إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُه وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.

عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه – سُبحانه – ومُخالَفة أمره لقوله جل من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

 

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأحباب، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – جل مجده – في كتابه العظيم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ ۩ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ ۩ وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ۩ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۩ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ۩ سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ ۩ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

إخواني وأخواتي:

كأين من مرة تعرَّضنا فيها لمسألة التفاوت البعيد الذي يُظهِره أفراد النوع الإنساني بين بعضهم البعض! وهو تفاوت لا نظير له البتة بين أفراد أي نوع حيواني آخر، على الإطلاق، وكما نقول دائماً المسافة بخصوص النمرية أو الذئبية أو الكلبية أو السبعية أو الحصانية، المسافة بخصوص هذه المعاني الحيوانية بين أفراد هذه الأنواع دائماً معقولة ومقبولة تماماً، مسافة قصيرة، لكن المسافة بخصوص البشرية – ما يتعلَّق بالكائن البشري، بالإنسان – بين أفراد هذا النوع مسافة هائلة جداً جداً، غريبة! غريبة وغير موجودة إلا في هذا النوع.

هذا ما تعرَّضنا له في أكثر من مُناسَبة، لكن ربما يندر أن يتعرَّض المُتحدِّثون في هذا الباب إلى مسافة الخُلف البعيدة القصية بين الشخص ونفسه، بين الإنسان ونفسه، بينك اليوم وبينك بالغد، بينك أنت كما أنت اليوم وبينك كما تصير في الغد، بينك كما أنت اليوم وبينك كما كانت بالأمس، تفاوت بعيد! أحياناً التفاوت هذا يكون بعيداً جداً، ومن هنا مفهوم سوء الخاتمة وحُسن الخاتمة، لأن الإنسان قد يقضي شطراً عظيماً من حياته صالحاً، ويُختَم له – والعياذ بالله – بعمل رجل طالح، وربما بعمل رجل كافر فاسق – والعياذ بالله -، والعكس صحيح، هذا هو المُحيِّر وهذا هو المُقلِق وهذا الذي ينبغي أن يكون مُخيفاً بل مُرعِباً لكل واحد منا.

أيضاً تناولنا في أكثر من مُناسَبة مسألة الرعب الذي ينبغي أن يستبد بأحدنا فقط في حال فكَّر هل من المُمكِن أن أتورَّط في يوم من الأيام أو أنزلق لأكون ذلك المُجرِم الذي رأيته في التلفاز أو تابعت أخباره وفظائعه وفواحشه على الشبكة العنكبوتية – مثلاً -؟ مُغتصِب الأطفال، مُغتصِب النساء، قاتل الأطفال – والعياذ بالله -، الظالم، المُعتدي، الصائل، الواغل، والذي يرتكب أخس الجرائم وأبشع الشنائع، ولا يطرف له جفن، هل يُمكِن أن أكونه؟ هل يُمكِن أن أكون مثله؟ هذا الذي ينبغي أن يُرعِب كل واحد منا.

واضح على المُستوى النظري وعلى مُستوى الوقائع والخبرات أيضاً المدروسة والمُراقَبة والمُتابَعة أن هذا مُمكِن، باستمرار هذا في قيد الإمكان، هذا بعض ما يدفعنا إلى أن نسأل الله – تبارك وتعالى – في كل ركعة نركعها له أن يهدينا الصراط المُستقيم، وعجبٌ لمُهتدٍ مُتعبِّدٍ بين يدي مولاه – سُبحانه وتعالى – يُكرِّر ويُلِح ويُمعِن في طلب الهداية، إنه طلب ماذا؟ المزيد من الهداية بلا شك، وطلب الاستمرار على الهداية، يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ۩، الله يقول للنبي اتَّقِ اللَّهَ ۩، وهو سيد المُتقين، ما معنى اتَّقِ اللَّهَ ۩؟ استمر على هذا، ازدد منه واستمر عليه، إذن اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ۩، أي يا رب زِدنا هدايةً وثبِّتنا، ثبِّتنا! النبي كما تقول أم المُؤمِنين كان أكثر ما يدعو به – هذا أكثر ما تسمعه منه – يا مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك، يا مُصرِّف القلوب صرِّف قلبي على طاعتك، يُردِّد هذا كثيراً! وما يُؤمِنني؟ من أين لي الأمان؟ وقلوب العباد بين أُصبعين من أصابع الرحمن يُقلِّبها كيف شاء، شيئ مُخيف!

طبعاً النصوص الدينية كثيرة في هذا الباب، لن نتحدَّث عن تفسير آيات الأعراف التي تلوتها عليكم قُبيل قليل، لأننا فعلنا هذا أيضاً في مرات كثيرة سابقة، وخاصة في خُطبة فاوست Faust بن باعوراء، وهذا نوع من الجمع بين شخصيتين معروفتين، شخصية بلعام هذا وشخصية فاوست Faust المعروفة في الآداب الغربية، فعلنا هذا ربما بتقصٍ أكبر، والمقام هنا لا يتسع، لكن باختصار هذا رجل آتاه الله آياته، كان رجلاً كريماً على الله، كان رجلاً صالحاً مُستقيماً، فيما قيل أوتيَ الدعاء أو دعوة مُستجابة، كان دعاؤه مُستجاباً، بل قال بعضهم أوتيَ الاسم الأعظم، ثم بعد ذلك انسلخ منها – والعياذ بالله -، وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ ۩، ثم يُمثِّل له الله – تبارك وتعالى – أو يضرب به وله مثلاً بماذا؟ بالكلب، إذا عدوت خلفه يلهث، وإن تركته أيضاً يلهث في مكانه، هذا يلهث، تتقطَّع أنفاسه أو يتقطَّع هو على الدنيا وعلى حُطامها وشهواتها ومناصبها وسُلطها، إلى آخره! أصبح رجل دنيا، نسيَ الله تماماً فنسيه الله ووكله إلى نفسه، نعوذ بالله من الحور بعد الكور، اللهم لا تُسلِمنا ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك، هذا من دعاء المُصطفى أيضاً – عليه الصلاة وأفضل السلام وآله -.

إذن هذه المسألة واردة، نظرياً واردة وعملياً واردة، نُريد أن نتناولها من زاوية جديدة، طبعاً العلماء المُختَصون تحدَّثوا عنها، فالآن يُمكِن أن يتحدَّث المرء عن علم نفس جديد، يُمكِن أن يُسمى علم نفس الشر، علم نفس الشر! دراسات كثيرة وتجارب عديدة ووفيرة أُجريت على هذه الموضوعة أو على هذا الموضوع، كيف يُمكِن للإنسان الصالح الطيب أن ينقلب فجأةً أو حتى بسلاسة شريراً؟ كيف يُمكِن؟ هذا يحدث، ويحدث باستمرار، ومن هنا جاءت هذه الدراسات، التي أسَّست لهذا العلم الجديد، علم نفس الشر – إن جاز التعبير -، علم نفس الشر!

في الحقيقة كلما قرأ أحدنا في هذا العلم ووقف على تفاصيل هذه الدراسات العلمية الجديدة أو المُستجِدة عاد في الأخير ليعلم أن أكبر ضمانة وأعظم عصمة – إن كان ثمة عصمة – في الإيمان، لكن انتبهوا، هذا في الإيمان الحق، ليس في الإيمان الذي لا يختلف عن أي إيمان آخر، للأسف الشديد هناك ضرب مِن ضروب تعاطي الإيمان مِن بعض (مَن يرى نفسه مُؤمِناً) لا تختلف – لا تختلف كثيراً – عن الإيمان بأشياء أُخرى، الإيمان بآلهة أُخرى، بأوثان أُخرى، بأيديولجيا، بمُعتقَدات، وبمبادئ أُخرى، لماذا؟ عند المحك، عند التجربة، وعند الاختبار النتيجة واحدة، هذا إيمانه يخذله وهذا إيمانه يخذله، ومن هنا الحديث عن الشر الميولي أو الشر النزوعي، أي الــ Dispositional، يقولون لكم هناك الشر النزوعي، الشر النزوعي أو الشر الميولي هو شر يُفسَّر بشخصية الإنسان، بطبيعته، بجينومه – Genome -، وبجيناته – Genes -، هو عنده استعداد وراثي – مثلاً – لأشياء مُعيَّنة، استعداد وراثي يتظاهر في مواد كيماوية تُفرَز في دماغه، إلى آخره! حتى النشأة الأولى، هذا هو الشر النزوعي، وهناك الشر الظرفي، ما معنى الشر الظرفي؟ الشر الظرفي هو الشر الذي ينزلق إليه المرء بحسب الموقف الذي يكون فيه، هو إنسان صالح وإنسان طيب، لكن إذا وضعته في ظرف مُعيَّن يُمكِن أن ينقلب تماماً وأن يرتكب أفظع الجرائم، واسألوا طبعاً الحروب الأهلية سواء في إسبانيا – في بداية القرن – أو في لبنان أو في العراق أو في يوغوسلافيا السابقة أو في رواندا – التوتسي والهوتو -، إلى آخره، إلى آخره! ماذا يحدث في الحروب الأهلية؟ شيئ لا يكاد يُصدَّق، ويمر هؤلاء الناس – القتلة أعني منهم – بخبرات لا يُمكِن بعد ذلك أن يتجاوزوها مُدة حياتهم، (إلا أن يكونوا طبعاً سايكوباتيين Psychopaths أو مُعتَلين نفسياً، شخصيات ضد اجتماعية، هذا نوع من الاضطراب في الشخصية، أن يكون المرء سايكوباتياً Psychopath، لا! نستثني السايكوباتيين Psychopaths، ونستثني حتى الساديين، أي الــ Sadists, أن يكون الواحد سادياً، هذا أيضاً اعتلال في الشخصية، يحمل صاحبه على أن يتلذذ بمُعاناة وتعذيب وإهانة الآخرين، وهؤلاء قلة قليلة في المُجتمَع، اتركوا هؤلاء، للأسف – قالوا لكم – مُعظَم الناس يُمكِن أن ينقلبوا قتلة ومُغتصِبين ومُشوِّهين وحارقين حتى للأطفال والنساء والعجزة بالنار، شيئ مُخيف ومُرعِب).

يمرون بخبرات – كما قلت هؤلاء القتلة – لن يتجاوزوها مُدة حياتهم، أي ذهبت السكرة وجاءت الفكرة، لن يتجاوزوها بعد أن تضع هذه الحرب أوزارها، سواء أهلية أو غير أهلية، لكن في الحرب الأهلية يظهر هذا أكثر طبعاً وهو مُخيف أكثر، ففي الحرب غير الأهلية إلى حد ما يُمكِن أن نفهم وحشية الإنسان وحيوانية الإنسان، لكن هذا يحدث في الحرب الأهلية فقط، أنت تقتل جارك، تقتل جارك الذي زرته وزارك ألف مرة، الذي قدَّم لك الخير وبذلت له الخير ألف مرة، ما الذي حصل؟ في لحظة مُعيَّنة تتغيَّر، في رواندا التوتسي قتلوا من الهوتو حوالي مليون في مائة يوم، أي زُهاء ثلاثة أشهر، وليس بالقنابل الذرية ولا بأم القنابل – MOAB – أبداً، بالسواطير وبالعصي وبالخناجر، قتل فظيع، مليون! مليون من الهوتو، قطع رؤوس، احتفالات بقطع الرؤوس ونصب الرؤوس، احتفالات باغتصاب الأطفال والنساء، شيئ لا يكاد يُصدَّق، وبعد ذلك طبعاً ولت السكرة وجاءت الفكرة، وطبعاً أكثر هؤلاء على الإطلاق (كما قلت باستثناء السايكوباتيين Psychopaths والساديين Sadists) عبَّروا أنهم يمرون بعذاب لا ينتهي، عذاب لا ينتهي، خبرة لن يتجاوزوها حتى يلقوا الله – تبارك وتعالى -، استحالوا إلى قتلة وإلى مُجرِمين حقيقين، فأين إذن المسيح؟ أين الكتاب المُقدَّس؟ أين المواعظ؟ أين كذا وكذا؟ ما الذي حصل؟

ونفس الشيئ وقع مع المُسلِمين أيضاً، هذا وقع مع المُسلِمين، أينما تُوجَد حرب أهلية فيها مُسلِمون يحدث نفس الشيئ، قتل وذبح وحرق واغتصاب، عجيب! أين المواعظ؟ أين الكتاب؟ أين السُنة؟ أين تقوى الله؟ أين الخوف من الله؟ أين الآخرة؟ أين الصلاة؟ أين كذا وكذا؟ أين البكاء؟ أين التراويح؟ أين القرآن؟ ما الذي يحصل؟ هذا هو في نظري أثر الإيمان الضعيف وأثر التربية الفاسدة الفاشلة التي تقوم على نزع فردية الفرد، وفي جوهرها يمثل دائماً الخوف، والطاعة العمياء، أي الــ Blind obedience كما يقولون، الطاعة العمياء! الطاعة لكل شيئ، مع أن الله علَّمنا – تبارك وتعالى – في كتابه من خلال قصة آدم أن الله ذاته – لا إله إلا هو، المُقدَّس، العليم، العلّام، الحكيم – أخذ وأعطى كما نقول مع الملائكة، الملائكة كانت تستفصل، أَتَجْعَلُ فِيهَا ۩؟ كيف كذا وكذا؟ لم يقل لهم حاقت بكم اللعائن وانتهيتم أبداً أبداً، رد عليهم، وبرهن لهم أيضاً عملياً، نظرياً قال لهم لا، يُوجَد عندي غاية، عندي غرض، وعندي مغزى، قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ ۩، وبعد ذلك لكي يرتاحوا أكثر برهن لهم على استحقاق آدم لهذا التكريم وهذا الامتياز وهذه الأفضلية بقضية وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ۩ وعرض هذا على الملائكة، رب العالمين! لا إله إلا هو، لكن نحن لسنا كذلك، عندنا طاعة مُطلَقة، طاعة للأب مُطلَقة، طاعة للشيخ مُطلَقة، طاعة للأستاذ مُطلَقة، طاعة للسُلطة مُطلَقة، أي سُلطة، سواء معرفية أو سياسية أو إدارية، السُلطة! للسُلطة طاعة مُطلَقة – والعياذ بالله -.

هذا الذي يُحيل الإنسان أو يخلق في الإنسان استعداداً أن ينقلب إلى وحش، إلى شيطان رجيم، إلى قاتل، إلى مُجرِم، وإلى مُغتصِب أطفال، في لحظة مُعيَّنة إذا سمحت الظروف أو حثت وحرَّضت الظروف، هذا الذي يُفقِد الإنسان فرديته، يجعله إمعة، والنبي يقول لا يكن أحدكم إمعة، انظروا إلى هذا، هذا الدين، إذا آتاكم أي آتٍ يتكلَّم باسم الله وباسم الرسول وباسم الدين ولكن بطريقة مُعيَّنة يُملي عليكم أن تكونوا إمعات، أن تقولوا نعم هكذا برؤوسكم، وأن تبصموا، فاعلموا أنه كذّاب، أياً كان! سواء كان قسيساً أو حاخاماً أو شيخاً مُسلِماً، هو كذّاب، كذّاب! يكذب على الله ورسوله، الله – تبارك وتعالى – كما قلت مرة في خُطبة لا يتعامل معنا إحصائياً، الله لا يتعامل مع البشر إحصائياً، يتعامل مع البشر إفرادياً، يحترم فردية وكينونة وفرادة كل واحد فينا، نحن ينبغي أيضاً أن نبتدع وأن نبتكر نُظماً تربويةً تقوم على هذا المعنى، توفير احترام كل فرد، ولا نُعامِل الناس إحصائياً ونُفهمهِم أن عليهم أن يُدندِنوا برؤوسهم دائماً وأن يُوافِقوا لكي يكونوا صالحين وطيبين ومُحترَمين وخجولين، هذا كلام فارغ، نحن نخلق فيهم هنا الاستعداد للجريمة.

لعلكم أو لعل أكثركم يتذكَّر تجربة عالم النفس الاجتماعي الأمريكي اليهودي الأصل طبعاً الشهيرة جداً في هذا الباب، أعني ملغرام Milgram، أي ستانلي ملغرام Stanley Milgram، وطبعاً يُوجَد فيلم – أي موفي Movie – عُرِض قبل سنوات أيضاً عنها، هو فيلم جيد وأنا شاهدته، مُثِّل عن هذه التجربة أيضاً، لأنها مُهِمة، هذه أصبحت واحدةً من الأدبيات الكلاسيكية في علم النفس الاجتماعي، أي في الــ Social psychology، مُهِمة جداً! لن نُعيدها، وقد تحدَّثت عنها أيضاً قبل بضع سنين، لكن باختصار ما الذي حدث في التجربة؟ الذي حفز ملغرام Milgram – عالم النفس الأمريكي اليهودي – على أن يُجري ويُصمِّم هذه التجربة أنه كان شخصاً يهودياً، وبعد أن وضعت الحرب العالمية أوزارها بقليل – هذا في الستينيات، أي هناك خمس عشرة سنة – حصل الآتي، الرجل هذا كان يعيش في USA، لكنه كان مرعوباً، كان عنده قلق باستمرار من أن يتكرَّر الهولوكوست Holocaust أو المحرقة في أمريكا لليهود، كانوا يقولون له هل أنت مجنون؟ أنت تتوقع بعقلك أن يحدث هذا؟ هذه أمريكا، ليست ألمانيا النازية، فكان يقول لهم لا، وهو أفهم منهم، أفهم من الذين اعترضوا عليه، كان يقول لهم وما معنى أنها أمريكا؟ ما معنى أنها أمريكا؟ ألمانيا كانت في يوم من الأيام بلداً مُحترَماً، أليس كذلك؟ لم تحرق لا الكُتب ولا البشر، ثم حرقت الكُتب والبشر، قال لهم مَن الذي يضمن ومَن الذي يزعم أن هنا لا يُوجَد بشر ولا يُوجَد أُناس كثيرون يُمكِن أن يقبلوا بأن يشتغلوا حرّاساً لــ Concentration camp – أي مُخيَّم أو مُعسكَر اعتقال – هنا في أمريكا؟ وإذا وافق أحدهم أن يشتغل حارساً في مُعسكَر اعتقال – انتبه، انتهى الأمر، هذه الخُطوة الأولى – فسيحرق، سيحرق! لأنه وافق أن يُظلَم بعض الناس هكذا، يُعتقَلون ويُودعون في مُخيَّمات تركيز كما يُقال – مُعسكَرات اعتقال أو مُخيَّمات تركيز -، إذا وافق فسينتهي الأمر.

وصمم تجربة عبقرية، هذه التجربة أصبحت Iconic، أي أيقونية كما يُقال، تجربة أيقونية، لأن استل منها حتى هذا التعبير، أن كل شر كما يقول عالم نفس الشر الكبير أيضاً على مُستوى عالمي فيليب زيمباردو Philip Zimbardo من جامعة ستانفورد Stanford University يبدأ بخمسة عشر فولتاً Volt، كل شر يبدأ بخمسة عشر فولتاً Volt، لأن التجربة بدأت هكذا، لكن باختصار – لن أذكر التجربة لأنها طويلة، لكن باختصار سأتحدَّث – أُجريت تجربة على ألف من الناس العاديين، أُجريت على أُناس عاديين، طرازيين، مكتبيين، سائقي سيارات، خبّازين، مُوظَّفي بريد، وهكذا! هؤلاء أُناس عاديون، أتى بألف من الناس، وتقريباً كان يأتي بهم خمسين خمسين، كل خمسين يُجري عليهم تجارب وفق معيار مُحدَّد، هذا ما يُعرَف بالتباين التجربيبي، هناك الـــ Experimental variations، أي التباينات التجريبية، فكل خمسين كان يُجري عليهم تجارب وفق معيار مُحدَّد.

في الغُرفة الأُخرى يُقال لهم هناك رجل في الأربعين أو في الخمسين من عُمره، نعم عنده مُعاناة هو – يُعاني وما إلى ذلك – لكن التجربة تتعلَّق بموضوع الذاكرة، نحن نُريد أن نُوجِّه إليه صعقات كهربائية بسيطة، بقوة خمسة عشر فولتاً Volt، أي هذا كلام فارغ، لا تُؤثِّر فيه هذه الصعقات، لكنها مُهِمة لكي نرى النتائج – هذه دراسة في علم الأعصاب – وبعد ذلك سنتدرَّج، نصعق بخمسة عشر ثم بثلاثين ثم بخمسة وأربعين ثم بستين ثم بخمسة وسبعين، وهكذا! كل مرة يُضاف خمسة عشر، والفرق بسيط، بين مائة ومائة وخمسة عشر، وكذلك بين مائة وخمسة عشر ومائة وثلاثين، وهو خمسة عشر، وهكذا! فالشر يبدأ بنية طيبة، هذه دراسات على الذاكرة تُفيد البشرية وتُفيد العلم خاصة علم الأعصاب وتُفيد هذا حتى – إي الإنسان المسكين المُختبَر -، وفي نفس الوقت أنت تستفيد أيضاً – أي المُتطوِّع – وستزيد معلوماتك، فدعنا نرى هذا.

فعلاً بعد ذلك تزداد الصعقات، إلى مائة، ثم تصل إلى مائة وخمسين، ثم إلى مائتين، ثم إلى مائتين وكذا، يتأوَّه المسكين ويئن، يقول آه وما إلى ذلك، فيتردَّد هذا، ثم ينظر هكذا إلى الشخص الآخر فيقول له لا بأس، استمر، استمر، أي إن هذا صاحب سُلطة، وهو مَن؟ العالم أو الدكتور الذي يُجري التجربة، يقول له هذا وهو يرتدي طبعاً الــ Mantel الأبيض، هذا دكتور وأستاذ في الجامعة، يقول له استمر، لا بأس، لا بأس، هذا شيئ طبيعي، فيستمر المسكين، يصل إلى مائتين وخمسة وسبعين، فيزداد التأوه والصياح، ويقول لا، لا، عندي مرض القلب، يقول المسكين الآخر هذا، وطبعاً بالمُناسَبة هذا كله تمثيل، هو لا يُصعَق، طبعاً مُستحيل، هذا لا يُسمَح به، يقول عندي مرض القلب، أنا لن أستمر، هذا يُؤذيني، هذا يُؤلِمني، ينظر المسكين إلى العالم فيقول له لا، استمر، هذا عادي، عادي!

على كل حال حين وصلوا إلى ثلاثمائة وخمسة وسبعين – هذا حد قاتل – سمعوا صراخاً أو صرخة كبيرة مُدوية وصوت ارتطام ثم حل صمت مُطبِق، لعله فقد الوعي أو لعله مات، ويتساءل طبعاً المُتطوِّع، يا سيد فلان هل أنت بخير؟ لا يأتيه الجواب، ويأتي هذا المُختبِر بالــ Mantel الأبيض ويقول له استمر، لا بأس، استمر، ماذا؟ يقول له استمر، الآن ما نسبة الذين استمروا؟ أنت تُساهِم في قتل إنسان، تقتل! أنت تقتل الآن، جئت مُتطوِّعاً بخمسة عشر فولتاً Volt، والآن تقتل، وصلت إلى ثلاثمائة وخمسة وسبعين، غير معقول! ما النسبة؟ هنا تُوجَد تباينات، ولذلك وزَّع الألف – كما قلنا – على الأقل على عشرين مجموعة، وكل مجموعة من خمسين.

في التجارب – مثلاً – التي كان فيها المعيار – هذا هو المعيار أو المُتغيِّر التجريبي كما يُقال – يتضمَّن عرض رجل آخر مثلك مُتطوِّع يواصل في الاستمرار، يقول لا، لدينا مزيد من الوقت، لابد أن نُواصِل، نضغط أكثر، نصل إلى ثلاثمائة وتسعين، هل تعرف ماذا يحصل؟ أنت ترى شخصاً آخر يقتل، هناك شخص آخر يقتل ويتخلى عن مسئوليته، ويُحمِّل المسئولية على مَن؟ على المُختبَر وعلى صاحب التجربة، هل هذا يُفيدك أمام الله؟ لو كنت مُؤمِناً هل هذا يُفيدك؟ حتى أمام ضميرك هل يُفيدك هذا – أنه أعطاك أمراً -؟ هل يُفيدك هذا؟ قال لك نعم، هذا هو، وطبعاً عند مرحلة مُعيَّنة الكل كان يسأل لو حدث خطأ ولو هلك الرجل هذا أو تضرَّر ضرراً كبيراً مَن يتحمَّل المسئولية؟ فيقول له المُختبِر أنا، أنا طبعاً، نحن هنا، نحن نتحمَّل المسئولية، فهل هذا يُفيدك إذن لو قاله لك؟ لكن أنت الفاعل، أنت الذي تُباشِر القتل أو التعذيب بهذه الطريقة أو التشويه.

في هذه الحالة يا إخواني يرى هذا المُتطوِّع رجلاً آخر يستمر، فيستمر هو أيضاً، هل تعرفون كم الذين استمروا؟ ستانلي ملغرام Stanley Milgram هذا سأل أربعين عالماً من علماء النفس في الــ USA، سأل أربعين عالماً من الكبار وذكر لهم تفاصيل تجربته بدقة وبأمانة، فقالوا مُستحيل، الذين سيستمرون واحد في المائة، والواحد في المائة حتماً سيكونون شخصيات سادية وسيكوباتية، شخصيات مُضطرِبة! ليسوا شخصيات عادية، فهالتهم وصدمتهم النتيجة، في هذه التجربة التي كان فيها هذا المعيار المذكور قُبيل قليل أو المُتغيِّر التجريبي هل تعرفون كم الذين استمروا؟ تسعون في المائة، تسعون في المائة استمروا، تحوَّلوا إلى قتلة وإلى مُجرِمين لمُجرَّد أن غيرهم يفعل، شخص آخر قال لأحدهم أنا سأفعل، فظل يفعل مثله، كان يعمل مثله!

في تجربة أُخرى ما الذي حدث؟ كان هناك مُتغيِّر آخر، أحد المُتطوِّعين أو المُتطوِّع الآخر ثار، قال لا، ما هذا؟ هذا إجرام، هذا قتل، لا يجوز، العلم كذا، أنا خارج، أنا مُنسحِب، في هذه الحالة تسعون في المائة انسحبوا، عشرة في المائة واصلوا، هنا قد تقول لي هذا يُبرِز أهمية القدوة، وطبعاً لابد من القدوة، لكن أنت أخذتها فقط من جهة القدوة وأهمية القدوة والأمر بالمعروف والنهي عن المُنكَر، وهذا صحيح، لكنك لم تأخذها من جهة ثانية، يُوجَد انعطاب هنا، يُوجَد مُشكِل كبير في طبيعة تربيتنا وفي مناهجنا التربوية، سواء في البيت أو في الحضانة أو في المدارس أو في الكليات، على مُستوى أي شيئ تُوجَد مُشكِلة كبيرة، ما الذي يجعلني أفقد شخصيتي واستجاباتي العادية كما يُقال بلُغة العلم؟ الإنسان عنده استجابات عادية، في وضع عادي أو في ظرف عادي من غير أي إغراء ومن غير أي تحفيز لا يُمكِن أن أفعل هذا، لا يُمكِن أن أتطوَّع بتعذيب إنسان أو قتله، لا يُمكِن! هذه استجابة عادية، كيف هذا يحصل في موقف مُعيَّن تحت شروط مُعيَّنة وفي ظروف مُعيَّنة فأنفصل؟ يحدث Disengagement، أي انفصال، يحدث عندي انفصال عن أخلاقي، عن معاييري – الــ Norms -، عن مبادئي، وعن قيمي، ولذلك يُسمى ماذا؟ الــ Moral disengagement، هذا الانفصال الأخلاقي.

قال لك هذا الانفصال الأخلاقي يحصل حين ترى الآخرين يفعلون، تفعل مثلهم، ومن هنا النبي قال لا يكن أحدكم إمعة، إمعة من ماذا؟ من مع، يقول أنا مع الناس، هذه الإمعة، أنا مع الناس، الحشر مع الجماعة عيد، دس رأسك بين الرؤوس وقل يا قطّاع الرؤوس، مثلي مثل غيري، لماذا إذن؟ هل أنا مُتميِّز عليهم؟ لا، أبداً! لا تكن إمعة، تقول إن أحسن الناس أحسنت وإن أسأوا أسأت، ولكن وطِّنوا أنفسكم إذا أحسن الناس أن تُحسِنوا وإذا أساء الناس أن تجتنبوا إساءتهم، النبي هنا يبني شخصية حقيقية، وهذه شخصية المُؤمِن، إذا كنت مُؤمِناً وكنت إمعة فأنا أقول لك هناك علامة استفهام كبيرة على إيمانك، والله العظيم! هناك علامة استفهام خطيرة فانتبه، علامة استفهام خطيرة على إيمانك، بمعنى أن هذا الإيمان في يوم من الأيام – وقد يكون هذا اليوم قريباً جداً، أقرب مما تتصوَّر وأتصوَّر – سيخذلك، والله! يُمكِن أن تتحوَّل إلى قاتل، إلى مُغتصِب، وإلى مُجرِم.

طبعاً في الحقيقة كل يوم وآخر نرى في النت Net – خاصة في اليوتيوب Youtube – وفي الأخبار أنباء الجرائم، نحن نُتابِع هذا، وبلا شك طبعاً في عالم النت Net والتواصل هذا كثر – كثر فعلاً – اعتراض أنباء وأخبار الجرائم والفظاعات لنا، كل يوم! طبعاً هي موجودة دائماً، موجودة قبل النت Net وبعد النت Net، لكن هذا نوع من التواصل، نوع من الإظهار، ونوع من تعميم الأخبار، بلا شك هي سريعة آنية، فتسمع أشياء مُخيفة جداً، أحياناً أكثر شيئ يهزك ويصدمك ويُزعزِك ويُقلقِلك أن تسمع عن مُتدينين ورجال دين يرتكبون الجرائم، وطبعاً سمعنا عن قسس في أمريكا – القسس الكاثوليك قبل سنوات – فعلوا ذلك، واتضح أن هناك أكثر من خمسمائة حالة تتعلَّق باغتصاب الأطفال، شيئ فظيع! ومُثِّل أيضاً عنهم فيلم مشهور جداً ومُؤثِّر ومُهِم، والآن تسمع عن بعض الأئمة أيضاً، أئمة مساجد! في تلك الأيام – لن نقول أين، ولكن هذا في بلد عربي مشهور كبير – اغتصب أحدهم طفلاً، وبعد ذلك حُقِّق معه، فاتضح أنه اغتصب على الأقل خمسة أطفال، دون الثامنة من أعمارهم، وعنده لحية هكذا طويلة، صوَّروه وأتوا به في النت Net، شيئ مُقزِّز مُقرِف ومُدمِّر، لكن انتبهوا، كما قال دوستويفسكي Dostoevsky أسهل شيئ أن تُنكِر على فاعل الشر، وأصعب شيئ أن تفهمه، أن تفهم لماذا؟ لماذا فعل هذا؟ هل بدأ هكذا؟ هل هو دائماً كان هكذا؟ يندر جداً جداً – احتمال ضعيف، هذا موجود طبعاً، لكنه احتمال ضعيف ونادر، بلا شك هو الأندر – أن يكون بدأ هكذا، أي (من يومه) وهو هكذا، لا! الاحتمال الأكبر أنه بدأ إنساناً فاضلاً، يَحفَظ كتاب الله، ويُحفِّظ الناس كتاب الله في بيت من بيوت الله، ويعظ بالأخلاق وبالقيم في الناس – في الرجال والنساء -، ثم في لحظة مُعيَّنة حصل ماذا؟ الانكسار، الانحراف، التدلي، والانزلاق، فهوى، وليس هذا الخطير، كل واحد فينا يُمكِن أن ينكسر، يُمكِن أن ينزلق، يُمكِن أن يتدلى، ويُمكِن أن يهوي، لا! هذا طبيعي، كما قلنا يُوجَد تفاوت حتى بين الإنسان ونفسه، يستحيل أن تكون في حالة واحدة من الإيمان دائماً، وحتى الصحابة لم يكونوا كذلك، يا رسول الله نافق حنظلة، نافق أبو بكر، هذا في الحديث الصحيح، نكون عندك فتُذكِّرنا بالله، تذكر لنا الجنة والنار، فكأننا رأي عين، كأننا نظر إلى الله وإلى الجنة وإلى النار، ثم يا رسول الله إذا تركناك وعافسنا الأهل والأولاد والضيعات – أي إننا نذهب فنُداعِب زوجاتنا، نلعب مع أبنائنا، نتفقَّد مزارعنا ودوابنا، وما إلى ذلك – نسينا، ونسينا كثيراً، فهذا نفاق، نحن مُنافِقون!

انظر إلى الصحابة، كان عندهم يقظة، وكان عندهم وعي بالذات، هذا مُهِم جداً، هو جُزء من الحل، كم عندك من هذا الوعي بالذات؟ كم تُحاسِب نفسك؟ طبعاً لا نُريد من الناس أن يتورَّطوا في هوس ديني، فتُصبِح مهووساً ومُهوَّساً باستمرار، لا! لكن لابد من وجود قدر من المُحاسَبة يومي، على الأقل حين تخلد إلى النوم، كل ليلة تسأل نفسك ما الذي فعلته اليوم؟ أين تجاوزت؟ أين أخطأت؟ ماذا أردت بتلك الكلمة؟ لماذا أخطأت في تلك النظرة؟ إلى آخره، لابد من هذا، هذه المُحاسَبة، ولابد من المُراقَبة، هذا جُزء من مُقتضيات الإيمان، أعتقد مَن يفعل هذا ويُدمِن على فعله من الصعب أن يتدلى باستمرار، قد يتدلى قليلاً ثم يعود يُصاعِد – بإذن الله تعالى -، قال تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۩، اللهم اجعنا منهم، من الذين يظلون على بصيرة ووعي دائم، لكن التقوى حمتهم، أتقياء هؤلاء، ليسوا فسقة، ليسوا مُنافِقين، ليسوا مُرائين، وليسوا كذّابين، دينهم لله، هم يتقون الله حقاً، يُؤمِنون بالغيب، يخشون ربهم بالغيب، هذا هو! أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ۩، وليسوا من أولئكم المُنافِقين الذين يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَىٰ مِنَ الْقَوْلِ ۚ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا ۩، لا! ليسوا من هؤلاء المُنافِقين، إنهم أهل وعي ويقظة دائمة ومُراقَبة، وبالتالي مُحاسَبة، وكما قال ابن عطاء الله السكندري – قدَّس الله سره – أفضل الطاعات مُراقَبة الله على دوام الأوقات، هذه هي أفضل طاعة، أفضل طاعة هي هذه! قد تقول لي لا أُريد لا كلامك ولا كلام ابن عطاء الله ولا أُريد هذا الهبل والتصوف، الصلاة أفضل الطاعات، مسكين أنت! أين في كتاب الله إن الله معي المُصلين؟ لا تُوجَد آية واحدة تقول هذا، أين في كتاب الله إن الله مع الصائمين؟ لا تُوجَد آية واحدة تقول هذا، أين في كتاب الله إن الله مع الحاجين والمُعتمِرين؟ لا تُوجَد آية واحدة تقول هذا، لكن في القرآن إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ۩، الله مع الصابرين، مع المُتقين، ومع المُحسِنين، ما معنى هذا؟ معنى هذا أن العبادات إنما أُريدت وكانت لأجل تغيير أوصافنا وسماتنا ونفوسنا، لكي نُصبِح مُتقين صالحين مُراقِبين واعين يقظين وأتقياء، هذا هو! فإذا فشلت الصلوات وفشلت العبادات أن تُغيِّر من أوصافك فستكون النتيجة ماذا؟ أنت لم تعبد، هذه ليست العبادة التي أرادها الله، هذه عبادة فاشلة، عبادة عاجزة، وعبادة كاذبة.

وبالمُناسَبة (مُهِم جداً أن نقول هذا، ولا يُمكِن أن نتجاوز هذه النُقطة، لا يُمكِن أن نتجاوزها بغير تعليق – أنت ترى أيضاً على اليوتيوب Youtube مقاطع لمشايخ أيضاً كبار في السن وعندهم لحى كبيرة، قال أحدهم الذي يترك الصلاة شرٌ عندنا – عنده هو – من الذي يزني بأمه وأخته، أي والله هكذا! هذا شيئ لا يُصدَّق، كأنه يقول الذي يُصلي ويزني بأمه وأخته خيرٌ من الذي لا يُصلي ولا يفعل هذه الأشياء، كأن الله أراد الصلاة لمُجرَّد أن نُصلي، أي بمعنى لمُجرَّد الحركات، قيام، ركوع، وسجود، ننقرها نقر الغراب الدم كما قال الرسول، لا! الله لم يُرِد هذه الهيئات، علماً بأن إبراهيم وموسى وعيسى لم يكن في صلاتهم ركوع وسجود وما إلى ذلك، أليس كذلك؟ صلاتهم دعاء، صلاتهم دعاء فقط، فلا تظن أن هذه الصلاة بحد ذاتها هي المُرادة، أي الهيئة فقط بعيداً عن روحها وبعيداً عن مغزاها وبعيداً عن أثمارها – أي ثمارها وثمراتها – وفوائدها وعوائدها، صلاة بلا أثمار، صلاة بلا نتيجة، وصلاة لا تُغيِّر من صفاتك ومن شخصيتك ليست بصلاة، لا تغترن بها، مسكين أنت والله العظيم، لا تغترن بها، بالعكس! ولعلها تكون زيادة أيضاً في آثامك ومعاصيك، ستقول لي الحل إذن ألا نُصلي، لكن ليس هذا الحل، أنت هكذا تُسارِع إلى جهنم، الحل أن تُحاوِل أن تُصلي حسناً وجيداً، تُصلي لكي تُعلِّمك الصلاة الرقابة على نفسك، تُعلِّمك أن تستحي من نفسك، تُعلِّمك أن تحمل مرآة ربانية وتنظر فيها إلى نفسك، كما قلت تسأل لماذا فعلت هذا؟ لماذا أمرت بهذا؟ لماذا نهيت عن هذا؟ ماذا كان قصدي من هذا الفعل أو ذاك الترك؟ هل هو وجه الله أو أشياء أُخرى؟ بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ۩، هذه هي الصلاة، وهذه الصلاة بلا شك ستُغيِّر ليس الصفات والسمات فقط وإنما ستُغيِّر جوهرك – بإذن الله تعالى -، ستجعلك هذه الصلاة من المُتقين، من عباد الله المُحسِنين، من أحباب الله، ومن أولياء الله، وإذا صرت – اللهم اجعلنا منهم بفضلك ومنّك – من عباد الله المُتقين فأنا أقول لك أنت في ضمان الله، وحيئذٍ تكون من أهل قوله إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ۩، مُباشَرةً تتذكَّر وتقول أستغفر الله، كما قال الحسن البِصري رحم الله امرأً وقف عند همه، ما معنى الهم؟ إرادة أن يفعل الشيئ، يهم بالشيئ هماً، يُريد أن يفعل شيئاً ما، يُريد أن يتكلَّم أو أن يفعل كذا، لكنه يقف دائماً، يُحاسِب نفسه مُحاسَبة الشريك الشحيح لشريكه، قال رحم الله امرأً وقف عند همه، فإن كان لله أمضاه، وإن كان لغير الله رجع عنه، قال هذا المُؤمِن.

التربية – كما قلنا – مرة أُخرى تقوم على ماذا؟ على تعزيز فردية الإنسان واستقلالية الإنسان، لا يعنيني العالمون، فعلوا أو لم يفعلوا أنا عندي شرع رباني، عندي كتاب وسُنة أنا، عندي آيات الله تُتلى، لماذا أنظر إليك وإليه؟ هذا لا يهمني، حتى لو قلت أنا شيخ وأنا عالم هذا لا يهمني، أنا عندي كتاب الله، إذا أحسنت أن تُفسِّره بمقاصد كتاب الله وارتحنا إليك فأهلاً وسهلاً، إذا أردت أن تُغوينا وأن تحرفنا عن كتاب الله بحذلقات وهمهمات وشقشقات فلا علينا منك ولن نعبأ بك، لن نعبأ بك!

فعندنا وبين أيدينا كتاب الله – تبارك وتعالى -، ما أحله فهو حلال، ما حرَّمه فهو حرام، ما حسَّنه فهو الحسن، ما قبَّحه فهو القبيح، ما أراده الله أردناه، أليس كذلك؟ وما رغَّب الله عنه رغبنا عنه وقلوناه وجفوناه، هذا هو، هذا هو الطريق، هذا هو الحل، هذا يُعطيك شخصية حقيقية، ومن ثم لا تكون إمعة، لن تكون إمعة، لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، أياً كان هذا المخلوق، أياً كان ولك أن تتخيَّل هذا، لا طاعة، إذا أمرك بما نهى الله عنه فلا طاعة له، هذه الشخصية، يقول لك أحدهم هذا الدين مُتمرِّد، لكن هذا غير صحيح، هذا الدين إنساني، انتبه إلى هذا، يقول لك هذا دين يُعلِّم التمرد، هذا دين من الصعب أن يعمل تطبيعاً اجتماعياً، ويدخل لك من السوسيولوجيا Sociology، يقول لك التطبيع الاجتماعي لا يُمكِن أن يكون هكذا، التطبيع لابد أن يُعلِّم الناس غير هذا، نعم يُعلِّم الناس أن يكون قطيعاً، أي Herd، لا! أنا أقول لك لا، هذا دين يُعلِّم البشر لكي يكون بشراً وإنساناً سوياً، في اللحظة الحرجة لا يستحيل قاتلاً ولا مُجرِماً ولا سفّاحاً ولا سفّاكاً ولا مُغتصِباً أبداً، مع أن غيره قد استحالوا، كأبناء العم أو الإخوة أو الجيران أو الأصدقاء، شيخه حتى أو قسيسه أو الحاخام الخاص به قد استحال، لكن هو لا يستحيل، هو مُؤمِن صادق، هو رجل صادق.

حدَّثتك مرة أيضاً عن بطولة المُؤمِن، قالوا لك هناك البطولة، بطولة المُؤمِن العادي، مُؤمِن عادي مثل الجندي الجزائري الذي لم يسمح لنفسه أن يُطلِق النار على روجيه جارودي Roger Garaudy، قبل أن يُسلِم، وكانت هذه بداية تعرف جارودي Garaudy على الإسلام، الضابط الذي أعطاه الأمر قال له أطلِق عليه الرصاص، إن لم تفعل سنقتلك أنت، قال اقتلوني، أوه! ماذا تقول؟ ما هذا؟ قال لا أستطيع، ديني يمنعني، لا أستطيع – قال له الجندي – أن أقتل رجلاً في نظري بريء، لم يفعل شيئاً، لماذا أقتله؟ أسير هذا، أوه! جارودي Garaudy من تلك اللحظة – فيلسوف الماركسية الأعظم في فرنسا – تغيَّر، وهذا الجُندي البسيط كان من الإخوة الأمازيغ على ما أذكر، قال له لا، هذا المُسلِم الأمازيغي الصالح قرأ في كتاب الله – تبارك وتعالى – إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ۩، لا يُوجَد عند الله شيئ يقول إن المسئولية فقط على مَن؟ على هامان وعلى فرعون، والجندي عبد مأمور، لا يُوجَد عند الله هذا، لا يُوجَد عبد مأمور، يُوجَد عبد في النار، عبد في النار! عبد مأمور في النار، حين تُؤمَر بالباطل، بالقتل، وبالجريمة، وتأتمر، تُوضَع في النار، في الدين هذا ممنوع.

هذا دين إذن يُؤنسِن الإنسان، يُحافِظ على إنسانيتك، يفتح لها آفاقاً تمتد، تنمو، وتتخصَّب فيها، هذا الصحيح، علماً بأن هذا مفقود الآن في العالم المُتقدِّم، يقولون لك هذه أوروبا وأمريكا، لكن هذا مفقود عندهم، هذه الدراسات تقول هذا، بدليل ما حدث في (أبو غريب)، أي في سجن (أبو غريب)، تفضَّل سجن (أبو غريب) وانظر ماذا حدث فيه في ألفين وثلاثة وألفين وأربعة وألفين وخمسة، أي إن هذا قريب، ما الذي فُعِل هناك بالضحايا – لن نقول بالمُسلِمين أو بالعراقيين، سنقول بالضحايا، هؤلاء ضحايا، أسرى وضحايا -؟ طبعاً بعضهم قُتِل، كانوا أرقاماً، أرقام تدخل وأرقام تخرج، ولا أحد يسأل، قُتِل تحت التعذيب، وهذا مُعترَف به ومُوثَّق، غير فظاعات هؤلاء في فيتنام طبعاً ضد المساكين، قال لك هناك مجزرة ماي لاي My Lai، لكن هل مجزرة ماي لاي My Lai تُوجَد وحدها؟ ألف ماي لاي My Lai هناك، يبحثون عن الفيت كونغ Việt cộng، ولا يُوجَد فيت كونغ Việt cộng، أحد الموجودين صاح وقال الحيوان يهرب، وبدأ إطلاق النار وحرق البيوت واغتصاب الأطفال واغتصاب النساء، خمسمائة! قتلوا خمسمائة من المدنيين الوادعين المساكين في قراهم، ولا مُتمرِّد من الفيت كونغ Việt cộng كان موجوداً، ما هذا؟ وبعد ذلك أحد المسئوولين – هذا مُلازِم – بعد أن قتل مائة وخمسة وعشرين أخذ سنتين ونصف إقامة جبرية في منزله، ما شاء الله! عقوبة قاسية جداً، هذا العالم الحر، هذه الــ USA، هذه أمريكا، أمريكا! البشر لا زالوا حيوانات، لا زالوا وحوشاً، هم بشر فقط في الظرف العادي، في ظروف أُخرى يختلف الأمر، في لحظة واحدة يبدو أن الخط الفاصل بين الخير والشر، بين البشري والوحشي، وبين البشري والحيواني، أصبح خطاً واهناً ضعيفاً جداً جداً جداً جداً، يُتجاوَز في لحظة، في لحظة أصبح قاتلاً، لماذا إذن؟ لماذا؟ التربية فاسدة، المفاهيم فاسدة، هناك العنصرية، التعصب، والمصالح المادية أيضاً، كل هذا يُفسِد الإنسان، يُفسِد النُظم طبعاً – النُظم فاسدة، أهم شيئ النُظم – ومن ثم الإنسان يفسد.

لذلك نُريد أن نتحدَّث أيضاً بطريقة علمية، لمَن شاء أن يتوسَّع أنا أُشجِّع وأحث على قراءة الكتاب الأكثر من رائع لفيليب زيمباردو Philip Zimbardo، وهو طبعاً هذه شخصية أيقونية في علم الشر – كما قلت عدة مرات ربما اليوم -، لأنه صاحب تجربة سجن ستانفورد Stanford prison، جامعة ستانفورد Stanford university فيها السجن هذا والقصة أُجريت في سنة ألف وتسعمائة وإحدى وسبعين، وأيضاً مُثِّلت في فيلم، وهو The Experiment، أي التجربة، هذا اسمه، تجربة رائعة جداً جداً ومُخيفة، عُد إليها، وهو عنده موقع على النت Net وأشياء أُخرى، هذا أصبح كثيراً، عنده كتاب مُؤخَّراً اسمه ماذا؟ اسمه تأثير إبليس، أي The Lucifer Effect، لوسيفر Lucifer هذا في الأدبيات الــ Biblical أو الكتابية اسم إبليس عندهم، اسمه The Lucifer Effect: Understanding How Good People Turn Evil، قال لك اسمه تأثير إبليس: فهم – طبعاً هذه مُحاوَلة للفهم – كيف يُمكِن للناس الصالحين أن يتحوَّلوا إلى أشرار، كتاب في أكثر من ستمائة صفحة، رائع جداً هذا الكتاب، وإن كان طبعاً من ستة عشر فصلاً، وأول عشرة فصول عن تجربة سجن ستانفورد Stanford prison experiment، جميل! تكلَّم بدقة شديدة مُتناهية عن كل التفاصيل، لكن على كل حال مُهِم أن يُقرأ هذا الكتاب، أي تأثير إبليس، لماذا قال تأثير إبليس – أي الــ Effect الخاص بإبليس -؟ لأن إبليس كان ملكاً، هم يُسمونه الملك الهابط، نحن عندنا هو من الجن، مع أن بعض علمائنا كالإمام النووي قال الجن طائفة من الملائكة، الإمام النووي في تهذيب الأسماء واللُغات قال هذا، أي هذا وارد، أتى بطائفة من الملائكة اسمها الجن، وإبليس كان منها، على كل حال هذا رأي نعرفه، فقال لك هذا كان ملاكاً، وكان طاووساً في الملائكة، وكان شديد العبادة، كثير العبادة والقُرب من الله، في لحظة مُعيَّنة انقلب حاله، وتحوَّل إلى إبليس اللعين، قوة الشر الأكبر في هذا الوجود، هل هذا واضح؟

قال لك تأثير إبليس هذا يُمكِن أن ينقلب عليك، ينطبق عليك وعلىّ وعليها وعلى أي واحد، يُمكِن أن يكون أي واحد فينا على هذا النحو، اليوم يعظ بالخير، بالسلام، بالمحبة، بالأُخوة، بالإنسانية، وبكذا، وغداً يتحوَّل إلى أكبر مُجرِم، مُجرِم! مُجرِم حقيقي، ضد الإنسانية، مُمكِن – قال لك – هذا، هذا اسمه تأثير إبليس، كيف يا زيمباردو Zimbardo؟ قال لك هذا هو، هذه دراستي، أنا من أربعين أو خمسين سنة في هذا الحقل، درست وقابلت ألوف الناس وعملنا دراسات، قال هذا شيئ مُخيف، لكن هذا هو، هو هكذا، يبدو أن الإنسان هكذا.

مرة أُخرى تذكَّر – كما قلت لك – أن الحديث عن الإيمان الحقيقي، ليس إيمان الرياء، ليس إيمان المُجتمَع، ليس إيمان الجاكيت Jacket والتظاهر أمام الناس، الإيمان الحقيقي الذي فيه استثمار مع رب العزة – لا إله إلا هو -، تمتين الصلة، تمتين العلاقة بالله ليل نهار وباستمرار، أنا أقول لك هو الضمانة رقم واحد ضد أن يحصل هذا معك، ما رأيك؟ ولو حصل مع مُعظَم مَن حولك لن يحصل – بإذن الله تعالى – معك، الإيمان الحقيقي! ولأن هذا يحصل كثيراً مع مُعظَم الناس فهذه دلالة واضحة أن إيمان مُعظَم الناس إيمان كلام فارغ، إيمان مُجتمَع، إيمان عنوان، يرتدونه هكذا، يرتدون الإيمان في الخارج هكذا، فقط! ليس إيماناً حقيقياً، الإيمان الحقيقي لا يسمح بهذا.

خُبيب بن عدي محبوس هناك عند كفّار مكة لذبحه، يطلب المسكين سكيناً ليحتد بها قبل أن يُذبَح، وتُعطيه المرأة هذه السكين، يأتي طفل صغير وهو ابنهم إليه، فيُلاعِبه، يُداعِبه، ويأخذه في حجره، تدخل المرأة فيُسقَط في يدها، يا ويلتاه! يستطيع خُبيب الآن وهو في أصفاده وفي أغلاله أن يُمرِّر هذه السكين – أي الموسى – مرة واحدة على رقبة الطفل وينتقم منهم قبل أن يذبحوه، وهكذا امتُقِع لونها واصفر لونها، لكنه قال لها لا، لست أنا، قال أتظنين أنني أفعل هذا؟ يأبى علىّ – قال لها – الله، الإسلام يأبى علىّ هذا، هذا غير مُمكِن، لا يُمكِن! أعرف أنكم كفّار، أنتم ضد الله وضد الرسول وضد التوحيد، وسوف تذبحونني – وذبحوه فعلاً -، ولكن – قال لها – هذا لا يُمكِن أن يحملني على أن أرتكب جريمة في حق طفل بريء، لم يقل لها مثلما قال الخوارج المُجرِمين بعد ذلك، قال أحدهم إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ۩، هذا فاجر كافر وابن فجرة ومن ثم سنذبحه، العب بالدين! العب كما يحلو لك، أوِّل على قد هواك أنت، أوِّل على قد هواك واذبح، ثم خل هذا ينفعك عند الله، واللقاء قريب، الموعد الله – لا إله إلا هو -، خُبيب بن عدي لم يفعل، قال مُستحيل، لست أنا الذي يفعل هذا، لست أنا!

بالمُناسَبة نحن في الحالة العادية وفي الظرف العادي حين نُبدي عن استجابات عادية كلنا يقول لست أنا الذي يفعل هذا، لست من ذلك النوع، لست من تلك الفئة، مسكين أنت، لا تكن واثقاً جداً، صدِّقني! لا تكن واثقاً جداً، واختبر نفسك في أشياء أُخرى أقل من الذبح والقتل والاغتصاب، كيف تنهار؟ وكيف تفشل؟ وكيف يخذلك إيمانك؟ المُشكِلة عندك إذن، ليست في الإيمان، المُشكِلة في نُسختك الخاصة من الإيمان، نُسخة فاشلة عاجزة، عليك أن تُمتِّن وتُحسِّن نُسختك من الإيمان مع الله – تبارك وتعالى -، لكي يكون عندك عصمة حقيقية ومحفوظية حقيقية – بإذن الله تبارك وتعالى -.

فالبروفيسور Professor زيمباردو Zimbardo قال لك نعم، هذا مُنزلَق، مُنحدِر هكذا، خُطوات مُعيَّنة، يُمكِن أن يُزيَّت، خُطوات! الخُطوة الأولى تبدأ بماذا كما قال لك؟ بالاجتراء على أول خُطوة، وهي خُطوة بسيطة وسهلة، كما يُسميها هو خُطوة الخمسة عشر فولتاً Volt، أرأيت؟ تقول لا يهم هذا، نوع من التجاوز، نوع من كذا، لن أسأل، ويفعلها الإنسان في حالة من الغفلة وعدم المُساءلة، لا يسأل نفسه هل فعلاً هذا يجوز؟ هل هذا مضمون؟ هل هذا كذا وكذا أم أنه عبث بحياة الناس وبأمن الناس وبكذا وكذا؟ لا، يقول انتهى، هيا أفعل هذا، وهذا كان الشيئ الأول.

الشيئ الثاني هو نزع إنسانية البشر، بعض العرب يُحِبون أن يُترجِموها بحيونة الإنسان، أي Dehumanization of others، حيونة! نزع إنسانية الآخرين، كيف يتم نزع إنسانية الآخرين؟ طبعاً يكفي أن تقول هؤلاء الصراصير، الكلاب، الخنازير، الكفرة، الحقراء، المُجرِمون، هؤلاء ليسوا بشراً، وهؤلاء كذا وكذا، أنت تنزع إنسانيتهم فقط بهذه الكلمات أو بعض هذه الكلمات أو بكلمة منها، لكن هل تعرف أنك تُسهِّل على نفسك وعلى مَن حولك تسعة أعشار الطريق لذبحهم؟ ما رأيك في هذا؟ هذا خطر جداً، ولذلك انظر إلى الآتي، وهو يحصل في الغرب والشرق، ولا يزال يحصل هنا في الغرب المُتقدِّم الأوروبي والأمريكي، طبعاً هذا في الشرق عندنا – ما شاء الله – بوفرة، نحن غارقون بصراحة، لا نُريد أن نُبرئ حالنا، نحن غارقون في حيونة الآخرين، وليس في حيونة الآخر غير المُسلِم، وإنما في حيونة الآخر المُسلِم ابن البلد الذي هو على مذهب مُختلِف، طبعاً! لذلك نحن عندنا استعداد غير نهائي للذبح والقتل والحرق، لكننا نحتاج إلى القوة، ونحتاج إلى الفُرصة، فقط حين نكون عجزة نكون مُحترَمين، أرأيت؟ لكن في الغرب هذا لا يزال يحصل إلى اليوم، وخاصة بصراحة (في حق المُسلِمين) أيضاً، بصراحة! يُحاوِلون أن يُفهِموا الناس هنا – خاصة وسائل الإعلام – أن تقريباً كل مُسلِم بعنوان إسلامه هو ماذا؟ إرهابي مُحتمَل، أي Potential terrorist، هو إرهابي مُحتمَل! لا يا أخي، كيف؟ ولماذا؟ ولصالح مَن هذا؟ تتم حيونة المُسلِمين بهذه الطريقة، يتم نزع إنسانية المُسلِمين عنهم، وهناك تجارب أُخرى – كما قلت لك أكثر من مرة – يسكتون عنها، قام بها البوليس الدولي الأوروبي، أي اليوروبول Europol، قال لك هناك شيئ غريب، اتضح عندنا أن أقل أُناس ارتكبوا جرائم في الفترة من كذا إلى كذا – أقل أُناس على الإطلاق – وأقل أُناس حتى هموا وخطَّطوا للجرائم هم المُسلِمون، أي أكثر الناس السلاميين هم المُسلِمون، لماذا لا يُقال هذا في الإعلام عنا؟ لا، لا يُقال، لكن يُتهَم المُسلِمون حين يحدث هنا تفجير وحين يحدث هنا كذا وكذا، والله أعلم مَن وراء كل هذا ومَن الذي يُيسِّر له ومَن الذي يُسهِّل له ومَن الذي يفتح له الخطوط، انتبه! بصراحة هذا هو، وفي كل مرة – ما شاء الله – تُوجَد جوازات سفر كما هي سليمة ونظيفة حتى لو احترق المكان بمَن فيه، يقولون إنها محفوظة، الجاني هو مُسلِم وهو عربي، مرة تونسي ومرة مغربي ومرة سوري ومرة كذا، ما شاء الله! هذا ذكاء شديد، ونحن نُردِّد كالمُصابين بالهبل، نقول نعم، وطبعاً هذا حصل، وتقوم القيامة، هذا حيونة للمُسلِمين، تماماً كما حيون اليهود قبل الهولوكوست Holocaust، تمت حيونتهم، تم نزع إنسانيتهم وبالتالي حرقهم بعد ذلك، لا يجوز! لا يجوز هذا.

أنا الآن سأُشير لكم إلى تجربة مُهِمة جداً، يُمكِن أن تعودوا إليها في كتاب زيمباردو Zimbardo هذا، وهو تأثير لوسيفر Lucifer أو تأثير إبليس – The Lucifer Effect -، تقريباً في صفحة مائتين وخمس وتسعين، قرأتها هناك، وهي مُهِمة جداً، زميل له في ستانفورد Stanford اسمه البروفيسور Professor ألبرت باندورا Albert Bandura – اسمه Bandura وليس Pandora، يُكتَب هكذا وبهذه الــ B، اسمه ألبرت باندورا Albert Bandura – قام (بالتجربة الوحيدة التي أُجريت على حيونة البشر)، انتبهوا أيضاً إلى هذا، قام (بالتجربة الوحيدة التي أُجريت على حيونة البشر)، فلماذا هي وحيدة؟ لماذا؟ لأنها تُؤلِم، هذه التجارب تُؤلِم، ستكشف أن عندهم الكثير من هذا، طبعاً هذا موجود، مثل التفرقة العنصرية ضد السود وضد الهيسبانيك Hispanic وضد كذا، موجود هذا، موجود وهو كثير، لم يبرأوا من هذا، لم يبرأوا منه للأسف الشديد، ففي التجربة الجميلة هذه – أنا سأُلخِّصها أيضاً بسرعة، في ثلاث أو أربع جُمل – ماذا فعل باندورا Bandura؟

البروفيسور Professor باندورا Bandura باختصار أتى بمجموعة طلّاب جامعيين، ينتمون إلى جامعة مُعيَّنة، وقال لهم نحن سنُجري تجربة على طلّاب جامعيين ينتمون إلى جامعة أُخرى تتعلَّق بكذا وكذا، جيد! ويُوجَد نفس الشيئ، يُوجَد صعق كهربائي مُدرَّج من واحد إلى عشرة، تزداد الصعقة والــ Shock الكهربائي في كل مرة، والآن هناك ثلاثة مُتغيِّرات تجريبية، المُتغيِّر الأول يقتضي أن يدخل مُجري التجربة هذا ويُلقي بكلمة، ويسمعه مَن؟ المُتطوِّعون، طلّاب الجامعة الأولى، الذين عندهم صلاحية الضغط، العبارة هذه فيها حيونة للآخرين، يقول لرئيسه هناك وهم يسمعون إنهم يظهرون لي كحيوانات، الطلّاب الآخرون هؤلاء كالحيوانات، ويُمكِن أن تُستبدَل هذه العبارة بكلمة ثانية أيضاً، هؤلاء حقراء، أشكالهم كالمُجرِمين و(السرسرية)، فقط هكذا، وتخيَّلوا ما الذي سيحدث الآن.

في المُتغيِّر الثاني يحدث العكس، يُؤنسِنهم، يقول والله بصراحة الطلّاب هؤلاء واضح أنهم طيبون جداً ووادعون، سُبحان الله! حتى الذكاء يلتمع في أعينهم، وفي المُتغيِّر الثالث يكون Neutral، أي يكون مُحايداً، فقط يقول نحن مُستعِدون لإجراء التجربة سيدي، فهل نبدأ؟ فقط! وسوف ترون النتيجة، النتيجة صاعقة، فعلاً تجربة وحيدة لكنها صاعقة وذات دلالة كبيرة.

حين أنسنوهم وصلت كمية الصعق في بعض المرات إلى المُستوى الأدنى، هكذا تلقائياً فقط، وهؤلاء طلّاب جامعة، تخيَّلوا! إذا طالب جامعة فعل هذا، فكيف لو تعلَّق الأمر بفلاح معه فأس، وهو جاهل لا يعرف الألف من كوز الذرة، لكنه يسمع كلمات مثل هؤلاء الكفّار، الزنادقة، أعداء الإسلام، أعداء الله ورسوله، وأولاد الكذا والكذا؟ سوف يذبح الدنيا هذا وهو فرحان جذلان، ثم سوف يقوم ويُصلي عليهم، كما صلى بنو العباس على جُثث بني أُمية وهم فرحانون في بيت الله في دمشق، لكن هؤلاء طلّاب جامعة، تلقوا تعليماً جامعياً أكاديمياً، وحين كانت هناك حيادية لم يحدث هذا، كانوا وسطاً، الصعق كان مُتوسِّطاً، ولما تم نزع إنسانية هؤلاء المساكين وصل الصعق إلى أعلى درجاته، فوق! في القمة، فقط سمعوا كلمة يبدون لي كحيوانات و(سرسرية)، أولاد كذا وكذا، فضاع هؤلاء المساكين، وهم من طلّاب الجامعة، هذا هو الإنسان!

لذلك الجريمة تتم أيضاً عبر ماذا؟ وتهيئة الإنسان ليكون مُجرِماً تكون عبر ماذا – كما قلنا -؟ عبر نزع إنسانية الضحية، إنسانية الآخرين، أي الــ Others، وهذا كان الشيئ الثاني، أما الشيئ الثالث فهو نزع فردية الفاعل، نزع فردية الفاعل يُسمونها Deindividuation، نزع فردية الفاعل! كيف ينزعون فرديتك؟ أولاً لا يُعطونك اسماً، يُعطونك رقماً، يا مُجنَّد رقم كذا، الجُندي رقم كذا، الكتيبة كذا رقم كذا، أرقام! أنا لست رقماً، أنا إنسان، فلان ابن فلان، أنا مَن علَّمني أبي كذا ومَن علَّمتني أمي كذا، لا! هذا كله انتهى، لم يعد موجوداً، أنت رقم.

وأكثر من هذا أنهم يُغطون وجهك، هناك تجربة أيضاً مُهِمة أيضاً عن نزع فردية البشر قام بها علماء أذكياء، هما عالمان في الحقيقة وهما ذكيان جداً، دخلا على قاعدة بيانات – قاعدة بيانات أنثروبولوجية طبعاً – تتعلَّق بثلاث وعشرين ثقافة حول العالم، قاعدة بيانات تتعلَّق بثلاث وعشرين ثقافة! وباختصار بحثا عن هذا العامل، هل هذه الثقافات حين يذهب أبناؤها إلى الحرب – المُجنَّدون في القتال – يُغطون وجوههم؟ أنت ترى في بعض الوثائقيات مَن يضعون وجوهاً لحيوانات وأشياء ومَن يضعون مادة بيضاء أو مادة سوداء، وهناك ثقافات لا تفعل هذا، علماً بأن أكثر الثقافات تفعل، وقد تقول لي ماذا عن الثقافة الحديثة الآن في العالم الغربي والشرقي؟ تفعل، هناك الــ Uniforms، أي الأزياء المُوحَّدة التي يتم لبسها، خاصة مع الخوذة، تعال وانظر إليهم في أي مكان، من الصعب جداً أن تُميِّز جُندياً عن جُندي، كلهم مثل بعضهم أيضاً، ولذلك أيضاً في القوانين الغربية والشرقية ممنوع حين تضع الحرب أوزارها وتنقضي مُهِمتك أن تبقى مُرتدياً للزي الرسمي، وهناك تبرير سيكولوجي، فلماذا هذا ممنوع؟ أنا جندي وكنت أُقاتِل! قال لك لا يا حبيبي، نُريدك أن تعود إنساناً سوياً مُسالِماً، نعرف أن هذا سيجعلك قاتلاً وسيجعلك مُجرِماً، حين تلبس هكذا تصير مُجرِماً، كما قال أحد العلماء، قال مُجرَّد أن تحمل مُسدَّساً أو بندقية – قال صدِّقني – سيتغيَّر كل شيئ فيك، الله أكبر! قال ستغدو بعد ذلك تنظر إلى العالم كله من فوهة بندقية، فوهة بندقية! مثلما قال أبراهام ماسلو Abraham Maslow الذي عنده وسيلة واحدة فقط يُعالِج بها الأمور وهي الشاكوش أو الهامر Hammer سينظر إلى كل شيئ على أنه مسمار، تقول سأُعطيه على رأسه، لأن عندك الهامر Hammer، وهذا عنده وسيلة البندقية، فقط من ثقب البندقية ينظر إلى كل شيئ في العالم، عنده هذا يُمثِّل الحل السريع، لذا تسمع كل يوم والثاني عن جُندي إيطالي أو جُندي أمريكي قتل زوجته وقتل أولاده بالرصاص، وربما قتل نفسه بعد ذلك، لأنه ليس عنده إلا إطلاق النيران، حتى زوجته يُمكِن أن يُطلِق النيران عليها، هذا الذي عنده!

فوجد هذان العالمان أن تسعين في المائة من الثقافات التي تحمل أبناءها على أن يُقنِّعوا وجوههم بأقنعة أو بألوان قبل أن يذهبوا إلى الحرب – أي تسعين في المائة من هذه الثقافات التي تُغيِّر شكلها – يرتكبون القتل، التشويه، والتعذيب، أبشع شيئ – والعياذ بالله -، تسعون في المائة يفعلون هذا، وأما الثقافات التي لا تفعل – يذهب الإنسان باسمه وبشكله، كما هو، هكذا يكون بارزاً – فشأنها مُختلِف، هل تعرف كم نسبة الذين يقتلون ويُشوِّهون ويُعذِّبون فيها؟ نسبتهم تصل إلى سبع ونصف في المائة فقط، تصل إلى سبع ونصف بإزاء كم؟ تسعين في المائة، سوف تقول لي يا ويلتاه، فهل لو أنا – مثلاً – غطيت وجهي هكذا سأفعل مثلهم؟ نعم، يُمكِن أن ترتكب فظاعات، يُمكِن أن تتركب جرائم، نعم بمُجرَّد أن نُغطي وجهك، وهذا يعني أن هذه القضية ليست في قلبي، وهذا يعني أنني لست إنساناً لأنني إنسان في قلبي، لست إنساناً لأنني إنسان في دماغي وقناعاتي، أنا إنسان كذّاب، لأن المُجتمَع يُريد مني أن أكون إنساناً، لكن لو المُجتمَع أراد العكس سيختلف وضعي، وأنت تعرف مهرجانات وكرنفالات التعمية والتغطية وما الذي يتم فيها من جنس مشاعي وأشياء فظيعة، لأن الوجوه مُغطاة، لا أحد يرى أحداً، لكن السؤال الآن هو هل المُؤمِن – مرة أُخرى – الذي عنده علاقة حقيقية بالله ويعلم بأن الله يرى يفعل هذا؟

قال أحدهم لوهيب بن الورد عظني يا وهيب، يا ولي الله، فقال اتق أن يكون الله أهون ناظر إليك، اتق أن تكون ذلك الرجل، أن تجعل الله أهون ناظر إليك، حين يراني المُجتمَع أكون – ما شاء الله – أحسن شخص، حين لا يراني المُجتمَع ويراني الله أكون أسوأ شخص، نقول لهذا الشخص ليس لك علاقة بالإيمان، انس هذا، انس أنك مُؤمِن، كذّاب! هذا البعيد مُؤمِن كذّاب، المُؤمِن الحقيقي لا تُحدِث معه هذه الأمور فرقاً، ولذلك المُؤمِن الحقيقي ليس عندي أي فرق بين أن يعيش هنا في فيينا بين أهل فيينا وبين أهل الحي الخاص به وبين أهل دينه وبين أن يركب طائرة ويذهب إلى أقصى جزيرة في العالم، الله معه باستمرار، لا فرق عنده، لن يشرب خمراً، لن يُدير بناتاً ولا نساءً، ولن يفعل أي شيئ، كما هو! جميل ورهيب ومُحترَم باستمرار، لأن علاقته مع مَن؟ مع الله، وهذا الذي حين تُنزَع روحه وتُنزَع نفسه سيكون الله معه بالأُنس وبالإيناس وبالطمأنينة وبالبُشرى – بإذن الله تعالى -، وحين يُبعَث غداً الله سيكون أيضاً معه خُطوة بخُطوة، يُؤمِّنه من الفزع الأكبر، لأنه دائماً كان مع الله، أليس كذلك؟

مرة أُخرى نُحاوِل أن نفهم القضايا هذه، لكي نُعيد مفهمة ومُساءلة مفهوم الإيمان، كيف نفهم الإيمان؟ وكيف نُمارِس الإيمان؟ ولكي أيضاً نُؤكِّد مرة أُخرى على أنه لا يجوز أن نُربي أبناءنا وبناتنا على الخوف وقمع الشخصية والنفاق والرياء الاجتماعي، كأن تُؤكِّد على ابنتك موضوع الحجاب، وتقول هي لابد أن تتحجَّب وأن تضع شيئاً على رأسها، لكي يرى الناس أن بنت فلان مُحجَّبة، في حين أنها لا تُصلي في البيت صلاة واحدة، ما شاء الله عليك وعلى ابنتك وعلى حجاب ابنتك، ما شاء الله على النفاق وعلى الكذب، أنت هكذا كأنك تقول لها يا بُنيتي ضعي هذه الخرقة وافعلي ما شئتِ بعد ذلك، لكن لا تأتي لي بالعار، افعلي هذا في الخفاء، هكذا أنت تُربيها، هي ستفهم هكذا، في حين لو أنك أفهمتها غير ذلك وقلت لها يا بُنيتي لا تفعلي إلا ما أنتِ مُقتنِعة به وما أنتِ مُؤمِنة به بصدق ولا عليكِ من الناس سوف تُصبِح شخصية قوية، شخصية مُناضِلة، مُناضِلة بإيمانها، بقيمها، وبأخلاقها، وكذلك ابنك، وكذلك الحال مع ابنك، نُريد أن نُغيِّر، نُريد أن نُؤشكِل، ونُريد أن نُمفهِم ونُعيد مُساءلة كل هذه المسائل من أول وجديد.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.

إخواني وأخواتي:

فيما يُحكى أن الإمام الرفاعي – رحمة الله تعالى عليه – حين كان طفلاً صغيراً أمره شيخه مع مجموعة من زملائه بأن يأخذ كل منهم فرخة أو دجاجة صغيرة وأن يذبحها حيث لا يراه أحد، فهُرِعوا جميعاً، وعادوا بدجاجاتهم مذبوحة، إلا الولد الصغير أو الشيخ الذي كان لا يزال طفلاً صغيراً، أي الإمام أحمد الرفاعي، عاد وهو يبكي، قال يا سيدي لم أستطع، قال لماذا يا بُني وقد ذهبوا واختبأوا وراء تلك الحوائط وما إلى ذلك؟ قال أعرف أن الله يراني أينما ذهبت، أُريد أن أختبئ لكن هو يراني، فلم أستطع، وأنت قلت حيث لا يراك أحد، فبكى الشيخ، قال له هو هذا، هو هذا الولد، وكان هذا الولد هو القطب الرفاعي بعد ذلك، انظر إلى هذا، تربى مُذ كان صغيراً هذه التربية، تعلَّم أن الله يراه، أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۩، عنده هذا!

أحدهم أيضاً علَّم ابن أخته وهو سهل بن عبد الله التستري أن يقول كل ليلة بضع عشرة مرة الله معي، الله ناظر إلىّ، الله رقيب علىّ، كرِّر هذا، كرِّر هذا لكي تستشعر رقابة الله، لكي تستشعر هذا الحضور الإلهي الدائم، نحن هنا نُحاوِل أن نُقدِّم مُساهَمة بسيطة، بسيطة جداً جداً، ليست مُعقَّدة وايست مُتفلسِفة، بسيطة جداً، تُنقِذ الإنسان، ليس المُسلِم فقط، تُنقِذ الإنسان بما هو إنسان، وهذه المُساهَمة لا يُمكِن أن يُقدِّمها إلا الإيمان بالله، قد تقول لي هناك المُجتمَع، قد تقول لي هناك القانون، قد تقول لي هناك القيم، قد تقول لي هناك الأعراف، وقد تقول لي هناك السائد، لكن واضح من التجارب هذه ومن علم نفس الشر أن كل هذا يبطل مفعوله إذا تغيَّر ماذا؟ الظرف، هذا يُسمونه الشر الظرفي، أي الــ Situational evil، من Situation، الشر الظرفي!

العجيب أن البروفيسور Professor زيمباردو Zimbardo قال لك الشر الظرفي أعظم تأثيراً وأبعد فاعليةً أو أقوى فاعليةً من الشر النزوعي، أقوى! وشرحت لك النزوعي في أول الخُطبة، لكن الشر الظرفي أقوى للأسف الشديد، أي يبدو أن شر مُعظَم الأشرار هو شر ماذا؟ شر ظرفي، بمعنى آخر أن مُعظَم هؤلاء الأشرار من القتلة، المُجرِمين، السفّاحين، المُغتصِبين، وغيرهم، مُعظَمهم في الحالات العادية بشر عاديون وقد يكونون ماذا؟ بشراً صالحياً، هم يُسمون هذا الشخص – كما يقولون – المواطن الصالح، علماً بأن هذا كثير عندهم، أي الــ Good citizen، ما علاقتي بالمُواطِن الصالح؟ أنا أُريد المُؤمِن الصالح بصراحة، لأن حتى هذا المفهوم الخطير، يقولون لك المواطن الصالح، مثلما قال فولتير Voltaire، قال كل رجل عاقل – Reasonable man، أي رجل عاقل كما يُقال، كل رجل عاقل، وكل امرأة عاقلة طبعاً – هو وغد مُحتمَل بقدر ما هو مواطن صالح مُحتمَل، أي Potential good citizen، ما علاقتي بالمُواطِن الصالح أنا؟ هل تعرف لماذا؟ المواطنية الصالحة هذه تفعل بمحدودية، في حدود ماذا؟ وطني، وهذا الذي يحدث بالمُناسَبة، في حدود وطني أنا أُضحي بالنفس والنفيس وأنا أعمل كذا وكذا وأنا بطل، في حدود أُخرى أنا أذبح وأقتل وأغتصب وألعن كذا، لأن هؤلاء آخرون، وهذا غير صحيح، موجود عندنا مفهوم المُؤمِن الصالح، والمُؤمِن إلهه هذا يشتغل في العراق فقط أو في سوريا فقط أو في تركيا فقط أو في ماليزيا فقط أم أن إلهه – لا إله إلا هو – دائم الرقابة؟ هو معك حتى لو ذهبت إلى المريخ، الله معنا حتى لو غداً سكنا المريخ وقد نسكنه، وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ۩، اذهب إلى المريخ أو اذهب إلى أي كوكب تُريد أو اذهب إلى آخر المجرة، هذا كون الله، كله في قبضة الله، وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۩، هذا مفهوم جبّار ومفهوم إنساني، مفهوم ماذا؟ المُؤمِن الصالح.

المُؤمِن الصالح يشتغل، ينشط، ويعمل بصلاح، في بلده وفي غير بلده، في بلاد حتى أعدائه، في بلاد الناس جميعاً، أليس كذلك؟ هذا المُؤمِن الصالح، ليس المُواطِن الصالح، فكل ما يجعل المُواطِن مُواطِناً صالحاً جُرِّب ودُرِس – ها هو علم نفس الشر – ووضح أنه يكف عن التأثير في لحظة تغير الموقف، تغير الظروف، وتغير الحالة، يكف! ويظهر لنا مستر هايد Mr. Hyde، وأنتم تعرفون طبعاً ما ألَّفه ستيفنسون Stevenson، هناك دكتور جيكل Dr. Jekyll ومستر هايد Mr. Hyde، دكتور جيكل Dr. Jekyll في النهار يكون طبيباً مُمتازاً، يخدم الناس، وفي الليل بفضل هذه المادة الكيمياوية الملعونة التي يتعاطاها يتحوَّل إلى رجل قاتل، مُجرِم خطير، شيطان رجيم، وشخص ظلامي، أليس كذلك؟ ويبدو أن البشر أكثرهم هكذا، الواحد منهم هو دكتور جيكل Dr. Jekyll في بلده وفي الشروط العادية، وهو مستر هايد Mr. Hyde إذا تغيَّرت الشروط والظروف، الشر الظرفي! وهذا لا ينبغي، يبدو أن مُعادَلة الإيمان تكسر هذه الحقائق وتُزيِّفها، فيبرز لك المُؤمِن الذي يأبى إلا أن يكون صالحاً في كل الظروف.

أختم فقط بما حدَّثني به أحدهم، لأن هذا لم أقرأه بنفسي، لكن حدَّثني به أخ مصري فاضل، وهو عالم في التاريخ، وقد أنجز دراسات عُليا في التاريخ هنا، أي هنا في جامعة فيينا، قال لي يا أخي أنا اطلعت بنفسي على مخطوطات في المكتبة الوطنية ووجدت شيئاً يرفع الرأس، فقلت له مثل ماذا؟ قال لي مكتوب عندهم هم – هذا مكتوب عندهم هم، هناك مُذكّرات من ذلك العهد – الآتي عن القوات العثمانية، (وطبعاً هذا لا يعني أن القوات العثمانية – ما شاء الله – مثالية، هذا غير صحيح، لكن – انتبهوا – هذا جانب مُضيء وفصل مُضيء من تاريخ الجُندية الإسلامية، ونُريد أن نذكره أيضاً، أليس كذلك؟ العدوان على الناس وإرادة التوسع وما إلى ذلك نحن نشجبها، لا يُوجَد عندنا كلام غير هذا، نحن نتناغم مع أنفسنا، لكن الله يُحِب العدل والإنصاف في كل شيئ أيضاً، اذكر السيئات واذكر الحسنات)، قال لي مكتوب هنا في المصادر النمساوية يا عجباً لهؤلاء الجنود العثمانية، أتوا لكي يُقاتِلونا ويذبحونا ونذبحهم ولكن كانوا إذا مروا على أي بُستان عنب أو تفاح أو كذا وأخذوا منه – يأكلون لأنهم جوعى هم، لا يستبيحون أموال المغزوين، لا يستبيحونها أبداً، قالوا لك هذا شيئ وهذا شيئ آخر، ليس لنا علاقة بهذا – علَّقوا بدل قطف العنب – مثلاً – الذي أخذوه عثمنليات ذهبية، وكانوا يتركون أحياناً قصصات ورقية تُفيد بأن هذا لقاء ما أخذنا من ثمراتكم فسامحونا، شيئ يقشعر له البدن، عجيب! أيفعل هذا جُندي؟ طبعاً أنت تُفضِّل أن تلتقي بأي شخص إلا أن تلتقي بماذا؟ بجُندي آخر في حال معركة، تخيَّل هذا الجُندي – ما شاء الله – وهو في معركة، يستبيحك، يستبيح كل شيئ فيك، أهلك وأطفالك وحياتك، هو يستبيح حياتك، ألا يستبيح عنبك وتفاحك؟ هذا شيئ مُرعِب، هذا هو الإنسان، أي أن تلتقي بذئب أفضل لك من أن تلتقي به، كما قال الشاعر الأول:

عَوى الذِئبُ فَاِستَأنَستُ بِالذِئبِ إِذا عَوى               وَصَوَّتَ إِنسانٌ فَكِدتُ أَطيرُ.

أي من الخوف، ما هذا؟ لأنه قال شر الإنسان أقوى من شر الذئب مائة مرة، قال الذئب أئنتس حين أسمع صوته، أعرف كيف أطرده، وعلى الأقل بعوائه أعرف كيف أُحاذِر منه وآخذ بالحيلة، لكن حين أسمع صوت ما يُسمى بالإنسان هذا – قال – ينخلع قلبي، فكيف لو كان هذا الإنسان جُندياً من أمة أُخرى ويأتي ليستبيحك؟!

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً وفقهاً ورشداً، اهدِنا لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي مَن تشاء إلى صراط مُستقيم.

اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المُنكَرات، وحُب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم الكريم ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرَّجته، ولا كرباً إلا نفَّسته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا غائباً إلا رددته، ولا أسيراً إلا أطلقته، ولا مديناً إلا قضيت عنه دينه وأذهبت همه وغمه، برحمتك وفضلك ومنّك إلهنا ومولانا رب العالمين.

اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اجزهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات مغفرةً ورضواناً، واغفر اللهم للمُسلِمين والمُسلِمات، المُؤمِنين والمُؤمِنات، الأحياء منهم والأموات، بفضلك ورحمتك، إنك سميعٌ قريبٌ مُجيبُ الدعوات.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، وأقِم الصلاة.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (9/3/2018)

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: