إِنَّ الْحَمْدَ لِلهِ، نَحْمدُهُ ونَسْتَعينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنَا وسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ ولا نظيرَ له ولا مثالَ له، وَأَشْهَدُ أَنَّ سيدنا ونَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ وَصَفْوَتُهُ مِنْ خلقهِ وأمينهُ على وحيه ونجيبهُ من عبادهِ، صَلَّى اللَّهُ – تعالى – عَلَيْهِ وعَلَى آله الطيبين الطاهرين وصحابته المُبارَكين الميامين وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ وسَلَّمَ تسليماً كثيراً.
عباد الله:

أوصيكم ونفسي الخاطئة بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، كما أُحذِّركم وأُحذِّر نفسي من عصيانه ومُخالَفة أمره لقوله سُبحانه وتعالى من قائل:

مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۗ وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ۩

ثم أما بعد:

أيها الإخوة المسلمون الأفاضل، أيتها الأخوات المسلمات الفاضلات، يقول الله – سُبحانه وتعالى – في كتابه الكريم بعد أن أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ:

وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ ۩ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ ۩ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ ۩ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ ۩ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ ۩ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ ۩ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ۩ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ ۩ كِتَابٌ مَّرْقُومٌ ۩ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ ۩ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ۩ وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ ۩ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ۩ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۩ كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.
أيها الإخوة الأفاضل، أيتها الأخوات الفاضلات:

يُخال ويبدو للمرء أحياناً أن ما يذهب إليه من رأي أو يسلكه من مسلك أو يتخذه من موقف أنه محض اجتهاده وذوب ذكائه وفكره، وأنه إنما يعكس وعياً عميقاً وإدراكاً ربما مُتخصِّصاً، قد يكون ذلك، وفي حالات أُخرى قد يكون الأمر على غير ذلك، إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ۩ كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۩، الله قال هذا غير صحيح، هذا الحُكم على هذه الآيات البيّنات الناهجات نهج الهُدى والصراط القويم بأنها أساطير تأثَّرها محمد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – ومَن آمن به معه حُكم غير صحيح، الله قال هذا حُكم غير صحيح، وليس هذا الحُكم نتاج عقل أو فكر رجيح، إنما هو نتاج ماذا؟ نتاج قلب قد عمي، كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۩، هذا نتاج قلب عميان والعياذ بالله،عميان! أعمى عن الحق وعن تلمح دلائل الهُدى وأمارات الاستقامة.

قال أحد الحُكماء إن أعظم ما يرجوه الشيطان وأعظم ما يخدمه – ما هو؟ – أن يظن الناس أنه غير موجود وأنه غير فاعل، نعم هذا هو، الشيطان – لعنة الله تعالى عليه – مُخلِص أشد الإخلاص في عمله، مُخلِص أشد الإخلاص في كفره، وفي ضلاله وإضلاله، يا ليت للمُؤمِنين في إيمانهم بعض إخلاص الشياطين في ضلالهم وإضلالهم، المُؤمِن يحدث أنه يعمل العمل ويتلمَّح الناس، يُحِب أن الناس ينظرون إليه ويعتبرونه ويجعلون له حيثية، الشيطان لا، على العكس تماماً، لا يُحِب أن يُلتفَت إليه، يُحِب أن تفهم أن هذا نتيجة الدرس والفكر والفلسفة والتعمق والتخصص والبراهين والمُقارَنات والمُحاكَمات، يُحِب أن تفهم هذا! وفي الحقيقة ليس شيئاً من ذلك، أي ليس ذلك شيئاً من ذلك، إنما هو تزيين الشيطان وإضلاله لك وضحكه عليك، حتى يعمى القلب والعياذ بالله تبارك وتعالى.

يُقْضَى عَلَى المَرْءِ فِي أَيَّامِ مِحْنَتِهِ               حَتَّى يَرَى حَسَناً مَا لَيْسَ بِالحَسَنِ.

أو كما قال المُصطفى الهادي – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – لا يعرف معروفاً ولا يُنكِر مُنكَراً إلا ما أُشرِب من هواه، والعياذ بالله، انتهى! قلب عميان والعياذ بالله، الشيطان يُحِب هذا جداً، أن يظن الضال التائه الزائغ أن ما يأتيه وما يصدر عنه من فكر أو رأي إنما هو محض رأيه هو، وليس للشيطان فيه يد ولا يدان، وهذا غير صحيح، هذا غير صحيح بالمرة! الله يقول السبب هو الذنوب والعياذ بالله، السبب هو الاستكبار عن الهُدى، مُجافاة الحق وأهله، والاستيحاش منه، أي من الحق، والأُنس بالباطل – والعياذ بالله – وحُب الباطل، يجعل الإنسان منكوس الفطرة، معكوس الرأي والعقل، يرى الأمور بشكل معكوس تماماً، وهو مُنسجِم مع نفسه المُلتاثة ومع قلبه الضال الحيران العميان، مُنسجِم طبعاً لأنه منكوس والعياذ بالله، نعوذ بالله من تنكيس العقول والقلوب والأفهام والأبصار والبصائر، والعياذ بالله.

كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۩، هذا الران فسَّره النبي المُحمَّد – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه في جامعه، عن أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – قال: قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – إن العبد إذا أذنب العبد نُكِتَ في قلبه أو قال كان – أي في قلبه – نُكتةً سوداء، الذنب هذا يتحوَّل – والعياذ بالله – بل هو نفسه يكون نُكتةً سوداء، في القلب الأبيض، يصير الذنب نُكتةً سوداء! قال – صلى الله عليه وآله وسلم – فإن تاب ونزع واستغفر أو قال فإن عاد ونزع واستغفر صُقِل قلبه، تُمحى هذه النُكتة، يعود القلب إلى حاله الأولى من الصفاء والسلامة والبراءة، وإن زاد – أي العبد والعياذ بالله، زاد ذنباً على ذنب، ازداد والعياذ بالله وتكثَّر من الذنوب – زاد حتى يعلوه – والعياذ بالله -، فذلك الران الذي ذكر الله في كتابه، ثم تلا – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – الآية، كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۩، ما هذا الذي كسبوه؟ السيئات والآثام والخطيئات والفواحش الكبيرات – والعياذ بالله – والذنوب الصغيرات أيضاً، هذا كله طبع على قلوبهم، وعلى القلب – والعياذ بالله – نُكتة إلى نُكتة، نُكتة على نُكتة، فأصبح القلب كله أسود مرباداً – والعياذ بالله – كما وصفه النبي في الحديث الصحيح، حديث عياض بن حمار في مُسلِم، لا يعرف معروفاً ولا يُنكِر مُنكَراً إلا ما أُشرِب من هواه، قال الحسن البِصري – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ ۩، قال هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب.

أيها الإخوة:

أول ما يُوجِبه الاستكثار والاحتطاب في حبل الذنب من غير عود ومن غير نزوع ومن غير توبة واستغفار وإنابة – وهذا من أقبح ما يُوجِبه، من أقبح نتائجه والعياذ بالله – التأنس بالذنب، إلف الذنب، الذنب الذي كنت ترتعد منه فرائسك وتستقبحه جداً إذا سمعت به آتاه غيرك – جداً تستقبحه – تأتيه مرة ويهولك أمرك، إذا لم تُوفَّق إلى التوبة الصادقة والإنابة والنزوع وأتيته – الأبعد – مرة ثانية وثالثة ورابعة تصير إلى حالة زرية والعياذ بالله، تتأنس به وتألفه وتراه شيئاً طبيعياً، بالعكس! وتبدأ تُعوِّل على رحمة الله ومغفرة الله وأن هذا يُسعِدني ويطيب لي ويلذ لي، فما الذي ينقص الله إن غفره؟ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ۩، وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ ۩، وهكذا تبدأ تضحك على نفسك، وتبدأ هنا لا تُفكِّر بعقل شرعي ، بعقل إلهي، وبنفس رحماني، إنما تبدأ – والعياذ بالله – أو يبعد الأبعد – حاشاكم، أُعيذكم وأُعيذ نفسي بالله أن تكون هذه حالتنا أو أن نصير إلى مثل هذه الحالة، والعياذ بالله – يُفرِغ عن منطق الشيطان، ويُبصِر بعينه، وينطق بلسانه دون أن يُدرِك، دون أن يُدرِك! وحق كما قال أحد العارفين لو كُشِف الحجاب لرأيت أكثر مَن حولك مِن عباد الله – مِن مُسلِم وغير مُسلِم بالحري طبعاً، غير المُسلِم أحرى – لوجدتهم مصروعين، صرعى للشياطين، صرعى والعياذ بالله، أسرى في أيدي الشياطين، يتلاعبون بهم والعياذ بالله تبارك وتعالى.

الأمر جد أيها الإخوة، الأمر جد والأمر خطير، أمر نزاع أبدي بين هذا الذي أضل أبوينا وأخرجهما مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ۩ – لعنة الله عليه – وبيننا نحن الذُرية، ذُرية هذين الأبوين الكريمين، نزاع أبدي لا ينتهي حتى يفصل الله بين الخلائق يوم القيامة، لن ينتهي قبل أن يُطوى بساط هذا العالم وهذه الدورة من دورات الخلق الإلهي، هذا هو، وهكذا!

بل إن بعض هؤلاء – والعياذ بالله – بعد أن يتأنس بالذنب ويألفه ويستحليه ويستملحه ويلذ له – ويبدأ هذا الذنب يشوقه والعياذ بالله، مصدر وينبوع من منابع الفرحة والعياذ بالله والأُنس واللذة – ينتهي إلى حالة هي أزرى وأحقر، ما هي؟ وهي غاية التحلل أو الانحلال والتهتك والعياذ بالله، الافتخار بهذا! يبدأ يُفاخِر، يبدأ إذا جلس مع أمثاله من هؤلاء الحمقى المخذولين يذكر ما له من فتكات وما له من غدرات وما له من دخلات وخرجات – كما يُقال – وما له من مُغامَرات تافهة شيطانية إبليسية، سيندم عليها أشد الندم، لا أقول يوم القيامة، وإنما يوم يأتيه ملك الموت لا يستأذن عليه، ولا يطلب إذناً من حرس ولا بوّاب، يوم يأتيه سيندم أشد الندم، سيتقطَّع حسرات على كل لحظة عصى فيها الله تبارك وتعالى.

تعست ليلةٌ عصيتك فيها                           كيف لا أستحي وأنت الرقيبُ؟

سيجد نفسه أحوج ما يكون إلى توبة صادقة، وربما أنى له التوبة؟ لقد تأخَّر كثيراً، والموت يا إخواني يأتي بغتةً، الموت يأتي بغتة! لا تغترن بصحتك، والله كم وكم وكأين من شخص سمعنا عنه شديد قوي متين! هذا الشديد القوي المتين – سُبحان الله – خلافاً لمَن هو مباءة الأسقام والأمراض والتباريح والأوجاع أُخِذ خِلسةً، اختُطِف اختطافاً، راح فلتة كما يقول العرب، راح فلتة، فلتة! في رُبع ساعة أو عشر دقائق كان انتهى.

قبل أيام سمعت عن شاب في الثانية والأربعين من عمره جلس بين زوجه وأولاده يتناولون طعام الغداء، فما هو إلا أن قال برأسه هكذا – أي مال -، فحرَّكوه فإذا هو ميت، والله العظيم قبل أيام، أقل من أسبوع، لم يُكمِل لُقيماته، هذا الكادح المسكين لم يُكمِل لُقيماته، مات في لحظة، فلتة! ما الذي يُؤمِّنك أن يكون هذا مصيرك؟ هل عندك ضمانة؟ لا أحد عنده ضمانة، وإنما المسألة ليست كما قال زُهير رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ، لا! ليست رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ أبداً، إنما هي تقادير وآجال، استوفى أجله، استوفى آخر نفسه له، إن كان شهيقاً لم يزفر، وإن كان زفيراً لم يشهق، هذا هو القدر، انتهى! كِتَاباً مُؤَجَّلاً ۩، لا أحد يدري، فلا تغترن بقوتك، بطولك وعرضك، بصحتك، وإنني لست مريضاً، وقبل أسبوع أو أسبوعين أجريت فحوصاً، وما شاء الله مثالي – Ideal – ومُمتاز، كلام فارغ! أمثال هؤلاء بالذات الله يُقيم منهم لنا العبر حين يُختطَفون اختطافاً ويُختلَسون اختلاساً ويذهبون فلتة، ليكونوا عبرة لنا، فبالله لا تُغرِّرن بنفسك أزيد مما قد فعلت، شيئ مُخيف، الأمر جد!

هذا قبيح، قبيح جداً أن يتهتك العبد، الذي كان ينبغي أن يكون مكتوباً مرقوماً اسمه في ديوان الصالحين، أولياء الله المُتقين والمُجاهِدين وربما الشهداء المقبولين، صار اسمه الآن مرقوماً… الله أعلم! ربما في الزُناة، في السرّاقين، في الكذّابين، في الهتّاكين، في الغيّابين، في النمّامين، في آكلي أموال الناس بالباطل، في الطُغاة الظالمين، الله أعلم! بحسب ذنبه، الذنب يُعطيك اللقب، انتبه! الذنب يُعطيك النعت، كما الحسنات أيضاً، كما المبرات تُعطيك اللقب والنعت، فاختر لنفسك أي نعت تُريد، كما رسول الله – صلى الله عليه وسلم – لعبد الله بن عمر فانظر يا عبد الله بما تُنادى أو قال بما تُسمى غداً، قال انتبه يا عبد الله بن عمر، بماذا سيُنادى عليه يوم القيامة؟ سيُقال عبد الله التقي – مثلاً – الصالح عبد الله بن عمر، ولي الله المُفلِح عبد الله بن عمر، أو يُقال كذا وكذا – أعوذ بالله، والعياذ بالله – فلان ابن فلان على رؤوس الخلائق، ليست تهمنا كثيراً الفضيحة على رؤوس الخلائق بمقدار الفضيحة بين يدي رب العالمين، لا إله إلا هو! كيف نلقاه؟ كيف ندفع عن أنفسنا؟ بماذا نُحاجِج؟ ماذا نقول؟ والعياذ بالله.

هذا كله من تأثير الشياطين فينا، من استحواذ الشيطان علينا دون أن ندري، والله! تَلاميذ في مدرسة إبليس، دون أن يدري المرء يكون تَلميذاً كبيراً في مدرسة إبليس، كل يوم يتلقى مُحاضَرات ويعمل بها دون أن يدري، هو فرح بنفسه! يمشي بين يديه، ولا يدري المسكين! وهذا من هوانه على الله، روى مُسلِم في صحيحه والبخاري في الأدب المُفرَد، قال – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم – كل أمتي مُعافى إلا المُجاهِرين، وإن من الإجهار – أي المُجاهَرة – أن يبيت العبد يستره ربه فيُصبح يفضح نفسه، يقول يا فلان عملت في يوم كذا وكذا كذا وكذا، الله يستره ثم هو يفضح نفسه، هذا له طماعية له – إلا أن يتوب – في مغفرة الله، هذا مُجاهِر والعياذ بالله، كيف وصل إلى هذه الحالة المحقورة الزرية؟ على مراحل، وفي أوقات ربما مُتقارِبات أو مُتباعِدات، بدأ بالذنب والاستكثار، ترك التوبة، التألف، والتأنس بالذنب، ثم بعد ذلك صار إلى المُجاهَرة والمُفاخَرة بالذنب، يُجاهِر ويفتخر بمعصية الله، شيئ عجيب! هذا من هوانه على الله، وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ ۩، قال الحسن البِصري – قدَّس الله سره – هانوا على الله فخلى بينهم وبين ما يُريدون، ولو أكرمهم لعصمهم، الله إذا أكرم العبد يعصمه من الذنب، حتى إذا ضعفت نفسه الله لا يُيسِّر له أسباب الذنب، يُقيم له قوارع أحياناً، وينصب له علائم وإشارات أن لا، لست منهم، لا تكن منهم، لا تضعف، عُد يا عبد الله، فيعود بإذن الله تعالى، لأنه كريم، أما العبد المهين على الله – والعياذ بالله – الله يُخلي بينه وبين ما يُريد، بعض هؤلاء يصير إلى حالة عجب، إن شئتم أن تعجبوا فاعجبوا، يستكثر من الذنوب ثم هو يطمع في درج الجنان العاليات، في أعلى مقامات النعيم، مع أنه مُفرِّط في الطاعات ومُستكثِر من الخطيئات، كبيرات وصغيرات، شيئ عجب! كيف هذا؟

وفي الأثر الإلهي الجليل ما أقل حياء مَن طلب جنتي بغير طاعتي، ماذا نقول يا رب العزة في حياء مَن طلب جنتك بمعصيتك؟ يعصي ثم يُؤمِّل، لأن الله يقول إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۩، يُحيل على الله، يعصي الله ثم يُحيل عليه، يستشهد بكلامه! عجبٌ هذا الفهم، أهكذا؟ إذن فلنُسقِط آيات الوعيد كلها جُملة، أين آيات الوعيد؟ أين آيات التخويف؟ أين آيات الترهيب التي فعلت فعلها في الملائك وفي النبيين والمُرسَلين حتى دعوه – سُبحانه وجل قدره وتعالى – رغباً ورهباً وكانوا له خاشعين؟ أسقطها جُملة! هذا من أقبح الجهل، من أجهل الجهل، من أجهل الجهل الكذب على الله تبارك وتعالى، الله – تبارك وتعالى – عمَّم وأطلق، لم يُخصِّص ولم يُقيِّد، قال إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۩، فلما عمَّم وأطلق علمنا أن الآية في التائبين، هذه الآية في التائبين، هذه الآية تقول مَن تاب توبةً نصوحةً فالله يغفر الذنوب جميعاً، هذا معنى القرآن! بدليل أنه قال في النساء إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ – لا يغفر أن يُشرَك به – وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ۩، فعلمنا أنه لما لم يُعمِّم ولم يُطلِق إنما أراد – سُبحانه وتعالى – المُؤمِنين من غير التائبين، هم في خطر المشيئة طبعاً، أما التائبون كافرين كانوا – تابوا من كفرهم – أم مُؤمِنين – من قبحاتهم كانوا تائبين – فهؤلاء مشمولون بقوله إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۩، هكذا يُفهَم القرآن! مَن كان له عقل أو فهم هكذا ينبغي أن يُقيم فهمه لآيات الكتاب، لا أن يضرب القرآن بعضه ببعض لكي يزداد من معصية الله تبارك وتعالى، الله أكبر، الله المُستعان.

أيها الإخوة:

وإن من أقبح آثار الذنوب – والعياذ بالله تبارك وتعالى – ومن أعظمها خطراً أنها تحجب الدعاء عن الله – تبارك وتعالى – فلا يُستجاب، انتبهوا! والدعاء هو سلاحنا الأمضى، الدعاء سلاح المُؤمِن في الخبر، أقول هو سلاح المُؤمِن الأمضى والأقطع والأقوى، أقوى سلاح هو الدعاء، والله! كان الفاروق – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – يعده أقوى جُنديه، جُند الرجال وجُند الدعاء، أقوى جُنديه الدعاء، وكان يقول إنكم لا تنصرون بكثرة، بكثرة عدد! إنما تُنصَرون من السماء، رضيَ الله عنه وأرضاه، كم انداحت المعمورة الإسلامية المُوحِّدة في عهد الفاروق بمثل هذا اليقين، وبمثل هذا الفهم الرباني! كيف وقف الصحابة وهم ثلاثة آلاف أو زُهاء ثلاثة آلاف لمائتي ألف رومي بيزنطي؟ كيف؟ بحسنات هؤلاء وبسيئات أولئكم والعياذ بالله، يقول عبد الله بن عباس إن للحسنة ضياءً في الوجه ونوراً في القلب وسعةً في الرزق وقوةً في البدن ومحبةً في قلوب الخلق، أي الصالحين! وإن للسيئة سواداً في الوجه وظُلمةً في القلب ونقصاً في الرزق ووهناً في البدن وبِغضةً – وليس بُغضةً، بِغضةً – في قلوب الخلق، أي الصالحين! ولذلك الكافر قد تراه جسيماً طويلاً.

لا بأسَ بالقومِ من طولٍ ومن عظمٍ                   جسمُ البغالِ وأحلامُ العصافيرِ.

كالمُستوطِن البغل الذي رأيناه أمس يُطلِق الرصاص على الآمنين من أهل خليل الرحمن، فيأتيه شيخ عجوز يصرخ به ويضربه على يده فيُلقي السلاح، ثم ينبطح نهباً للركل والضرب، جبان! قد يكون قوياً مُدرَّباً طويلاً عريضاً، لكن تخونه قوة بدن أحوج ما يكون إليها أمام مُؤمِن صالح رباني من الذي يُنصَرون بالرُعب بإذن الله تعالى، من مُجابي الدعوة، من موصولي الأسباب والحبال بالله رب العالمين، هذا هو، المُؤمِن قوي بإذن الله، ولذلك القلة القليلة قد تغلب كثرة كاثرة بإذن الله تبارك وتعالى، كما قال تعالى وَكَأَيِّن مِّنْ ۩، وكم من، يُكثِّر تبارك وتعالى، حدث هذا ويحدث كثيراً إن شاء الله تعالى، وإن لم يحدث دائماً، لكن يحدث كثيراً، فهذا هو!

الإيمان يُعطي قوة باطنية وظاهرية بإذن الله تبارك وتعالى، لماذا؟ لأنه استمداد من قوة الله، استمداد من نصر الله، استمداد من نور الله ومن جلال الله، لو عرفنا الإيمان حقاً! الفاروق كان مُوقِناً بهذا – رضيَ الله تعالى عنه وأرضاه – وكان يقول لست أخاف من أن أُمنَع الإجابة، بل – من ماذا؟ – من أن أُمنَع الدعاء، قال فإذا أُلهِمت الدعاء كانت الإجابة معه، هو يعرف هذا، الله وعد والله لا يُخلِف الميعاد، المُهِم أن ندعو وأن ندعو بألسنة لا نعصي بها الله وأن نُفرِغ عن قلوب مُوقِنة بالله، مُحِبة لله، ترجو الله وتخشاه وتُعظِّمه وتُقدِّره حق قدره وترجو له الوقار، لا إله إلا هو! مثل هذا الدعاء يُستجاب، مثل هذا الدعاء تُدكدَك الجبال، لذلك يُعَد سلاحاً قاطعاً ماضياً، لا ينثلم بإذن الله تبارك وتعالى، أي والله! أي والله لو أخذناه هكذا، لكن ليس دعاء العُصاة، دعاء الفجرة المُجاهِرين الفسقة، لا يطرقون باب الله إلا حين تُلِم بهم النوائب والمصائب، لا! هذه أصوات مُنكَرة من عباد مُنكَرين، غير معروفين، وغير مألوفين في الملأ الأعلى، بخلاف الصالحين الأواهين المُنيبين إلى الله أبداً وباستمرار، دعاؤهم مقبول بإذن الله تبارك وتعالى.

الدعاء من أمضى بل أمضى أسلحتنا بإذن الله تبارك وتعالى، أمضى الأسلحة! هل تعرفون لماذا؟ لأنه يقول – عليه الصلاة وأفضل السلام – الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل، فعليكم عباد الله بالدعاء، أخرجه الحاكم من حديث ابن عمر، فالنبي يقول هذا! يقول الدعاء ينفع مما نزل، من مُصيبة وقعت، ومما لم ينزل – بإذن الله تعالى -، ما أدراك، ما أدراني، ما أدرانا كم من المصائب والبليات والبوائق دُفِع عنا بسر الدعاء الصادق منا! كم! لا أحد يدري، يوم القيامة سيظهر هذا لنا، نعم! قد يقول قائل هل يدفع عني الدعاء أمر قد قُدِر؟ والجواب أنه لا يُقدَر إلا بسببه، ولا يُدفَع إلا بسببه، انتبه! هذا هو الفهم المُستقيم في شرع الله تبارك وتعالى.

أخرج الإمام أحمد وابن ماجة وابن حبان – رضيَ الله تعالى عنهم وأرضاهم – من حديث ثوبان مولى رسول الله – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – لا يرد القدر إلا الدعاء، النبي يُجيب الآن، لا يرد القدر! القدر قد يُرَد بإذن الله، بماذا؟ ليس بالسُخطة، ليس بأن نسخط، ليس بأن نغضب، ليس بأن نأخذ بالأسباب الكونية وحدها لنرد القدر أبداً، قال لا يرد القدر، القدر إذا قُدِر هناك سبب واحد قد يرده بإذن الله تعالى، ما هو؟ قال الدعاء، شيئ عجيب، هذا علم رباني ثمين، نحن في غفلة عنه، نحن لسنا مُتفقِّهين جيداً فيه، لا نفهمه تماماً، ويأتي الآن مَن يسمعه ويبدأ يُشكِل عليه، كيف يُقال إنه قُدِر ثم يُقال إنه يُرَد؟ هل نحن الذين قلنا هذا؟ النبي – أعرف العارفين بالله، وأعرف مَن دل على الله وعرَّف به – هو الذي قال هذا، والآن سيأتي الجواب، سهل وميسور جداً جداً! قال لا يرد القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر، قال ولا يزيد في العمر! حتى العمر يُزاد فيه ويُنقَص منه، قال تعالى وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ – انتبهوا – إِلَّا فِي كِتَابٍ ۩، لذلك العارفون بالله ومُحقِّقو علماء الدين – رضيَ الله تعالى عنهم وعنا وعنكم معهم أجمعين – يرون أن عمر العبد قد يُنقَص ويُمحَق والعياذ بالله، بماذا؟ ما أعظم سبب في هذا؟ الذنوب، الخطيئات والعياذ بالله! يُخترَم بها عمر المرء، يُنقَص عمر المرء، قال وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ۩، الله يقول هذا، وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ۩، انتبهوا! عكس ما يشيع بيننا، بماذا يا رسول الله؟ قال بالخطايا، بالذنوب، بالظلم، بالعقوق والعياذ بالله، بالفواحش والفجور، يُنقَص من عمر الإنسان، ولذلك قد يُزاد في عمره بالبر، قال ولا يزيد في العمر إلا البر، وإن العبد ليُحرَم الرزق – أي قد قُدِر له – بالذنب يُصيبه، رزق كان مكتوباً له، لكنه أصاب ذنباً، اعترض قدره بماذا؟ بذنب، فيُرفَع الرزق، لن يُوجَد رزق، انتهى! ضاع عليك، بشؤم ذنب، أشأم شيئ هي الذنوب، والله أشأم شيئ على الإنسان هي الذنوب، لا تقل الظروف والأحوال والأوضاع، ذنبك أشأم شيئ، قال – عليه الصلاة وأفضل السلام – فلا يتقين عبدٌ إلا ربه، ولا يخافن إلا ذنبه، المُحاذَرة والخوف والتُقاة من الله وحده، والمُحاذَرة كلها من الذنوب، أعظم شؤم عليك هو ذنبك، بُعدك عن الله تبارك وتعالى.
فإن اعتاص عليك يا أخي المُسلِم ويا أختي المُسلِمة أن تفهم كيف يُمكِن للدعاء الأبر المُستجاب أن يرد القدر فعليك أن تستحضر حقيقة أن الله – تبارك وتعالى – ما قدَّر المقدورات إلا بأسبابها، قدَّر الولد مع الوطء، أليس كذلك؟ هذا هو، وإلا ليجلس امرؤٌ في بيته عزباً لا يتزوَّج فيكون له أهل يأتيها ثم يقول لو قدَّر الله لي الولد سأُرزقه، كلام فارغ! لن تُرزَقه إلى ان يُنقَر في الناقور، لأنه إن كان قدَّره فقد قدَّره بالأهل، بإتيانك أهلك، بالوطء، وقدَّر الزرع بالبذر، لا يُمكِن أن تجلس كفلّاح في بيتك وتقول الله إن قدَّر لي زرعاً وثماراً ستأتيني بإذن الله وأنا جالس، كلام فارغ! عليك أن تبذر البذر أو البذار ثم تنتظر، بالأسباب! كل شيئ مُقدَّر بأسبابه، كذلكم فيما أخبر الرسول عن ربه، الله قدَّر الزيادة في العمر أو النقص من العمر، الزيادة في الرزق أو النقص من الرزق، وأشباه ذلك، بماذا؟ بأسباب، قرنها بأسبابها، الحسنات والسيئات! قال مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ۩، يدخل في تأويل وفي فهم كلمة ما نحن فيه، نقص عمرك مشمول بقوله فَعَلَيْهَا ۩، نقص رزقك مشمول بقوله فَعَلَيْهَا ۩، وكذلك ذهاب ولدك، موت الولد أحياناً أو موت الوالد أو موت الأهل قد يكون أيضاً من المشمولات بــ فَعَلَيْهَا ۩، بشؤم ذنوبك، الله أكبر!

إذن يُمكِن حتى ببركة دعاء المُؤمِن الصالح أن يُزاد في أعمار ذويه وأقربائه – مُمكِن – وأن يُؤخَّر، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه العلّامة الإمام ابن منده قال رأيت ملك الموت جاء ليقبض روح شاب، في شبابه، في شرخ شبابه! قال فجاءه بر والديه فأخَّر عنه ملك الموت، قال ولا يزيد في العمر، هذا زيد في عمره! ولا يزيد في العمر إلا البر، البر! البر ليس فقط بالوالدين وبالإخوة والأخوات والأقربين، وإنما بالناس أجمعين، وخاصة أهل المِلة والدين، البر بالمُسلِمين قدر ما تستطيع، هكذا! فالدعاء سلاح خطير جداً والله العظيم، ماضٍ مُخيف، لا يُعقَل! مَن جرَّبه ورأى ثمراته عرف هذه المعرفة وأزيد بإذن الله تبارك وتعالى، تدعو الله وأحياناً الله ينصب لك أشياء أمام عينيك.

أحدهم اتفق له أنه كان عائداً من طاعة، كان في طاعة لله تبارك وتعالى، مجلس ذكر وعلم وتذكير! فلما اقترب من مُنعرَج أو من عرجة شارع سريع – أي Kurve هذه – دعا الله – تبارك وتعالى – أن يحفظه وأهله، فقيل له في قلبه – إلهام، وهذا في رمضان المُنصرِم – فخفِّف السرعة إذن، الدعاء استجبناه، هكذا أُلهِم، شيئ لا يُصدَّق! وهذا يُمكِن أن يحدث مع كل واحد فيكم، يُجرِّب هذا بيقين، لكن بتقوى وبصدق، قيل له فخفِّف السرعة لأنه بعد كذا وكذا مائة من الأمتار سيكون هناك مُنزلَق كان من المُقدَّر لك أن تصطدم به وتهلك، فأخذته رعشة ووقف شعر بدنه، وما هي إلا ثوانٍ – ربما ثلاث ثوانٍ وقد صار إلى تلك العرجة – وإذا بسيارة أُخرى في نفس المكان ضربت هناك وهلك صاحبها، فجعل يبكي من خشية الله ولُطف الله، في الدنيا قبل الآخرة الله يُقيم لك الأدلة، لكن عليك أن تتقي الله، عليك أن يعظم يقينك بالله، عليك أن تعيش معه في كل أنفاسك ليل نهار.

والله يا إخواني لو لم يكن باعثاً على هذا إلا لحظة فراق الدنيا لكفى، ولحظة فراق الدنيا تعني ماذا؟ تعني فراق الزوجة والأولاد، الأبناء والبنات، والإخوة والأخوات، والآباء والأمهات، والأصدقاء والمعارف، والبيت، والفراش الوثير، والمُرتَّب الجاري، كل هذه المُتع وكل أساليب الراحة وأساليب الأنس – كل هذا – ستنقطع عنك، وتذهب في رحلة لا أحد إلا هو يعلم ما أنت فيها وما الذي أُرصِد وأُعِد لك هناك، هذه الفكرة وحدها إذا استبدت بالمرء تجعله ناشطاً صادقاً في خدمة مولاه والعود إليه، لا إله إلا هو! في الصدق مع الله، والله العظيم!

حين يتولى أحدنا ماذا يحدث؟ هل رأيتم مرةً واحداً أو أحداً من الناس – ذكراً كان أم أنثى – تولى وأسف الناس على جماله الذي ذهب؟ كأن يُقال يا أسفاه لقد كان جميلاً وذهب! لا يحدث هذا أبداً، أبداً! لا أحد يتذكَّر جماله، هل يُقال يا خُسارةً له ويا حسرةً عليه لأنه كان غنياً وذهب؟ أبداً! والله العظيم أبداً، كل ما يذكره الناس أمرين اثنين، رحمة الله عليه، كان إنساناً طيباً، كان من الصالحين، كان محبوباً، كان لهجاً بالخير، رحمة الله عليه، تبكيه القلوب والمآقي، أو رحمة الله عليه، نسأل الله أن يغفر له ما كان منه، لأنهم يتذكَّرون سيئاته والعياذ بالله، السيئات التي أسلفها لنفسه وفي حق عباد الله، فيستغفرون ويوجلون ويخافون عليه من مصيره وما أُرصِد له عند الله – تبارك وتعالى – طبعاً، يخافون عليه جداً إن كان أمره يهمهم بعض الهم، هذا كل ما نتذكَّره، لن نُعنى بعد ذلك لا بعد أموالهم ولا بقياس جمالهم وطولهم وعرضهم، ولا حتى بشهاداتهم ولا بعلمهم ولا بشطارتهم، فقط ما الذي قدَّموه؟ هذا الذي يجعلنا نطمئن أو نأسف عليهم، وأنت كذلك.

أنا دائماً يحدث معي شيئ حين يأتيني خبر إنسان مات، مات فلان أو ماتت فلانة، طبعاً شأني شأن البشر، أحزن وأبكي وأتأثَّر، وأكثر ما يُؤثِّر في هو توهمي مصيره، ماذا فُعِل به؟ صار إلى ماذا المسكين؟ وما إلى ذلك، هذا أكثر ما يُؤثِّر في، وأقول يا حسرةً، ليس على الأحياء ذوي الأموات، إنما يا حسرةً على مَن مات، الحسرة على مَن تولى، انتهى! الحسرة على هذا المسكين، هل تعرفون لماذا؟ لأن أقرب المُقرَّبين إليه – وأُراهِن – بعد أيام معدودات ليس فقط يعودون إلى أكلهم وشربهم ومرحهم وإنما إلى ضحكهم ولهوهم وربما في مجلس العزاء أيضاً، يُلقي هذا بنُكتة فيضحكون، ماذا تُريد منهم؟ أتُريد أن يقتلوا أنفسهم غماً؟ قد انغموا يوماً ويومين وثلاثة، هذا كافٍ! فيا حسرةً على مَن مات إذن، انتهى! حتى لو قتلوا أنفسهم واذهبوها حسرات وقطَّعوها عليه بماذا يُفيده هذا؟ بماذا يُجديه؟ لا يُجديه جدوى، لا يُجديه شروى نقير، كل ما يُجديه هو عمله، فالعمل العمل العمل والتوبة التوبة التوبة يا عباد الله.

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يكشف عن بصائرنا، وأن يفتح مسامع قلوبنا بذكره، وأن يرزقنا إنابةً حسنةً إليه وتوبةً صادقةً في رجعةٍ مقبولةٍ، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.

الخُطبة الثانية

الحمد لله، الحمد لله الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون، ويستجيب للذين آمنوا وعملوا الصالحات ويزيدهم من فضله والكافرون لهم عذابٌ شديدٌ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صَلَىَ الله – تعالى – عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلَّم تسليماً كثيراً.

أما بعد، أيها الإخوة:

لا يكونن أحدكم أهون على الله من البهيمة، وهو قادر على أن يكون لديه أشرف من ملك، وربما أشرف من هذا الكون كله، حاشا مَن أطاع الله وكان خيراً منه، قال ولولا البهائم لم يُمطَروا، الله – عز وجل – يصير العباد بالمعصية والذنب عنده أهون عليه من البهائم، ويذهبون هم في بركة البهائم، في رحمته للبهائم، عجيب جداً! وهم قادرون على أن يكونوا كما قال المُصطفى – صلى الله عليه وسلم – إن مِن عباد الله مَن لو دعا على السماوات والأرض لاستجاب الله، طبعاً لكنه لا يفعل، طبعاً بفقهه وعلمه لا يفعل، ولا يفعل إلا ما يُؤذَن به، فهماً شرعاً وقدراً، ولكن له هذه المزية، وفرض المُحال ليس بمُحال، انتبهوا! وصدق القضية الشرطية ليس مُعلَّقاً على وقوع هذه القضية في المنطق!

نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يُعرِّفنا به وأن يدلنا عليه كما دل عليه العارفين والصادقين.

اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تُعذِّبنا فانت علينا قادر، ارفع مقتك وغضبك عنا، ولا تُؤاخِذنا بما فعل السُفهاء منا، اللهم إن نسألك في هذا المقام الكريم في هذه الأيام المُبارَكات والليالي المُبارَكات الزاهرات بأسمائك الحُسنى وصفاتك العُلا وبكلامك القديم وذكرك الحكيم الكريم أن ترفع عن المُسلِمين ما هم فيه من غُمة، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أذهب الغم والحزن والحصر والحصار عن أهلنا في فلسطين، عن أهلنا في غزة، بقوتك يا متين، اللهم انتصر لهم فإنهم مظلومون، اللهم انتصر لهم فإنهم مغلوبون، اللهم انتصر لهم فإنهم مظلومون، برحمتك يا أرحم الراحمين، وأرنا تعاجيب قدرتك وآيات بأسك الشديد الذي لا يُرَد عن القوم المُجرِمين، فإنهم قد كاثروهم وائتمروا بهم وتمالأوا عليهم، اللهم أهلكهم جميعاً ولا تُبقي منهم أحداً يا رب العالمين، هؤلاء الظالمين المُؤتمِرين الخوّانين الأثيمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ۩، اذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزِدكم، وسلوه من أفضاله يُعطِكم، وقوموا إلى صلاتكم يرحمني ويرحمكم الله.

(انتهت الخُطبة بحمد الله)

فيينا (5/12/2008)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: