أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ۩ أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ۩ وَضَرَبَ لَنَا مَثَلا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ۩ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ۩ الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ۩ أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ ۩ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ۩ فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

الحمد لله رب العالمين، وصل اللهم وسلم وبارك على سيد المُرسَلين سيدنا محمد بن عبد الله النبي الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ۩، اللهم تقبَّل منا صلاتنا وصيامنا وقيامنا وركوعنا وسجودنا ودعاءنا، واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا وبالسعادة آجالنا، وبلِّغنا مما يُرضيك آمالنا، واكفنا ما أهمنا من أمر دُنيانا وأمر أُخرانا، علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا علماً. اللهم آمين

أما بعد، أيها الإخوة الأفاضل والأخوات:

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، حديثنا اليوم – إن شاء الله تعالى – سيكون عن الربوبية، معنى ربوبية الله سُبحانه وتعالى!

نتلو أيها الإخوة فيما نتلو كل يوم بضع عشرة مرة في صلواتنا فرائضها أو مفروضاتها ومسنوناتها الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، أُضيف هذا الإسلام الجليل – أي الرب – إلى العالمين، وأُضيف إلى السماوات والأرض، فهو رب السماوات ورب الأرض أيضاً، وأُضيف إلى العرش، فهو رب العرش الكريم والعرش العظيم، وأُضيف إلى الأنبياء، فهو رب موسى وهارون ورب محمد عليه الصلاة وأفضل السلام، هو رب الأنبياء جميعاً كما ورد في آيات كثيرة، وأُضيف إلى كل شيئ، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۩، وهذا أعم الألفاظ، أعم الألفاظ لفظ شيئ، لا يُوجَد لفظ أعم من هذا اللفظ، حتى أن أكثر العلماء قالوا الله – سُبحانه وتعالى – يدخل فيه، الله يُسمى شيئاً لكن لا كالأشياء، لقوله – تبارك وتعالى – قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ ۩، إذن دخل فيه، قُلِ اللَّهُ ۩، واحتج بها سيوبيه رحمة الله تعالى عليه، لكن هو لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ۩ ولا هو مثل شيئ، فكل شيئ عدا الله – سُبحانه وتعالى – مربوب لله، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۩.

أما أنه – سُبحانه وتعالى – رب العالَمين فالعالَمون جمع عالَم بالفتح، على وزن فاعل مثل طابَع وخاتَم، الطابَع ما يُطبَع به الشيئ، والخاتَم ما يُختَم به الشيئ، والعالَم ما يُعلَم به الشيئ، ما هو هذا الشيئ المعلوم؟ الله، لأن هذا العالَم علامة على مُوجِده، لا إله إلا هو! وَكَأَيِّن مِّنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ ۩، كل آيات السماوات وكل آيات الأراضين نصبها الله – سُبحانه وتعالى – علائم وأدلة إليه وعليه، لا إله إلا هو! كما قال أبو العتاهية في بيته المشهور:

وفِي كلِّ شيءٍ لَهُ آية ٌ                          تَدُلّ على أنّهُ الواحِدُ.

في كل شيئ! وهذا معنى العالَم، ولكنه ليس عالَماً واحداً، وإنما هي عالَمون – جمع عالَم عالَمون – لا يعلم عددها إلا الله تبارك وتعالى، وما ورد في ذلك من آثار لا تُعقَد عليها الخناصر ولا يُعوَّل عليها، لا يعدد عدد العالَمين إلا الله تبارك وتعالى، عوالم كثيرة جداً جداً آفاقية وأنفسية وحية وجمادة وعوالم العجماوات وعوالم مشهودة وعوالم مُغيَّبة وعوالم أُخبِرنا عنها وعوالم لم نُخبَر عنها أصلاً، عوالم كثيرة! كما قال النبي – عليه الصلاة وأفضل السلام – أُذِنَ لي أن أُحدِّث عن ملك أن بين شحمة أُذنه – ومعنى أُذِنَ لي أن هناك أشياء أُخبِر بها ولم يُؤذَن له أن يُحدِّثنا عنها ولا يعتمد عليها نظام الدين، ليس من الضروري أن نعلمها، وربما عقولنا لا تُطيقها، وربما تأدت بنا إلى الإنكار، نُجدِّف ونتزندق ونُنكِر، كيف؟ هذا غير معقول نقول، أشياء فوق العقل، أشياء كبيرة جداً ومهولة – وعاتقه مسيرة سبعمائة عام، شيئ مُخيف! ما هذا الملك؟ وفي حديث آخر أن لله ملكاً – ملكاً من الأملاك المخلوقة لله تبارك وتعالى – لو أمره – سُبحانه وتعالى – أن يبتلع السماوات والأرض في لُقمة لفعل، تسبيحه سُبحانك حيث كنت، رواه الطبراني والأول رواه أبو داود، يستطيع هذا الملك أن يلتقم السماوات السبع والأراضين السبع بلُقمة واحدة، ملك! لا إله إلا الله، أين يعيش هذا الملك؟ طبعاً لا في السماوات ولا في الأرض، في شيئ آخر، في عوالم أُخرى غير عوالم السماوات وغير عوالم الأرض، لأن السماوات والأرض بالنسبة إليه لُقمة بين أسنانه، إذن أين يعيش؟ إذن هناك عوالم أُخرى، رَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، كل هذه العوالم هي مربوبة لله تبارك وتعالى.

ولذلك لا أرى أنه من الصحيح أن يُفسَّر العالَمون هنا في هذه الآيات وأمثالها بعالَمي الإنس والجن كالذي رُويَ عن ابن عباس ولا أظنه يصح عن أصلاً، بل تُروى عنه رواية أُخرى أنه فسَّر العالَمين بالخلق جميعاً، وهذا هو الأشبه، هذا الأشبه بالحق والأشبه بالصحيح، الله يقول الْعَالَمِينَ ۩، ولذلك لما سأل فرعون – لعنة الله عليه – موسى ماذا قال؟ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ۩ قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ ۩، كل هذا الخلق بإنسه وجنه وملائكته وعجماواته وما نعلم وما لا نعلم هو من العالَمين، فلماذا يُخَص بالإنس والجن فقط؟ وبعضهم قال الإنس والجن والملائكة، أي خصه بماذا؟ خصه بمَن يعقل، غير ظاهر هذا! الآية لا تقول هذا، لماذا؟ لأنه رب كل شيئ يعقل أو لا يعقل، هو يقول وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۩، لماذا تخصه على أنه رب ما يعقل فقط في هذه الآية “آية العالَمين”؟ لا، العالَمون كل الأشياء المخلوقة لله – تبارك وتعالى – فهو ربها، لا إله إلا هو.

أيها الإخوة والأخوات:

أقرب اسم من أسماء الله – سُبحانه وتعالى – للعبد هو هذا الاسم: الرب، وهذا شيئ عجيب، أبعد مسافة معنى بين مفهومين أو بين لفظين أو بين مُصطلَحين هي بين العبد والرب، كم بين الربوبية والعبودية! ما لا يعلمه إلا الله، ما بين العبد والرب، وأين التراب من رب الأرباب؟! وأين العبد من الرب؟! فمسافة المعنى بين العبد والرب أو بين العبودية والربوبية أوسع مسافة معنى، لكن أقرب الأسماء إلى العبد أي اسم؟ الرب، غريب! لماذا؟ على قدر المربوبية من جهتك وعنوانها الفقر المُطلَق والاحتياج الكُلي والضعف التام والربوبية من جهته وعنوانها الغنى المُطلَق والقدرة الكُلية والعلم الكُلي – إلى آخر هذه الصفات وهي مُقتضيات الربوبية – كان الرب أقرب شيئ إلى العبد، لأجل ما في معنى الربوبية وما في معنى المربوبية نعم كان الرب أقرب شيئ إلى العبد، فنحن ماذا؟ نحن رشح جوده، وجودنا من رشح عطائه وكرمه، لا إله إلا هو! هو الذي أوجدنا بــ كُن فَيَكُونُ ۩، وهذا أولاً.

ثانياً بقاؤنا واستمدادنا من معين فضله وعطائه، لا إله إلا هو! نحتاجه في كل طرفة عين، ولذلك أيها الإخوة لو تأملتم آيات كتاب الله العزيز ماذا تجدون؟ تجدون أن أكثر اسم من أسماء الله يتكرَّر في موارد الإعلان بالفاقة والاحتياج والاستمداد هو اسم الرب، أي في الدعاء، اقرأوا آيات الدعاء، دعاء الأنبياء ودعاء الصالحين والصدّيقين ودعاء الناس أجمعين كله ماذا؟ ربنا، ربي، ربنا، ربنا، كل آيات الدعاء تقريباً! حتى لو صُدِّرت باللهم تتلوها الربوبية، قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا ۩، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ۩، قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ۩، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۩، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا ۩، لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ۩، رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ۩، رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ ۩، رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ ۩، ربي… ربي… ربي… ربي… دائماً! هذا لسان العبودية، لاهج بماذا؟ بالربوبية لله – تبارك وتعالى – والمربوبية تحت سُلطانه وقهره وتصرّفه، فما معنى الرب إذن؟ ما معنى الرب؟

لذلك أيها الإخوة لأن هذا الاسم المُعظَّم الجليل – اسم الرب – أكثر ما يُدعى به بعض العارفين قال إنه هو اسم الله الأعظم، أي الرب! وقد روى أبو بكر البزّار عن أمنا عائشة – رضوان الله تعالى عليهم أجمعين – أنها قالت قال رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إن العبد إذا دعا فقال يا رب يا رب يا رب يا رب – أربع مرار، في أحاديث أُخرى ثلاث مرار، كما عن عطاء وابن عباس وغيرهما، المُهِم هنا أربع مرار، في حديث البزّار عن عائشة مرفوعاً أربع مرات، يا رب يا رب يا رب يا رب، أربع مرات – قال الله – تعالى – لبيك عبدي سل تُعطى، مُباشَرةً! وفي حديث الطبراني حين جاءه – عليه الصلاة وأفضل السلام – قومٌ وشكوا إليه قحوط المطر قال لهم – عليه الصلاة وأفضل السلام – اجثوا على ركُبكم – جثياً على الركب هكذا – وارفعوا أيديكم وأشيروا إلى السماء بالسبابة وقولوا يا رب يا رب تُمطَروا، هذا هو! عبد أنت، بقدر ما فيك من ضعف وذلة لابد أن تعترف له بالربوبية، لا إله إلا هو! ولذلك هو أقرب الأسماء إليك، سُبحان الله! أقرب الأسماء على بُعد ما بين المعنيين، شيئ غريب، شيئ غريب جداً! ففعلوا هكذا، جثوا على رُكبهم ورفعوا السبابة إلى السماء ودعوا فأُمطِروا حتى دعوا الله أن يُكشَف عنهم المطر، مطر شديد جداً كاد يُغرِقهم، أطاف بهم فدعوا بالله أن يُكشَف عنهم، هكذا! قل يا رب، لكن لابد قبل أن تقول يا رب أن تعرف ما معنى الرب، ما معنى الرب؟ لابد أن تستحضر المعنى، هذه المُشكِلة يا أخواني، نحن ندعو ونتكلَّم دون أن نعقل ماذا نقول، أشياء تحفَّظناها مُنذ الصغر، أشياء تحفَّظناها! يا الله، يا رب، يا عزيز، يا كريم، وأحياناً نتحفَّظ هذه الأشياء مسجوعةً، وقد ورد عن كثير من الصالحين والعلماء أن الله لا يُحِب الدعاء الملحون هذا، الدعاء الذي يكون كله مثل الشعر، الله لا يُحِب هذا، ادع بما يفتح الله عليك، لا تُحاوِل أن تحفظ حفظاً وأن تنظم قصيدة شعر بين يدي الله، هكذا فسَّر بعضهم معنى العدوان، أي العدوان في الدعاء، لأن الله قال إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ۩، أي في الدعاء، من الاعتداء أن تلحن في الدعاء، تبدأ تتفصحن وتتنمق، ما هذا؟ أنت فقير أو شاعر؟ إذا كانت فقيراً مُحتاجاً فلا تأت بهذا الشعر بين يدي الله عز وجل، لذلك كان من دعاء الصالحين أحياناً اللهم اجعلنا لك صالحين، اللهم اجعلنا لك طيبين، اللهم اجعلنا لك جيدين، هكذا يدعون! أرأيتم؟ أي كويسين، يا رب اجعلنا كويسين، يا رب اجعلنا طيبين، تخيَّلوا! بهذه البساطة لكنه يخرج من قلوبهم، ليس شعراً، ليست قصائد أشعار وبيان في المنابر، لا! اللهم اجعلنا لك صالحين، اللهم اجعلنا لك طيبين، اللهم اجعلنا لك جيدين.

حدَّثني أحد إخواني الهنود وهو رجل – إن شاء الله – أحسبه من الناس الطيبين عن أحد أولياء الله المشاهير لديهم هناك في القارة الهندية، قال معروف، قال ولي من كبار أولياء الله وكرامته معروفة للناس هناك، وهو رجل – ما شاء الله – عليه سيماء الصالحين وسلوكه هو سلوك الصالحين، قال في ليلة القدر – يبدو أنها كانت ليلة القدر – كان يأوم بنا، يُصلي! قال والرجل أخذته رعدة شديدة جداً وبكاء، وأُرتِج عليه، قال فعرفنا أنها ليلة القدر، لأن في بعض الآثار والأخبار طبعاً أن من علائم ليلة القدر أن جبريل – عليه السلام – ينزل، فيمسح بطرف جناحه قلوب المُؤمِنين، مَن فتح الله عليهم وأكرمهم بشهود ليلة القدر، فإذا مسح جبريل بجناحه قلب المُؤمِن المُكرَم – بإذن الله – أخذته الرعدة وسالت وهملت عيناه، فهذا الشيخ كان يُصلي في المحراب وهكذا أخذته رعدة شديدة وجعل يبكي، فبعضهم – هؤلاء مساكين وأنتم تعرفون الحرص – في الصلاة قال يا شيخ ادع لنا، يا شيخ ادع لنا، قال نقول له هكذا! قال فكأنه انتبه، فقال يا مولانا لا تنسنا، يا مولانا لا تنسنا، قال كانت هذه دعوته، وهذا شيئ طيب جداً! لم يحفظ كتاباً أو مُجلَّداً من الدعاء حفظاً ولم يُلق قصيدة شعر بين يدي الله، لا! لأنك مُحتاج فقير ادع بما يُخطِره الله في قلبك، ادع بحاجتك كما هي، هكذا بكل بساطة!

النبي – عليه السلام – قال سلوا الله حتى الملح، فإن الله يُحِب أن يُسأل، قل له يا رب ليس في بيتي ملح، أعطني يا رب، يا رب أنا مُحتاج كذا، أعطني يا رب، وهكذا! مِمَن تطلب؟ أتطلب مني؟ أتطلب منهم؟ أتطلب منها؟ اطلب من الله، أنت مُحتاج إلى الله في كل صغير وكبير، في كل حقير وجليل، حتى الملح! حتى شسع النعل إذا انقطع، اسأل الله أن يجبر مُصابك هذا، اسأل الله! هكذا تعلَّم الربوبية، فما معنى الربّ؟ وما معنى الربُوبية؟

الربّ يا إخواني وأخواتي في الأصل مصدر، الربّ في الأصل لم يكن اسماً، الربّ في الأصل هو مصدر، بعد ذلك نُقِل إلى اسم الفاعل، في الأصل هو مصدر، والفعل ربَّ، ربَّ فلانٌ بعيره، ربَّ فلانٌ ولده، ربَّ يربُّ ربّاً، هذا يعني أن الربّ – ربَّ يربُّ ربّاً، قتل يقتل قتلاً – مصدر، نعم مصدر! الربّ مصدر، بمعنى ماذا؟ التربِية، ومعناه مثل ربَّاه يُربِّيه تربِيةً، بعضهم يقول تربِّيةً، لماذا؟ هل أنت تقول سمَّاه يُسمِّيه تسمِّيةً أو تسمِيةً؟ تسمِية، تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ۩ الله قال، لماذا هذا التفصحن عن غير علم؟ لا! نقول تربِية، ربَّاه يُربِّيه تربِيةً، قالوا لأن هناك شدة، يأتون بلُغة من عندهم، يظنون أن اللُغة تسمح بهذا، ربَّاه يُربِّيه تربِيةً، سمَّى يُسمّي تسمِيةً وليس تسمِّيةً، تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ۩! فربَّ يربُّ ربّاً، وربَّاه يُربِّيه تربِيةً، وربَّبه يُربِّبه تربِيباً، إذن لدينا ثلاثة مصادر: الربّ، التربِية، والتربِيب. من أفعال مُختلِفة والمعنى في النهاية واحد، المعنى واحد! ما هو معنى الربّ؟ 

طبعاً نُقِل هذا المصدر إلى اسم الفاعل، فصرنا نستخدم الربّ لا على أنه مصدر وإنما على أنه اسم فاعل، فنقول يا ربنا، اللهم هو الربّ، رَبِّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبِّ الْاَرَضينَ ۩، رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ۩، ما معنى أنه ربّ؟ أي مُربٍّ، أي اسم فاعل إذن، مُربٍّ اسم فاعل، فنُقِل من المصدرية إلى اسم الفاعل، فصرنا نستخدمه بمعنى اسم الفاعل، ومعنى هذه المصادر الثلاثة – الربّ، التربِية، والتربِيب – هو التنشئة بتدرج أو تدريج طوراً فطوراً ومرحلةً فمرحلةً، وهذا جوهر التربية، ولو تأملنا نجد أن الله – تبارك وتعالى – هو أعظم رب، ولذلك لا يُطلَق هذا الاسم بالمُطلَق من غير إضافة إلا على مَن؟ إلا على الله، إذا نقول هكذا الرب فمَن هو الرب؟ الله، في غير إضافة أو من غير إضافة – كما قلنا – لله، لكن بالإضافة يُصبِح مُشترَكاً بين الله وبين خلقه، نقول فلان رب المنزل، فلان رب الدار، فلان رب الإبل، وفلان رب السيّارة، بالإضافة! لكن الرب هكذا هو الله.

روى الإمام مُسلِم في صحيحه كان – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول اللهم إني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الرب وحدك لا شريك لك، هكذا النبي كان يَشهد ويُشهِد الله على هذا المعنى وعلى هذا المُعتقَد، أنك أنت الله لا إله إلا أنت الرب وحدك لا شريك لك، الرب وحدك! اللهم إني أشهد أن محمداً عبدك ورسولك، اللهم إني أشهد أن العباد كلهم إخوة، رواه مُسلِم وعلى ما أذكر أيضاً أبو داود في سُننه، فالرب هكذا من غير إضافة لله تبارك وتعالى، ويُضاف – كما قلنا – للسماوات والأراضين والعرش الكريم والعرش العظيم وللأنبياء وللبلد – رب البلد، إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَٰذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ ۩ – وللكعبة – رب الكعبة سُبحانه وتعالى – طبعاً، وهو رب الناس، وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ ۩، وهو رب العالمين، فما من شيئ إلا وهو مربوب لله سُبحانه وتعالى.

هو الرب على الحقيقة لا بالمجاز، كل رب غيره بالإضافة أيضاً هو رب مجازي، إلا الله هو رب على الحقيقة، لماذا؟ مَن الذي خلق؟ الله تبارك وتعالى، قال – عز من قائل – إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي – مَن هو؟ – خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ – مخلوقة لله كلها – وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ۩، الله! آية عظيمة هذه، من سورة الأعراف، هي الآية الرابعة والخمسون من سورة الأعراف، هذه يتلوها الذاكرون كل مساء، لماذا؟ لأنها حفظٌ من الشياطين والعفاريت والمردة، آية مُخيفة، ثقيلة جداً جداً هذه، الذي يتلوها معنى ربوبية الله للكون كله بما ومَن فيه، فكيف يكون للشياطين عليه سبيل وإليه طريق؟ لا يُوجَد! فهذه يتلوها الذاكرون كل ليلة كما تعلمون، وهي مكتوبة في كل كُتب الأذكار، مُهِمة جداً وهي أيضاً من الآيات التي تُتلى في أُذن الذي مسه الشيطان، نأتي نستعيذ ونقول بسم الله وما إلى ذلك ثم نقول إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ۩، ترتعد الشياطين منها طبعاً، آية الربوبية! هذا الكون لا يستطيع أن يلعب فيه كل أحد الدور الذي يُريد، لا يُمكِن! إلا ما أذن الله به وسمح به وشاءه سُبحانه وتعالى، فهذا معنى الرب.

كل شيئ مربوب بمعنى مخلوق، هذا أولاً، كل شيئ مربوب بمعنى مخلوق لله ومُكوَّن لله، ثانياً هو يحتاج إلى الله – تبارك وتعالى – في إعداده وتهيئته وفي حشوه بالاستعدادت والقابليات، الله هو الذي يجعله كذلك، يحتاج إلى الله في العنو به ومُتابَعته وحفظه في سائر الأحوال والأزمان لكي يبقى ويدوم في الفترة التي ضرب الله له أو إلى الغاية التي ضرب الله – سُبحانه وتعالى – له، يحتاج إلى هذا، فهو أيضاً مربوب!

كل دوائر ربوبيات غير الله المجازية – كما قلنا – هي محصورة جداً جداً، أي دوائر نفوذ، دائرة نفوذ الأستاذ والشيخ والمُعلِّم في التعليم فقط، أي أنه يُربيك فقط بهذا اللحاظ، لحاظ ماذا؟ تنمية القوى العقلية والمدارك النفسانية، فقط هذه هي دائرة نفوذه! مثلاً المُوظَّف أو المسؤول عنك نفوذه في دائرة التوظيف فقط والرقابة في الوظيفة وإعطاء المعاش الذي هو رزق الله تبارك وتعالى – لا يرزقك هو – فقط، حتى السجّان نفوذه في دائرة المُراقَبة والتعذيب والنكال، دائرة محدودة جداً جداً، لكن أين الدائرة المُطلَقة في الربوبية في كل شيئ؟ لله تبارك وتعالى، في كل شيئ! تحتاج إليه في كل صغيرة وكبيرة!

يُربيك – عز وجل – بالنعم كما يُربيك بالنقم طبعاً، إذا عملت يا مُسلِم يا عبد الله ذنباً وخالفت عن أمره وشعرت بالنكد والضيق والكآبة والحصر فهذه علامة خير – إن شاء الله – وأمارة خير، لماذا؟ هذه العلامة إشارة إلى أنه تاب عليك، فيُريد أن يحملك على التوبة، عُد! تطهَّر من هذا الذنب وعُد إلىّ، قال وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ ضاقت عليهم نفوسهم، ضاقت عليهم جلودهم، أي كرب وكنظ، يُسميه العرب الكنظ، كنظ وكرب وشدة وبؤس وشقاء ونكد واكتئاب – وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ۩، ما معنى ذلك؟ هو لم يقل ثم تابوا فتابوا عليه، لم يقل هذا! قال ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۩، عجيب! هل هو تاب علىّ لكي يُلجئني إلى التوبة؟ نعم، كيف ألجأني إلى التوبة؟ قال إن تابوا إلىّ فأنا حبيبهم، وإن لم يتوبوا إلىّ فأنا طبيبهم، أبتليهم بالمصائب لأُطهِّرهم من الذنوب والمعايب، يُلجئك إليه إلجاءً، طبعاً يُمكِن أن تكون هناك مُصيبة أكثر من هذا، أكثر من الكنظ والكرب، ماذا؟ ينقص مالك، ينقص ولدك، ينقص رزقك، يقنص عقلك حتى، تنقص قوتك وصحتك، فتُضطَر أن تعود إليه.

أحياناً بعض الناس لا يعود إلى الله إلا بمُصيبة يُصابها في ماله أو في ولده أو في صحته، أليس كذلك؟ لا يعود إلا بهذا، وهذا الخير أيضاً، لو تلمَّح الباطن يعلم أن هذا خير، لأن الله يُريد أن يجذبه إليه، لم تأت بالحُسنى فتأتي بالعقاب إذن، تأتي بالشدة! تاب عليك لكي تتب، يُسلَّط عليك الكنظ والحصر والضيق، إذا لم تستجب فهناك أشياء أُخرى، لكن إذا تركك هكذا فاحتقبت الذنوب واقترفت الآثام غير مُتورِّع ولا مُكترِث، ولم تشعر بشعور هكذا استثنائي من الضيق والحصر وكأنه عادي فهذه – والعياذ بالله – علامة أنه أسقط من نظر عنايته ووكلك إلى نفسك، مثلما يفعل بالكُفّار، قال لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ ۩، تراهم – ما شاء الله – وهم يذهبون ويجيئون، فُسح ورحلات وما إلى ذلك وهم مبسوطون، لا تُوجَد مشاكل، وهم كُفّار! قال مَتَاعٌ قَلِيلٌ ۩، وقلنا ما معنى مَتَاعٌ قَلِيلٌ ۩ في الدرس السابق، هذه ليست حياة طيبة، في النهاية لو فتشَّتها أيضاً هي حياة بائسة، لكن ظاهرها أنها مُتعة، مُتعة حيوانية – انتبه – كما حقَّقناها في درس سابق، مُتعة حيوانية هذه، مُتعة ظاهرية جُسمانية فقط! قال مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ – والعياذ بالله – وَبِئْسَ الْمِهَادُ ۩، قال لَا يَغُرَّنَّكَ ۩، لا تغتر! فإياك أن تكون من أمثال هؤلاء، انتبه! إذا عندك ذنوب والأمور تسير جيداً فخف على نفسك، أنت مُستدرَج، ممكور بك، أسقطك من نظره، لا إله إلا هو! لكن المُؤمِن الذي يُحِبه الله – تبارك وتعالى – يُعاقِبه ويعتب عليه بأمثال هذه الأساليب، بالنكاد، بالضيق، بمُشكِلة مع زوجته، بمُشكِلة مع أبنائه، بمُشكِلة في العمل، بمُشكِلة في الدراسة أو في الصحة أو في المال، في أي شيئ! فيعود إلى الله، ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۩، لأنه طبيبهم، الأوائل هو حبيبهم، أما هؤلاء فهو أيضاً طبيبهم، يُريد أن يُداويهم.

روى الإمام الديلمي في مُسنَد الفردوس – رحمة الله تعالى عليه – قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – يقول الله – تبارك وتعالى – إذا أردت بعبدي خيراً وأردت أن أقبضه إلى رحمتي ابتليته بكل سيئة عملها مُصيبةً في بدنه أو ماله أو ولده أو إقتاراً في رزقه حتى أبلغ منه مثاقيل الذر، حساب عسير! لأنه – عز وجل – يُحِبك، يقول لك لا، قبل أن تموت نُريد أن نُصفي الحساب، لكي تكون صافٍ، كل شيئ فعلته سوف نأخذه منك في الدنيا الآن، مُصيبة في الأولاد أو في الزوجة أو في المال أو في الأهل أو في الصحة أو في السُمعة، في أي شيئ! مصائب تترى على الإنسان، وطبعاً الذي يتلمَّح المعنى الحقيقي الباطني وعنده عبرة وعنده فكرة يفهم، ويستكين ويضرع، قال لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ۩، فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ۩، لكن المُؤمِن يتضرَّع، مُباشَرةً يفهم، يفهم الرسالة التي أُلقيت إليه، يفهم ويعود ويتوب إلى الله تبارك وتعالى، قال حتى أبلغ منه مثاقيل الذر، حتى إذا بقيَ عليه شيئ – لا يزال هناك شيئ، احتقب ذنوباً كثيرة هذا – شدَّدت عليه سكرات الموت، حتى يقدم علىّ – وفي رواية يُفضي إلىّ – كيوم ولدته أمه، يا سلام! رحمة – والله – أيضاً، الله أكبر! فهل حتى هذه المصائب والعقوبات أيضاً رحمة؟ نعم رحمة، محض رحمة من الرحمن الرحيم، الشيئ المخوف والمُخيف أنك تفعل ما تفعل وحبلك على غاربك ولا تشعر بأي حساب، بأي نقاش في الحساب! متروك هكذا، هذا شيئ مُخيف جداً جداً، بعض الغافلين يفرح بهذا، يقول الحمد لله، نحن – والله – لسنا على عبادة فلان، بالعكس! نُقصِّر حتى ولا نُصلي كل الصلوات وأحياناً نُفطِر في رمضان، لكن – الحمد لله – نحن – ما شاء الله – موفورون في أرزاقنا وأولادنا، يفرح لأنه موفور ما شاء الله، أنت مثل الكُفّار يا مسكين! لا تفرح، هذه علامة السوء والعياذ بالله، من أسوأ ما يكون هذا! هذا شيئ مُخيف.

ولذلك النبي – عليه السلام – جاءته امرأة – تعرفون هذا الحديث وهو حديث مشهور – تعرض ابنتها عليه، وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۩، يجوز له! فقالت له ها هي ابنتي يا رسول الله، أُريد أن تتزوَّجها، وهبتها لك! فالنبي نظر إليها – صوَّب نظره فيه – ثم سألها عن هذه البنت بعض السؤال، فأجابته ثم قالت يا رسول الله هي ابنتي ولها عندي كذا وكذا سنة، لم تُحَم ولم يُصِبها أذى، ما شاء الله! لم تمرض في مرة، لا إنفلونزا – Grippe – ولا زكام ولا حُمى، قال لا حاجة لي بها، خُذيها وتوكّلي على الله، لا أُريدها، ما دام الأمر كذلك فلا، لماذا إذن؟ طبعاً نحن الآن – ما شاء الله علينا – بعقلنا المادي نفرح، نقول والله – ما شاء الله – مُمتازة، جيناتها جيدة هذه، جيناتها مُمتازة! وأولادي سوف يكونون مُمتازين وطيبين، ما هذا؟ هذه المُسلِمة عاشت عشرين سنة ولم تر المرض، هذا يعني أن الله لا يُريد بهذه الخير، أكيد عندها ذنوب، ليست نبية هذه، أليس كذلك؟ أين إذن هذه؟ كيف حسب الله هذه؟ هذه ليست علامة خير، ليست علامة خير! وتجدها أحياناً في بعض الكُفّار، تجد كافراً يقول عمري وصل إلى السبعين ولم أعرف المرض، قال أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ۩، والله لا يُوجَد ما هو أحلى من المرض للمُؤمِن، أليس كذلك؟ لا يُوجَد ما هو أحلى من المرض على قلبه، يُصفيه تصفيةً، سُبحان الله! حتى الروح تشف وترق، لا إله إلا الله! أليس كذلك؟ المرض والجوع والتعب وأحياناً الذل لله طبعاً والمسكنة، مثلاً الجوع! جرِّب أن تملأ المعدة هذه ثم تعال صل واخشع، والله لا تخشع، هذه يمين! والله لا تخشع ولا تقدر على أن تخشع، أليس كذلك؟ كيف تخشع وبطنك مليئة وأنت تتجشأ كثيراً؟ عبأت معدتك بالكوكاكولا Coca-Cola والبيبسي Pepsi وتتجشأ ثم تُريد أن تخشع، تخشع ماذا؟ مُستحيل! يذهب الخشوع جُملة واحدة، الله قال هذا، أين قاله؟ قال كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى ۩ أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى ۩، أنت شبعان وسوف تطغى، لن تأتي إليك الواردات الإلهية، لكن الأمر يختلف حين تملأ نصف المعدة – سُبحان الله – وتشعر أنك فقير – مثل الفقراء – جائع وتشتهي الشيئ، تُحِب أن تأكل وأن تشرب، لكنك تُوفِّر هذا من أجل قيام الليل والقرآن وتشعر بمعانٍ لطيفة، سُبحان الله! تدمع العين، يرق القلب، تشعر بأنك فقير فعلاً، وتقول مثلما قال موسى رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ ۩، محتاج يا ربي النعمة هذه فعلاً ومحتاج إلى كذا وكذا، وفعلاً لولا أنه أنعم علينا ما استطعنا أن نُشبِع بطوننا ولا نكسي عاري أبداننا وهكذا! ثم تأتيك معانٍ طيبة جداً جداً، لكن هذا لا يحدث حين تلبس وتأكل وتشرب كثيراً، مُستحيل! كيف؟ من أين يأتي إليك الخشوع؟

هناك مَن يذهب لكي يعتمر ثم ينزل في فندق خمس نجوم ويدفع أربعة آلاف ريال في الليلة، أي خشوع؟ وأي عُمرة يا أخي؟ أين هذا يا عبد الله؟ إلى أين أنت ذاهب؟ اذهب إلى مونت كارلو Monte Carlo أحسن لك أو إلى لاس فيغاس Las Vegas، يذهب لكي يعتمر فيدفع أربعة آلاف أو خمسة آلاف والشعب الفلسطيني والعراقي والشيشاني والأفغاني لا يجدون ما يأكلونه.

اليوم – والله – جاءنا اتصال هاتفي – والله العظيم – من أرض فلسطين مُبكٍ، أبكاني والله العظيم! قالت أُختي – شقيقتي – والله يا أخي هناك حوارٍ كاملة فيها أناس نعرفهم، لا يجد أحد فيهم ما يئتدم به، الخُبز الحافي لا يجدونه، لا شيئ عندهم، قالت فنصنع لهم نحن ونُشاطِرهم رزقنا، نعمل سندويشات Sandwiches ونبعث لهم في رمضان، شيئ مُحزِن! والمُسلِمون – ما شاء الله – في ترف وفي نعيم، لا يسأل بعضهم في بعض، ما هذا؟ وهناك مَن يذهب يعتمر ويدفع في الليلة خمسة آلاف أو عشرة آلاف لكي ينزل في أحسن مكان يُطِل على الحرم، الحرم منك بريء ومن هذا الجهل بالدين، هذا جهل! هذا جهل بالدين، يا أخي تواضع كما تواضع محمد عليه السلام، كان يقول إنما أنا عبد، أجلس كما يجلس العبد، وآكل كما يأكل العبد، تحقَّق بالعبودية لله، دع عنك هذه النفخة الفارغة، والدنيا كلها سوف تذهب، مَتَاعٌ قَلِيلٌ ۩!

النبي ذات مرة رأى فاطمة عليها السلام – ابنته فاطمة، أبوها مَن؟ زوجها مَن؟ ابنها مَن؟ مَن الذي رباها؟ عليها السلام، هذه فاطمة – وهي ترتدي عقداً جاء به الإمام عليّ من الغنائم، ارتدت عقداً! فالنبي غضب، لا يُريد هذا، لماذا العقد هذا؟ قال لها، أحببته يا أبتِ، فقال له يا فاطمة أتُحِبين أن تكوني يوم القيامة مِمَن يُقال لهم أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا ۩؟ فبكت ونزعته، تصدَّقت به مُباشَرةً، لا نُريد هذه المظاهر وهذا الترف الفارغ، لا! اعمل للآخرة دائماً، تلمَّح دائماً الأُخرى.

هذا إذن – أيها الإخوة والأخوات – معنى الرب وهذا معنى التربية، نحتاج إليه في كل صغير وكبير، بعض الناس يذل ويستعطف ويتطامن ويتخشَّع وينكسر أمام مَن؟ أمام بوّاب في وزارة، لأنه بوّاب الوزير، هذا وزير الداخلية، مُهِم هذا! الشرطة والاستخبارات والأمن وما إلى ذلك، هذا الوزير وهذا بوّابه، فيذل له، لأن هذا مُتنفِّذ قليلاً ويقدر على أن يفعل أشياء، فكيف بالوزير؟ يذل أكثر، إذا كانت هناك إمكانية لكي تذل للملك – ملك البلاد الذي يُهيمن على شرقها وغربها وعلى كل مُقدَّراتها – فهذا أحسن وأقصر للطريق طبعاً، فكيف حين تذل لرب العالَمين؟ رب الملك والوزير والبوّاب والغفير والأمير والكبير والصغير! ذل لله، توكَّل عليه وحده، فهو يُحسِبك، قال فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩، يا الله! لأنه الرب هو، كل شيئ في يديه، ماذا أُريد من الناس؟ أنا أتوكَّل عليه.

لذلك يُروى عن سيدنا أبي بكر الصدّيق – قدَّس الله سره – أنه قال ما ندمت على شيئ فاتني من الدنيا قط، لم أندم على أي شيئ، لا أهتم بكل هذا! لماذا؟ قال لأن حسبي الله، الله حسبي قال، عنده كل شيئ، فلماذا أندم؟ الذي يذهب والذي يأتي سيان عندي كله، سيان قال، أي مثل بعضه، سيان! لأن حسبي الله قال، لأن حسبي الله! وهكذا.

الآن تخيَّلوا هذا المثال البسيط أيها الإخوة والأخوات، طفل صغير يهرب من فأر أو من جُرذ أو من طفل عنيف شقي – مثلاً – وغير مُؤدَّب أو من كلب يُريد أن يعضه، يعدو هذا الطفل حتى إذا ما رأى أباه – وهو أبضاي الحارة كما يُقال وفتوة، شاب قوي ما شاء الله، أبوه شاب قوي مفتول العضلات – ألقى مُباشَرةً بنفسه بين يديه وفي حضنه، فإذا فعل شعر بماذا؟ بالأمان والطمأنينة والدفء، انتهى! لم يعد يخاف لا من كلب ولا من عرسة ولا من صغير ولا من أي أحد، فلماذا لا نستسلم مثل هذا الاستسلام لرب العالمين؟ نُلقي بأنفسنا بين يديه – تبارك وتعالى – بالكامل، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۩، ما معنى أَسْلِمْ ۩؟ هل تعني قل لا إله إلا الله؟ لا طبعاً، كلنا نقولها! أَسْلِمْ ۩ تعني سلِّم نفسك بالكامل لله، هكذا من غير أن يكون لك أي خيار، أَسْلِمْ ۩ نفسك في مُراده، لا إله إلا هو! إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ ۩، هذا الخليل طبعاً! وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا ۩، الخليل يعني الذي تخللت محبته مسالك الروح والنفس، هذا هو! الخليل شيئ عجيب، هذه أكثر من المحبة بكثير، إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۩، هذا إبراهيم! تسليم كامل، حين رأى الأمر بذبح ابنك أخذ السكين وذهب لكي يذبح ابنه، في النار جاءه جبريل فقال له لا، أما إليك فلا، أما إليه فعلمي بحاله يُغنيني عن سؤالي، ولا حتى من جبريل! قال له مَن أنت؟ جبريل مَن هذا؟ وجبريل هذا عنده خمسمائة جناح، أي لو أنه ضرب الأرض بجناح لدمَّرها كلها بمَن فيها، الأرض! الكرة الأرضية، جاءه جبريل وقال ألك حاجة؟  فقال له منك أنت لا، يا الله! ما هذا؟ إبراهيم هذا، شيخ الأنبياء وأبو الأنبياء، صلوات الله عليه وتسليماته عليه، قال له أما إليك فلا، وأما إليه فعلمه بحالي يُغنيني عن سؤالي، هو يعرف ويرى وأنا سلَّمت نفسي له، ما يُريده يفعله بي، قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ ۩.

يقول أحد الصحابة رأينا أعرابياً ذات يوم ورأينا من أمره العجب، فالأعرابي جاء على ناقة فارهة، ناقة – ما شاء الله – سمينة وعظيمة، فلم يعقلها بباب المسجد بل تركها مُرسَلة، قديماً كان يُوجَد السرّاقون وما إلى ذلك، هل يُمكِن لإنسان أن يترك ناقته الفارهة هكذا؟ لكن هو تركها ودخل لكي يُصلي، قالوا وجعل يُحسِّن صلاته، ما شاء الله يُصلي صلاة طويلة خشوعة من أعجب ما يكون! قال فتعجَّبنا، الآن يُوجَد عجبان، العجب الأول كيف ترك الناقة الفارهة مُرسَلة؟ وبعد ذلك جاء لكي يُصلي – ما شاء الله – بهذا الخشوع كله، ألا يهمك شيئ؟ لا يهمه شيئ، لماذا؟ هو أتى لكي يُطيع مَن الآن؟ رب العالمين، انتهى! هو يُؤدي أمانة الله وعلى الله أن يُؤدي أمانته، هذا هو! فظل يُصلي – قال – وبعد أن انتهى وختم عقَّب الصلاة، نحن نُسلِّم ونقوم نجري، ما هذا يا أخي؟ نُسلِّم ونُمسِك الموبايل Mobile مُباشَرةً، خرَّب الله بيت هذه العبادة الجديدة، هذه عبادة الموبايل Mobile! كأنه أصبح عبادة، شيئ جنوني، أنا حدثت لي عُقدة بسبب الموبايل Mobile هذا بصراحة، بسبب بعض الناس – وخاصة الذين حولي – الذين دائماً ما يتكلَّمون فيه، ما هذا يا أخي؟ بعد أن يُصلي يُخرِج الموبايل Mobile مُباشَرةً، ما هذا؟ هل هو رجل أعمال Businessman مُهِم إلى هذه الدرجة؟ لا نعرف! تبرَّعوا لكي نُنشيئ مركزاً إذا كنتم إلى هذه الدرجة Businessmen، فالمُهِم ماذا قال النبي عليه السلام؟ قال الصلاة مثنى مثنى، ثم تشهد – أي تتشهد – في ركعة ركعتين وتخضع وتخشع وتمسكن – أي تتمسكن – وترفع يديك إلى السماء هكذا بهما إلى وجهك، يا رب يا رب، النبي قال هكذا الذل والخضوع، فمَن لا يفعل فهي خداج، إذا لم تفعل هذا فصلاتك ناقصة، مثل الطفل الخديج قال، قال النبي هكذا هي الصلاة، حين تقوم تُصلي في الليل – صلاة قيام الليل – صل ركعتين ركعتين، تتشهد في رأس كل ركعتين، وبعد ذلك تخشع وتخضع وتتمسكن، اخضع فعلاً، أشعر نفسك المربوبية والعبودية، بعد ذلك حاول أن تستحضر كل حاجاتك، والله كلك حاجة، والله العظيم! 

والفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتٍ لاَزِمٌ أبَداً                  كَمَا أَنَّ الغِنى أَبداً وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي.

الشاعر يقول! طبعاً نحن الفقر وصفنا، وصفنا الذاتي هو الفقر، في كل شيئ نحن مُفتقِرون، كما كنا نقول دائماً، أليس كذلك؟ والله ستُجَن لو انقطع مدد الله عنك لُحيظة واحدة، لو انقطع مدد – مثلاً – عن عقلك أو حلمك، فماذا سوف يحدث لك؟ تُجَن، مُباشَرةً تُجَن! يُقال غير مُمكِن، هل هذا أبو فلان هذا الذي كان كذا وكذا؟ نعم، جُنَّ يا سيدي، ونحن رأينا من بعض إخواننا – حتى في هذه البلاد – مثل هذا، والله رأينا مَن كنا نضرب به المثل في حلمه ورصانته ورزانته، والله جُنَّ في سُويعة، ما رأيكم؟ من إخواننا هنا في فيينا، في سُويعة! شيئ لا يُصدَّق، كان معك ثم ذهب وتحرَّك فرجع وهو مجنون، لا إله إلا الله! ما هذا؟ طبعاً التفسير المادي يقول جينات Genes، شيزوفرينيا Schizophrenia، في المخ حصل كذا وكذا، يا أخي كله بأسباب، وهي كلها تعمل بأمر الله، هل هناك شيئ اسمه جين Gene أو غير جين Gene إلا يفعل بأمر الله، قال مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي – أيضاً الرب، هنا الرب، لأنه الرب – عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ۩، لا يُوجَد شيئ يتحرَّك ولا يسكن ولا يفعل إلا بأمر الله، الله على صراط مُستقيم، مُهيمن على الوجود كله، لا إله إلا هو! وهذا معنى الرب، هذا معنى الربوبية، وهكذا مع القلب وما إلى ذلك، أي شيئ فيك!

المُهِم قال هذا، بعد ذلك ترفع يديك وتجعل بطونهما إلى وجهك وتقول يا رب، يا رب، وأنت مُتمسكِن ومُتخضِّع، مُفتقِر لله تبارك وتعالى، بدل أن تتعلَّم التمسكن والمجيء إلى الناس وما إلى ذلك، لا تتمسكَن إلى أحد، لا تسأل أحداً، والله العظيم! لا تسأل أحداً، تعوَّد على هذا، قد تقول كيف وهذه أسباب؟ كُن أقوى من الأسباب قليلاً، لا تكن عبد الأسباب، كُن عبد مُسبِّب الأسباب، لا تسأله، لا تسألني، لا تسألها! اسكت واصبر، كُن مع الله، قل يا رب أنت تعرف فاحفظ لي ماء وجهي، وسوف يحفظ لك إياه، لكن لابد وأن يمتحنك إلى يوم أو يومين أو شهر أو شهرين، وبعد ذلك سوف يُعطيك، سوف يُعطيك وسوف يُريك كيف هي آياته عز وجل، استغن بالله تبارك وتعالى، لا تستغن بأي شيئ آخر، واعتز بالله يدم لك العز والغنى.

ورحمة الله على الشاعر الذي قال أبيات عجيبة ذكرتها مرة في خُطبة أو خُطبتين، اللهم صل على سيدنا محمد، ماذا قال الشاعر؟ قال:

صَرَفْتُ إلى رَبِّ الأنامِ مَطَالِبي                     وَوَجَّهْتُ وَجِهيِ نَحْوَهُ وَمَآربي.

إلى المَلكِ الأعْلَى الذَي لَيْسَ فَوقَهُ                مَلِيْكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ في الْمَتاعِبِ.

إلَى الصَّمَدِ البَرِّ الذي فَاضَ جُوْدُهُ               وعَمَّ الوَرَى طُرًا بجَزْلِ المَوَاهِبِ.

مُقِيْليْ إذَا زَلَّتْ بِيَ النَّعْلُ عَاثِرًا                        وأسْمَحُ غَفَّارٍ وأكْرمِ وَاهِبِ.

فَمَا زَالَ يُوْلِيْني الجَميْلَ تَلَطُّفًا                      ويَدْفَعُ عَنِّي في صُدُورِ النَّوائِبِ.

ويَرْزُقُني طِفْلاً وكَهْلاً وقَبْلَهَا                       جَنْينًا, ويَحْمِيْني وَبيَّ المكَاسِبِ.

إذَا أَغْلَقَ الأَمْلاَكُ دُوْني قُصُورَهُمْ                ونَهْنَهَ عن غِشْيانهِمْ زَجْرُ حَاجِبِ.

وَجِئْتُ إلى بَابِ المُهَيْمِنِ طَارقًا                     مُدِلاً, أنُادي باسْمِهِ غَيْرَ هَائِبِ.

الله أكبر!

فَلَمْ أَلْفِ حُجَّابًا وَلم أَخْشَ مِنْعَةً                  ولَوْ كَانَ سُؤْليْ فَوْقَ هَامِ الكَواكِبِ.

كَريْمٌ يُلَبيْ عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا                           نَهَارًا ولَيْلاً فَي الدُجَى وَالغَياهِبِ.

سَأسْألُهُ مَا شِئْتُ إنَّ يَمِيْنَهُ                              تَسِحُّ دِفَاقًا بالّلُهَى والرَّغَائِبِ.

ثم قال في آخر بيت:

فَحَسْبِيَ رَبِيْ في الهَزَاهِزِ مَلْجَاًّ                      وحِرْزًا إذَا خِيْفَتْ سِهِامُ النَّوائِبِ.

الله! كلام عجيب، سُبحان مَن ألهمه، أنا مُوقِن أن هذا الشاعر – رضوان الله عليه – فعلاً كان يتكلَّم من ذوب فؤاده ومن تجربة روحية عميقة جداً جداً، لا يستطيع أي شاعر أن يقول هذا الكلام، شيئ عجيب! قال هذا هو ربي، سأُنزِل به كل حاجتي، كل حاجتي سأُنزِلها بالله وهو سيُعطيني وهو كريم، وهو القائل – لا إله إلا هو – كما تعلمون لأحد أنبيائه مِمَن كانوا في الأمم السابقة أن يا فلان أدرك لي لطيف الفطنة وخفي اللُطف، فإني أُحِب هذا من عبادي، شيئ عجيب! كلام عجيب، هذا الأثر – سُبحان الله – مروي عند الشيعة وعند السُنة، هذا الأثر موجود عند الطائفتين، فقال يا رب وما هو لطيف اللُطف؟ قال لطيف الفطنة إذا وقعت عليك ذبابة أن تعلم أني أنا أوقعتها فسلني أرفعها، كله من عندي قال، أي ابتلاء، أي وجع، أي مُصيبة، وأي نقص! كله من عندي، لا تذهب إلى الناس ثم تقول أنا أزعجته وهو انتقم مني، لا أحد يقدر على أن يفعل لك شيئاً، اسأل الله – تبارك وتعالى – وسوف يكشف عنك هذا الشيئ، حتى مع الذبابة! قال وما خفي اللُطف؟ قال خفي اللُطف إذا أتتك حبة – الحبة سُدس الدرهم، انظر إلى الدرهم، الدرهم واحد على خمسة عشر من الدينار أو أقل في بعض الأوقات الإسلامية، لكن آخر ما استقر عليه واحد على خمسة عشر قالوا، ولا تزال هذه الحبة تُساوي واحد على ستة من الدرهم، فانظر إذن إلى حاصل ضرب واحد على ستة في خمسة عشر من الدينار، شيئ عجيب! هذه ليست بشيئ، ضئيلة جداً الحبة هذه – فاعلم أني أنا ذكرتك بها وسُقتها إليك فاشكرني، لا تنس! لا تقل أبداً هذا من عندي أو بفضله أو هو أعطاني أو هو كريم أو هو طيب، نعم هو كذلك لكن كل هذا مجاز، كله مجاز! مَن الذي حرَّكه؟ والله في بعض المرات يُوجَد رجل كريم وطيب ومن أغنى ما يكون ولا يصلك – والله – منه حتى عُشر حبة، الله يقول لا تُعطه، وهو لن يُعطيك، أليس كذلك؟ لا يُوجَد أمر إلهي، لا يُوجَد إذن، لن يُعطيك! حتى ولو قبَّلت رجليه لن يُعطيك، أليس كذلك؟ وأحياناً يحدث العكس، سُبحان الله!

حدَّثنا أحد الإخوة هنا بشيئ غريب، هذا الأخ – سُبحان الله – الله هداه في آخر سنوات، وإن شاء الله يكون من أهل الصدق بإذن الله، التزم الرجل وليس عنده أي مصلحة في هذا الالتزام، التزم لله والحمد لله، لا هو في حزب ولا في جهة ولا في حركة ولا في جمعية ولا في جماعة، هو هكذا مُلتزِم لله، ويُصلي – ما شاء الله – ويُحافِظ على دينه، حدَّثنا بشيئ غريب،قال كان علىّ مبلغ كبير من المال، دين! أنا نسيت كم قال، المُهِم أنه مبلغ باليوروات كبير، مبلغ كبير وليس أي كلام، دين! وطبعاً جاء صاحبه ليُطالِب به، فقلت يا رب كيف؟ ما عندي قال، وفعلاً المسكين لم يكن عنده، فقلت يا رب لا تكسفني ولا تكسر خاطري أمام هذا الرجل، وأنت دبِّر لي أمري، أنت ترى كيف، ليس عندي ولا أعرف ماذا أفعل، قال سُبحان الله، يُوجَد رجل فاسق خمّير سكّير عنده ملايين، قال مشهور بأنه من أصحاب الملايين، لكنه بخيل بخيل جداً، لا يُمكِن أن تبض يده بعطية، معروف والعياذ بالله منه! وهو فاسق فاجر، قال جاء هذا الفاسق الفاجر وقال لي يا فلان تعال، خُذ هذا الكيس فيه كذا وكذا! قال نفس المبلغ الذي أحتاجه، الله أكبر! قال أنا دُهِشت، وهو لا يعرف قصتي ولا يعرفها أحد – قال – أصلاً، ولم أتكلَّم بهذا الكلام أمامه أصلاً وهو ليس له دعوى بهذا الشيئ وليس له أي دخل كما يُقال، فقلت له لماذا؟ قال هو هكذا، خُذ هذا المبلغ، دعه عندك لسنة أو سنتيتن أو ثلاث، تصرَّف به! ثم بعد ذلك إذا تيسَّرت الأمور تُعيده إلىّ، الله أكبر قال، أرأيتم كيف ربنا عز وجل؟ هذا هو، شغل ربنا هذا، وهذا رجل سكّير خمّير فاسق، لا علاقة له بصدقات أو إحسانات وليس عنده أخلاق أصلاً، ربنا هكذا حرَّكه، قم أعطه! ومن ثم لابد وأن يُعطي، لا كلام في هذا! لا يُمكِن، ربنا أراد هذا وهو سيفعل رغماً عنه، أرأيت؟ لكن هذا يحتاج إلى الاعتماد على الله، فعلاً اطرق باب الله، لا تتطرق باب الناس، إذا طرقت باب الناس فالله سيكلك إليهم.

روى الإمام أحمد في مُسنَده، قال حدَّثنا عبد الرزّاق، قال حدَّثنا معمر، قال سمعت وهباً يقول – رضيَ الله عنهم وأرضاهم أجمعين – قال فيما أنزل الله – تبارك وتعالى – في الكُتب السابقة يقول الله – تبارك وتعالى – ما اعتصم بي أحدٌ من خلقي أعظم ذلك مُخلِصاً من قلبه ثم كادته السماوات السبع ومَن فيهن والأراضوان السبع ومَن فيهن – يقولون انتبه، هناك مُخابَرات، هؤلاء يكتبون تقارير وما إلى ذلك، لكن نحن لا يهمنا لا مُخابَرات ولا تقارير، نحن مع الله، حين نكون رجال الله لا يهمنا أي شيئ، الدنيا كلها لا تهمنا، ولا أمريكا ولا روسيا ولا إسرائيل ولا المُخابَرات، لا يهمنا أي شيئ! هناك رب مُهيمن على الكل، قال مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۩، وأول دابة بوش Bush ومَن مثله، الله آخذ بناصيته رغماً عنه وعن الذي أنجبه، لا نخاف! أليس كذلك؟ هو هكذا المُؤمِن، لابد من العقيدة هذه، تصرَّف بشكل صحيح بحسب دينك ولا تخف بعد ذلك، لكن لا تُخطئ وتنسب أشياء غير صحيحة إلى الدين ثم تقول بعد ذلك الله سوف ينصرني، لا يا حبيبي! الله سوف يخرب بيت الإسلام بك، مثلما يفعل بعض المجانين، ثم يُقال هذه عقيدة، عقيدة ماذا؟ افهم بشكل صحيح في الأول، المُهِم أنه قال ثم كادته السماوات السبع ومَن فيهن والأراضوان السبع ومَن فيهن – إلا جعلت له من بين ذلك مخرجاً، سوف يُؤيِّدك وسوف يُعزِّك، والله الكون كله لن يستطيع أن يكيدك – أُقسِم بالله – ولا أن يقهرك أبداً إلا إذا شاء الله، إذا كتب له هذا في النهاية فهذا شيئ ثانٍ، وعزتي وجلالي ما اعتصم أحدٌ من خلقي بغيري أعلم ذلك منه – يعرف أن الحكاية فعلاً هكذا، أي الرجل شبه مُشرِك، ليس شرطاً أن يُوجَد الشرك الأكبر هذا، لكن يُوجَد شرك القلب، هذا مُعتمِد على غيره، جعل كل اعتماده على البشر وعلى الناس يا أخي, وهذا الاعتماد الذي يجعل الإنسان ويُحيله ذليلاً مُنكسِراً، أليس كذلك؟ بلا قيمة، بلا حياء، وبلا احترام لذاتيته وشخصيته للأسف، يتكفَّف الناس هكذا، يبذل ماء وجهه عند هذا وعند هذا للأسف، لماذا هذا؟ – إلا أسخت الأرض – وفي رواية خسفت الأرض – من تحت قدميه، وقطعت أسباب السماوات من بين يديه، ثم تركته في الهواء ووكلته إلى نفسه، يا ساتر! سوف يُدمِّرك الله، سوف يقول لك هل اعتمدت عليهم؟ تفضَّل إذن، لن افتح لك أي طريق، سوف أُدمِّرك من فوق ومن تحت، وسوف اتركك مُعلَّقاً في الهواء، اذهب! يقول – تبارك وتعالى – يدي سحاء ملأى لعبادي بالليل والنهار، أُعطي عبدي قبل أن يسألني وأنا أعلم بحاجته التي ترفق به منه، من غير أن تسأله وقبل أن تسأله هو يعرف ماذا يُصلِحك وماذا لا يُصلِحك، ويُعطيك هذا الذي يُصلِحك قبل أن تسأله، لا إله إلا الله! أرأيت؟ قبل أن تسأله يُغنيك. 

فنسأل الله – تبارك وتعالى – أن يجعلنا مِمَن أعظم الاعتماد عليه فأحسبهم وكفاهم وأغناهم ووقاهم، ونسأله تبارك وتعالى – أن يختم بالباقيات الصالحات أعمالنا، وأن يتقبَّل منا ومنكم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

05/10/2005

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: