركِّزان على مفهوم البنية، أي الــ Structure، البنية! هناك أُناس لا يُؤمِنون بالبنية والبُنى الاجتماعية، لكن أوجست كونت Auguste Comte، دوركايم Durkheim بالذات، كارل ماركس Karl Marx، ودارندورف Dahrendorf الألماني يُؤمِنون بماذا؟ يُؤمِنون بالبُنى، هناك بنية! ستقول لي هذه مفاهيم مُعقَّدة جداً، وهذا صحيح، حتى فلسفة البنية في حد ذاتها مُعقَّدة كثيراً، لكن أنا سأُوضِّحها بمثال بسيط.

أنت الآن يُمكِن أن تكون في غُرفة مُعيَّنة، هذه الغُرفة لها سقف، لها حوائط أو حيطان، لها نوافذ، ولها باب، هذه الغُرفة بهذه البنية – أي بهذا الــ Structure أو بهذا الهيكل كما قلنا أمس، قلنا هذا عن مسألة الفقر، هل هي مُهيكلة ومُمأسسة أم أنها ليست كذلك؟ هل هي Formal أو Non-formal؟ هل هي بنيوية أو غير بنيوية؟ هذا معناها، وهذه مُصطلَحات مُتقارِبة منها، لابد منها لكي نفهمها حين نقرأها وما إلى ذلك، لابد أن نفهم الأشياء بشكل دقيق وواضح – تُحدِّد ماذا؟ تُحدِّد مجال حركة الإنسان، لا تستطيع أن تتحرَّك بالطول إلى خمسين متراً، هي كلها خمسة أمتار، تُرغِمك! وكذلك المُجتمَع، تخيَّل أن هذا المُجتمَع هو هذه الغُرفة، وهذا ليس في إطار الحركة الفيزيقية فقط، لا! في إطار كل الحركات، حتى الحركة العقلية الفكرية، لا يسمح لك المُجتمَع أن تقول كل شيئ وأن تفعل أي شيئ وأن تُعبِّر بأي طريقة وأن تُحيي الناس بأي طريقة، مُستحيل! أليس كذلك؟ ولذلك المُجتمَع عنده آليات، آليات لماذا؟ للإخضاع، يُسمونها آليات إخضاعية، عنده آليات – أي ميكانيزمات Mechanisms – إخضاعية، تُخضِع كل الأفراد لماذا؟ لقيم مُعيَّنة، وطبعاً سنأخذ ربما في حلقات أُخرى الفرق بين القيم والمعايير، دائماً المعايير تحتاج إلى القيم وليس العكس، أي سنأخذ الفرق بين الــ Valuable والــ Norms، المُهِم من هذه الآليات الإخضاعية – وهذه أقصاها طبعاً – إيقاع عقوبة، هناك عقوبات! العقوبات تصل أحياناً إلى الإعدام في بعض الدول والنُظم وأحياناً إلى السجن، مُتفاوِتة هذه! المُجتمَع يتخذ هذا ويُصادِق عليه، السُلطة التنفيذية والقضائية والتشريعية تقول هذا لازم، لماذا؟ لكي تخضع للمُجتمَع، لقيم ومعايير المُجتمَع، هذا ليس بحسب هواك، أنت في مُجتمَع شئت أو أبيت، هذا هو!

من آلية – كما قلنا – إيقاع العقوبة إلى آلية الإقصاء – أي الــ Exclusion، الــ Exclusion هو الإقصاء، وهناك الــ Inclusion، أي الاحتواء، وحتى هذا المُصطلَح موجود في السياسة أيضاً، أي الاحتواء – إلى أضعف شيئ وهو سوء التفاهم، حين يحدث سوء فهم أو سوء تفاهم – أي Missverständnis بالألمانية أو Misunderstanding بالإنجليزية – تكون هذه آلية من آليات المُجتمَع للإخضاع أيضاً، كيف إذن هذا؟ في الاستخدام الخاطئ – مثلاً – للُغة، يُمكِن أن يحدث هذا عبر الاستخدام الخاطئ للُغة، وذلك لو جئت وعبَّرت – مثلاً – بطريقة مُعيَّنة خاطئة، كأن تقول – كما قلنا مرة – لملك – مثلاً – سعادتك، هذه مُشكِلة كبيرة جداً! وطبعاً سوف ترى أن الناس تجهمت، لا ترى أن هذا شيئ بسيط، ويُمكِن أن يصل الموضوع في النهاية إلى السجن أيضاً، أي سنرجع إلى الآلية الأولى بعد ذلك، لكن إذا لم تصل إلى السجن فلابد طبعاً أن يكون هناك إقصاء في هذه المسألة، وهذه فيها على الأقل سوء فهم أو سوء تفاهم، فيُقال لك كيف هذا يا ابن الناس؟ ما الذي قلته هذا؟ لأن هذا غلط، لا تُخاطِب ملكاً قائلاً سعادتك، أليس كذلك؟ قل له جلالتك، ولا تُخاطِب سفيراً قائلاً حضرتك، قل له سعادتك، هذه الــ Excellency لابد منها، هكذا هو المُجتمَع! أليس كذلك؟ لا تُخاطِب إنساناُ وقوراً في عمر أبيك – هو إنسان وقور في حُكم والدك وقد يكون من أهل الصلاح وأهل العلم – قائلاً أنت، ما أنت؟ قل حضرتك أو حضرتكم أو أنتم قلتم، لا تقل أنت، أنت مَن قال كذا وكذا، عيب! المُجتمَع يفرض الأشياء هذه، أرأيت؟ لذلك أكثر المُجتمَعات عندها المُخاطَب المُبجَّل، مثل Sie هنا، فالمُهِم المُجتمَع عنده آليات فرض القيم والمعايير، وهناك بُنى مُعيَّنة – كما قلنا – تحكم الإنسان، هذه البُنى أحياناً تأخذ أشكالاً – كما قلنا – واضحة عيانية، مثل المُؤسَّسات، مُؤسَّسات مُعيَّنة كالمدارس، الجامعات، الحضانات، المساجد، دور العجزة، دور الأيتام، دور كذا وكذا، والمحكمة! هذه مُؤسَّسات في المُجتمَع، هذه كلها ضمن بنية المُجتمَع، وهناك بُنى تكون أحياناً بُنى معنوية، بُنى معنوية وليست بُنى مادية عيانية، كل هذه بُنى!

إذن أنت في هذه الغُرفة، أي في هذه البنية، إذا أردت أن تخرج فلن تجد إلا الباب، الخروج من النافذة غير مقبول، وإلا ستحدث بعد ذلك مُساءلة، فالخروج لا يكون من الحائط، مُستحيل! المُجتمَع لا يسمح، هذه بنية! لا تقل أنا فرد وأنا حر، أنت حر ضمن ما تُتيحه البُنى الاجتماعية، هذه مسألة البُنى التي تبناها طبعاً كونت Comte ودوركايم Durkheim بالذات، فالمنظور الوظيفي – سنشرحه بعد قليل – والمنظور صراعي يتبنيان مفهوم البُنى الاجتماعية.

ينظرون إلى البُنى الاجتماعية على أنها تقريباً خارج الفرد، أنت تأتي إلى هذه الحياة أولاً، قواعد السلوك والقيم الشائعة والسائدة والأديان والمُعتقَدات والأفكار والعادات والتقاليد والقوانين والمُؤسَّسات الموجودة كلها خارجة عنك، موجودة قبلك! أنت جئت ووُلِدت وهذه موجودة، تكبر وتأخذ لُغة المُجتمَع، ترطن رطانة المُجتمَع، تأخذ دين المُجتمَع، عادات المُجتمَع، تقاليد المُجتمَع، تلبس مثلهم، تأكل مثلهم، تتحيَّل مثلهم، كل شيئ مثل المُجتمَع! لذلك ينظر دوركايم Durkheim وأصحاب أيضاً المناظير الصراعية إلى البُنى الاجتماعية على أنها مُنفصِلة ومُستقِلة عن الفرد، الأحسن ألا نقول عن الأفراد حتى لا يحدث التبس، نقول عن الفرد وليس عن الأفراد، عني وعنك وعن كل واحد بشكل مُستقِل، مُستقِلة هذه وموجودة!

وهذا ما أكَّده دوركايم Durkheim في كتابه قواعد علم الاجتماع، قال أنا آتي إلى هذه الحياة ولا آتي معي بأي شيئ مما يتعلَّق بسلوكي، لا آتي بطقوس الزواج في مُجتمَعي أو بالعقائد الشائعة أو بطريقة التبادل الاقتصادي والمادي، كل هذا موجود، موجود قبلي! فهذه بُنى موجودة، لا تتأثَّر بي وبك، بالأفراد!

طبعاً المُبالَغة في هذا المنظور البنيوي هي التي جعلت الآخرين يشتطون – من أصحاب المنظور التفاعلي – ويقولون لا، هذا الكلام غير صحيح، والبُنية هذه أسطورة، الموجود هو الفرد، الموجود هو أهداف الفرد وطموحات الفرد ووسائل الفرد، ولا تتحدَّثوا – نعني الآخرين – عن شيئ اسمه أهداف المُجتمَع أو مصالح المُجتمَع، لا يُوجَد هذا الشيئ! بل هناك مصالح للأفراد وهناك أهداف للأفراد، كل على حدة، لا تقل لي يُوجَد شيئ هكذا اسمه المُجتمَع، وطبعاً هذا تطرف أيضاً، هذا تطرف! فهذا صحيح وهذا صحيح لكن نُقطة اللقاء لابد أن تكون في الوسط.

التطرف في المنظور البنيوي فعلاً يُدخِلنا في مسألة تجريبية تأملية، وفعلاً هناك أخطاء علمية، والتطرف في المنظور التفاعلي وإنكار البنية لحساب الفعل – الــ Action – أيضاً مسألة غير صحيحة، في نهاية المطاف فعلاً يُوجَد شيئ اسمه مُجتمَع، وهو أكبر – كما قال دوركايم Durkheim – مني ومنك وأكبر من مجموعنا، المُجتمَع ليس أنا وأنت وهو وهي بحسابنا جميعاً، لا! هو أكبر من كل هذا الشيئ، فهنا الكُل أكبر من المجموع، في المسألة الحسابية يُقال واحد زائد واحد زائد واحد، المجموع هو الأفراد، نفس الشيئ! رقم ثلاثة هو الأفراد مُجتمِعون، في المُجتمَع الأمر ليس كذلك، يقول دوركايم Durkheim لا، المُجتمَع أكبر من مجموع الأفراد، أكبر بكثير! وهذا ربما أيضاً نعود إليه بعد ذلك إن شاء الله.

إذن هذا هو الذي أتى به دوركايم Durkheim، ليُؤكِّد لنا أن هذه الظواهر لابد أن تُدرَس من خلال منظور اجتماعي، لا على أنها ظواهر فردية وشخصية محض، ولن تُفهَم إلا بدراستها اجتماعياً!

دوركايم Durkheim أيضاً كبنيوي – كما قلنا – ووظيفي – ما معنى وظيفي؟ الآن سنقول – اهتم بعوامل الدمج وعوامل التضامن في المُجتمَع – اهتم بها – التي تُفضي وتعمل على تعزيز الاستقرار والسلم، هذا أهم شيئ عند دوركايم Durkheim، طبعاً في المُقابِل هناك عوامل تعمل على العكس، على التفتيت والتمزيق، هذه يُسمونها ماذا؟ يُسمونها عوامل الصراع، عندنا مدرسة أُخرى أو منظور آخر اهتم بها أكثر، اسمه المنظور الصراعي، مثل الماركسيين مثلاً، اهتموا بها كثيراً! لكن دوركايم Durkheim اهتم بعوامل الدمج وعوامل التضامن، وميَّز بين نوعين من أنواع التضامن في المُجتمَعات عبر التاريخ: التضامن الآلي، والتضامن العضوي.

في المُجتمَعات التقليدية وفي المُجتمعات القديمة اللون السائد من التضامن هو التضامن الآلي، في المُجتمَعات الصناعية الحديثة أو المُحدَثة التضامن السائد هو التضامن العضوي، كيف؟ ما معنى الكلام هذا؟ في المُجتمَعات القديمة – كما تعلمون – أولاً تقسيم العمل لم يكن بارزاً بشكل صارخاً، لم يكن كذلك! لماذا؟ لأن أكثر الأعمال السائدة كانت مثتشابِهة وأحياناً كانت مُتماثِلة، أليس كذلك؟ ولذلك الاعتماد المُتبادَل كان قليلاً، أي الــ Interdependence كان قليلاً، أنت عندك قمح وأنا عندي قمح، أنت فلّاح وأنا فلّاح، نفس الشيئ! أنت عندك بقرة وأنا عندي بقرة، وأنت عندك ديك رومي وأنا عندي ديك رومي، لا يُوجَد فرق! الاعتماد المُتبادَل كان قليلاً، فكان التضامن آلياً لاعتبارات أُخرى، مثل ماذا؟ التوحد في الاعتقاد، التوحد في التقاليد، والتوحد في القيم السائدة، هذا اسمه التضامن الآلي في المُجتمَعات القديمة والتقليدية.

قال في المُجتمَع الحديث – مُجتمَع التصنيع أو الصناعة – اختلف الأمر، مست الحاجة إلى موضوع تقسيم العمل، أي Division of labor، لابد من تقسيم العمل طبعاً، لأنكم تعرفون ما الذي حصل، حصلت قفزة كبيرة جداً جداً، خاصة مع الثورة الصناعية، التي انبثقت أولاً في بريطانيا طبعاً – في أواخر القرن الثامن عشر في بريطانيا – قبل أن تنتقل إلى أقطار أوروبا الأُخرى وقبل أن تنتقل إلى أمريكا الشمالية، في بريطانياً انبثقت أولاً طبعاً! مع هذه الثورة الصناعية أصبح الإنسان الحديث يرى ويعيش ويحتاج أيضاً إلى سلع لم يكن له عهد بها على الإطلاق من قبل، جديدة جداً كلها! 

في نفس الوقت أيضاً حصل تغير كبير في الحقائق الاجتماعية، بنية المُجتمَع طرأ عليها تغيير كبير أيضاً، والتغيير هذا كان سريعاً ومُتسارِعاً، ضُرِبت كثير جداً من القيم السائدة، مما أفضى إلى حالة يُسميها دوركايم Durkheim حالة الضياع، لم تعد هناك قيم مُحدَّدة وواضحة يتجه الناس إليها ويحتكم الناس إليها، فماذا كان البديل؟ التضامن العضوي، أنت تحتاجني في الوقت الذي أحتاجك فيه، أليس كذلك؟ هنا في المُجتمَع الصناعي الحديث لو الزبّالون – أكرمكم الله – عملوا اضراباً ستُصبِح هذه مُشكِلة للمُجتمَع كله، كل المُجتمَع يحتاجونهم، من رئيس الدولة إلى أصغر مُوظَّف، هذا الزبّال يحتاجونه، أليس كذلك؟ وإلا ستكون هناك أوبئة ومشاكل كبيرة جداً تُهدِّدنا، كلنا نحتاج الأطباء، والأطباء يحتاجون المُمرِضين، كلنا نحتاج عمّال المصانع، وهكذا! هذا هو المُجتمَع، هذا تقسيم العمل.

هذا أكَّد وعزَّز ورسَّخ مبدأ الاعتماد المُتبادَل، أي الــ Interdependence، الاعتماد المُتبادَل! فأصبح التضامن تضامناً عضوياً، أي Organic solidarity، كلمة عضوية في علم الاجتماع دائماً تستعير التشبيه بالبدن الحي، بالعضوية – Organism – كما يُسمونها دائماً، من قديم هذا! علماً بأن هذه الاستعارة قديمة قدم القانون الروماني، أول مَن استخدمها أحد المُنظِّرين في القانون الروماني القديم، شبَّه المُجتمَع بالجسم الحي، هذا التشبيه وهذه الاستعارة يكثر استدعاؤها في كتابات كونت Comte وفي كتابات إميل دوركايم Émile Durkheim، الجسد الحي! وهذا ببساطة وباختصار وبوضوح معنى المنظور الوظيفي، أي الــ Functional perspective، هذا هو المنظور الوظيفي، ما معنى المنظور الوظيفي؟ أنت الآن كطبيب أو كدارس لكي تدرس – مثلاً – القلب وعمل القلب لا يكفي أن تدرسه مُفرَداً ولا تستطيع أصلاً، لا تستطيع أن تدرسه مُفرَداً معزولاً! لابد أن تدرسه ضمن البدن الحي كله وبكامل أجهزته، لكي تدرسه لابد من قراءة كاملة للبدن، هذا هو! وهكذا تعمل في كل عضو آخر، فهذا الذي عزَّز كما قلنا تقسيم العمل والاعتماد المُتبادَل، وأنتج لوناً جديداً من التضامن اسمه التضامن العضوي.

إذا قرأنا العلوم الاجتماعية فسوف نجد أن هذا هو التضامن العضوي، وذاك هو التضامن الآلي، ما يعرفه المُجتمَع الحديث هو النوع الثاني، أي التضامن العضوي وليس التضامن الآلي، هذا أيضاً من الأفكار الرئيسة في فكر دوركايم Durkheim، وهي تُوضِّح لنا – كما قلنا – منظوره الوظفي أو المنظور الوظيفي، النسبة الصحيحة هي الوظفي، لكنها ليست جميلة، أنا لا أُحِبها، ثقيلة! وظفي وعقدي وما إلى ذلك، الأفضل والأجمل أن يُقال عقيدي ووظيفي، فهذه مفهومة، علماً بان هناك مندوحة في الكلام هذا، هذا بالنسبة لإميل دوركايم Émile Durkheim.

بعد دوركايم Durkheim جاء مَن؟ جاء كارل ماركس Karl Marx، طبعاً بعض الناس قد يقول لك هل ماركس Marx عالم اجتماع؟ وهو هكذا طبعاً، كبار حتى أخصامه يعترفون بأن له إسهاماته المقدورة في علم الاجتماع، هذا هو شئنا أو أبينا، مع أنه كان إلى حد ما مُفكِّراً موسوعياً، أي عنده اطلاعاته العميقة في الفلسفة – هو فيلسوف بلا شك -، في التاريخ – في تاريخ الحضارات بالذات -، في الاقتصاد السياسي، في علم الاجتماع أيضاً، وفي الأدب! هو كان عالماً موسوعياً، فكارل ماركس Karl Marx يتفق مع دوركايم Durkheim أولاً في مسألة البُنى، طبعاً يُؤمِن بأن البُنى الاجتماعية أهم من الفعل الاجتماعي، وطبعاً أنت حين تسمع بماركس Marx والماركسية ماذا تفهم في النهاية؟ الأولوية لمَن: للفرد أو للجماعة؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور للجماعة، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم للجماعة، هذا صحيح، للمُجتمَع! إذن هو بنيوي شاء أو أبى، وطبعاً واضح أنه بنيوي، فهو يُؤمِن بأن هناك بُنى اجتماعية تُمارِس تأثيرها على الفرد رُغماً عنه.

عند ماركس Marx أنت الآن فرد في طبقة، تنتمي إلى طبقة شئت أو أبيت أيضاً، وهو يهتم بماذا؟ بالرأسماليين وطبقة العاملين، أي البروليتاريا، طبقة البروليتاريا، أنت واحد منهم، إما أن تكون من هؤلاء أو من هؤلاء، وهناك البرجوازيون طبعاً بين هؤلاء وهؤلاء، وسأشرح هذا، كونك الآن برجوازياً أو رأسمالياً أو بروليتارياً فهذا ليس اختيارك، هذا الموضوع أكبر منك، هذا الموضوع أيضاً يتعلَّق بالبُنية، أنت انحدرت من هذه العائلة التي تنتمي إلى طبقة – مثلاً – العمّال الصناعية أو البروليتاريا، المُجتمَع يُريد هذا، إلى آخره!

المُهِم كارل ماركس Karl Marx إذن اهتم بالبُنية، لم يهتم كثيراً بالفعل الفردي وإنما اهتم بالبُنى الاجتماعية، لكنه اختلف عن دوركايم Durkheim في نُقطة مُهِمة جداً، اتفق معه في هذا واختلف معه في شيئ ثانٍ، ما هو؟ دوركايم Durkheim أكَّد على مسألة ماذا؟ مسألة التضامن – كما قلنا – ومسألة الدمج، وعُنيَ بالعوامل والفواعل التي تعمل على استقرار المُجتمَع، كارل ماركس Karl Marx لم يكن هكذا، ركَّز اهتمامه وجعل وكده فهم وتحليل وتفكيك العوامل الصراعية التي تعمل على تمزيق المُجتمَع وعلى تفتيت المُجتمَع، وكلمته الشهيرة جداً في هذا الباب: لم يزل التاريخ الإنساني وإلى اليوم تاريخ الصراع بين الطبقات، هذه كلمته! هكذا هو التاريخ كله، التاريخ كله تاريخ الصراع بين الطبقات Classes، هذه كلمته التي لخَّصت ما ورائيته، فكارل ماركس Karl Marx يرى أن المُهِم في درس المُجتمَع هو درس عوامل الصراع، ليس عوامل التضامن والتساند والتسامح، وإنما عوامل الصراع!

طبعاً هو أخذ جانباً مُعيَّناً أو نمطاً مُعيَّناً من الصراع، وهو ماذا؟ (ملحوظة) قال أحد الحضور الصراع بين الطبقات، فأكَّد الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم على صحة الإجابة قائلاً الصراع بين الطبقات، ثم قال هل تحدَّث – مثلاً – ماركس Marx عن الصراع بين الرجل والمرأة؟ لا، لذلك الآن هؤلاء النسوريون أو النسوريات – النسوريون سواء كانوا رجالاً أو نساءً – يعتبون على ماركس Marx أنه لم يُطوِّر أي اجتهادات خاصة ذات قيمة في مسألة – مثلاً – الجندر Gender، مسألة العلاقة بين الجنسين وحقيقة ذلك وهل هذا المفهوم هو مفهوم بيولوجي أو اجتماعي وبأي قدر؟ لم يتكلَّم في هذا!

كارل ماركس Karl Marx لم يُعن بالمسألة الإثنية أو العرقية، لم يتكلَّم فيها، رجل – مثلاً – كمارتن لوثر كينج Martin Luther King أو مالكوم إكس Malcolm X لن يجد أي شيئ في تراث ماركس Marx ينفعه في قضيته، هذا غير موجود، لم يتكلَّم فيه، ليس له علاقة بالموضوعات هذه ولم يتكلَّم فيها، في حين أن أناساً آخرين تكلَّموا فيها.

كارل ماركس Karl Marx أيضاً لم يتكلَّم كثيراً عن موضوع الصراعات بين الأحزاب السياسة، التي أحياناً تنتمي إلى نفس الطبقات، وهذه الصراعات على السُلطة! حتى لو هناك مُجتمَع خالٍ من هذا التفاوت الطبقي المُجحِف هذه الصراعات موجودة، صراع الـ Power! بالعكس، هذا أكثر أشكال الصراع تردداً وتواتراً في التاريخ الإنساني، أي الصراع على السُلطة، لأنها أكبر المكاسب كما يُقال، أكبر المكاسب! الذي يمتلك السُلطة يمتلك كل شيئ، لكن هو لم يتحدَّث عن هذا، هو جعل الصراع صراعاً بين الطبقات، وتحدَّث أيضاً عن تطور نُظم وأنماط الإنتاج عبر التاريخ الإنساني، إلى أن وصلنا إلى الرأسمالية التي وعدها بثورة العمّال الآتية لا محالة، للقضاء عليها ولمحو التفاوتات الصارخة الجامحة بين الطبقات، ماركس Marx قبل في نهاية المطاف بتفاوتات بسيطة بين الطبقات، لكنه لم يقبل التفاوتات الصاخبة، ومعه الحق بصراحة، وهو إنساني في هذه المسألة بالمُناسَبة، صُوَّر على أنه شيطان رجيم، وهذا غير صحيح، في هذا المسعى كان الرجل إنسانياً بلا شك، ومن هنا تأثيره وخلبه لألباب وعقول المُستضعَفين والفقراء والمُضطهَدين، قال الذي لا يُسمَح به أن يكون هناك تفاوت يسمح لفئة صغيرة ضئيلة جداً أن تمتلك كل شيئ – بما فيها السُلطة طبعاً – في حين يبقى الجمهور الأغلب أو الجمهور الساحق لا يمتلك حتى ما يأكل، قال هذا التفاوت مُستحيل، غير مقبول هذا! وطبعاً وصل إلى هذه الأفكار وهذه النظريات بتأثير أيضاً البيئة، لأن إشكالاته مع السُلطة الألمانية على خلفية نشاطاته السياسية وأفكاره السياسية المُناهِضة جعلته يهوي إلى فرنسا لفترة بسيطة ثم يستقر منفياً في بريطانيا، بريطانيا في تلكم الفترة بالذات شهدت ماذا؟ الثورة الصناعية، رأوا كيف كانت المصانع وتطور المصانع ونمو طبقة الرأسماليين الجُدد، التي جاءت كخلف لمَن؟ للنُبلاء، لطبقة النُبلاء الإقطاعيين، لذلك هو قال هذه الرأسمالية وهؤلاء الرأسماليون موعدون بثورة العمّال، وستُزيلهم بنفس الآليات التي أزالوا هم بها طبقة النُبلاء الإقطاعيين، قال هذا سيحدث، التاريخ يقول هذا! لأنه رأى تطور أنماط الإنتاج من النمط الشيوعي البدائي في مُجتمَع الحصّادين إلى مُجتمَع العبودية والأقنان إلى مُجتمَع الإقطاع والنُبلاء إلى مُجتمَع الرأسمالية، فهو شهد هذا، شهد هذه التفاوتات الصارخة، وشهد طبعاً مثلما شهد دوركايم Durkheim وكونت Comte – لأن هؤلاء كلهم كانوا في عصر مُتقارِب تماماً – تغيرات راديكالية وتغيرات جذرية في المُجتمَع، في الأخلاق، في القيم، في التقاليد، في البُنى، في الهياكل، وفي المُؤسَّسات! تغيرات غير طبيعية فعلاً، هذا كان وضعاً مُربِكاً جداً، وهذا الوضع هو الذي ساعد على نمو علم الاجتماع الغربي، كان لابد أن ينشأ علم جديد يُفسِّر هذا الشيئ الذي يحدث، شيئ غير طبيعي! المُجتمَع تغيَّر برُمته تقريباً، وكان يحدث هذا التغير في عقود أحياناً، إذن كان لابد من أن ينشأ علم – وقد نشأ علم الاجتماع – لكي يُفسِّر لنا هذه المسائل.

فلاحظ ماركس Marx – مثلاً – الملايين من الفلّاحين الذين يتركون أرضهم ومزارعهم وفلاحتهم ليأتوا وليئيضوا – أي ليُصبِحوا أو ليصيروا – عمّالاً في مصانع الرأسماليين، هذا اسمه العمل المأجور، أي يُوجَد عمل يُدفَع قبالته أجر، لأول مرة – قال ماركس Marx – يحدث هذا، قال هذا نمط جديد، لأول مرة الإنسان يعمل وعمله ليس له، وبشكل مُمأسس ومُقنَّن، نمط جديد هذا في الإنتاج قال، قديماً كان التاجر يشتغل وحده، الزارع كان يزرع وحده ثم يبيع ويشتري وما إلى ذلك، لكن الآن اختلف الوضع، وُجِدَ نمط كامل طبعاً، لا أتحدَّث عن حالات استثنائية مثل رجل مُعيَّن، ليس هذا هو، وُجِدَ نمط! حدث هذا كنمط، أي كــ Type، قال يُوجَد نمط كامل الآن في الإنتاج، النمط الرأسمال الجديد! لأول مرة – قال – العمّال يغتربون، وكان كارل ماركس Karl Marx من أوائل مَن استخدم – ليس أول وإنما من أوائل، هيجل Hegel حتى استخدمه وقاله – مُصطلَح الاغتراب، أي الــ Alienation، استخدمه في اغتراب العامل عن عمله، يشتغل ويتعب طيلة اليوم ويُحسِّن السلعة وما إلى ذلك ثم يفقدها في النهاية، كما تفقد الشجرة ثمرتها، وتسقط في يد مَن؟ الرأسمالي، ويتقاضى هو مُقابِل ذلك فلوساً يسيرة جداً، لا تتفق مع هذا العمل، وهذا الرأسمالي يبيع هذه السلعة ربما أحياناً بآلاف أضعاف ما دفعه لهذا المسكين، وهذا حق، الآن يحدث هذا! في الرأسمالة المُتوحِّشة الحديثة الآن والمُعاصِرة يحصل هذا فعلاً، لا أذكر رقماً الآن – ذكرته مرة في خُطبة – هاماً عن أحذية نايكي Nike التي تعرفونها، هذه الأحذية لها مصانع في إندونيسيا، تقريباً – لا أعرف الرقم بالضبط الآن، نسيت والله، لكنني ذكرت هذا في خُطبة قديمة قبل سنتين تقريباً – كل عشرة آلاف عامل أو أكثر في مصانع هذه الأحذية في إندونيسيا – مثلاً – يأخذون أقل من الذي يأخذه لاعب كرة قدم – مثلاً – مُحترِف مشهور يقوم بعمل دعاية – مثل تصوير ضربة برجليه وهو يرتدي هذا الحذاء، ضربة هكذا في خمس ثوانٍ في التلفزيون Television – لمَدة سنة كاملة، هو يأخذ أكثر منهم لمُدة سنة كاملة! انظر إلى هذا، هذا شيئ مُخيف، فما الذي يأخذه صاحب هذه المصانع نفسها والذي يقوم ببيع هذه الأحذية؟ 

الآن هناك سلع لا تُكلِّف صاحبها ربما عُشر الدولار لكنها تُباع بخمسين، والعامل المسكين لا يأخذ لقاء تصنيعها إلا سنتات – Cents – معدودات، شيئ مُخيف! ماركس Marx لاحظ هذا الشيئ، وهذا أثاره، أثار الجانب الإنساني فيه، لم يُرضه هذا، قال هذا مُستحيل، وطبعاً هذه الطبقة التي تركت الفلاحة والأرض جاءت إلى المُدن، فغصت بهم المُدن وبُنيت لهم مساكن كمساكن الدجاج، كانت غاصة بهم في ظروف أحياناً كانت غير إنسانية وغير مُيسَّرة للعيش الكريم، كل هذا أنشأ ظاهرة جديدة أو طبقة جديدة اسمها طبقة ماذا؟ البروليتاريا، هذه هي البروليتاريا، ليس أي عامل، وإنما العامل في العصر الصناعي بهذه الطريقة، هذا اسمه البروليتاريا، أي طبقة العمّال الصناعيين، وأكثر أصولهم من القرى والأنجاع، جاءوا إلى المُدن عند المصانع والمداخن، اسمها البروليتاريا! فماركس Marx اهتم بهذه الناحية وقال لابد من وجود صراع.

هو طبعاً لاحظ أن هناك تبادلاً للمنافع أيضاً وأن هناك اشتراكاً بين الرأسمالي وبين العامل عنده، يُوجَد هذا طبعاً! هو يحتاج إلى عملي وأنا أيضاً أحتاج إلى فلوسه، لكنه قال هذه العلاقة علاقة مُختَلة، وهي في نهاية المطاف علاقة استغلالية، يُوجَد استغلال! نعم أنا أحتاج إليه وهو يحتاج إلىّ لكنه لا يُعطيني ما أستحق، إذن هو يلعب على ماذا؟ على ضرورتي، لأنني مُضطَر لأن أعمل، وهو يعمل بكل الوسائل على تخفيض أجري، في نفس الوقت يعمل بكل الوسائل على تحسين كفاءة السلعة، في نفس الوقت يسعى دائماً عبر آليات مُعيَّنة معروفة – ماركس Marx درسها في رأس المال، أي الــ Capital – إلى تخفيض الضمانات الاجتماعية، لأن هذه في النهاية مَن أكثر مَن يدفعها؟ هو، صاحب المصنع ومَن مثله، لا يُريدون أن يُعطوا ضمانات لهؤلاء الناس، عجيب! لا تُريد أن تُعطيه ضمانات ولا تُعطيه أجراً مثل باقي الناس وتُريد منه أحسن سلعة، جُن جنون ماركس Marx، هذا غير مقبول قال، ظلم شديد – قال – هذا وإفحاش ضد الناس، ظلم وفاحشة قال، ولابد أن يتغيَّر هذا بأي طريقة من الطرق، وهذا صحيح، هو معه الحق في أن ينقم على هذا الوضع الجديد، هناك أطفال يشتغلون وهم في سن التاسعة وسن الثامنة، وأيضاً بأجور مُنخفِضة جداً ولساعات طويلة، فهو اهتم بهذه المسألة وتحدَّث عن صراع الطبقات، صراع الطبقات الذي سيفوز فيه في نهاية المطاف العمّال، الطبقة العمّالية ستفوز في هذا الصراع.

إذن ماركس Marx – كما قلنا – صراعي، أي منظوره صراعي، ماركس Marx بنيوي، بنيوي مثل دوركايم Durkheim، لكنه يختلف في تركيزه على الصراع بدل التركيز على عوامل التساند.

نأتي الآن إلى ماكس فيبر Max Weber، هذا كارل ماركس Karl Marx وعندنا ماكس فيبر Max Weber، وهو عالم اجتماع ألماني، اتفق مع ماركس Marx في أنه لم يكن فقط عالم اجتماع، كان فيلسوفاً واقتصادياً وقانونياً، بمعنى أنه كان مُهتَماً بهذه العلوم وله في كُتب ودراسات، كان عالماً موسوعياً، تحدَّث في الفلسفة، في القانون، في الاقتصاد، وأيضاً في علم الاجتماع، وله دراسات مُهِمة جداً جداً، لا تزال آثارها ولا تزال تُلقي بظلالها على الدراسات الاجتماعية إلى اليوم.

طبعاً هناك عبارة تتكرَّر في كل مراجع الاجتماع، عبارة موجودة بشكل مُستمِر! وهي أن المدرسة الفلانية قد واجهت نقداً شديداً من كذا وكذا، هذا لابد منه! كل مدرسة واجهت نقداً شديداً، لماذا؟ لأن هذه كلها في نهاية المطاف مدارس تتقدَّم باجتهادات ومناظير أيضاً جُزئية ولابد أن تُعاني قصوراً، كلها بلا استثناء، فبالنسبة لماكس فيبر Max Weber نُريد أن نرى أين يتفق وأن يختلف أيضاً.

ماكس فيبر Max Weber يختلف عن الوظيفيين وعن الصراعيين، لا هو وظيفي ولا هو صراعي، يُعتبَر إلى حد ما بعيد – أي إلى حد بعيد، ربما بنسبة سبعين في المائة – مُؤسِّس التفاعلية، وسنشرح التفاعلية بعد قليل، فهو ليس بنيوياً، بمعنى ماذا؟ بمعنى أنه مُنحاز للفعل الفردي، للفعل الاجتماعي، وليس للبُنية، قال لا، الفعل أهم من البُنية، وهو لا يُنكِر البُنية إنكاراً تاماً، لكنه يقول الفعل أهم منها، كما قلت قُبيل قليل بمعنى أننا صنائع للمُجتمَع لكن نحن أكثر من ذلك، صانعو المُجتمَع، نحن الذين أيضاً نصنع هذا المُجتمَع.

الفرد في نظر ماكس فيبر Max Weber يمتلك مُستقبَله ويستطيع أن يُحدِّد إلى حد ما مصيره أيضاً بوعيه وبفاعليته، إذن هو لم يُلق بالاً إلى ذلك الإرهاق أو العبء الشديد الذي تُلقيه الحقائق والبُني الاجتماعية على الفرد بمقدار ما أكَّد على أهمية الفعل الفردي، فعل الإنسان!

لديه كتاب مشهور جداً – هو أشهر كُتبه على الإطلاق – اسمه الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية، فسَّر في هذا الكتاب نشوء الرأسمالية الغربية، مُتسائلاً لماذا نشأت الرأسمالية بهذه الطريقة وهذا النمط في الغرب مع أن دولاً وحضارات أُخرى وثقافات أُخرى خاصة في الشرق الأقصى تمتلك الأموال الهائلة؟ الصين – مثلاً – آسيوية، هذه امتلكت في فترات تاريخية أموالاً هائلة، كان يُوجَد هذا، كانت هناك مُراكَمة، كان هناك نوع من المُراكَمة للأموال، أموال هائلة جداً جداً استُخدِمت في تعزيز السُلطة والأمن، لكن لم تنشأ الرأسمالية هناك، لماذا؟ لماذا نشأت بالذات هنا؟ سيبرز لكم من خلال الجواب تأثره وتأكيده أيضاً على موضوع الفعل الفردي وأثر الفرد بما يحمل أيضاً من قيم وأفكار وتوجهات وتطلعات، مُلخَّص هذا الكتاب في هذه الجُملة، قال لأن أوائل الرأسماليين الأوروبيين من التجّار وغيرهم كانوا ينطلقون من أفكار أو فكر وقيم دينية نابعة من المذهب التطهري – أي البيوريتانية Puritanism، المذهب التطهري – وهو أحد المذاهب البروتستانتية، ماذا يقول هذا المذهب التطهري؟ هذا المذهب يرى أولاً أن نجاح الإنسان في الدنيا علامة على أن سيكون ناجحاً في الأغلب في امتحان الآخرة، أي علامة على رضا الله، إذا نجحت فهذا يعني أن الله رضى عنك وسهَّل لك أمورك، هكذا كانوا يفهمون، والعجيب – وهذا المُهِم طبعاً – أن في نفس الوقت يعتقد التطهريون أن الترف والسرف هو ماذا؟ مفسدة وجريمة دينية، ممنوع! وهذا عجيب، هذا يعني أن هناك قيماً مُعيَّناً – وهذا كلام منطقي، وإلى حد ما ذكرت هو أثَّر كثيراً، النظرية أثَّرت كثيراً في الناس، نعم عليها انتقادات لكنها مُؤثِّرة جداً – مُختلِفة، بمعنى أن هناك الآن أُناساً تدفعهم روحهم واعتقاداتهم وأفكارهم الدينية إلى جني المال ومُراكَمة هذا المال، بماذا؟ بالبُعد عن الترف والسرف، لو أنت إنسان مُسرِف ومتلاف – كما يُقال – سوف يضيع المال هذا، لكنه قال لك لا، اجمع الكثير وانفق منه الأقل لكي يبقى هذا الباقي، وبالتالي هذا كان شرطاً ضرورياً لموضوع مُراكَمة استثنائية، طبعاً هذا نُراكِمه أين؟ هل نُراكِمه في الخزائن؟ لا، لم تكن البنوك Banks موجودة حتى في تلك الأيام، ستُراكَم هذه الأموال لكي تُستثمَر في مشاريع جديدة، في مشاريع! وهكذا ستتسع دائرة الاستثمار ودائرة توظيف ودوران هذه الأموال، قال هكذا أنا أرى الرأسمالية.

العنصر الأساسي فيها ما هو؟ هل هو عنصر صراع الطبقات وما إلى ذلك؟ لا، عنصر الأفكار والقيم، لذلك قال ماكس فيبر Max Weber هذا، وطبعاً هو تاثَّر بماركس Marx ووجَّه إليه نقداً شديداً، أي لكارل ماركس Karl Marx، وتأثَّر بدوركايم Durkheim طبعاً وتأثَّر بهؤلاء السابقين، لكن أكثر مَن تأثَّر به هو ماركس Marx، ووجَّه إليه نقداً شديداً جداً في تأكيده على أن البُنى أهم وعلى أن صراع الطبقات هو مُحرِّك التاريخ بلُغة ماركس Marx، قال لا، المُحرِّك للتاريخ هو الأفكار والقيم، النظريات والأفكار، والفرد له دوره وله أهميته، الفرد – قال – في نظري ليس مسحوقاً، ليس أي كلام، بالعكس!

الفكرة الثانية المُهِمة في اجتماع أو علم اجتماع ماكس فيبر Max Weber ما هي؟ فكرة الترشيد، أي الــ Rationalization، الترشيد أو العقلنة! ما الترشيد؟ باختصار الترشيد هو تنظيم المُجتمَع وتنظيم الاقتصاد وفق مبدأ أو أساس الكفاءة المُرتكِزة على المعرفة التقنية، مَن هو الكفؤ؟ الذي يتميَّز بأكبر قدر من امتلاك المعرفة التقنية، هذا لابد أن يكون له التصدر، أن يكون له التقدم، أن تكون أمامه الأبواب مفتوحة، وطبعاً هذا لا يعني في نطاق توزيع الثروات والوظائف فقط، لا! في كل شيئ لابد من الترشيد، لماذا؟ يقول ماكس فيبر Max Weber قبل نشوء العصر الصناعي كان هناك قدر كبير جداً من التضامن الوجداني بين الناس والعواطف والأفكار التقليدية والعقائد أيضاً الخُرافية، في العصر الصناعي – عصر الميكنة وعصر الحساب – قال هذا لم يعد ينفع، وفعلاً ماركس Marx لاحظ الكلام هذا، لم يعد ينفع، كل هذا ضاع، كله ضاع! قال فكان لابد من وجود أخلاق جديدة، وهي أخلاق ماذا؟ أخلاق الكفاءة، أخلاق الاقتدار، كل شيئ لابد أن يكون محسوباً، لابد من مُدخَلات فإذن لابد من مُخرَجات دقيقة، في كل شيئ! لكنه في نفس الوقت لم يُغفِل التخوف من النتيجة الكارثية لهذا الترشيد الذي تنبأ هو نفسه – أي ماكس فيبر Max Weber – بأنه ربما سيغتال في يوم من الأيام روح الإنسان، وسيُدخِل المُجتمَع الإنساني والأفراد أيضاً في ماذا؟ في قفص حديدي، وهذا الذي حصل، وهو يحصل الآن في المُجتمَعات الغربية، خاف منها! هذه مخاطر وهو خاف منها، لكنه قال هي ضرورية، ماذا نفعل إذن؟ هذا ثمن مقبول جداً جداً للترشيد.

ركَّز على نُقطتين في هذا المجال أيضاً، على الطبيعة العلمية للمُجتمَع الغربي وزعم أنها التي تُميِّزه من بين سائر المُجتمَعات الأُخرى، أي الطبيعة العلمية الوضعية! والشيئ الثاني هو البيروقراطية أو المكتبية كما يُترجِمها العرب، البيروقراطية! قال لأن البيروقراطية أحسن آلية يُمكِن بها استيعاب الأعداد الهائلة والمُتزايدة والنامية من المُوظَّفين والعمّال في عصر يُطلَب فيه الترشيد، كصيغة ترشيدية مُمتازة هناك البيروقراطية، هذا هو! وذلك بلوائح وقوانين واضحة جداً جداً.

عنده أيضاً في فلسفته الاجتماعية مُصطلَح شهير جداً اسمه مُصطلَح النموذج أو النمط المثالي، أي الــ Ideal type، النموذج أو النمط المثالي! الأنماط طبعاً تأثَّر بها الأستاذ الدكتور المسيري تأثراً هائلاً، هذه فكرة ماكس فيبر Max Weber، ليست فكرة المسيري وإنما فكرة ماكس فيبر Max Weber! ماكس فيبر Max Weber يُؤكِّد على أننا نُحاوِل أن نقترب – مُقارَبة كما يُقال، أي Approach – من الظواهر الاجتماعية والوقائع ونُحاوِل أن نفهمها، نُفكِّكها، نُعيد تفسيرها، ونُعيد بناءها عقلياً وذهنياً من العياني ومن الخارجي، لكن لن يُمكِن التعاطي معها على هذا النحو، صعب! سوف تُشتتنا ولن نفهمها، وهذا صحيح.

يا إخواني مَن يقرأ في هذه العلوم الإنسانية بالذات يجد روعتها أين؟ روعتها في أنها تُحاوِل وتنجح نسبياً – فعلاً تُحاوِل وتنجح نسبياً – في أن تُمكِنك وأن تجعلك قادراً على أن تُحيط من خلال مناظير بأعيانها بأعداد ربما أحياناً تجل عن الحصر والعد من الظواهر المُتناثِرة، غير واضحة الارتباط! تشعر بأن هناك ظواهر غير مُترابِطة، لكن حين تُطوِّر في النهاية منظوراً مُعيَّناً أو تستخدم منظوراً مُطوَّراً في النهاية تُلاحِظ أن كل هذه الظواهر مُترابِطة، الإنسان الساذج والبسيط لا يستطيع أن يلحظ هذا الترابط، أليس كذلك؟ لذلك دائماً مفاهيم الناس العاديين والعوام أياً كانوا ليست واحدة، يُمكِن أن يكون الواحد عالماً في تخصصه لكنه عامي في العلوم الإنسانية، أليس كذلك؟ مُمكِن! يُمكِن أن يكون فيزيائياً كبيراً – من أكبر علماء الفيزياء مثل أينتشاين Einstein – لكنه صفر في القضايا الاجتماعية، ولذلك يُقال المُختَص في علم عامي في غيره، أليس كذلك؟ لو طرح قضية اجتماعية يضحك عليه العلماء، ما هذا الكلام الفارغ؟ اذهب وعُد إلى حيث أتيت، ليس عنده القدرة، بسيط! فهو لا ينظر نظرة استيريوية مُجسَّمة، وإنما نظرة مُسطَّحة دائماً تلحظ بُعداً واحداً، أي ظاهرة إذا لاحظتها من بُعد واحد فسوف تجد أنها ظاهرة مُسطَّحة.

هذه العلوم تُمكِّن الإنسان من تجسيم التفكير ومن تجسيم الرؤية، بماذا؟ بإظهار الترابط! ماكس فيبر Max Weber قال هذا، وطبعاً قبل ماكس فيبر Max Weber حتى دوركايم Durkheim قال صعب أن نُقارِب هذه الحقائق مُباشَرةً، قال صعب جداً جداً! لماذا؟ لأنها خبيئة وخفية، لم يذكر أنها مُشتتة أيضاً وغير مُترابِطة في الظاهر، وطبعاً هي غير مُترابِطة، لكن هو غفل عن هذا، لم يذكره في كتابه قواعد المنهج في علم الاجتماع، لذلك هو اقترح شيئاً، وهناك مُقترَحان مُختلِفان سوف نراهما، دوركايم Durkheim اقترح أن نُقارِبها من خلال أو بطريق غير مُباشِر، بدرس القوانين، قواعد السلوك، القيم السائدة، والنصوص الدينية.

لذلك إميل دوركايم Émile Durkheim من أكثر علماء الاجتماع الذين عُنوا بالناحية أيضاً الدينية، طبعاً هناك نقد من الإسلاميين له، دائماً ما يتحدَّثون عنه، لكن حديثهم طبعاً كان مُبتسَراً وبسيطاً جداً جداً، مثل حديثهم عن فرويد Freud وماركس Marx من الناحية هذه، فهناك أفكار دوركايم Durkheim الدينية، عن الدين ودور الدين والعقل الجمعي الديني، فقال لابد من هذا، لكن ماكس فيبر Max Weber قال لا، قال أنا عندي مُقارَبة أُخرى، ما هي؟ الــ Ideal type، أي النمط أو النموذج المثالي، وهي نماذج مفهومية مُعيَّنة، هذه النماذج في مُعظَم الأحوال غير موجودة في الواقع، ولعلها لم تُوجَد أصلاً، لأنها من تركيب، من إبداع، ومن ابتكار العقل نفسه، عقل الفيلسوف وعقل المُفكِّر الاجتماعي، هو الذي ابتكرها، بماذا تسمح لنا هذه النماذج؟ يقول فيبر Weber تسمح لنا برؤية الظاهرة صافية، هناك شوائب كثيرة، هناك فضلات، وهناك أشياء لا تكون ما يسمح بتفسير الظاهرة، ومن ثم سوف تُسقَط، مَن الذي سوف يُسقِطها؟ هذا النموذج المثالي، سوف يُسقِطها بالكامل! سوف يُسقِطها بالكامل وبالتالي سوف تصير الظاهرة مُكرَّسة أكثر، مُركَّزة أكثر، ومُكثَّفة أكثر، وكأن هذا عدسة مُقرِّبة أو مجهرية، فنستطيع أن نُقارِبها بدقة علمية أكثر، هذه من أفكار ماكس فيبر Max Weber الرئيسة، وطبعاً سنضرب أمثلة على الشيئ هذا – إن شاء الله – ربما في الدروس الآتية كما وعدنا، فهذه من أفكاره الرئيسة.

بقيَ الآن أن نتحدَّث – إن شاء الله – على عجل عن المدرسة الثالثة أو المنظور الثالث، وهو منظور المدرسة التفاعلية، وخاصة التفاعلية الرمزية، لأن التفاعلية في النهاية ورثتها بعد أن طوَّرتها وعزَّزت مقولاتها المدرسة التفاعلية الرمزية، أي الــ Symbolic Interactionalism.

التفاعلية يُعتقَد في الأغلب أنها تدين لماكس فيبر Max Weber، تدين له بشكل أو بأخر، لكن طبعاً جذورها الكُبرى والراسخة في مُؤلَّفات وأفكار الفيلسوف الأمريكي الشهير جورج هربرت ميد George Herbert Mead، هو يُمكِن أن يُعتبَر فعلاً الأصل والمنبع الأكثر ثراءً لهذه المدرسة، هذه المدرسة لا تُعنى بمسألة القضايا الاجتماعية الكُبرى ولا تُعنى بمسألة البُنية مثلاً، ولا تُعنى حتى بدور الفرد إلا في الإطار الرمزي، أكثر شيئ! أكثر شيئ أكَّدت عليه هو دور الفرد ونشاطه الرمزي، ما معنى النشاط الرمزي؟

نحن نعيش طبعاً في مُجتمَع واحد مثلاً، يتعاطى بعضنا مع بعض، نتفاعل فيما بين بعضنا البعض، عبر ماذا؟ عبر مجموعة مُعقَّدة وطويلة وكبيرة جداً من الرموز، في رأسها ماذا؟ اللُغة، اللُغة نظام رمزي، وهناك رموز أُخرى بما فيها البدن أو حركات الجسم وقسمات الوجه، لن أهمها اللُغة.

هؤلاء طبعاً حين يُبالِغون في دور المنظومة الرمزية في الفعل – الفعل البشري طبعاً والفعل الاجتماعي – فإنهم يصيرون إلى القول بأن ما يُعطي الأشياء دلالاتها ليس الواقع، ليس الأشياء نفسها، وإنما رموزها، فالدلالات تُؤخَذ وتُكتسَب من ماذا؟ من الرموز، ليس من الخارج، وليس حتى من الأشياء، ومن هنا هم طبعاً جعلوا أعظم اهتمامهم بموضوع الرموز، إذن هذه الرموز إلى هذه الدرجة خطيرة، بمعنى أنها تُقدِّم لنا واقعاً حتى مُختلِفاً ربما أحياناً، واقعاً آخر! هم يزعمون أننا طبعاً – وإلى حد بعيد هم صادقون في هذا الشيئ – لا نُدرِك أنفسنا إلا عبر هذه الرموز، لا نستطيع التعبير عن ذواتنا وفردياتنا إلا بهذه الرموز، وبهذه الرموز نُمكِّن الآخرين أن يرونا كما نرى أنفسنا وأن نرى أنفسنا كما نظن أنهم يروننا، بالرموز! بالنظام الرمزي، فهي مُهِمة جداً، المدرسة التفاعلية الرمزية تُؤكِّد على هذه المقولات، وكما قلنا القضايا التي أهمت علماء الاجتماع وخاصة المُؤسِّسين الكبار هم لا يُعنون بها كثيراً، يهتمون – كما قلنا – بالفعل الفردي في هذا النطاق.

هناك اتجاهات طبعاً أكثر جدةً وأكثر حداثةً أو مُعاصَرةً في علم الاجتماع، لكنها ليست تأسيسية وليست ضخمة كما يُقال، مثلاً هناك ما بعد الحداثيين، لأن لهم طبعاً إسهامات في علم الاجتماع ولهم أفكار كثيرة، نُلخِّصها بجُملة أو جُملتين، ما بعد الحداثيين يقولون بأن ما كان يُظَن من أن للتاريخ مساراً عتيداً ومسيرةً مُعيَّنة – هو له مبدأ وتوسط ومُنتهى – ثبت الآن أنه غير صحيح، والمُجتمَع كذلك، هذا الكلام غير صحيح! الآن – قالوا – اختلف الأمر في عصر ما بعد الحداثة، في عصر الاتصال العظيم، هناك ثورة الاتصالات، ثورة المعلومات، ثورة التواصل بين أبناء القرية الكونية الواحدة، مسألة ضياع الحدود، وليس فقط الحدود حتى بمعنى الحدود المادية، بل حتى الحدود المعنوية الآن، ونحن قلنا مرة – وهذا الكلام صحيح إلى حد ما – إنك تجد الآن المشابه بين – مثلاً – قاهري وباريسي من حيثيات مُعيَّنة أكثر مما أنت واجد بين قاهريين قبل مائة سنة أو دمشقيين أو غير ذلك، هذا صحيح! وهذا بفعل التواصل العظيم الآن، الآن لو أخذت شخصاً من القاهرة – لباسه، هيئته، وأحياناً يتكلَّم الفرنسية أو الإنجليزية – ستجد أن من الصعب أن تُميِّزه عن غيره، إلا أحياناً بمسائل إثنية أو لونية عرقية، لكن نفس الشيئ موجود في اللباس، في الأكل، وفي السيارة، يتحدَّث بلُغات أجنبية، يتكلَّم بلُغة السايبر Cyber، أي الفضاء الافتراضي، عنده الإنترنت Internet وما إلى ذلك، وهناك نفس المفاهيم مثل العولمة، الاقتصاد، والإصلاح، نفس المُصطلَحات، نفس المقولات، ونفس الأشياء! في عصر التواصل العظيم صرنا – وكلنا نعيش هذا الآن بلا شك يوماً بيوم – نُتابِع الحدث لحظة وقوعه، أحياناً أتصل بأهلي في غزة لكي أسألهم عن شيئ مُعيَّن وأجد أنهم لم يسمعوا به، نحن سمعنا به هنا بفضل الجزيرة والعربية والسكاي نيوز Sky News والسي إن إن CNN، ندري بما يقع هناك في بلادنا قبل أن يعلم به أهلنا، شيئ غريب جداً يا أخي! ليس عندهم ربما كهرباء، أحياناً تنقطع عنهم لمُدة خمس أو ست ساعات كل يوم وربما أكثر من هذا حتى، فلا يسمعون بالخبر، لكن نحن نسمع ونعرف هنا ما الذي حصل في مُعسكَراتنا قبل أن يعلم به أهلونا، شيئ غريب جداً فعلاً، فهذا يعني أنها ليست قرية بل هي صارت أكثر من قرية، فما بعد الحداثيين لاحظوا كل هذه التغيرات، قالوا انتهى، لا تقل هناك مسير ومسار وما إلى ذلك، كل هذا الكلام لم يعد موجوداً، الآن المُجتمَع بلا حدود ويُعاد تشكله، وإذا أردت أن تُصِر أن تتحدَّث عن بنية فالمُجتمَع يُعاد تبانيه، يُعاد تبانيه! هذا مُصطلَح عندهم، التباني! يُعاد التباني ويُعاد التشكل بشكل مُستمِر، مما يُلقي بظلاله على ماذا؟ على الإنسان، يُسلِمه إلى حالة من العدمية والضياع، ضياع القيم، ضياع الأُطر والمرجعيات – أي الــ References – ونقاط الاستناد الثابتة، كل هذا يضيع، كل شيئ يتغيَّر! لذلك طبعاً الروح الغالبة والنزعة الغالبة على هؤلاء – أي على الما بعد حداثيين – هي النزعة العدمية، فهؤلاء لهم تأثيراتهم بلا شك.

أحد علماء الاجتماع الفرنسيين – وكان أصلاً ماركسياً ثم بعد ذلك تخلى عن أفكاره الماركسية، وهو ينتمي إلى مدرسة ما بعد الحداثة – قال لا، قال ما يعمل الآن على تفعيل العلاقات وعلى الوصل بين البشر ليس كل ما ذكر العلماء من قبل، إنما هو الصورة والصوت اليوم، الإنترنت Internet، التلفزيون Television، الفيديو Video، المُتحرِّكات، والجوالات! قال هذا هو الذي يربط المُجتمَع، الصورة قال، وعنده فلسفة كاملة في هذا الموضوع وكتابات، وهو عالم اجتماع!

ميشال فوكو Michel Foucault الفرنسي أيضاً – مات في سنة ألف وتسعمائة وأربع وثمانين – كان لا يُحبَّذ طبعاً أن يُنسَب إلى المدرسة الما بعد حداثية، لا يعترف بهذا! لكن أكثرهم كان يُصِر على أنه ما بعد حداثي، لأن أفكاره تدل على هذا، على كل حال له أيضاً إسهاماته في علم الاجتماع، رُغم أنه لم يعتبر نفسه من علماء الاجتماع، لكن له إسهاماته فعلاً المقدورة في علم الاجتماع، عنده منظورات مُعيَّنة، درس الجريمة وبالتالي درس السجن طبعاً، هناك دراسة مشهورة له عن السجن والسجون والضبط والعقاب Punishment والتحكم Control، وهذا مشهور! درس الجنس وكل ما يتعلَّق بالجنس، وهو كان شاذاً، أي Homosexual، وهذا معروف، للأسف يُقال مات بهذا السبب صحياً، المُهِم درس الجنون، عنده دراسة رائعة جداً عن الجنون، وطبعاً كل هذه الدراسات مضفورة بماذا؟ بمُصطلَحه العتيد وهو الــ Discourse، أي الخطاب! عنده كلمة الخطاب، ما معنى الخطاب؟ كلنا نسمع بكلمة الخطاب، مثل الخطاب الإسلامي والخطاب الكذا والكذا، ونحن نُقلِّد طبعاً، هم يقولون ونحن نقول مثلهم – عالمنا العربي يُقلِّد أي شيئ – لكن ليس عندنا العمق المُصطلَحي.

أنا لاحظت شيئاً غريباً حين كنت صغيراً، وهذا – سُبحان الله – بالذات لاحظته عبر فوكو Foucault، قرأت لفوكو Foucault وقرأت عنه الكثير فلاحظت هذا، وهذا غريب، هو شخص عميق بلا شك طبعاً، أركيولوجيا المعرفة Archaeology of Knowledge كان من المُفترَض أن يكون في أكثر من ست مُجلَّدات، لكنه مات ولم يُكمِله بشكل كامل، وسوف نعرف ما معنى أركيولوجيا المعرفة Archaeology of Knowledge أو حفريات المعرفة، لماذا؟ لماذا سماها بهذا الاسم؟ سوف نرى! فلاحظت شيئاً غريباً، فيلسوف مثل هذا لكي يُولِّد مُصطلَحاً ثم لكي يُجرِّبه بحثياً ودراسياً لابد وأن يكتب فيه ألفين وثلاثة آلاف صفحة، هذا هو! وعنده الحق، في تلك الأيام كان عندنا رجل على النقيض تماماً، سُبحان الله! بتقدير الله رأيته قبل أقل من شهرين في التلفزيون Television في قناة العالم، قلت هذا فلان، سُبحان الله! وهو أستاذ في الجامعة، لكنه بسيط جداً جداً إلى حد السذاجة، مسكين! قلت لزوجتي هذا كانوا يُسوِّقون له في أيام سابقة داخل القطاع على أنه مُفكِّر كبير وعالم، حين قرأت له وأنا صغير – وربما ذكرت هذا مرة في درس سابق – لم أقتنع به بالمرة، يكتب لك بحثاً من عشرين صفحة فيه خمسمائة مُصطلَح جديد، ما هذا الكلام؟ ليس هكذا يكون العلم، مُستحيل يا حبيبي! لكي تأتي بمُصطلَح لابد وأن تُبرِّره لي دراسياً، ما هذا الكلام الفارغ؟ أنا أقدر على أن أكتب مثلك ويُمكِن أن آتي لك في كل سطر بأربعة أو خمسة مُصطلَحات جديدة، كلام فارغ هذا، سذاجة هذه، ما الكلام الفارغ هذا؟ الخط النازل والخط الصاعد والكذا والكذا، كلمات عجيبة جداً جداً، والله العظيم! وينشرونها بين الشباب، لم أقتنع بها وأنا صغير، لأنني كنت أقرأ للغربيين، لم أقتنع بالكلام هذا، هذا استغفال للناس، هذا كلام فارغ!
وهناك رجل عراقي على هذا النحو، لكن – سُبحان الله – عنده وعي، إنسان صاحب فكر وما إلى ذلك، ماذا يقول؟ يجلس ويقول – شخص فظيع، لا أقدر على أن أفعل مثله، لأن ليس عندي مثل قدرته – لك الأيدولوجيا المُنغلَقة أو المفتوحة على عوامل النهضة المُتداعية رأسياً فوق كذا وكذا، ما هذا؟ ثم يقول أحدهم هؤلاء مُثقَّفون عندنا، أنا أتحدَّث مثلهم، وأتحدَّث بطريقة أحسن منهم، تعال وتحدَّث مثلهم، هذا كله كلام فارغ، هناك أُناس كثيرون على هذا النحو، يتكلَّمون هكذا ويكتبون هكذا، ولذلك حين تقرأ لهم لا تفهم شيئاً، حين تسمع لهم لا تفهم شيئاً، هم لا يفهمون أي شيئ! لكن الغربي ليس كذلك، يتحدَّث عن المُصطلَح الذي يشتغل عليه من أربعين سنة، من أربعين سنة أصلاً وهو يشتغل عليه يا أخي، فعنده الحق في أن يطبع كتاباً باسمه، شغل! فالرجل هذا غير طبيعي، حين تكلَّم عن الخطاب أو حتى عن آليات الضبط والرقابة في المُجتمَعات الغربية كان ذلك بعد أن درس خمسمائة سنة الكلام هذا بالتفاصيل، ترى أن عنده ثراء وغزارة غير طبيعية، طبعاً يفعل هذا مع تأطير لهذا الشيئ وتنظير، قالب نظري دقيق وجبّار، ليس سهلاً! تُخالِفه لكن تحترمه رُغماً عنك، لا يُمكِن غير هذا.

فميشال فوكو Michel Foucault في هذه الكُتب وفي هذه الدراسات طبعاً طوَّر – كما قلنا – مفهوم الخطاب الخاص به، أي الــ Discourse، الخطاب! وقال ما هو الخطاب؟ الخطاب هو كل الصيغ التعبيرية والإنشائية – ليس شرطاً أن تكون حتى باللُغة، أي صيغة تعبيرية وأي صيغة إنشائية – المُرتبِطة بافتراضات مُعيَّنة، كلها لابد أن تكون مُرتبِطة بافتراضات مُعيَّنة، هو يُسمى هذا الخطاب، أي الــ Discourse، مثلاً تحدَّث عن خطاب الجنون، أي خطاب الــ Madness، قال خطاب الجنون في العصور الوسيطة – وهذا صحيح، أنت لا تعرف هذا هكذا تأملياً، لا تعرفه إلا بدراسة وتنقيب مثله، لابد وأن تحفر لكي ترى، لابد أن تقرأ أدبيات وأشياء كثيرة، لابد أن تعرف كل ما يتعلَّق بالشيئ هذا، كل ما يتعلَّق به! – كان ينظر إلى الجنون على أنه يُوجِب التعاطف، فهذا المجنون إنسان مُتعاطَف معه، لا نحتقره – بالعكس -، لا نُعاقِبه، ولا نقوم بعمل إقصاء – Exclusion – له، ثم تحدَّث عن هذا الإقصاء – Exclusion – والعقاب والتحكم – Control – الذي مُورِس في السجن وفي المصحات والمشافي، وبالمُناسَبة الآن هناك أطباء ثوريون في الغرب هنا يعتقدون أن هذه المشافي وهذا الطب الحديث – طبعاً ليس كله، وإنما أجزاء مُعيَّنة – على العكس مما يُظَن، فهي نظام للضبط والقمع والإقصاء والرقابة أيضاً، فيها جانب غير إنساني، جانب مُتوحِّش! لكن كيف يكشفون عنه يا أخي؟ بطريقة فظيعة جداً، هذا صحيح!

الآن – مثلاً – أقول لك – هذا من عندي، دعنا من فوكو Foucault – حتى خطاب المرض Discourse of Disease فيه هذا، إلى ما قبل قرن – القرن مائة سنة – لم يكن يُنظَر إلى الحمل على أنه مرض، الآن يُنظَر إليه على أنه مرض، أليس كذلك؟ والحامل أول ما تحمل لابد وأن تذهب إلى الطبيب كل أسبوع أو أسبوعين، تُعتبَر مريضة، تُوصَّف على أنها مريضة، هذا مرض! وفي الحقيقة هو ليس كذلك، ليس مرضاً، حالة طبيعية وعادية وفطرية، أليس كذلك؟ هذا معروف عند المرأة الحامل، الإنسان يعرف هذا، ليس مرضاً! لكن إذا وُجِدَت اختلالات مرضية تتعلَّق بالجنين أو بالأم فهذا شيئ ثانٍ، لكنهم لا يقولون هذا هنا، هل تعرفون لماذا؟ لأن هذا الطب المُمأسس والمُهيكل، لابد أن يستفيدوا، فلوس يا حبيبي ومصاريف وشغل وألتراساوند Ultrasound، هناك أجهزة مُكلِّفة واختراعات وأشياء، لابد وأن تدور العجلة، لكن الإنسان العادي لا يخاف من الأشياء هذه، يظن أنها أشياء عادية، وهذا كله يفعله المُجتمَع، أرأيت؟ المُؤسَّسات تفعل هذا من غير أن تشعر، وأنت تتقولب وتمشي وتذهب وتُدهَن وتُطلى تُعجَن وتُخبَز وتُؤكَل دون أن تنتبه إلى نفسك، المُجتمَع يفعل هذا! لكن رجل مثل فوكو Foucault لا يسمح لنفسه بأن يُغتال وعيه بالطريقة هذه، يقول لا، أُريد أن أدرس كل هذا، وفعلاً درس ورأى أشياء، كما قلنا درس السجون، المشافي، والمصحات العقلية والنفسية والبدنية أيضاً، درس الجنس وما يتعلَّق بالجنس والدعارة والبغاء وبيوت الدعارة، درس كل هذه الأشياء ورأى نتائج، وكل شيئ له خطابه الخاص، قال خطاب الجنون كان كذلك، خطاب الجنون في المُجتمَع الحديث والمُعاصِر طبعاً اختلف بالكامل، هو خطاب إقصائي للمجنون، اتهامي، واشمئزازي أيضاً، نشمئز من هذا الشخص، لابد أن يُقصى ولابد أن يخضع لآليات القمع أيضاً والضبط والرقابة الدائمة، المسكين يضعونه كأنه وحش مُفترِس في ما يُسمونه مصحة، وهي سجن حقيقي، وتُدَب فيه الأبر بشكل مُستمِر، وهذا يجعله دائماً شبه مُنتهٍ، ما هذا يا أخي؟ 

هل تعرف – وهذا أيضاً من عندي وليس من عند فوكو Foucault – الشيزوفرينيا Schizophrenia؟ الفصام! يُسميه البريطانيون السكيزوفرينيا، الشيزوفرينيا Schizophrenia – مرض الفصام – كثير من علماء النفس الذين عندهم فعلاً حس إنساني –  البشر أو الأوادم كما يُقال – يُشكِّكون فيه ذاتياً، يقولون لا يُوجَد مرض اسمه شيزوفرينيا Schizophrenia، هناك أعراض وما إلى ذلك، لكن لا يُوجَد مرض حقيقي – قالوا – اسمه شيزوفرينيا Schizophrenia، وطبعاً ليس شرطاً أن تُسلِّم بهذا، لكن هناك علماء كبار وهم علماء نفس أيضاً وأطباء جراحيون قالوا هذا غير موجود، غير صحيح! لا يُوجَد شيئ اسمه شيزوفرينيا Schizophrenia، ولكن هذه أيضاً إحدى البدع – أي بدع المُجتمَع، مُجتمَع الضبط والرقابة والعقاب Punishment – التي تُلصَق بأي شخص يُراد إقصاؤه ويُراد عقابه، تُلصَق بهذا الشخص هذه التهمة، وهذا الشخص قد يكون مُفكِّراً كبيراً، قد يكون فيلسوفاً، قد يكون ثائراً، قد يكون مُصلِحاً، وقد يكون رجل دين مُتحرِّراً، ونحن نُمارِس هذا الشيئ! العوام بالمُناسَبة في كل العالم يفعلون هذا، كيف؟ يرفضون أي شخص يُحاوِل أن يأتينا بأفكار جديدة علينا، غير مقبولة، تتحدى جهلنا، تتحدى تبلدنا، وتتحدى كسلنا، أنا عندي عبارة أقول فيها أستطيع أن أفهم وأستطيع أن أتفهَّم أن يكون الكسل سبباً لعدم المعرفة – هذا صحيح! المعرفة لا تُحصَّل براحة الأجسام، أليس كذلك؟ – لكن ما لا أستطيع أن أفهمه ولا يُمكِن أن أُوافِق على المُصادَقة عليه هو أن يُعتبَر الكسل مُبرِّراً – يُبرِّر Justifies – للجهل، وهذا نحن نُمارِسه، صدِّقني! نحن نُمارِسه، ولذلك نرفض أحياناً أفكاراً جديدةً واطلاعات، وهذا يحدث معنا باستمرار، أي شيئ تُواجِه به الناس وهم لا يعرفونه – يعرفون عكسه ونشأوا عليه – ستُتهَم بسببه، لابد وأن تُتهَم بأنك مُخرِّف، أنك مُغرِض، أي عندك أغراض مُعيَّنة، ويُقال لك أنت تعمل لحساب مَن؟ ما نيتك التي تعمل بها؟ وبماذا تعمل؟ مَن الذي دسك؟ أو في النهاية تُتهَم بأشياء خاصة إذا كانت هناك أبعاد موضوعية كما يُقال تُساعِد على هذا.

مثل الشيخ محمد الغزّالي رحمة الله عليه، كان رجلاً في السبعين من عمره، فقيل إنه أُصيب بالدمنشيا Dementia، أي الخرف! قيل إنه خرَّف، وخرج علماء وما إلى ذلك لكي يقولوا الرجل بدأ يُخرِّف، يُخرِّف ماذا؟ حين نقرأ كتاباته نجد أنها من أروع الكتابات، أروع ما كتب هذا الشيخ كان في آخر حياته، أروع ما أنتج قلمه السيّال – رحمة الله عليه – وأحسن ما قدَّمه في نظري كان ما قدَّمه في آخر حياته، وفعلاً أكثر كُتبه مقروئيةً هي التي كتبها في آخر حياته، رحمة الله عليه، هل هذا مُخرِّف؟ طبعاً لكي ترفض أفكاره ولكي يُشطَب عليها ولا تُفتَح ولا تُداوَل ولا تُناقَش لابد – هذا أحسن شيئ – أن نتهمه بشيئ أشبه بالجنون، أليس كذلك؟ لكن لأنه ليس بريالة ولم يخلع ملابسه لن نقول إنه مجنون، سوف نقول إنه مُخرِّف، أي بدأ يفوت كما يُقال، أرأيت؟

نفس الشيئ يُمارِسه المُجتمَع المُعاصِر وخاصة المُجتمَع الغربي هنا لكن بأسلوب Formal، بأسلوب مُهيكَل ومُمأسس، شيئ اسمه التحليل النفسي، اسمه المُستشفى العقلي، اسمه الحبوب، اسمه الصيدلية، اسمه كذا وكذا، هو هذا! يُمارَس ويُمرَّر، اسمه الشيزوفرينيا Schizophrenia! يُقال مفصوم يا أخي هذا، مفصوم! والشيزوفرينيا Schizophrenia عند الناس تُساوي الجنون، وإلى الآن – قالوا – القضية جدالية، أي الشيزوفرينيا Schizophrenia! جدالية بشكل غير طبيعي، لذلك تعريف المرض نفسه حتى صعب جداً ومُعقَّد وليس اتفاقياً، هناك أشياء مُخيفة.

فالمُهِم باختصار قال هذا الخطاب وذكر كيف ينتقل وكيف يتحوَّل، بعكس الآخرين، كل العلماء في مُختلَف الميادين ينطلقون دائماً من الشيئ المألوف والمأنوس لكي يكتشفوا ويُقارِبوا الشيئ اللامألوف، حتى اعتُمِد هذا تعريفاً للتفكير، أليس كذلك؟ لعمل العقل، يقولون هو انطلاق من معلوم للوصول إلى مجهول، هذا هو! لكن فوكو Foucault فعل العكس، وهذه هي أركيولوجيا المعرفة Archaeology of Knowledge، قال لا، أنا لن أفعل هذا، لن أدرس المفاهيم السائدة الآن والمعروفة لكي أرى كيف طرأ التحول على المفاهيم وما إلى ذلك، لا! أنا سأبدأ من المفاهيم القديمة، وبدأ فعلاً من العصور الوسيطة، وقرأ خطاب الصحة، خطاب الجنس، خطاب السجن، خطاب العقاب، خطاب الرقابة، وخطاب الجنون، قرأ كل هذا وبعد ذلك رأى كيف طرأ التحول على هذه الخطابات ولماذا ولمصلحة مَن، دائماً يكون هذا لمصلحة سُلطة، سُلطة دينية أو سُلطة سياسية أو سُلطة اجتماعية أو سُلطة قيمية، دائماً لمصلحة سُلطة! وقال هذا هو ما تفعله السُلطة دائماً، تُحاوِل أن يكون لها خطابها وتُعمِّم هذا الخطاب بما تمتلكه من آليات طبعاً للتعميم والفرض والانتشار والشائعة، تُعمِّم دائماً بمزيد من السُلطة ومزيد من الهيمنة – Dominance – والقوة، قال هذا ما تفعله فتنبَّهو، لذلك هو يُعتبَر بطريقة مُعيَّنة أيضاً ثائراً، هو يُحاوِل أن يُحرِّكنا من هذا الجمود، هذا ما يُسميه أركيولوجيا المعرفة Archaeology of Knowledge، أي الحفريات المعرفية، علم الحفريات المعرفية، أركيولوجيا المعرفة Archaeology of Knowledge! هو لا يفعل مثلنا، نحن أسلوبنا أسهل، نأخذ الشيئ الجاهز والمأنوس والمعروف، لكن هو قال لا، أنا سأبدأ من هذه، ولاحظ طبعاً حدوث نوع من القطع أحياناً، يُوجَد نوع من القطع يُسميه الإبستيم Episteme، قال هناك إبستيم Episteme في كل مرحلة زمنية، درس حتى هذه الإبستيمات Epistemes، فهذا قريب من النموذج – أي الــ Paradigma كما يُسمونه في علم الاجتماع وفي العلوم الثانية، هذا الــ Paradigma – الذي أيضاً يتحوَّل من عصر إلى عصر حتى في العلوم الطبيعية! 

هذه أشهر المناظير وأشهر المداخل في هذا العلم، الذي هو جديد أيضاً نسبياً، ليس قديماً جداً، أُحِب أن أختم وأُريد أن أقول شيئاً واحداً فقط، كما قلنا مُبرِّر هذا الكلام – إن شاء الله – ومُبرِّر ما سيتلوه ربما من مُحاضَرات ستكون نوعية وسنعتمد فيها المنظور الاجتماعي مع غيره أننا نُحاوِل قليلاً أن نتدرَّب ونُحاوِل أن نُدرِّب خيالنا، لكي يُفكِّر الإنسان بطريقة إبداعية سيحتاج إلى خيال، العلم نفسه يحتاج إلى خيال! في علم الاجتماع بالذات يُوجَد روبرت ميلز Robert Mills – عالم الاجتماع الأمريكي الكبير – الذي عنده مُصطلَح يُسميه المُخيلة الاجتماعية أو قوة الخيال الاجتماعي، أي الــ Sociological Imagination، قال لكي تكون عالماً اجتماعياً ودارساً جاداً تحتاج إلى المُخيلة، لابد من هذا! كيف؟ هذه المُخيلة تُحاوِل أن تُخرِجك من رتابة الرتيب وابتذال المُبتذَل، تُحاوِل أن تُطوِّر على الأقل – كما قلنا قُبيل قليل – زاوية نظر جديدة ومنظوراً جديداً تُبدِع من خلاله، هذا مُمكِن! بغير هذا لن تُصبِح عالماً حقيقياً، مثل علماء الاجتماع العرب بالمُناسَبة، أنا مُعجَب بهم في شيئ واحد، كلهم مُجمِعون على أنهم خائبون، لم أجد عالماً عربياً في الاجتماع يقول لا، نحن – بالعكس – مُبدِعون، كلهم يقولون عندنا أزمة في علم الاجتماع العربي، ضعيف! علم ضعيف، دراسات ضعيفة، لا تُضيف شيئاً، لا تكاد تُضيف شيئاً ولك أن تتصوَّر هذا، بعضها ليس أكثر من استبيانات وإحصاءات وأرقام فقط، التنظير ضعيف جداً جداً، وهو تنظير مُترجَم، هذا الشيئ نحترمه فيهم، التواضع والاعتراف بالحقيقة مُهِمان، لأن يبدو أن هذا العلم ليس مثل الطب والهندسة والأشياء هذه، هذا العلم بالذات يحتاج إلى مُخيلة، إلى قوة ابتكارية حقيقية، ولا يُمكِن نقله كما هو!

غورفيتش Gurvitch – عالم اجتماع من أصل شرقي، وهو فرنسي طبعاً عظيم جداً تُوفيَ في الستينيات – أصلاً أنكر أن يكون هناك علم اجتماع، قال هناك علم أو علوم مُجتمَعات، كل مُجتمَع عنده علمه الخاص، بالذات في علم الاجتماع! وهو من أكبر علماء الاجتماع في العالم، أي غورفيتش Gurvitch، ولذلك أنت لا تقدر على أن تُترجِم علم الاجتماع الغربي وتنقله كما هو بأُطره ومناهجه ومداخله ثم تقول لي أنا عالم اجتماع عربي، لن يُمكِن هذا، أنت مُترجِم لكتاب فقط، ولن تنجح في دراسة مُجتمَعك، طبعاً للأسف من أخطاء هؤلاء أنهم يأتون بدراسات لدوركايم Durkheim عن الشرق الأدنى ويُطبِّقونها اليوم، وهذا كلام فارغ! لم يكن يفهم الشرق الأدنى بشكل جيد، هذا كلام فارغ! بعضهم يُؤكِّد أن الدراسات الاجتماعية الغربية للمُجتمَعات العربية بالذات والإسلامية عموماً مُختلِفة، ويُسمونها الدراسات الفضلة، كيف هي فضلة؟ أي الزائدة، زائدة كالمُلحَق Index، كيف هذا؟ هو طوَّر منظوراً درس به ظواهره، ونجح – كما قلنا – نجاحاً نسبياً، بعد ذلك أمكن لهذا المنظور أن يُفسِّر هذه المُجتمَعات فجعله يُفسِّرها، لكن هذا لن يصح يا أخي، لن يصح! مثل شخص أتى ببنطال على غير مقاسه، ما هذا؟ وهؤلاء مثل هذا بالضبط، فضلة! ثم يأتي عرب ويأخذون نفس الكلام، كبعض الماركسيين الذين كانوا يُردِّدون كلام ماركس Marx عن المُجتمَع الإقطاعي وعن المُجتمَع الصيني وآليات كذا وكذا في دول عربية لم تعرف الإقطاع في حياته، والإقطاع كظاهرة لم يكن موجوداً عندهم، إقطاع ماذا؟ومع ذلك يتحدَّثون عن الإقطاع هنا، كلام فارغ هذا! ينقلون الكلام كما هو ويضعونه، وهذا لا يصح، لابد من وجود قوة ابتكارية حقيقية، لكي تُصبِح عالماً اجتماعياً لابد من قوة ابتكارية حقيقية!

ماذا أُريد أن أقول؟ نحن بالذات بصفتنا مُنشغِلين بالهم الديني وبالعلم الديني وبأمر المشايخ وما إلى ذلك مُشكِلتنا كبيرة، الآن انظر إلى أي مُشكِلة، واسأل عنها رجلاً يتعاطى فقط المنظور الديني البسيط، وليس العلمي حتى المُعمقَّ، اسأله! نُريد أن نرى – مثلاً – ظاهرة شيوع المُخدِّرات – المُخدِّرات وليس المُخدَّرات بالأحرى – هذه، المُخدِّرات كالأفيون Opium والهيروين Heroin وما إلى ذلك، ظاهرة – مثلاً – البغاء التي زادت في المُجتمَع الفلاني، ظاهرة – مثلاً – السرقة والسطو، ظاهرة الرشوة، ظاهرة الفقر مثلاً، هناك ظواهر كثيرة! العالم الديني عنده هذا الشيئ سهل جداً، يتكلَّم مُباشَرةً، عنده دائماً السبب هو سبب تربوي فقط، سبب تربوي ديني! يقول لو التزمنا بالشريعة الإلهية، بالأمر الإلهي، وشعرنا بالخوف من الله وآمنا بعالم الغيب والشهادة لما حدث هذا، لما كان البغاء يا أخي، لما كان الفقر، لما كانت السرقة، لما كانت الرشوة، ولما كانت المُخدِّرات، ما الكلام الفارغ هذا؟ ما الهبل هذا؟ هذا كلام فارغ يا إخواني، كلام فارغ! كما قلنا أمس ها هو مُجتمَع عربي شريف – من أشرف المُجتمَعات – اضطر الآن بعض الناس فيه إلى البغاء، هناك مَن يأمر ابنته بالبغاء، يقول له اذهبي وابحثي عن الرزق، لأنه سيموت! لا يُوجَد رزق، كيف تتحدَّث فقط عن المسألة الأخلاقية؟ المسكين يعلم الحلال والحرام، والمُضطَر يركب الصعب، هذا يُمكِن في النهاية أن يذبح ابنه، وهذا حصل في بعض الحروب في القرن العشرين، بعض الناس أكلوا أولادهم، هذا حصل طبعاً! أكلوا أولادهم وأطعموا الآخرين حتى لا يموتوا، أحدهم اضطر إلى أن يُضحي بأحد أبنائه، هذه أشياء مُخيفة، هذا الإنسان! المُضطَر يركب الصعب، لكن هذا عنده المدخل التربوي الديني الأخلاقي الوعظي فقط، وهذا غير صحيح، وهذا لا يقدر على أن يُفسِّر لي شيئاً بصراحة، لا يقدر على أن يُفسِّر لي شيئاً، غير صحيح! هكذا وحده لن يقدر على أن يُفسِّر أي شيئ، والقرآن نفسه لم يقل هذا، سُبحان الله! وحتى المُسلِمون القدماء الذين كانوا واعين لم يقولوا هذا.

قد ترى رجلاً صوفياً على هذا النحو، أبو سُليمان الداراني صوفي، رأس الصوفية في عصره، وهو أستاذ كبير، أستاذ الأساتيذ! جاءه رجل وقال له كذا وكذا، فقال له لا، قال له هل تحسب أن طريق الله – وأنت تُريد طريق الله – تسلكه حين تصف قدميك – قال له – وتجلس لكي تتعبَّد فقط؟ فقال له هذا طريق الله، فقال له لا، اذهب فأحرز رغيفك، لابد من وجود رزق شريف لك – قال له – لكي تقدر على أن تعيش وأن تُعيِّش مَن هم عندك، ثم بعد ذلك تعبَّد كيف يحلو لك، قال له هذا الدين! لا تأت لكي تقول لي عكسه، ما الكلام الفارغ هذا؟ كيف تجلس في المسجد على مدار الأربع والعشرين ساعة؟

الآن يحدث نفس الشيئ، بعض شباب الصحوة عندهم الدين والعمل الإسلامي والدعوي طق حنك وكلام وتصنيف وهذا مُبتدِع وهذا مُشرِك وهذا جاهل وهذا إخواني وهذا صوفي، وليس عند الواحد منهم لا علم ولا تعلم، اجلس في بيتك واقرأ يا حبيبي، اذهب وتعلَّم يا أخي، اذهب وتعلَّم! طوِّر نفسك يا أخي، لا تتكلَّم في أي موضوع لا تفهم فيه، هذا كله مُجرَّد كلام، كلام فقط ويظنون أن هذا هو العلم وهذه هي الدعوة، دعوة ماذا؟ مزَّقتكم وذبحتكم هذه الطريقة، أحدهم قال لي – وهو صادق – أنا شاب شعري، قال لي شاب رأسي، أدخل على غُرف المُحادَثة والشات Chat وما إلى ذلك فأجد مائة – مثلاً – في الغرفة وأجد مائة رأي مُختلِفاً، وجميعم من الإسلاميين، قلت له طبعاً، ويُمكِن أن يكونوا مائة وخمسين أيضاً، لأن كل واحد يُغيِّر رأيه أيضاً كل دقيقتين، لأن ليس عندنا أي وعي.

يُوجَد حديث عن الرسول – عليه السلام – أكثر من رائع يا أخي، والله العظيم أكثر من رائع! أرغب في أن نُترجِمه لكي يقرأه كل ماركسي على الأقل، لكن لابد أن نُترجِم الشروحات الخاصة به أيضاً، وهو في البخاري، قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة، فخرج فتصدَّق على امرأة، فتصدَّق ووقعت صدقته في يد زانية، فأصبح الناس يتحدَّثون: تُصدِّق الليلة على زانية، قالوا ما هذا؟ كيف تتصدَّق على زانية؟ أعط الأرامل واليتامى والمساكين؟ كيف تُعطي زانية؟ هي تكسب، تكسب بفرجها! فماذا ستحتاج؟ قال لأتصدقن الليلة بصدقة، أي مرة ثانية! فتصدَّق ووقعت صدقته في يد سارق، شخص نشّال نصّاب! فأصبح الناس يتحدَّثون: تُصدِّق الليلة على سارق، يتعجَّبون! ما الكلام هذا؟ أتتصدَّق على سارق يا أخي؟ أعط الناس الذين لا يجدون ما يأكلون، فالمُهِم هذا ما حدث، فأُوتيَ في الليل فقيل له قد تقبَّل الله صدقتك، أما صدقتك على الزانية فلعلها أن تستعف عن زناها، وأما صدقتك على السارق فلعله أن يستعف عن سرقته.

ما أروع هذا الحديث يا أخي! يا ليت نُفهِم أولادنا المساكين هذا الحديث، هذا الحديث تصريح من رسول الله – من مُعلِّم الدنيا – واضح، بماذا؟ بأن للرذائل أسباباً اقتصادياً، لا تتحدَّث فقط عن مواعظ وأخلاق وخوف الله، هناك أسباب اقتصادية يا أخي، هي لا تجد شيئاً، ما الذي جعلها تُصبِح باغية؟ ولذلك العلماء يتحدَّثون عن تأنيث البغاء، علماء الاجتماع الغربيون يتحدَّثون عن تأنيث البغاء، من الصعب أن تجد رجلاً بغياً، صعب! في ألمانيا – في هامبورغ Hamburg – قبل فترة للأسف سمعنا بشيئ مُقرِف، قاموا بعمل دار بغاء للرجال، وقالوا الطلب عليهم بسيط جداً جداً، فالمرأة عليها الطلب أكثر، ما السخافة هذه؟ فقالوا هناك تأنيث للبغاء، لماذا إذن؟ البغي تكون أُنثى طبعاً، لأن الفقر وعبر التاريخ الإنساني فيهن أكثر، أكبر نسب للفقر تكون في النساء وليس في الرجال، لأن من الصعب على المرأة في المُجتمَعات الذكورية والبطريركية وما إلى ذلك أن تخوض الحياة وأن تجد فُسحة في الأعمال التي تكون أحياناً شقة، إلى آخره! فتجد الفقر في النساء أكثر منه في الرجال، فتضطر هذه المرأة بحُكم فقرها إلى أن تُتاجِر ببضعها، بشرفها! فحتى البغاء له أسباب اقتصادية، والذي درس طبعاً علم نفس البغاء يعلم هذا، يُوجَد علم كامل عنه اسمه علم نفس البغاء، يُوجَد علم اجتماع البغاء – علم اجتماع للبغاء كامل – ويُوجَد علم نفس للبغاء أيضاً، حين تدرس علم نفس البغاء ترى بشكل تقريبي عدم وجود نسبة مئوية حتى لمَن يُحبِبن مُمارَسة هذا الشيئ، مُستحيل! المرأة لا تُحِب هذا الشيئ، هن مُضطرَات، يُوجَد اضطرار! فهناك أسباب اقتصادية، السارق هذا لماذا يسرق؟ لأسباب اقتصادية يا أخي!

رجل من مُزينة كان له ناقة فسرقها غلمان لحاطب بن أبي بلتعة، فأتى هذا المُزني بهؤلاء – كانوا مجموعة من أربعة أو خمسة – وقال يا أمير المُؤمِنين هؤلاء سرقوا ناقتي، فقال مَن أنتم؟ فقالوا نحن غلمان لحاطب وأولاد لحاطب، فقال يا كَثير بن الصلت ابعث لعبد الرحمن بن حاطب، فجاء عبد الرحمن بن حاطب، فقال له هل هؤلاء غلمانك؟ فقال نعم، فقال قد سرقوا ناقة هذا المُزني، قال نعم، قال سأقطعهم، قال هذا حد الله، ماذا نفعل؟ قال يا كَثير بن الصلت خُذهم فاقطعهم، فلما ذهب بهم قال يا كَثير عُد بهم، عمر الله أرشده – سُبحان الله – في قلبه، فرجع وقال لماذا؟ لماذا أقطعهم؟ هؤلاء غلمان، الواحد منهم لا يُريد أن يسرق لكي ينبي عمارات ومصانع، والغلام من المفترض أن يكون رزقه على مَن؟ على مَن هو في كفالته، على سيده! الغلام بالذات لا يجوع، ففهم عمر! هذا عبد لكن على ما يبدو للأسف أن سيده لا يُعطيه ما يأكله، هلك هؤلاء الغلمان هلكاً! فقال له عُد بهم، ثم قال لو كنت أعلم أنكم تستعملونهم وتكفونهم لفعلت، ولكن ما أعلم أنكم تستعملونهم وتُجيعونهم، لا أقطعهم، ولئن عادوا إلى مثلها لأوجِعنك وإذ لم أفعل، أي هذه المرة الأولى، لأن لا يُوجَد عقاب إلا بقانون، لا يُوجَد قانون إلى الآن، هذه أول مرة، كما كان يقول سيدنا عمر لو تقدَّم مني شيئ في هذا الأمر لفعلت، لم يكن هناك كلام في الأول، لكن من اليوم فصاعداً سيكون هذا قانوناً وأنا قلت هذا كأمير مُؤمِنين، رضوان الله عليه، رجل دولة عظيم، رجل دولة حقيقي، هذا الفقيه! هذا الفقيه وليس الحروفي الجامد الغبي الذي يتشوَّف لقطع الناس، وكما قلنا الأمة كلها مسروقة لكنه يسكت عن سرقتها.

(محلوظة) حدث عطل فني أدى إلى انقطاع الصوت، وبعده قال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأُغرِّمنك غرامة تُوجِعك، أنت أيضاً سوف تدفع، ثم حدث العطل الفني مرة ثانية وعاد الصوت لكن مبتوراً عن السياق، حيث قال فضيلته في الأردن ضبطوهم، ثم اتضح أن هذه الجماعة تقتني ملياراً، ألف مليون! ومحمود عباس ومَن مثله يشحذون خمسين مليوناً وستين مليوناً من أوروبا، شحاذة! يشحذون خمسين مليوناً وهؤلاء ضُبِطوا بألف مليون، إذن أين الآلاف الأُخرى التي ضاعت؟ ما هذا يا أخي؟ وإلى الآن لم نُقِم دولة ولم نُصل على النبي، لم نفعل شيئاً يا أخي! نحن جميعاً كعرب على هذا النحو، لا تُحدِّثني عن مصر أو عن ليبيا أو عن غيرهما، كلنا سواء، الفلسطيني مثل السوري، الكل سواء، الكل عنده زفت، وسيبقى الأمر هكذا ما دامت الشعوب لا تتحرَّك وليس عندها وعي وما دام مَن مثلنا لا يقولون كلمة الحق ولا يجأرون بها.

والله أمس سمعت قصة من أحد إخواني الطيبين، والله فرحت بها، أُقسِم بالله! لكن لابد وأن أُوثِّقها، أنا أُحِب التوثيق دائماً، لابد أن أُوثِّقها وأرى كيف جرت بالضبط، لكن هذا شيئ يرفع الرأس! وهي عن الشيخ محمد الغزّالي، أنا أعتبر حُبي لهذا الرجل قُربة إلى الله، أُحِبه يا أخي، أُحِبه في الله وأعشقه، لماذا أعشقه؟ هل أعشقه لأن عنده الكثير من العلم الذي لا أجده عند غيره؟ لا، بالعكس! ليست هذه القضية، هل هو كان علّامة كبيراً وكان رجلاً أكبر من ابن عاشور – مثلاً – في العلم الشرعي؟ لا، ها هي كُتبه التي سماها أحد العلماء – من أصدقائي وأحبابي – كُتب إنشاء، فقلت له أهذه كُتب إنشاء؟ قلت له أنت لم تعرف الشيخ الغزّالي، لم تعرفه! أُريد أن أقول هذا لله وقد قلته قبل ذلك، وهذا تقويمي أنا، عدنان إبراهيم المسكين، أقول هذا بحسب تقويمي وبحسب دراساتي وبحسب وعيي بالأشياء هذه، ما فهمته وأفهمه وأراه جيداً أن الشيخ الغزّالي – رحمة الله عليه – عنده قريحة، عنده مواهب وملكات، وعنده ذهنية عظيمة، لو أراد أن يتفرَّغ للعلم الشرعي التقليدي وأن يقوم بتأليف كُتب تقليدية وما إلى ذلك لملأ الدنيا كُتباً – والله العظيم – ولفسَّر القرآن بالنحو وبالصرف وبالبيان وبأسباب النزول وما إلى ذلك ولعرف الأحاديث وأسانيدها ومتونها، ولتكلَّم فيها هذا المسكين إلى آخر حياته، عند القابلية – ما شاء الله -، عنده الذكاء، عنده العقل، وعنده الموهبة، هذا الرجل فتح الله عليه، لكن – سُبحان الله – لأن الله فتح عليه فهم أن الأمة لا تحتاج إلى هذا، هذا موجود في الكُتب والآن موجود على السيديهات CDs يا حبيبي، على السيديهات CDs كلها، كل الكُتب الحمراء على سيديهات CDs، السي دي CD الواحد يُمكِن أن يُعطيك ما يقرب من خمسة آلاف مُجلَّد، ماذا تُريد أكثر من هذا؟ هل تُريد – مثلاً – شروط قطع السارق إذا سرق؟ اضرب بتكة كما يُقال – أي بضغطة زر – على الكمبيوتر Computer وسوف يخرج لك خمسمائة مُجلَّد، خُذها كلها وانقل منهم ثم اعمل رسالة دكتوراة وأنت جالس يا حبيبي، هذا هو النقل! وقال ابن حزم وقال القرافي، كل شيئ أمامك دون أن تبحث، دون أن تتعب سوف تجد كل شيئ، موجود يا حبيبي هذا، وهذا ليس فيه أي مزية لنا، هذا مُهِم طبعاً ونحن نُريد هذا العلم، لكن لا تُوجَد أي مزية لكي تُضيِّع حياتك فيه، كيف تُضيِّع حياتك في حفظ الأسانيد والمتون وما إلى ذلك؟ هذه موجودة يا حبيبي، والآن هناك برامج فيها حتى التخريج، انتهينا من الشيئ هذا، ماذا تُريد؟ لكنك تأتي – كما قلنا أمس – وتهلك رؤوس الناس وهم لا يجدون الخبز، هؤلاء مهلوكون – كما قلنا – بالأُمية والعنوسة وبمشاكل كثيرة كالاستعمار أيضاً وغيره لكنك تُحدِّثهم عن عرش الرحمن وما هو عرش الرحمن وكيف استوى وكيف لم يستو وماذا قال الأشاعرة والماتريدية وابن تيمية وابن حنبل، ما الكلام الأهبل هذا؟ لكن هذا الرجل فهم من البداية، فتح الله عليه وقال لا، ما تحتاجه الأمة مني أولاً أن ألتزم بقضاياها، أن أُخرِجها من هذه الوهدة، أن أجعلها أمة على الأقل تجد ما تلبس، تجد ما تأكل، وتجد ما تتعلَّم وما تتكلَّم وما تكتب، تعرف كيف تحكم نفسها، كيف تسوس نفسها، كيف تتمتَّع بمواردها وبثرواتها، كيف يكون لها عز، وكيف يكون لها راية، هذا ما تحتاجه الأمة، هذا هو! هذا ما تُريده، فنذر نفسه لهذا الشيئ، وكتاباته كلها – ما شاء الله عليه من أول كتاب إلى آخر كتاب – مُتلزَمة بهم الأمة وقضايا الأمة، بالجُزء المعيش من قضايانا يا أخي، النابض الحي، الموجود على النار، هذا العالم! هذا العالم وقليل أمثاله، سُبحان الله، فنحن لا نفهم ماذا فعل وماذا قدَّم الرجل، بالعكس! هذا الرجل سيذكره التاريخ، رحمة الله عليه، فانظر إلى التزامه وصدقه.

قالوا جاء ذات مرة الرئيس مُبارَك إلى الأزهر وكان الشيخ جاد الحق – رحمة الله عليه – جالساً وكان الشيخ الشعراوي – رحمة الله عليه – جالساً وكان الشيخ الغزّالي – رحمة الله عليه – جالساً أيضاً، رحمة الله عليهم لأنهم تُوفوا، الثلاثة كانوا جالسين، فجاء الرئيس وزار الأزهر، وهذا شيئ كبير، على أساس أنه رئيس وما إلى ذلك، فتكلَّم معهم وبعد ذلك أراد أن يُمثِّل، يا أخي مَن قال لك مثِّل؟ هؤلاء مساكين، على باب الله، لماذا تُمثِّل أمامهم؟ هل أنت تخاف منهم؟ لكن هذا ربك، قال يا مولانا الشيخ ادع لي، ادع لي لأنني – والله – كل يوم حين أستيقظ من النوم أشعر بمُشكِلة كبيرة! خلفي سبعون مليوناً لابد أن أُطعِمهم، يا حبيبي! فغضب الشيخ الغزّالي بشدة، وصاح فيه قائلاً لا تقل هذا، لم يطلب منك أحد هذا وأنت لا تستطيع هذا، أنت لا تستطيع أن تُطعِم نفسك، قال له هذا عمل الله تبارك وتعالى، وطبعاً الشيخ الغزّالي كان يشعر مُمتلئاً غضباً بسببه، يفهم ماذا يفعل هو أولاده وشلته وحزبه وما إلى ذلك، أنتم أكلتم الدنيا يا حبيبي، ثم أتيت لكي تُمثِّل وتقول إن همك الوحيد الذي ذبحك هو هم الأمة، والآن تُريد أن تُطعِم سبعين مليوناً! أنت لم تُطعِمهم، يأكلون الزبل، الملايين منهم يأكلون الزبل! فالشيخ الغزّالي غضب منه وصاح فيه، فقال له أنا لا أقصد هذا، فقال له لا يهمني تقصد هذا أو لا تقصد، هذا عند الله تبارك وتعالى، لا يهمني! قال له، فحين غضب بشدة وصاح اعتذر ثم انسحب، وفي اليوم الثاني الشيخ الشعراوي والشيخ جاد الحق – رحمة الله عليهما – قالا له جزاك الله خيراً يا شيخ محمد الغزّالي، لقد أسقطت عنا فرض كفاية، فقلت لا والله، هذا ليس فرض كفاية، هو قدر على قول هذا لكن أنتما لم تقدرا، طبعاً هو قدر على أن يقول هذه الكلمة لله، لكن أنتما لم تقدرا على أن تقولاها، وأنتما لا تقدران على قولها.

الشعراوي مع حُبي واحترامي له – رحمة الله عليه – حين حاولوا أن يغتالوا حُسني مُبارَك جاء ووضع يده عليه وقال له شيئاً مُخزياً، وإلى الآن يضعون هذه المقاطع للشعراوي، والله – أُقسِم بالله – مُخزية، احذفوها! لا تليق بعالم جليل نُحِبه ونحترمه مثل الشيخ الشعراوي رحمة الله عليه، خسارة! هذه وصمة، هذه وصمة في حياته، قال له إذا كنا قدرك وإذا كنت كذا وكذا وأعانك الله علينا وما إلى ذلك، ما هذا؟ هل نحن مُصيبة حُسني مُبارَك؟ قال نعم، أعاناه الله علينا، أي على الشعب المصري، لا يا أخي، لا أعاناه الله.

(ملحوظة) قال أحد الحضور إن الشيخ الشعراوي قال له إن كنت قدرنا فليُعِنك الله عليك وإن كنا قدرك فليُعِنك الله علينا، والدقيق أن الشيخ الشعراوي قال بالحرف الواحد ضمن ما قال إذا كنت قدرنا فليُوفِّقك الله، وإذا كنا قدرك فليُعِنك الله على أن تتحمَّل، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم إنه استشهد بقول الله قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء ۩ في أول كلامه، كأن الله يُريد أن يكون هذا رئيساً، لن تقدر على غير هذا، الله يُريده والله أتى به والله وضعه، أنا سمعت هذه الكلمة وعلَّقت عليها، وهي موجودة في الموقع، في سنة سابقة علَّقت عليها، وحتى اللُغة العربية كانت صفراً، الشعراوي إمام في اللُغة، أستاذ كبير جداً جداً في اللُغة، لكن الكلمة هذه – وكان يُحدِّثه بالفصحى – كلها أخطاء، أُقسِم بالله! أخطاء في الفاعل وفي المفعول، كلها! قلت الله حتى سلبه التوفيق فيها، لأن هذه الكلمة لم يُرِد بها وجه الله، يا أخي بالعكس! فُرصتك هذه أمام الأمة، قل له كلاماً يمسحه مسحاً، لعله يُحرِّك فيه شيئاً ولعله يُحرِّك في الأمة شيئاً، قل له لماذا تفعل هذا؟ قلت أمس لإخواني بجواري في الحي الثامن – هناك شارعان بيني وبينه – الرئيس النمساوي فيشر Fischer، يعيش في شقة في الحي الثامن، أُقسِم بالله لم أر مرة حراسة هناك، أُقسِم بالله لم أر مرة شرطة، الشرطة لا تقف هناك! لماذا؟ هل تعرف لماذا؟ لأن كل نمساوي أجنبي أو حتى مُواطِن أصلي يتمنى أن تُتاح كرامة وشرف فُرصة أن يلتقي بالرئيس فيشر Fischer لكي يأخذ معه صورة أو يُصافِحه ولكي يقول له Wie gehts euch؟ أليس كذلك؟ كل نمساوي! وهو يعرف الكلام هذا، ويذهب الرجل من بيته إلى قصر الرئاسة مشياً، لماذا مُبارَك ليس هكذا؟ عند بيته يضع حراسة وأشياء تحت الأرض لمسافة كيلو متر قبل البيت وكيلو متر بعد البيت، يخاف من خياله! لماذا عمر لم يخف؟ أليس كذلك؟ كان ينام من غير سلاح ومن غير حرس، لأن هذا هو المنطق الصحيح، هذا هو! قل له لماذا حاولوا أن يغتالوك؟ لماذا أبناؤك أرادوا هذا؟ لماذا أبناؤك حاولوا اغتيالك؟ لماذا؟ عليك أن تسأل نفسك، قل له لماذا رؤوساء الدول غير الإسلامية – الكافرة، غير المُسلِمة – ليس عليهم حرس ويعيشون في شقق في عمارات بين الناس؟ قل له كلمتين من هذه الكلمات والأمر سينتهي، أُقسِم بالله بهذه الكلمات قد تُغيِّر شعباً يا أخي، هذه الكلمات يُمكِن أن تُغيِّر الناس ويُمكِن أن تتسبَّب في عمل أشياء كثيرة جداً جداً، خاصة إذا خرجت من رجل مثل الشعراوي، أما هذا الدجل وهذا اللعب بالكلام وبالآيات وما إلى ذلك فلا يصح يا أخي، لا يصح! 

فرحمة الله على الشيخ الغزّالي، سُبحان الله! لكن أيضاً آليات الضبط والرقابة والتعمية وما إلى ذلك لم تذكر القصة هذه، قرأت كل ما يتعلَّق بالشيخ الغزّالي رحمة الله عليه، قرأت كل شيئ له وعنه ولم أقرأ هذه القصة، لكن بحسب مُحدِّثي الفاضل وقعت القصة، قال لي هذه قصة حقيقية وهناك شهود عليها، هناك شهود والقصة حدثت بنسبة مائة في المائة، فقلت له هذا ليس بعيداً عن الشيخ الغزّالي رحمة الله عليه، نستشعر حُباً ربانياً حقيقياً لهذا الرجل، وهو الآن ميت، فنحن لا نُريد أن نُجامِله ولا أن يُجامِلنا، لأنه رجل مُلتزِم بقضايا الأمة، أنا أقول لك أنا لا أعترف بعلم أي إنسان لا يلتزم بقضايا الأمة، كلام فارغ! وفي الحقيقة كل واحد ليس مُلتزِماً بقضايا أمته سوف تجد أنه عالم سخيف وليس عنده أي ابتكار حقيقي، كلام فارغ! ماذا تفعل؟ درست فقهاً وأصولاً وعلم كلام وتاريخاً ولُغةً ونحواً، لكن هذا كله موجود في الكُتب يا حبيبي، لن تقدر على أن تأتي بشيئ جديد ولن يُفتَح عليك أيضاً، هذه سخافات! أنت دون كيشوت Don Quixote بصراحة، أنت حتى تُدرِّس لي عقيدتي الآن، لكن ماذا تفهم أنت الآن في ميكانيكا الكم والفيزياء الحديثة وعلم الكون؟ هناك أدلة جديدة، وهناك شُبهات جديدة حتى في الاعتقاد، لابد أن تتنوَّر بالعلم، لكنك ستجدهم جميعاً لا يعرفون هذا لأنهم كُسالى، هم كُسالى أصلاً، لو كانوا ناشطين ويُتابِعون القراءة والبحث مُذ كانوا صغاراً لانتهوا رُغماً عنهم إلى ماذا؟ إلى الالتزام بقضايا الأمة، ولعرفوا أن الدين والمشيخة والعلم من أجل أن ألتزم بقضايا أمتي، ولا يُمكِن أن تبرأ ذمتي أمام الله وأنا مُتغافِل عن واقع هذه الأمة يا رجل، النبي يقول ما من أهل محلة يبيت فيهم رجل جائع وهم يعلمون إلا برئت منهم ذمة الله، هذا الدين! الدين فيه تضامن غير عادي، كلنا مسؤولون عن بعضنا البعض، وليس كما يحدث الآن، فلسطين ضاعت والعراق وأفغانستان، ونحن قاعدون يا حبيبي، نحن قاعدون! هناك خُطباء في حرب لبنان كانوا يخطبون عن قضايا ما أنزل بها من سُلطان، قضايا لا علاقة لها لا بالجهاد ولا باليهود ولا بأمريكا ولا بأي شيئ، قضايا غريبة عجيبة يا أخي! ولا أستغرب من هؤلاء المجانين المهووسين والحقراء في نفس الوقت، هؤلاء أُناس حقراء! لكن أستغرب من جماهير النعاج، أُسميها الطرشخانات، هذه الطرشخانات ماذا تفعل؟ قوموا وابصقوا عليه، أنا أُعطيكم فتوى، أُقسِم بالله هؤلاء حقيقيون بأن يُبصَق في وجوههم وفي لحاهم النجسة، لا أحترمهم أبداً، بالعكس! أنا أحتقرهم، بعض الناس يقول لك لا، هؤلاء عندهم علم، علم ماذا يا أهبل؟ أنت أهبل، هذا يعني أنهم يستهبلونك، هؤلاء بالذات أحق خلق الله بالاحتقار وبالبصق في الوجوه، والله العظيم! أكثر من الحكّام، لأن الواحد منهم يتكلَّم باسم الدين، العلماني يقول لك أنا علماني، أنا علماني بنظّاراتي السوداء وبالموبايل Mobile الخاص بي كما تراني، أنا علماني وهذا واضح، لا ألعب عليكم، لكن هذا يتكلَّم معي باسم قال الله وقال الرسول، ويُخرِج الكلمات من أنفه بالغُنة، يقول بالغُنة قال الله وقال الرسول! باسم الدين تلعب علىّ، اليهود وأمريكا يُنفِّذون مُخطَّطاً، وقالوا هذا مُخطَّط القرن عيني عينك كما يُقال، الأمريكان أنفسهم مَن قالوا هذا، قالوا هذا مصير الشرق الأوسط لمائة سنة قادمة، وبالقنابل الذكية سوف نسحقكم سحقاً، هؤلاء لم يسمحوا بأن يحدث في لبنان – هذا أيضاً لم يحدث والحمد لله – ما حدث في العراق، قالوا كل ما حدث في العراق هذا اتضح أنه لعب، في لبنان سوف نسحق سحقاً، سوف نمسح الدينا مسحاً، ومسحوها يا أخي، مسحهم الله عن الوجود، مسحهم الله يا أخي، مسحهم الله! قبل أن تضع الحرب أوزارها بثلاثة أيام ضربوا منطقة في الضاحية بقنابل قيل إنها أقوى من قنبلة هيروشيما يا رجل في خمس دقائق، قنابل بالهبل كما يُقال، أي كثيرة جداً، أكثر من ستة وثلاثين طن قنابل ذكية، ويُقال هناك يورانيوم مُنضَّب، ضربوا بما هو أقوى من قنبلة هيروشيما، وهناك مَن يتكلَّم باسم الله ورسول الله، فضلاً عن ضعف قياداتنا، ما الإجرام هذا؟ ما العهر هذا؟ ما القوة هذه؟ ما الفجور هذا؟ وهؤلاء جالسون يتكلَّمون عن ذكر الله والتسبيح، هناك مَن يتكلَّم عن الحيض والنفاس، وآخر يتكلَّم عن الإسراء والمعراج، إسراء ومعراج ماذا يا حبيبي؟ أنا لا يُمكِن أن أتحدَّث في ظل هذه الأحداث عن الإسراء والمعراج، كل سنة أتحدَّث عنها لكن لن أتحدَّث عنها في هذه الساعة، ولا يُمكِن أن أربطها بقضايا لا علاقة لها بها، لأنني لا أُحِب التكلف، إذا لم تكن هناك فكرة رابطة حقيقية فإنني لا أُحِب أن أتفلسف على الناس، فقلت لا، في ظل هذه الأحداث لن أتحدَّث لا عن إسراء ولا عن معراج، انتهى! هناك قضية ثانية أكبر بكثير من هذا، محمد نفسه سوف يبرأ منا إذا تكلَّمنا عن هذا، أتُتاجِر بالإسراء وبكرامتي وتترك أمتي؟ كيف تترك أمتي لتُذبَح وتتحدَّث عن الإسراء والمعراج؟ ما هذا يا أخي؟ فأنا لا أعتب على الحاكم بقدر ما أعتب على هؤلاء الذين يتكلَّمون باسم الدين، اخرج واشحذ ودبِّر حياتك ومعيشتك لكن ليس بالقرآن، بأي شيئ ثانٍ، اذهب فهذا أشرف لك، والله العظيم أشرف لك! لكن لا تأت لكي تعتلي المنابر وتظهر في التلفزيونات Televisions والفضائيات وأنت تُكبِّر العمامة على رأسك وتُكبِّر اللحية هذه وتُسُبِّل عينيك ثم تدّعي الخشوع وما إلى ذلك وتضحك علىّ، أنت تذبحني بسكين حادة يا أخي، لا يصح هذا، لا يصح! هؤلاء أحقر خلق الله، أُقسِم بالله! لابد من قول هذا، لابد من التحريض عليهم، وبالمُناسَبة لا نُريد غربيين ولا نُريد علمانيين ولا نُريد شيوعيين – كما حصل في أوروبا – يُحرِّضون على رجال الدين، نحن مَن سيُحرِّض عليهم! نحن علماء الدين أنفسنا سنُحرِّض على هؤلاء الناس، نحن من نفس الخط وسوف تكون عندنا مصداقية أكثر، أليس كذلك؟ حتى لا يُقال هذا علماني ملعون، لست علمانياً، أنا إسلامي أكثر منك وسأُحرِّض عليك، لن أترك لك أي كرامة ولا أي اعتبار، لأنك لم تترك لنفسك أي اعتبار يا حبيبي، وهناك أُناس في النهاية يكتبون لكنه يظل يا أخي شيخاً، لكنه يظل كذا وكذا، يا سُبحان الله! قلبك لم يتألَّم بسبب الأمة كلها التي تُذبَح الآن، أنت أيضاً مُنافِق، الكثير من هؤلاء مُنافِقون وفي قلوبهم مرض، قلبك المريض المُتآكِل المُتموِّت لم يتألَّم فعلاً بسبب الأمة ولم يحترق لكنه تألَّم وأنت انزعجت بسبب عالم قيل إنه حقير أو إن لحيته نجسة، هذا يعني أنك أنجس منه، هل هذا جيد؟ هل أعجبك هذا؟ هذا يعني أنك أنجس منه، وأكيد أنت مُنافِق مثله، لأن لابد وأن يحترق قلبك، لابد وأن تموت بسبب ما يحدث لأمتك، لكن هذا لا يُوجَد، لذلك لا يُوجَد احترام، لم يبق هذا موجوداً، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ۩، أكبر أمانة هذه الأمانة في اللحظات التي مثل هذه، أعني أمانة الكلمة!

بصراحة أقول لكم – ولست وحدي مَن يعي هذا، الناس كلها تعي الشيئ هذا بصراحة – لم أسمع أي تصريح وأي فتوى وأي كلام في أثناء هذه الحرب من مرجعية دينية أو عالم ديني يُحترَم على قدر اللحظة، لا أكذب عليكم، لم أسمع هذا للأسف، وأنا مُتألِّم ومصدوم بسبب ما حدث، لم يتكلَّم واحد منهم، لم يتكلَّم واحد! لم يتكلَّم أحد كما ينبغي أن يتكلَّم، هناك مَن قيل إنه أخذ موقفاً جيداً، قال لي أحدهم والله هذا جيد، فقلت له لا، لا تقل لي هذا جيد، هذا ليس جيداً، أقل بكثير من المطلوب، وأيضاً كان مُذبذَباً ومُنافِقاً، أتى وقال نحن لا نسمح ولا نرضى أن يُقال عن حزب الله إنه جماعة إرهابية،  إذن ماذا يُقال؟ دعنا نرى، قال هؤلاء لهم الحق أن يُقاوِموا وأن يُدافِعوا عن بلدهم وضمنت هذا الشرعية الدولية، اتضح أنه قانوني، قانوني هذا يا حبيبي وليس شيخاً، ما معنى ضمنت هذا الشرعية الدولية؟ هل كبر عليك يا مولانا أن تقول إنهم مُجاهِدون؟ هل كبر عليك أن تقول إنهم مُجاهِدون؟ هل كبر عليك أن تُفسِّر آية من كتاب الله تُذكِّر بالجهاد وما إلى ذلك؟ لم يأت بآية ولا بأي شيئ، لا يُريد أن يُحرِّك الأمة، وفي نفس الوقت لا يُريد أن يكون – هذه نصف مُصيبة – مُنافِقاً كاملاً فيقول هؤلاء إرهابيون فاقتلوهم وائتوا برؤوسهم كما قال الحكّام العرب، لا يُريد أن يقول هذا – الحمد لله – وهذا يُحسَب له، عند الله طبعاً وليس عندنا، لكنه لم يقدر على أن يقول لابد من الجهاد، قال هؤلاء يُدافِعون ويُقاوِمون وما إلى ذلك والشرعية الدولية تضمن لهم الشيئ هذا، ما الكلام هذا؟ وماذا عن دوري أنا؟ أنت تُعطيني فتوى الآن، قل لي ما دوري، خاطب أمتك! هو وضعوك لكي تُفتيهم، فما دورهم؟ لم يقل شيئاً، لم يتقدَّم للأمة بأي شيئ، لم يقل لهم ادعوا لهم أو تبرَّعوا لهم أو دافعوا عنهم، ليس له أي علاقة، أين يُمكِن هذا؟ وهناك أُناس آخرون عندهم مواقف مُزدوَجة، الواحد منهم يقول للناس كلاماً ويفعل غيره، وهذا الكلام أكرهه، سُبحان الله! هذه الازدواجية أكرهها، لا أُحِبها وأعرف أنها مُنافِقة وتُكشَف، هل تعرف كيف تُكشَف؟ حين أحضر يوم الجُمعة إلى هنا من أجل أن أبيع شراب أبي محمد وأنا غير مُقتنِع به لأن شكله عجيب لكنني أقوم بعمل دعاية له سأتكلَّم وستفهمون – سأتكلَّم بصيغة علمية وسأقول هذا جيد فاجعلوه يكسب وما إلى ذلك – لكن لن يشتري واحد منكم، لماذا؟ لا تُوجَد حرارة، هذه الحرارة يلتقطها الجمهور، لابد من الحرارة والصدق، هذه الأشياء لا تُمثَّل، أنتم تلتقطونها، أليس كذلك؟ لكن حين أحضر في مرة ثانية لأن شيئاً آخر يُعجِبني – فيه أعشاب طبيعية وما إلى ذلك – وأُريد أن أقوم بعمل دعاية له بكلمتين سوف تقومون جميعاً بالشراء – مثلاً – منه، لماذا؟ تُوجَد حرارة في الإعلان، حرارة حقيقية والكل يلتمسها، قيل إذا أردت أن تعرف حرارة مُؤسَّسة فضع المحرار – أي الترمومتر Thermometer – في فم القائد، ومن ثم سوف تعرف حرارة كل المُؤسَّسة، لأن هو الذي يُوحي، هو الذي يُعطي، أليس كذلك؟ فهناك موقف آخر أيضاً لا يرضاه الإنسان، وفعلاً هناك مَن يخرجون ويتكلَّمون – لن أفتح الملف، فلا تزال هناك أشياء أخطر من هذا – بطريقة تشعر من خلالها أن الحرارة غير موجودة، وهذا يعني أن الواحد منهم داخلياً غير مُقتنِع بما يقول، لكن هناك ضرورات مُعيَّنة ومُوازانات تجعله يقول هذا، وبعد ذلك فعلاً في جلسات خاصة يتضح أن عنده نفس الأفكار، يقول لا، هناك شيعة وغير شيعة والحكاية خطيرة وفيها أشياء كثيرة، ما هذا؟ ما هذا يا حبيبي؟ كيف تكون هكذا؟ لأن الأُفق أيضاً على نحو ما قلنا، لذلك قلت أشياء علمانية قليلاً، والله العظيم مطلوب من عالم الدين – مطلوب منه هذا – أولاً السعي في الأرض، لابد أن يخرج ويرى أمريكا وأوروبا وبريطانيا، يا ليته يفعل هذا، يا ليت! لو كنت مسؤولاً عن كُلية أو حتى عن الأزهر سأبعث إلى الخارج كل سنة العلماء الكبار الذين يُرجى منهم الخير إن شاء الله، هؤلاء هم الواعدون كما يُسمونهم، الواعد – Promiser – لابد أن يرى الآخرين، فهؤلاء سوف أبعثهم كل سنة إلى الخارج، سوف نقول للواحد منهم في مرة اذهب إلى أمريا وامكث لشهرين يا حبيبي، مرة سوف نقول له اذهب إلى بريطانيا، مرة سوف نقول له اذهب إلى  النمسا، مرة سوف نقول له اذهب إلى بلجيكا، مرة سوف نقول له اذهب إلى ألمانيا، وهكذا! هذا مُفيد جداً! القرآن نفسه في مئات الآيات تحدَّث عن الضرب في الأرض والسعي، قال لك اذهب وتعال وتحرَّك، لماذا؟ لو جاء برجليه مرة في بريطانيا – في هذه الــ Metropolitan العجيبة أو في هذه الــ Cosmopolitan – سوف يرى مدينة فيها مائتان وخمس وستون لُغة، شيئ لا يُتصوَّر، أليس كذلك؟ مائتان وخمسة وستون لسان في لندن، لندن حالة! فيها مائتان وخمس وستون لُغة، لا تقل لي بالمرة هؤلاء الناس مُتعصِّبون، ليسوا كذلك، عندهم وعي، عندهم تسامح، عندهم قدرة فعلاً على إتاحة الفُرصة للآخر بشكل غير طبيعي، وهذا يعني أن الأمر لا يقتصر على وجود مائتين وخمس وستين لُغة، اتضح أن هناك مائتين وخمس وستين لُغة مع حوالي سبعين أو ثمانين ثقافة، أليس كذلك؟ مع مائة وخمسين جنسية، مع كذا وكذا، شيئ غريب! كيف قدروا على أن يستوعبوا كل هذا التنوع الهائل والمُذهِل؟ عن ماذا أتكلَّم الآن؟ أتكلَّم عن بُنى المُجتمَع الإنجليزي، مُؤسَّساته القضائية وغير القضائية، كله! كيف هذا؟ فضلاً عن مُؤسَّساته التعليمية والتربوية والإعلامية والاقتصادية، شيئ خطير، فضلاً عن الشرطة والأمن وما إلى ذلك، أُناس خطيرون جداً جداً، لكن نحن لسنا كذلك، لذلك أنا أعرف شعباً عربياً – مثلاً – ليس عنده إلا لون واحد في الدين، ليس عنده مسيحيون أو يهود، عنده بساطة وسذاجة غير طبيعية في فهم الدنيا وفي فهم الكيفية التي تمشي بها، صدِّقني! هؤلاء المساكين لا يقدرون على استيعاب أشياء كثيرة، لم يتعوَّدوا على هذا التنوع، وهذا التنوع بالمُناسَبة شيئ مُهِم، هو فُرصة، فُرصة لكي تُوسِّع أُفقك وما إلى ذلك.

نأتي إلى الشيئ الثاني، ضروري جداً لعلماء الدين هؤلاء – ضروري هذا، رُغماً عنهم لابد من وجود هذا في المناهج – أن يأخذوا كورسات Courses، كورسات Courses في علوم شتى! وخاصة التي فيها دراسات، يُمكِن أن يقرأوا موضوع البغاء مثلاً، موضوع الجريمة، موضوع المُخدِّرات، أي موضوع يُريدونه! موضوع الطلاق، موضوع كذا وكذا، أي موضوع في أي شيئ، يقرأون لكن من خلال ماذا طبعاً؟ ليس من خلال طروحات دينية فقط، وإنما من خلال طروحات اجتماعية ونفسية وسياسية وما إلى ذلك، ثم يرى الواحد منهم حقيقة الوضع، وبالتالي يبدأ في التطور، سيبدأ فعلاً ينمو فكره، سيتطوَّر وسيفهم أن الأمور أوسع وأعقد وأجمل مما يتخيَّل هو، سيصير إنساناً واعياً يا أخي، سيصير إنساناً واعياً!

أنا لا أقدر على تخيَّل عالم دين – كما قلنا في الخُطب – لا يعرف فعلاً كيف تسير الدنيا وأن الشائع الآن جهاد الشيعة مثلاً، مع أننا كسُنة نعرف الشيعة ونعرف أين يختلفون معنا ونعرف أين يتفقون معنا، نحن نعرف أنهم يختلفون معنا يا أخي، نعرف هذا! ونعرف أن عندهم عقائد وأقوال وأشياء وكتابات تُؤذينا وتجرحنا من الداخل، نحن نعرف الكلام هذا! لكننا مُتأكِّدون أيضاً من أننا في نهاية المطاف ليس لنا غير بعض، وأنا أُسمي هذا بالخلاف العائلي في الأسرة المُسلِمة الواحدة، رُغماً عن أي أحد هذا خلاف عائلي، العدو نفسه مُتأكِّد من أن هذا خلاف عائلي، لكنه يُحاوِل أن يُصوِّره على أنه شيئ آخر، العدو نفسه لا يُفرِّق بيننا في المُخطَّطات الاستئصالية وما إلى ذلك، يعرف أن الكل مُسلِم وهذا يُخيفه، الآن طبعاً ما أكثر شيئ يُزعِج الأمريكان؟ يقولون المُقاوَمة والنضال الشيعي، إيران وحزب الله وهذه الجماعة، يُزعجِونهم بشكل كبير، ولذا يخافون، يخافون من المد الشيعي ويُخوِّفون منه، وعندهم الحق بصراحة، عندهم الحق طبعاً! فنحن نفهم هذا الكلام والحمد لله، لابد وأن نفهمه! لكن كيف؟ ما الذي سوف يُوصِّلك إلى هذا المُستوى؟ القراءات والاطلاعات وتوسيع الآفاق وتوسيع المنظور يا أخي، لكن الأمر سيختلف حين يكون منظورك مُفصَّلاً على قد جمهورك، هناك مَن يخطب في مسجد كل أسبوع فيه أربعة آلاف يسمعونه أو خمسة آلاف، وهو يُريد أن يُرضي الخمسة الآلاف هؤلاء، يُريد أن يُرضيهم! وقد يخرج من خلال فضائية مُعيَّنة لكي يتكلَّم، ومعروف هذه الفضائية مُوجَّه إلى مَن ومَن الذين يُتابِعونها، أليس كذلك؟ أنت عندك – مثلاً – فضائية الرسالة، عندك المجد، وعندك اقرأ، أليس كذلك؟ تقدر على أن تقوم بتصنيف هذه الفضائيات وحدك، فضائية المجد هذه مُوجَّهة للتيار السلفي المُنغلِق المُتشدِّد، هذا واضح! هذه لا تسمح حتى بأي نغمة، لا يُوجَد هذا، ممنوع أي رنة موسيقية في كل برامجها، لا يُوجَد هذا بشكل غير طبيعي، نفسي ومُنى عيني كما يُقال أن يأتي مَن يُفتي بفتوى مُتساهِلة فيها، أُتابِعها وأجد الكل مُتشدِّداً، في أي أمر تُريد حين يُسألون تجد أنهم مُتشدِّدون، شيئ رهيب! يُسكِّرون كل الأبواب، رحمك الله يا شيخ عليّ الطنطاوي، ذكرناك من عدة أيام، قال يا أخي بعث لي أحدهم رسالة، يقول لي فيها ابتلاني الله بشيخ كلما سألته عن شيئ قال لي حرام، حرام! قال له أخرجني من ثيابي، أخرجني من ثيابي وأصابني بالجنون، والشيخ الطنطاوي عكسه، الشيخ الطنطاوي كان يُتهَم بأنه مُتساهِل، لكنه ليس مُتساهِلاً، هو شيخ واعٍ بالزمان وبالضرورات، ثم إنه حنفي، قاضٍ حنفي، رحمة الله عليه، هذا الرجل مُتسامِح، طبيعته مُتسامِحة، وجهه مُتسامِح، عنده بسمة يا حبيبي، نصف كلامه نكات، لكنها نكات علمية، كلامه ينزل على قلبك مثل البلسم، أُقسِم بالله! كلامه مثل البلسم يا أخي، مع وجود صدق وربانية في الرجل، شيئ مُمتاز جداً جداً، فهذه فضائية المجد، فطبعاً حين أظهر في المجد لا تتوقَّع مني أن أقول الكلام هذا، مُستحيل! لو ظهرت فيها معروف ماذا سوف أقول علمياً، هذه أُطر! وهم لن يستيضفوك أصلاً طبعاً، لأنهم يعرفون من أي اتجاه ومن أي منزع ومن أي روحية أتيت، هذا معروف! أما اقرأ فليست كذلك، أكثر تفتحاً، الرسالة أكثر وأكثر.

جلست مع عالم فاضل كبير في السن وكبير في القدر، قال لي والله نحن خائفون من الرسالة، صحيح نحن مَن قام بدعمها لكننا خائفون يا أخي، فقلت له لماذا؟ قال نحن خائفون لأنها تتساهل بشكل زائد عن اللزوم، ماذا رأيتم فيها يا حبيبي؟ ماذا رأيتم؟ نحن تابعناها ووجدنا أنها جيدة والله، بالعكس! تُشجِّع وتأتي بأشياء جيدة، لكنهم لا يُريدون هذا، يا أخي فيها الدكتور طارق السويدان وفيها أُناس أفاضل، وهم مُسلِمون يا أخي، وقلوبهم على الشباب وعلى أُمتهم، هؤلاء أُناس أفاضل بصراحة، ليسوا علمانيين وما إلى ذلك، فما المُشكِلة؟ الحمد لله لأن هناك تبسطاً وسهولة بشكل أكثر.

قبل فترة الدكتور الجديع – الدكتور عبد الله الجديع السعودي – كتب كتاباً – والله – رائع، أنا أنصح كل أحد بأن يقرأه، كتب كتاباً في حُكم الموسيقى، دراسة علمية وحديثية مُمتازة! فيها مُقارَبة جيدة، أحسن دراسة كُتِبت إلى الآن، لم يكتب مثلها لا القرضاوي ولا شلتوت ولا غيرهما، هناك ما يقرب من مائتين وسبعين صفحة فقط عن الموسيقى، وأوضح أن الموسيقى حلال عنده، وهذا جميل جداً! فرحت لأنه كتب هذه الدراسة، وأنا أنتمي إلى الخط هذا، سألني شخص قبل أسبوعين عن الموسيقى، فقلت له أنا سأقول لك شيئاً، أنا أستمع إلى الموسيقى، فقال لي ماذا؟ فقلت له نعم، أستمع إلى الموسيقى، أستمع إليها في بعض المرات وليس دائماً، لأن ليس عندي وقت لكي أستمع إلى الموسيقى، لكنني في بعض المرات أستمع إليها يا حبيبي، هل تُريد أن أكذب عليك؟ أستمع إليها! في بعض المرات أستمع إليها، ليس عندي مُشكِلة! قلت له الشيخ القرضاوي يستمع إليها، فقال لي القرضاوي! فقلت له طبعاً يستمع إليها ويُشاهِد المُسلسَلات أيضاً، ما المُشكِلة؟ قلت له الشيخ الغزّالي كان يستمع إليها، فقال لي الشيخ الغزّالي! فقلت له نعم، كان يستمع إلى أم كلثوم وكتب هذا في كتاب له، قال أحياناً في الليالي الرائقة القمراء حين أسمع السيدة أشعر بخشوع لا أشعر به في أكثر أوقاتي، وصادق الرجل! الآن تُوجَد إشكالية هنا لا يقدر السلفي المُنغلَق على أن يُناقِشها، هل تعرف ما هي؟ يا حبيبي يبدو أن تسعة وتسعين في المائة من المُسلِمين يستمعون إلى الموسيقى، تسعة وتسعون في المائة منهم يستمعون إليها! نعم هناك مَن لا يستمعون إليها بالمرة بنسبة واحد في المائة، وهؤلاء الله أعلم ماذا ستكون نهايتهم في الدنيا طبعاً، إما سيختل مُخ الواحد منهم أو سيظل مُبلغَماً – كما يُقال – طيلة حياته، سيعيش وسيموت وهو مُبلغَم، شيئ مُخيف! هؤلاء مُخيفون، هؤلاء ليسوا طبيعيين.

ذات مرة – قلت لكم هذا من قبل – قال فرنسي لآخر وهو يُشير على أحدهم احذر هذا، شكسبير Shakespeare ذكرها في مسرحية له، قال له احذر من هذا، فإنه خطر جداً، فقال له لماذا؟ قال له لا يتمتَّع بالجمال، لا يهمه أي شيئ جميل، لا يشعر بأي شيئ، قال له هذا خطر، وفعلاً هذا خطر، واضح! يُمكِن أن يقتل هذا، يُمكِن أن يقتل بسكين باردة دون أن يهمه شيئ، يُمكِن أن يقتل أقرب الناس إليه، وأي إنسان عنده حس جمالي – تُحرِّكه النغمة الجميلة، الرائحة الجميلة، الصوت الجميل، الوجه الجميل – وما إلى ذلك – هو إنسان فعلاً، كم مرة يتحدَّث القرآن عن الجمال حتى في أشياء تشعر بأن ليس لها علاقة بالجمال مثل الدواب وما إلى ذلك! انتبه، انتبه إلى الجمال، النجوم وما إلى ذلك قال عنها إنها زينة، انتبه! لابد أن تُنمي في نفسك الحس الجمالي، وإلا سوف تكون أشبه بالحائط هذا، وأنا شخصياً فعلاً لا أُحِب أي إنسان – وأخاف منه – أشعر بأنه فاقد للحس الجمالي، خطير! يُوجَد شخص من أصدقائي – أعرفه لكنه ليس جالساً معنا هنا حتى لا أُحرِجه – عنده شيئ عجيب يا أخي، عنده حس جمالي رهيب لكن ليس للموسيقى، هو يرى أنها حرام، الموسيقى لا يفهم فيها شيئاً، ويستغرب من الآخرين، كله عنده سواء، كله عنده جيد! لكنه يُحِب اللُغة، يُحِب سماع بيت شعر مُمتاز، جُملة فصيحة وقوية، يُصاب بالهبل، يقطع حديثك ويظل يُعلِّق لمدة خمس دقائق، يقول يا أخي هذا فظيع وما إلى ذلك، حين ترى هذا الإنسان تستشعر بالرقة التي فيه يا أخي، بسرعة الدمعة التي فيه، بالرحمة التي فيه، وبالكرم الذي عنده، يد باسطة بالعطاء! لا يقدر على أن يكسف أي إنسان، تقدر على أن تأخذ عشاءه ورزقه وما إلى ذلك ثم تُخجِله، رجل خجول! لأن فعلاً عنده إحساس، على الأقل إحساس جمالي، إنسان نابض، فيه نبض، هناك دماء تمشي فيه، لكن هؤلاء الصُفر الذين لا يتحرَّكون هم مُخيفون، الواحد منهم مُخيف فعلاً، فقال له احذر هذا الرجل، شكسبير Shakespeare ذكر هذا، وهذه عظمة الكتّاب الكبار، خطيرون! الكلمات التي مثل هذه هامة، قال له احذر هذا الرجل، فإنه خطر جداً، فقال له لماذا؟ فقال له لأنه لا يتحسَّس للجمال، لا يتمتَّع بالجمال، لا يهمه لا الصوت الحلو ولا غيره، الكل عنده سواء، مُخيف هذا! طبعاً هذا يفعل السبعة وذمتها كما يُقال، لكن لا علينا من هذا.

إذا كان فعلاً تسعة وتسعون في المائة منا يستمعون إلى الموسيقى فهنا يُوجَد سؤال خطير، وربما لأول مرة تسمعون الكلام هذا، لكنني أقوله من قديم بفضل الله، يُوجَد سؤال خطير يا إخواني، هل تتوقَّعون أن – (ملحوظة) قال أحد الحضور كلمة الفطرة، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم له أحسنت – شيئاً يجد تسعة وتسعين في المائة ربما من المُسلِمين أنفسهم مدفوعين على الأقل في بعض المرات بتقطع لأن يُمارِسوه استماعاً على الأقل وما إلى ذلك سيكون – أي هذا الشيئ – حراماً؟ هذا يعني أن هناك شيئاً في داخلك أو في باطنك يدفعك إلى أن تأخذ بحظك من هذا الشيئ يا أخي، يُوجَد شيئ داخلي رُغماً عنك، لا تقدر على إنكار هذا، كيف تقول لي هذا حرام؟ حرام ماذا يا حبيبي؟ فإذا كان علماؤنا يستمعون، نحن نستمع، والدنيا كلها تستمع إلى الموسيقى فكيف تقول لي هي حرام؟ أنا لست مُقتنِعاً بأن هذا حرام إذن، مُستحيل! ولو كان هذا حراماً – وأنا قلت هذا الكلام للأخ الذي ذكرته ببساطة، وهو لم يُرِد أن يتكلَّم بأسلوب علمي، الأسلوب كان سوقياً – فأولاً الموسيقى هذه ليست مسألة ابتدعها أهل الحجاز، لم يبتدعها أهل مكة والمدينة، هذه المسألة موجودة من آلاف السنين، أليس كذلك؟ مع الحضارات كلها موجودة، حتى الشعوب الأكثر بدائية إلى اليوم عندهم ضرب من ضروب الموسيقى، هكذا هو الإنسان! حتى الطفل الصغير – ابن أشهر – حين يسمع النغمة يبدأ يتحرَّك، وحركاته تكون موزونة، سُبحان الله يا أخي! هذا يعني أنها مسألة فطرية، مسألة فطرية تُحرِّك فيك شيئاً مُعيَّناً أو تُذكِّرك بشيئ مُعيَّن، كما قال عبد الغني النابلسي – رحمة الله عليه – الصوت الجميل يُذكِّرنا بأثر خطاب الرب الأول، أي من يوم قال أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۩، يبدو أن هذا موجود، وطبعاً هذا أجمل صوت على الإطلاق، يُوجَد شيئ يُذكِّرنا بالشيئ هذا، فأي شيئ يُذكِّرنا به يُحرِّك فينا شيئاً، يُحرِّك في الطفل الصغير – ابن سبعة أشهر – شيئاً، وهذا الشيئ – كما قلنا – ليس مُبتدَعاً في الجزيرة العربية.

لابد أن يكون عندنا على الأقل خمسة أحاديث إلى عشرة يا سيدي صحيحة وواضحة جداً لكي تُحرِّم الموسيقى أو آية قرآنية أيضاً بشكل واضح بصراحة، سوف يُقال لا، هناك آيات تُحرِّمها، قال الله وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۩، يا أخي دع الكلام الفارغ، هذا كلام فارغ موجود في كُتبنا في التفسير، هذا كلام فارغ لا يُساوي المداد الذي كُتِب به، يا أخي الآية واضحة جداً، أنا حتى لا أُحِب أن أرد على هذا الكلام، لا أُحِب الرد على السخافات، هذه سخافة، هذا لعب بالدين! الآية تقول لك وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۩، أي يُوجَد شيئ ضد القرآن وضد محمد وضد الدين، الشيخ الغزّالي يستمع إلى الموسيقى، فكيف تستشهد هنا بقول الله وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۩؟ هل هذه هي؟ ما هذا؟ والله هذا كلام فارغ، فعلاً ابن حزم بهدل الكلام هذا، لأنه يقول بحل الموسيقى، ابن حزم يُحِلها بكل أنواعها، وقال الذي يكسر أي آلة لابد وأن يدفعها ثمنا، لأن هذه الآت مُحترَمة، ولم يصح فيها أي شيئ، يُوجَد حديث واحد في البخاري، فيه مشاكل في الإسناد، هو مُعلَّق وبعضهم ارجعوه إلى شخص آخر وهو أبو بكر الإسماعيلي وما إلى ذلك، حديث واحد! واختُلِف حتى في تأويله، عند الاقتران أو الجمع اختُلِف! قضية فطرية مثل هذه تحتاجها كل المُجتمَعات البشرية.

أنا أقول لك اسأل الغرب هنا، تعال وقل لهم يُوجَد إسلام عظيم يقول بكذا وكذا مثل تحرير المرأة وما إلى ذلك، وسوف يقولون لك هذا مُمتاز، ثم قل لهم لكن الموسيقى حرام، وسوف يقولون لك خُذ إسلامك مع أفكارك ومع السلامة، نحن عندنا أفكار ثانية تُحرِّر المرأة والرجل وتحل الموسيقى، لا نريد هذا، توكَّل على الله، هذا يعني أنك مُتخلِّف، هؤلاء سوف ينظرون إليك على أنك إنسان مُتخلِّف، الغربيون كما تعرف عندهم الموسيقى ثقافة، أي Culture، هذه ثقافة! ويحترمون أي عالم وأي أكاديمي وما إلى ذلك مثل أينشتاين Einstein وإدوارد سعيد وطاغور Tagore يعرف الموسيقى، يقولون هذا يعني أنه صار مُثقَّفاً كاملاً، لابد وأن تعرف الموسيقى هذه، ولابد أن تعرفها كفن أيضاً وليس أن تستمع إليها فقط، وإلا سوف ينظرون إليك على أنك إنسان مُتخلِّف لا يفهم شيئاً في الحضارة، فأنت لا تقدر على غير هذا.

المُهِم هناك أشياء تقبلها الفطرة، سُبحان الله! الفطرة تقبلها، لذلك سأقول لك الآن هذا حرام وسوف تذهب وتستمع إليها من خلف ظهري، لماذا إذن؟ قلبك غير مُقتنِع بأنها حرام، أنت لست مُصدِّقاً بأنها حرام، وهذه المُشكِلة! مهما أتيت إليك بأدلة – وقال ابن القيم وابن تيمية وكل الأدلة – سوف تقول بينك وبين نفسك حرام ماذا؟ هذا هو، سُبحان الله! قال تعالى خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ۩، يُوجَد شيئ اسمه عُرف، أليس كذلك؟ ويُوجَد شيئ اسمه نُكر ومُنكَر، الشيئ الذي يُنكِره القلب والروح ويُنكِره المُجتمَع حتى كله بصراحة سوف تُنكِره وحدك وأنت خائف، سوف تقول فعلاً هذا الشيئ مُنكَر، وحين تفعله تشعر بالإثم، والنبي قال الإثم ما حاك في صدرك, وكرهت أن يطلع عليه الناس، حين تستمع إلى الموسيقى لا يكون عندك هذا الشعور أبداً، يكون عندك فقط شُبهة بسبب هؤلاء الذين يتكلَّمون، لكنك ترجع إلى الاستماع إليها في ثاني يوم أو ثالث يوم أو بعد شهر أو بعد سنة، وستظل تستمع إليها دون أن يكون عندك أي مُشكِلة، ستشعر بأنها ليست حراماً، حرام ماذا؟ ما الحرام فيها؟ بالعكس! ستشعر بأنها تُنمي فيك شيئاً.

ندعو أن يُعرِّفنا الله به، إذن هذه الأشياء ضرورية – كما قلنا – لكي نقدر على أن نُنمي منظورات مُركَّبة – ليست بسيطة – ومنظورات استيريوية مُجسَّمة، ومن ثم نقدر على أن نفهم هذه الظواهر، فلا ينبغي أن نكتفي بالوعظ والنُصح الأخلاقي والتفسير الوعظي للأشياء، لأنه فعلاً تفسير قاصر ومُضحِك، أضحك علينا عباد الله تبارك وتعالى، والذي يُخيف العلمانيين وعندهم الحق – أنا أصبحت أقول عندهم الحق بصراحة – والليبراليين من الإسلام والإسلاميين بصراحة معروف، لأن في يوم من الأيام حتى طُلِب منهم برنامجاً ولم يستطيعوا تقديمه، ورأينا هذا في مُناظَرة في فيديو Video، موجودة عندنا إلى اليوم، بصراحة قيل يا أخي أين برنامجكم؟ أعطونا برنامجاً واضحاً، ولم يفعلوا، لن أقدر على تقديم برنامج ما لم أُطوِّر قدرات وكفاءات اقتصادية هائلة، لابد من وجود علماء إسلاميين عندي، لكنهم اقتصاديون كبار جداً، لابد أن يكونوا هكذا وأن يكون عندهم تجربة، وهناك سياسيون أيضاً ومُخطِّطون وغيرهم، أُريد أن يكون هذا عندي، هذا ضروري لكي نُحقِّق ما نُريد إن شاء الله، الآن بدأنا في هذا وسُدت هذه الفجوات نسبياً والحمد لله، وهذا أحسن من الأول، الوضع أحسن من الأول بكثير!

ما أُريد أن أقوله لا تعد الناس قائلاً إن الإسلام هو الحل وهو كل شيئ ثم يسمع منك المُتخصِّص العلماني أو الليبرالي أن سبب هذه المشاكل البُعد عن الله وعدم خشية الله، هو سبب الرشوة، هو سبب البغاء، هو سبب الفقر، وهو سبب الأمية، هل سبب كل شيئ يا أخي البُعد عن شرع الله وعن كتاب الله وعن سُنة رسول الله وعن السلف الصالح؟ يُقال لابد أن نفعل مثلهم وسوف نصل، فالعلماني لن يفهم هذا، سوف يقول لا، هؤلاء سوف يذهبون بي إلى داهية، مُستحيل! هؤلاء عندهم خمس جُمل لتسيير الكون كله، أليس كذلك؟ هذا غير معروف في العلوم الاجتماعية، كيف يتم تسيير الدنيا كلها بخمس جُمل؟ لذلك الكبار يفهمون هذا، حين يتقدَّم العالم يتواضع.

ميرتون Merton – عالم الاجتماع الأمريكي – قال علينا أن نكون مُتواضِعين وألا نُؤمِن بالنظريات الشاملة الكُلية، قال هذا لم يعد موجوداً، كل هذا فشل، حتى ما قاله فيبر Weber وماركس Marx في هذا الصدد كله فشل! قال علينا أن نعمل دائماً على تطوير نظريات مُتوسِّطة المدى، فتخدمنا في إطار محدود وفي زمن محدود، ثم نُطوِّرها بعد ذلك ونرى غيرها، كل شيئ لابد أن يكون تفصيلياً ودقيقاً، لكن نحن لسنا كذلك، نقول الإسلام هو الحل، وهذا سبب في واحد، اثنين، وثلاثة، هذا سبب كل ما نحن فيه! لا يُمكِن أن يقتنع أي إنسان يحترم عقله بالكلام هذا، سوف يقول لك لا، هذا يقنع أطفال الحواري والناس المساكين الذين في النجوع، يقنع العوام الذين لا يعرف الواحد منهم كوعه من بوعه، يُقال له هذا فيهز رأسه وهو فرح، هذا يُشعِره بأنه قادر على أن يُعالِج مشاكل الاجتماع والسياسة والدين كلها بكلمتين، لذلك هو سعيد جداً بك وبنفسه، أليس كذلك؟ لأنه لو استمع إلى حديث مُتخصِّص ومُعقَّد سوف يشعر بالصغر والنقص، لن يرغب في سماع الكلام هذا، سوف يقول لا، الكلام الثاني أحسن، الناس تُحِب أن تستسهل، لكن تخيَّل العكس، ماذا لو وُجِد فينا علماء ومُتحدِّثون فضلاً عن خُطباء على هذا النحو؟ الناس لا يتوقَّعون من خطيب بالذات أن يكون عنده المُستوى هذا، فيتكلَّم بمنطق علمي أحياناً، ويفهم الأشياء هذه فعلاً دون أن يتكلَّم كثيراً فيها.

حازم الببلاوي – عالم الاقتصاد المصري – عنده كتابان يُرشِد بهما العوام أمثالنا، وهما دليل الرجل العادي إلى تاريخ الفكر الاقتصادي ودليل الرجل العادى إلى التعبير الاقتصادى، تقرأ كتاباً له في أربعمائة صفحة فيجعلك تفهم كل أُسس الاقتصاد وأنت شيخ في الدين دون أن يكون عندك أي مُشكِلة، اقرأ هذا يا حبيبي لكي تفهم قليلاً معنى الناتج القومي، معنى الدخل القومي، معنى التضخم، معنى الفائض، ومعنى الجدوى، إلى آخره! لابد أن تفهم الأشياء هذه، الكتاب في أربعمائة صفحة فهل من الصعب أن تقرأه يا حبيبي؟ اقرأه في شهر أو شهرين، ويُمكِن أن تقرأ كتاباً ثانياً في علم الاجتماع، وهكذا!

الشيخ القرضاوي حين كان شاباً صغيراً ألَّف كتاباً اسمه ثقافة الداعية، ومثله الشيخ الغزّالي في أكثر من كتاب، مثل مع الله، والاثنان – والله – أكَّد على هذا، لكن لا يُوجَد أي صدى حقيقي، ليس لهذا أي صدى حقيقي في الأرض بين أبناء الصحوة، ينبغي أن تكون هذه ثقافة الداعية، القرضاوي كتب هذا، لابد من هذا في الميدان النفسي، في الميدان السياسي، في الميدان الاجتماعي، وفي ميدان العلوم وما إلى ذلك، لابد أن تقرأ كل شيئ، لابد من القراءة في الأشياء هذه، لكن هذا غير ملحوظ، لا يظهر في الخطاب الخاص بنا، فأنا أقول حين يسمع العلمانيون الكلام هذا سوف يطمئنون، سوف يقولون والله هؤلاء الناس بصراحة جيدون، ما شاء الله عليهم، وعندهم ما ليس عندنا، عندهم الرهان على الأمة وعلى عقائدها وعلى خزينها الموروث، ومن ثم سوف يقدرون على أن يُحرِّكوا الأمة بالشيئ هذا، ما دام قدروا على توظيف الدين بالطريقة هذه مع وعي اقتصادي واجتماعي وسياسي بالطريقة هذه فسوف ينجحون أعظم نجاح، وهذا صحيح، سوف ينجحون بعون الله تعالى، لكن حين يصيرون على هذا النحو، لكن الأمة التي تُوجَد بالطريقة السائدة الآن لن يُمكِنها هذا يا أخي، لن يُمكِنها هذا! والعملية لن تنجح إذا استمرت على هذا النحو، والله – تبارك وتعالى – أعلم.

(ملحوظة) سمح الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم لأحد الحضور بالحديث قائلاً تفضَّل يا أخي، فأعرب عن مُعارَضته لفضيلته فيما يتعلَّق بحديثه عن الشيزوفرينيا Schizophrenia، فقال له لا تُعارِضني، عارض العلماء، هذا ليس رأيي، هذا رأي علماء نفس كبار جداً، هؤلاء يعرفون الكلام هذا ويعرفون مئات الحالات التي صُنِّفت على أنها شيزوفرينيا Schizophrenia، الموضوع علمياً أعمق مما طرحته، ولم أستقص فيه، علماء النفس أنفسهم يُؤكِّدون هذا، أكبر دراسة نفسية عربية في هذا الموضوع لعادل كمال، أكبر دراسة! وفي الحقيقة هي علمية وأكاديمية ومُحترَمة جداً، وهي عربية، كل مُقدِّمات الكتاب عن الموضوع هذا، وهو نفسه لم يقدر على أن يقطع برأي نهائي في الموضوع هذا، لأن هذا نقاش مُحتدِم بين علماء علم النفس الكبار يا أخي! فهم رأوا هذه الحالات التي تُصنَّف على أنها الشيزوفرينيا Schizophrenia، ورأوا مَن هو مُصاب بالبارانويا Paranoia وبغيرهما، هم يعرفون كل هذا ويدرسونه، ومع ذلك هم مُختلِفون، لأن قضية حتى التشخيص نفسها وإعطاء وصمة كما يُسمونها أو إعطاء دمغة لشيئ مُعيَّن هنا قضية خلافية، فالموضوع أطول وأكبر مما صُوِّر به، والله أعلم بالحقيقة، قد يكون هناك شيئ نحن لا نعرفه، لكنني أقول لك هم مُختلِفون في هذا الشيئ جداً.

(ملحوظة) سأل أحد الحضور سؤالاً يتضمَّن عدة نقاط، فقال الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم واضح السؤال إن شاء الله، واضح بإذن الله، بارك الله فيك، على كل حال لا يُتحدَّث عن علم الاجتماع الوصفي، يُوجَد جانب منه اسمه الإثنوغرافيا Ethnography، الإثنوغرافيا Ethnography هو الجانب الوصفي، وبعضهم يقول ﺍﻟﺴﻭﺴﻴﻭﺠﺭﺍﻓﻴﺎ Sociography، هذا الجانب الوصفي، وهذا من أدنى الجواب، وأحياناً حين يُوصَف بحث بالطريقة هذه يُعتبَر أنه بحث مُمتهَن مُبتذَل وليس فيه إبداع كما قلت، لا تُوجَد مُخيلة حقيقية، الأبحاث العربية فعلاً وصفية، إلى الآن كل ما يُقدَّم هو أبحاث وصفية، ليست جدية، هناك دراسات لكن المنهجية فيها ليست صادقة بشكل كبير، مثل دراسة عالم الاجتماع العراقي على الوردي رحمه الله، اتُهِم بأنه ماركسي، لكن الرجل لم يكن ماركسياً، عنده لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث في سبعة أجزاء، طُبِع في أربع مُجلَّدات ضخمات، فعلاً دراسة مُحترَمة ومُعمَّقة جداً، دراسة اجتماعية مُتكامِلة! وهناك دراسة أُخرى لشخص ينتمي للمدرسة اليسارية للأسف والماركسية أيضاً – وهو عراقي مسيحي الأصل – عن تاريخ الشيعة، أيضاً في حوالي خمس مُجلَّدات، وهي أيضاً دراسة اجتماعية مُعمَّقة جداً جداً، ليست وصفية، بالعكس! تحليلية وتنظيرية وفيها أُطر وفيها أشياء، لكنها أيضاً تختلف معهم في الكثير

هذا ما أُردت أن أقوله في النُقطة الأولى، النُقطة الثانية تتعلَّق بموضوع الإصلاح، علماء الاجتماع يعترفون أن لهم دوراً في الإصلاح، هم يعترفون بهذا! من خلال حتى نظرياتهم ودراساتهم ونماذجهم يعترفون بهذا، أنتوني غيدنز Anthony Giddens عنده كتابه المرجعي في علم الاجتماع، هذا الكتاب طُبِّع إلى الآن أربع طبعات لكن وُزِّع منه مئات الآلاف، وهو واحد من مائة كتاب تُعتبَر الأعظم في علم الاجتماع في القرن العشرين كله، والعجيب أن في هذه المائة أربعة كُتب لأنتوني غيدنز Anthony Giddens، عالم كبير، رهيب الرجل هذا، وهو بريطاني، المُهِم قال في كتابه هذا – اسمه الــ Sociology، هذه الــ 4th Edition المطبوعة حالياً، وهو كتاب ضخم في ثمانمائة صفحة – علم الاجتماع يُساهِم في تنوير الإنسان نفسه، وهو نفسه عند النظرية التي تُسمى التبادلية أو الانعكاسية الاجتماعية، بالضبط اسمها الانعكاسية الاجتماعية، أي الــ Social reflexivity، هذه نظريته! عنده نظرية خاصة اسمها النظرية الانعكاسية الاجتماعية، وتعني ماذا؟ أن الأفراد من خلال وعيهم الاجتماعي بمُجتمَعهم وقضاياه وحقائقه وبُناه ومُشاكِله يُساهِمون في تعديل هذا المُجتمَع وفي إعادة إنشائه وبنائه من جديد، وقلنا هذا المُصطلَح يُسمونه ماذا؟ الابتناء، أي يُعاد بناء المُجتمَع باستمرار، فهو ذكر هذا في علم الاجتماع، من ضمن ما ذكر التنوير الذاتي، بمعنى أن تفهم نفسك وتعرف مَن أنت وما وضعك في المُجتمَع وما مُجتمَعك وما آليات عمله وما كذا وكذا، هذا سماه التنوير الذاتي! الهدف الثاني ما هو بحسب ما سماه؟ تقييم السياسات، هذا موضوع الإصلاح، تقييم السياسات! سواء التعليمية أو الصحية أو غيرهما، إلى آخره! أي سياسات حكومية أو مُؤسَّسية تقدر من خلال الأبحاث الاجتماعية على تقييمها، مثلاً حصلت الحرب العالمية الثانية هنا في أوروبا مثلاً، تأثَّر أكثر من نصف أوروبا، حصل تدمير كامل عمرانياً، فماذا فعلوا؟ بنوا مُجمَّعات سكنية على الطراز الشرقي الشيوعي، مُجمَّعات سكنية! مثل مُخيمات التركيز لكنها رأسية، مُخيَّمات تركيز رأسية! وأدخلوا فيها عشرات الآلاف من الناس لكي يُوجَد مأوى للناء على الأقل، وهذا كان مطلباً عاجلاً في أوروبا، هذا ما فعلوه، بعد فترة بدأ علماء الاجتماع يُرافِقهم علماء النفس يُلاحِظون حالات الاكتئاب الزائدة بشكل فوق المُستوى في هؤلاء المساكين، هذا أولاً، ثانياً بدأوا يُلاحِظون ازدياد حالات ضياع قيمي، الناس أصبح عندها ضياع حتى في القيم، في قيم الواجب، قيم ما يلزم، قيم ما لا يلزم، العدل، الحق، الصح، التعاون، التضامن، وما إلى ذلك، شيئ رهيب، هذا الوضع عانوا منه، لأول مرة يحدث هذا، فالمُهِم قدَّموا دراسات – ومنهم أنتوني غيدنز Anthony Giddens – ومُقترَحات قدروا على أن يُقيِّموا بها هذه السياسة الحكومية في تلافي هذه المُشكِلة، وتحدَّثوا عن الإصلاح بهذه الطريقة.

عموماً الإصلاح الذي تطلبه بالمنطق الذي تنطلق منه يا أخي إبراهيم لا يُعترَف به في علم الاجتماع، لماذا؟ لأن علم الاجتماع شأنه – وهذا غلط طبعاً ونقص كبير، أنا ضد الشيئ هذا وقد تحدَّثت عنه قديماً – شأن كل العلوم الغربية الأُخرى، (ملحوظة) قال أحد الحضور إنه وصفي، فقال له الأستاذ الدكتور عدنان إبراهيم أحسنت، يُراد له ألا يكون علماً معيارياً، لذلك هم بالمُناسَبة يعتبرون أن أحكام القيمة تجرح في نزاهة الباحث، إياك – يقولون لك كباحث – أن تُطلِق أحكام قيمة، أي أحكاماً قِيَمية أو قِيمَية، ممنوع! إذن ما المطلوب مني؟ الالتزام بالوضعية، عليك أن تتعامل مع الواقع الموضوعي كما هو، تصفه، تُشرِّحه، تُحلِّله، وإلى آخره! الإصلاح المعياري ماذا عنه؟ قالوا لا، هذا لا نرتبط به، نحن نُساعِدك على أن تفهم الشيئ هذا، في النهاية هناك حكومة، هناك مُؤسَّسات، وهي التي سوف تتخذ السياسات وما إلى ذلك، ونحن سنرجع وسنُقيِّم نتائج العمل هذا، هذا العلم يتلافى الأخطاء، لكن الإصلاح الذي استسلفته على أساس – كما قلت لك – منظومة ثابتة للقيم والمعايير لا تعترف به أصلاً الحداثة الغربية، كلها لا تعترف بهذا، عندهم نسبية مُغرِقة، كل هذا يتغيَّر، لكنهم يعترفون بنظام القيم وبنظام المعايير على اعتبار أنه نسبي ويتغيَّر باستمرار، أحياناً يتغيَّر تلقائياً وأحياناً يتغيَّر بحسب التشريع من خلال البرلمانات وما إلى ذلك، نحن كمُسلِمين ليس عندنا هذا.

يُوجَد طبعاً باحث جزائري اسمه محمد أمزيان، ألَّف كتاباً مُمتازاً، أنصحك بأن تقرأ هذا الكتاب، سيُجيبك عن الكلام هذا بشكل مُعمَّق، اسمه منهج البحث الاجتماعي بين الوضعية والمعيارية، من منشورات المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، نُشِر هذا الكتاب الذي هو رسالة ماجستير حتى وليس دكتوراة، لكن هذه الرسالة تصلح لأن تكون دكتورة مُدبَّلة والله، مُمتاز جداً جداً الكتاب ومُعمَّق، يُناقِش كل المسألة هذه، نحن كمُسلِمين لن نُؤمِن بعلم اجتماع محض وضعي أو وصفي، لا! نُريد – بالعكس – علم الاجتماع المعياري، يلزمنا هذا، لماذا؟ يسمح لنا بهذا الشيئ شيئ واحد، وهو ثبات منظومة القيم والمعايير عندنا، عندنا نواة لا تتغيَّر، ولن نسمح لها أن تتغيَّر، وإلا سنفقد مُشخِّصاتنا وهويتنا كأمة إسلامية، ومن ثم سوف نضيع ونصير مثلهم، ونحن لا نُريد الشيئ هذا إن شاء الله، لا نُريده! والله أعلم.

نكتفي – إن شاء الله – بهذا القدر، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله.

صفحة الشيخ على اليوتيوب:
http://www.youtube.com/user/shaikhAdnanIbrahim
صفحة الشيخ على الفيسبوك:
http://www.facebook.com/Dr.Ibrahimadnan
صفحة الشيخ على تويتر:

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: