تفسير القرآن الكريم ۞ سورة فاطر الآيات 11-12 ۞ الحلقة 10

video

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم.

مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ۩ وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ۩ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ۩ إِن تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ۩ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ۩ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ۩ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ۩ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ۩

صدق الله العظيم وبلَّغ رسوله الكريم ونحن على ذلكم من الشاهدين، اللهم اجعلنا من شهداء الحق، القائمين بالقسط، آمين اللهم آمين.

اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علَّمتنا، وزِدنا فقهاً وعلماً ورشداً.

إخواني وأخواتي:

 

۞ مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ۞

 

وقفنا عند الآية العاشرة من سورة فاطر، مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا ۩، تكلَّمنا في هذا الجُزء الكريم من هذه الآية الشريفة، العزة كلها لله – تبارك وتعالى -، مَن رام العزة، فليُطِع العزيز. وفي الحديث القدسي الجليل المُخرَّج في صحيح مُسلِم من حديث أبي هُريرة – رضيَ الله تعالى عنه -، عن رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -، عن رب العزة، قال العزة إزاري، والكبرياء ردائي، فمَن يُنازِعُني واحداً منهما، أُعذِّبه، وفي رواية عذَّبته، وفي رواية قد عذَّبته. وطبعاً يجوز في العربية في أفعال الشرط ووجوبها المُخالَفة، أن يكون كلاهما ماضيين، أو يكون أحدهما ماضياً والآخر مُضارِعاً، وما إلى ذلك كما هو معروف، وهذا من هذا النمط.

إِلَيْهِ ۩، تبارك وتعالى، يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ۩، قيل هو لا إله إلا الله. الْكَلِمُ ۩ جمع كَلمة أو كِلمة أو كَلم، الْكَلِمُ ۩ قيل هو لا إله إلا الله. وقيل عموم ما يُستطاب من الكلم. عموم ما يُستطاب من الكلم مثل لا إله إلا الله، والاستغفارات، والتهليلات، والتسبيحات، والقرآن الكريم. كل هذا الكلام الطيب هو داخل في: الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ۩.

إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۩، هذا الجُزء من الآية الكريمة فيه اختلاف مشهور، فيه اختلاف مشهور بين السادة المُفسِّرين، ولئلا تتعدد علينا أو تشتبه علينا المسالك، سأُلخِّص لكم يا أحبابي جماع أقوال المُفسِّرين في هذا الجُزء من الآية بثلاثة أقوال، بثلاثة أقوال! ومدار هذه الأقوال المُختلِفة على عود الضميرين: ضمير الفاعل، وضمير المفعول. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۩، مَن أو ما الذي يرفع؟ ويرفع ماذا؟

القول الأول ضمير الفاعل لله، معناها يصير الفاعل ضميراً مُستتراً. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۩، الفاعل ضمير مُستتر جوازاً، تقديره هو، هو – سُبحانه وتعالى -، إذن الله يرفع، يرفع ماذا؟ يَرْفَعُهُ ۩. تصير هنا الكناية عائدة على: الْعَمَلُ الصَّالِحُ ۩. يُسمونه الكناية هذا، تُوجَد هاء الضمير هذه، ضمير الغائب المُفرَد المُذكَّر، أو يُسمونه الكناية اختصاراً في النحو، الكناية تصير عائدة على ماذا؟ على: الْعَمَلُ الصَّالِحُ ۩. الله يرفع العمل الصالح. كلام معقول.

إذن الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ۩ يصعد إلى الله – تبارك وتعالى -، وطبعاً تصعد به الملائكة، والله – تبارك وتعالى – يرفع الْعَمَلُ الصَّالِحُ ۩. وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۩، ضمير الفاعل يعود على: الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ۩، الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ۩ يرفع، يرفع ماذا؟ المفعول به – قال  يَرْفَعُهُ ۩، هذه كناية – الْعَمَلُ الصَّالِحُ ۩، الكلم الطيب يرفع العمل الصالح، كيف؟ كيف؟ هذا على طريقة القرآن الكريم ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ ۩، الله – تبارك وتعالى – لا يقبل عملاً صالحاً إلا من مُوحِّد، شرط قبول الأعمال الصالحة التوحيد، إن لم تكن مُتوفِّراً على هذه الكلمة الطيبة، أي على لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أعمالك الصالحة كلها تُجزى بها في الدنيا، ولكن لا تُرفَع إلى الله، لكي تُجزى بها في الآخرة. هذا وجيه، ولكن يرد عليه شيئ من ناحية نحوية، يرد عليه شيئ من ناحية نحوية! ولذلك لم يستحسنه الإمام النحّاس، وهو عالم جليل، وخاصة في التفسيرات النحوية لكتاب الله، وهذا القول مروي عن ابن عباس، هذا القول مروي عن ابن عباس ومروي عنه القول الثالث.

النحّاس قال لو كان كذلك – أن الكلم الطيب يرفع العلم الصالح -، لكان الاختيار أو لكان إعراب الْعَمَلُ ۩ في الاختيار النصب. ما معنى في الاختيار؟ أي ليس في الضرورة. يجوز في ضرورة الشعر أن ترفعه، لكن هنا هذا ليس شعراً، هذا كلام عزيز، ليس مُضطراً ضرورة الشعر، وهذا يُسمونه الاختيار في النحو، هذا يُسمونه ماذا؟ الاختيار. في الاختيار النصب، كان يجب أن يقول ماذا؟ والعملَ الصالح يرفعه. والعملَ! وسوف تقول لي ما إعرابها؟ هذه منصوبة على الاشتغال، منصوبة على الاشتغال مثل قوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ ۩، أي قدَّرنا القمر، قَدَّرْنَاهُ ۩، لأن العامل يجب أن يكون سابقاً على ماذا؟ على معموله. هكذا هذا عندنا في النحو، قواعد! اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ ۩، من كلام عيسى المشهور! اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ، منصوبة على الاشتغال، أي أقول الحق، أقوله لكم، أقوله لكم! هذا يُسمونه الاشتغال في النحو على كل حال.

لكن وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۩، قال النحّاس هذا ليس فيه ضرورة، وهذا لا ينفع. فهذا لم يستثمن هذا القول. على كل حال هناك القول الثالث والأخير، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۩، الفاعل هو الْعَمَلُ الصَّالِحُ ۩، يرفع: الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ۩ هذه المرة، المرفوع الآن هو الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ۩، بمعنى أن الكلام الطيب ما لم يتأيّد ويتبرهن بالعمل الصالح، غير مقبول. ولذلك القاعدة عموماً: قول بلا عمل لا ينفع. لا ينفع وربما كان حُجة على صاحبه. وهذه المسألة تحتاج إلى تحقيق، ولذلك أبو بكر بن العربي – رحمة الله عليه، المُفسِّر العظيم، والفقيه المالكي الجليل – حقَّق في هذه المسألة، قال هناك أقوال تُقبَل بمُجرَّدها. فمثلاً كلمة التوحيد تُقبَل بمُجرَّدها، أليس كذلك؟ إذا أراد امرؤ أن يدخل الإسلام، فإنه يقول ماذا؟ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله. وهذا أطيب الكلم، وهي فعلاً الكلمة الطيبة هذه، أي كلمة ماذا؟ كلمة التوحيد، المضرورب لها المثل بالشجرة الطيبة في سورة إبراهيم – صلى الله عليه وآله وأصحابه وسلم -، جميل! هذه تُقبَل مُباشَرةً بمُجرَّدها، وكذلك التسبيح والتهليل وأي شيئ من هذا القبيل، يُقبَل بمُجرَّده، نعم! ولكن هناك أقوال لا تُقبَل إلا إذا أيّدها العمل، وهي المعنية بمثل قوله لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ۩، لا ينفع هنا أن تقول الناس كونوا صادقين، عليكم بخُطة الصدق. وأنت – أي هذا البعيد – لا تصدق. أو أن تقول كونوا أُمناء. وأنت تخون وتغل. وهكذا! هذا لا، يُصلِح حُجة عليك.

قال أبو بكر بن العربي – رحمة الله عليه – أما الأقوال التي تُقبَل بمُجرَّدها من غير أن تتأيَّد بالعمل، فهذه الأقوال تُكتَب لصاحبها، ثم يُكتَب عليه وزر عمله السيء، وتحصل المُوازنة بعد ذلك، وبحسب النتيجة تثقل الموازين أو تخف الموازين. قال العلّامة أبو عبد الله القرطبي في الجامع لأحكام القرآن ما قاله أبو بكر تحقيق، والقاعدة أن الأقوال لا تُقبَل إلا بالأعمال. وعلى فكرة القرطبي يُكثِر جداً من النقل عن الإمام ابن العربي، وكلاهما مالكي – رضيَ الله تعالى عنهما -، وهما إمامان علمان. قال ما قاله أبو بكر بن العربي تحقيق، والقاعدة أن الأقوال لا تُقبَل إلا بالأعمال. قال هذا تحقيق في مسائل مُعيَّنة ومُستثناة وكذا، ولكن إذا أردنا أن نُقعِّد قاعدة عامة هكذا، فإننا سنقول عموماً ديننا دين عمل. ولذلك في كتاب الله من أوله إلى آخره: آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩… آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩… آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ۩… أليس كذلك؟ قال هذه القاعدة، لابد وأن تُؤيّد حتى توحيدك وحتى اعتقادك بأنه لا إله إلا الله، محمد رسول الله، لابد أن تُؤيّده بماذا؟ بإيمان حقيقي بالله. تخشى الله وترجوه وتخافه وتُحِبه وتثق به وتُعوِّل عليه وتذكره ولا تنساه وتشكره ولا تكفره وتُطيعه ولا تعصيه و… و… و… إلى آخره! أليس كذلك؟ وهكذا مع رسول الله أيضاً، تُطيعه وتستن بسُنته وتُدافِع عن مِلته وكذا. هذا هو! أما أن تقول كلمة التوحيد، وتعيش كرجل كافر أو مُلحِد أو مُنافِق، فهذا لا ينفع، أليس كذلك؟ فعلى كل حال هذا هو.

إذن ثلاثة أقوال في هذه الآية الكريمة، وفيها مبحث طويل، وكُتِبت فيها صحائف كثيرة، أي في قوله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ۩، ونحن أعطيناكم الزُبدة، قلنا ما الفاعل وما المفعول في القول الأول، ما الفاعل وما المفعول في القول الثاني، وما الفاعل وما المفعول في القول الثالث. ثلاثة أقوال جمعت شتات أقوال السادة المُفسِّرين – بارك الله فيهم أجمعين -.

وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۩، ما هو المكر؟ المكر تدبير أمر باختيال وخديعة. أي أمر يُشتغَل، يُعمَل، يُصنَع، يُدبَّر باختيال أو باحتيال وخديعة، يُعتبَر ماذا؟ مكراً. يُعتبَر مكراً! قد يقول لي أحدكم إذا كان كذلك، فكيف وصف الله ذاته المُقدَّسة – لا إله إلا هو – بأنه يمكر، وذلك حين قال وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۩؟ سهلة، هذه في لُغة العرب دائماً تُخرَّج على أنها من باب المُشاكَلة، والعرب عندهم هذه المُشاكَلة، أنت تمكر وأنا أمكر منك، مع أنك تمكر في الشر وأنا أمكر في الخير، ومكر الخير لا يُسمى مكراً، ولكن سُميَ مكراً من باب ماذا؟ المُشاكَلة. لإغاظتك فقط! تمكر ونحن نمكر، وفي الحقيقة ليس مكراً.

وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۩، هذا هو! السيئة التي تُجزى بها السيئة المُستأنفة أو المُبتدأة لا تُعتبَر سيئة، تُعتبر قصاصاً، فكيف سماها سَيِّئَةٌ ۩؟ من باب المُشاكَلة. وهذا يُسمى ماذا؟ المُشاكَلة في البلاغة العربية، في البلاغة العربية! معروف من الشعر الجاهلي، وهو مبحث معروف.

لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ۩، قيل مكر السيئات هو الشرك. وقيل مكر السيئات على ظاهره، أي أمر سوء – والعياذ بالله -. وقيل مكر السيئات هو الرياء. ابن عباس قال الرياء. الذين يُراءون بأعمالهم، قال هؤلاء يمكرون السيئات. يُظهِر الحسن، ويُخفي ماذا؟ القبيح. ولا يأتي الحسن إلا رِئَاءَ النَّاسِ ۩، مثل المُنافِقين، فكأنها في المُنافِقين. وقال بعضهم هذه الآية – والسورة مكية، مكية بالإجماع – في أهل دار الندوة، الذين مكروا بمولانا وسيدنا رسول الله قُبيل هجرته الشريفة، لما اجتمعوا وجاءهم إبليس وأوحى إليهم بتلكم الخُطة الشيطانية، أن يضربه من قبيلة رجل، فيتفرَّق دمه في القبائل. قالوا هذا هو الْمَكْرُ السَّيِّئُ ۩. والكثير من المُفسِّرين أخذوا بهذا، قالوا هذا هو الْمَكْرُ السَّيِّئُ ۩. نعم!

لَهُمْ عَذَابٌ ۩، يتوعَّد الله – تبارك وتعالى -، شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ۩، ما هو البوار؟ البوار هو الهلاك والاضمحلال والفساد والكساد. ومنه قولهم أرض بور. أليس كذلك؟ أرض بور، وبوَّر الأرض، بوَّر الأرض إذا تركها فلم يزدرعها، لم يسقها، لم يُعن بها، فصارت ماذا؟ فصارت أرضاً لا فائدة فيها، هالكة، فاسدة، باطلة، لا تصلح حتى للزرع. بوَّرها! يُقال بوَّرها، وهي أرض بور. قال تعالى وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا ۩ في سورة الفرقان، أي هلكى، قَوْمًا بُورًا ۩، وَكُنتُمْ قَوْمًا بُورًا ۩ في الفتح، أي قوماً هلكى، أهلكتكم عقائدكم الشركية وأعمالكم الخبيثة.

وأيضاً العامة في القديم والحديث يستعيذون بالله من ماذا؟ من بوار الأيم. يقولون نعوذ بالله من بوار الأيم. وهي السيدة أو البنت التي لا زوج لها، أي التي يُسمونها الآن العانس، أن تُصبِح عانساً فتبور، ومنها هذه، كما تبور السوق، يقولون ماذا؟ بارت السوق. وذلك إذا كسدت ولم ترج فيها البضائع، إذا لم ترج فيها السلع والبضائع، يُقال بارت السوق. هذا هو البوار! في سورة إبراهيم وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ۩، أي دار الهلاك – والعياذ بالله -. نعم!

وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ ۩، هذه الآية – سُبحان الله، ومن فضل الله تبارك وتعالى – تهديني مُذ كنت في الإعدادية، شعار كبير في حياتي، أستهدي بها، وهذا تقريباً من بضع عشرة سنة، كان عُمري بضع عشرة سنة، وإلى اليوم، وأنا أدعو كل أحبابي وإخواني أن يجعلوها شعاراً في حياتهم. إياك أن تُقابِل المكر بمكر، أو تُقابِل السيء بسيء. عوِّل على الله، وقابل مكر المكّارين ودهاء الدُهاة وخُبث الخُبثاء وشرور الأشرار بالتعويل على الله. أنا أقول لك وبعزة الله تنتصر دائماً، ويخسرون دائماً، لكن إذا فعلاً أخذت بهذه الخُطة، وهذا مع أن عندك أبواب كثيرة مُفتَّحة، أن تمكر بهم، أشد مما مكروا بك، وأن تُلحِق بهم من الأذى، أشد بكثير مما أرادوا إلحاقه بك، لكنك لا تفعل، وتقول لا، حسبي الله ونعم الوكيل، أنا عبد الله، وأُريد أن يراني الله كما يُحِب، لا أُقابِل السوء بالسوء، ولا السيئة بالسيئة، ولا المكر بالمكر، ولا الخُبث بالخُبث، ولا التجسس بالتجسس، ولا السعاية بالسعاية، أبداً! وأُعوِّل على الله.

وأنا قلت لك وعزة الله تنتصر دائماً، ويخيبون دائماً. بفضل الله هذه الآية من الآيات… ماذا أقول لك؟ أي عشت معها عمري – بفضل الله -، مُنذ كنت ابن بضع عشرة سنة، إلى اليوم، وهي شعاري فيما بيني وبين الله، أعيش بها، أي هذه الآية، جليلة!

 

۞ وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ۞

 

وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ۩، الشيئ نفسه، انظر إلى هذا، لم يقل خلقكم الله من تراب، وَاللَّهُ ۩، لأنه هو المُنفرِد – لا إله إلا هو – بالخلق، وَاللَّهُ خَلَقَكُم مِّن تُرَابٍ ۩، قال كثيرٌ من المُفسِّرين أي خلق أصلكم وهو آدم. وأنا لا أستروح لهذا القول، لا أستروح لهذا! هل تعرفون لماذا؟ لأن هناك آيات أُخرى لا تحتمل هذا تقريباً، إلا بتكلف بارد، بتكلف شديد! قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ ۩، ليس خلق أباك آدم، خَلَقَكَ ۩، أنت مخلوق هكذا، خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا ۩، في صدر سورة الحج يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ۩، خَلَقْنَاكُم ۩، صحيح آدم من تراب، ولكن أنا من تراب أيضاً، وأنتَ من تراب، وهي من تراب، وكلنا من تراب! لكن كيف نحن من تراب؟ الآية تقول ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ۩، وهي المني، أو نُطفة الرجل، ونُطفة المرأة أيضاً كما ورد في الأحاديث، وهي البُييضة طبعاً، أي عند المرأة. كيف هذا؟ هنا طبعاً نقول هذا باعتبار الأصل، وهذا الذي يجمعنا إذن بأبينا آدم، يبدو أننا وأبانا آدم جميعاً مخلوقون في الأصل من ماذا؟ من تراب.

بل ليس هذا فحسب، اليوم إذا أخذنا بمُقتضى النظريات التطورية في نشأة الحياة، فإننا سنجد أن كل الحياة نشأت في طين البحار، في أرضية البحر، أي من الطين، في الطين! في طين البحار، معناها أننا من تراب. وفعلاً كل الحياة ترابية، كلها! ولذلك مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ ۩، في سورة طه.

وهذا هو الصحيح، والموضوع طبعاً يحتمل كلاماً طويلاً جداً، ولكن هذا نُخليه لمُحاضَرات أُخرى تتعلَّق بالقضية.

إذن مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ۩، وذكرنا ما هي النُطفة، قد تكون خصوص نُطفة الرجل، وقد تكون عامة للنُطفتين، وهذا الأظهر. ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا ۩، قيل أَزْوَاجًا ۩ أي ذكوراً وإناثاً، أو زوَّجكم ذكراناً مع إناث. وَمَا تَحْمِلُ ۩، هذه مَا ۩ طبعاً النافية، أو الجازمة الشرطية طبعاً، وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ ۩، أي لا يكون هذا إلا بعلمه – لا إله إلا هو -، والآية واضحة.

وَمَا يُعَمَّرُ ۩، وهنا دخلنا في ورطة من وَرْطات التفسير أو من وَرَطات (بفتحين) التفسير، وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ۩، وأيضاً لأن هذا الموضوع أعتقد طرقناه من سنين بعيدة ومن سنين قريبة – ربما من حوالي خمس أو ست سنوات – في خُطب ومُحاضَرات تتعلَّق بالمحو والإثبات، لا نُريد أن نخوض فيه الآن، لأن هذا يحتمل كلاماً طويلاً جداً، لساعات! ولكن أُلخِّص لكم أيضاً أقوال السادة المُفسِّرين، على جهة الاستعجال وجهة الاستخلاص.

(ملحوظة هامة) يُمكِن الرجوع إلى خُطبة القدر محواً وإثباتاً، التي تحدَّث فيها فضيلة الدكتور عن هذا الموضوع بنوع من الإسهاب الذي يتفق مع وقت خُطبة جُمعة، وذلك من خلال هذا الرابط:

 

منهم مَن قال في وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ۩ التالي، كابن عباس، قال كل واحد مكتوب في صُحف الملائكة بأمر الله – تبارك وتعالى – يعيش كذا وكذا سنة، وكذا وكذا شهراً، كذا وكذا أسبوعاً، كذا وكذا يوماً، كذا وكذا ساعة. بالضبط! مكتوب سيعيش كذا وكذا سنةً، كذا وكذا شهراً، كذا وكذا أسبوعاً، كذا وكذا يوماً، كذا وكذا ساعةً، بل وكذا وكذا لحظةً، وكذا وكذا نفساً. أكيد! ولكن آخر شيئ قاله هو ساعة. لأن الساعة في اللُغة العربية لا يُعنى بها ستون دقيقة، أي مقدار قليل، دقائق يسيرة. ومكتوب في صحيفة أُخرى يا إخواني نقص من عمره سنة، نقص شهر. ها هي ذهبت سنة، ذهب عام ألفان وثمانية عشر، وألفان وتسعة عشر يذهب، نقص من عمره عشرون سنة، أو إحدى وعشرون سنة، أو ثنتان وعشرون سنة، وشهر أو وشهران أو وثلاثة أشهر أو أربعة أشهر، و… و… و… أربع وعشرون سنة. فهنا هذا تعميره وهذا نُقصان عمره. هكذا فهمها ابن عباس.

وقريب منه قول سعيد بن جُبير، وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ ۩ هو ما سيستقبله من عمره، وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ۩ الذي مضى من عمره. وفلان هذا – ما شاء الله – بذكائه الشديد يحتفل بعيد ميلاده طبعاً، يحتفل أنه مضى من عمره سنة، ضاعت سنة أيضاً! أتحتفل؟ تحتفل بماذا؟ هذا ذهب، هذا نقص في عمرك. بصراحة إذا كانت هناك مُناسَبة  يُمكِن تذكرها بعد أن يمضي عام على الواحد، فينبغي أن تكون جلسة حُزن ومُحاسَبة، يقعد فيها ويبكي، ذهبت سنة كاملة من عمري، مر اثنا عشر شهرا، سأضرب هذه الأشهر في ثلاثين يوماً، وفي كذا. ماذا عملت فيها؟ ماذا كسبت من الخطيئات ومن الإثم، وحتى من الخيرات؟ حتى لو لم تكتسب ولا خطيئة، ما هو مقدار الخيرات الذي اكتسبت أو اكتسبته أنت؟ كثير أو قليل؟ وتحزن على نفسك، وطبعاً الكل سيندم، والكل سيعتبر أنه قصَّر، أكيد! لم يستغل وقته وعمره على النحو الأمثل. فهذا قول ثانٍ.

قتادة بن دعامة السدوسي – مثلاً – قال وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ۩، قال مَن بلغ الستين، فقد عُمِّر. ومَن مات دون الستين، فقد نُقص من عمره أو نَقص من عمره (باللازم). قال هذا تفسير. وبعضهم قال لا. وأخذ بظاهر الآية، الظاهر الذي عدّه بعض المُفسِّرين مُستحيلاً ومُخالِفاً للبداهة والحس، وفي الحقيقة ليس مُستحيلاً ولا مُخالِفاً للبداهة. عن أي بداهة يتحدَّث هؤلاء الأفاضل؟ لا أدري. وهو ماذا؟ وهو فعلاً أنه يُمكِن أن يُزاد في عمر الفرد الواحد منا، ويُمكِن أن ينقص منه. وذلك موقوف على جُملة أسباب، في رأسها البر والفجور. فيزيد عمر مَن كان باراً أو براً، بعيداً من الفجور والإثم، وبالذات في رأس الفجور البغي وقطيعة الرحم، أكثر شيئ ينقص عمر الإنسان – والعياذ بالله – البغي، أي الظُلم، ظُلم الناس، حتى ولو باللسان، انتبه! البغي وقطيعة الرحم، وفي المُقابِل هناك البر وبذل الخير للعالمين، وأهم شيئ صلة الأرحام، أن تصل أرحامكم وأن تبرهم، تزيد في العمر.

فورد في آثار كثيرة – وهكذا فسَّر جُملة من المُفسِّرين – أنه يكون مكتوباً عمر فلان ستون سنة. فإن واصل رحمه وبرهم وكذا وكذا، زيد فيه، فأصبح تسعين. ثلاثون سنة! أي خمسون في المائة الزيادة، هل هذا واضح؟ إذن كأن هناك عمرين بحسب هذا المعنى، فيُمكِن أن يزداد العمر ويُمكِن أن ينقص. وطبعاً في اللوح المحفوظ وفي أم الكتاب وفي علم الله هذا معروف، معروف الأجل الذي ستنتهي إليه، وحين تنتهي إليه، هذا الأجل لا يتقدَّم ولا يتأخَّر، ولا تستطيع أن تتجاوزه.

وإليه الإشارة بقوله – عز من قائل – في أول سورة الأنعام هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ۩، قال ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ ۩، واضح! الآية تتحدَّث عن أجلين.

وعلى فكرة هذا التفسير لا يلتئم بمذهب أهل السُنة، مع أن – سُبحان الله – الآيات قرآنية، الأحاديث نبوية، وفي الصحاح وفي المسانيد والسُنن، أحاديثنا هذه، ليست أحاديث المُعتزلة! لا يلتئم هذا بمذهب الأشاعرة والماتريدية وفقهاء الحديث، وهو مُلتئم تماماً بمذهب المُعتزِلة، فالمُعتزِلة قائلون بالأجلين، المُعتزِلة يقولون ماذا؟ إن لكل إنسان أجلين. ولذلك يقولون بنظرية الاخترام. يُسمونها نظرية الاخترام! ويعتقد أهل الاعتزال (المُعتزِلة) أن القاتل الذي يعدو على حياة غيره فيُنهيها – بضربة بسكين أو خنقاً أو بالرصاص، يقتل بأي طريقة -، يكون ماذا؟ يكون خرم او قطع أجله. ولولا هذه القَتلة – هذا ليس اسم هيئة، هذا اسم مرة، لولا هذه القَتلة أو لولا هذا القتل -، لربما عاش هذا إلى أجله المكتوب في علم الله، الذي هو ربما يكون أزيد بكذا وكذا سنة. فقالوا بالأجلين. وخالفهم أهل السُنة، والمسألة طويلة، وفيها آثار وأخبار عن رسول الله كثيرة.

على كل حال في الصحاح – في البُخاري وفي مُسلِم – أن مَن أحب أو مَن أراد أن يُبسَط له في رزقه وأن  يُنسأ له في أجله – وفي رواية يُنسأ له في أثره، يُمَد له في أجله -، فليصل رحمه. وبعد ذلك تابعوا بين الحج والعُمرة، فإن المُتابَعة بينهما تنفي الفقر، وتمحق الذنوب، وتُطيل في العمر. ولا يُطيل في العمر – النبي يقول – مثل ماذا؟ مثل البر، وصلة الأرحام. أحاديث كثيرة! وحديث رأيت ملك الموت جاء إلى شاب ليقبض روحه، فجاءه بره بوالديه، فأخَّر عنه ملك الموت. وأشياء كثيرة! وهناك قصة لوالد الشهيد الإمام المرحوم البوطي – رحمة الله عليه – في هذا الأمر، هناك قصة عن والده، عودوا إليها، وقد ذكرتها قديماً قبل ربما بضع عشرة سنة، لكي تعرفوا كيف تُوجَد فعلاً هذه الفُرصة المرنة في عمر الإنسان على ما يبدو، وفعلاً كيف أُخِّر عنه الموت وعاش عمراً جديداً، أي عن والده، قصة عجيبة غريبة، يحكيها الشهيد البوطي في أول كتابه (هذا والدي). على كل حال موضوع طويل، هذا موضوع طويل!

(ملحوظة هامة) القصة التي أشار إليها فضيلة الدكتور عدنان إبراهيم عن والد مولانا البوطي – رحمه الله – كان قد ذكرها في خُطبة بعنوان: العلّامة البوطي… نور العلم وشرف الشهادة. يُمكِن الاطلاع عليها من خلال هذا الرابط، وتحديداً في هذا التوقيت 1:6:10.

بعض العلماء على فكرة – وهذا ربما أقوى آراء المُفسِّرين، وهم يستحسنونه ويستثمنونه – قالوا  وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ ۩، هنا ليس الحديث عن الفرد. ليس الحديث عن الفرد! أي بلُغة المناطقة الكلام هنا عن المفهوم، عن مفهوم المُعمَّر، وليس عن مصاديقه. أو بلُغة المناطقة مرة أُخرى الحمل الأولي والحمل الشائع. الحمل الأولي الحمل المفهومي، الحمل الشائع الحمل المصاديقي. وهنا الحمل ليس حملاً مصاديقياً، ليس حملاً مصاديقياً، بل هو حمل أولي. بمعنى ماذا إذن؟ الحديث عن جنس المُعمَّر، عن الجنس وليس عن الفرد، عن الجنس المُعمَّر! فهذا من باب المسألة المعروفة في اللُغة عندي درهم ونصفه. أليس كذلك؟ العرب تقول هذا، تقول لك عندي درهم ونصفه. وما المقصود؟ درهم ونصف درهم (آخر). الكن الحديث ليس عن الدرهم هذا بالذات، أي ليس عنه هو، الحديث عن الدرهم كدرهم، فيُمكِن إذا كان الحديث عن جنس الدرهم أو مفهوم الدرهم – أي عن الــ Concept، عن مفهوم الدرهم – أن تقول درهم ونصفه. أليس كذلك؟ من غير أن يُنصَّف درهم مصداقي، أي درهم حقيقي. هل هذا واضح يا إخواني؟

كما أقول لك السيد فلان – مثلاً – لا يُحِب عبده ولا يكرهه إلا بحق. فإذن هو يُحِبه أم يكرهه؟ المقصود هنا جنس العبد. فلذلك قد يُحِب أحد عبيده بحق، وقد يكره عبداً (آخر) من عبيده بحق، والتعبير ماذا؟ لا يُحِب عبده ولا يكرهه إلا بحق. وليس المقصود عبداً واحداً، أي هذا فرد، المقصود هو الجنس. انظر إلى اللُغة العربية، عجيب! ومن غير منطق أرسطو Aristotle هذا، تخيَّل! من غير أن ندخل في الحمل الشائع والحمل الأولي، العرب تفهم هذا بذوق اللُغة.

ولذلك فعلاً مَن يفهم اللُغة العربية كما يفهمها العرب الأقحاح، لا يحتاج حتى إلى منطق أرسطو Aristotle، يقدر على أن يتصرَّف في الفكر ويفهم ويستدل بطريقة سليمة، ولكن هذه المسألة أصبحت واعرة وصعبة الآن، ومَن ارتقى هذا المُرتقى، يكون ارتقى مُرتقىً صعباً جداً. فالعرب تفهم هذا بالبداهة، وتُعبِّر عن هذا بالبداهة. يقول لك ما تنعمت بلداً ولا استوخمته إلا قل لُبثي فيه. عجيب! أنت استنعمته أم استوخمته؟ ليس المقصود بلد مُحدَّد، هو يتحدَّث عن البلد كجنس البلد، فيُمكِن أن يتنعم بلداً، ويُمكِن أن يستوخم بلداً (أُخرى). ولكن هو ماذا قال؟ ما تنعمت بلداً ولا استوخمته إلا قل لُبثي فيه. هكذا العرب تُعبِّر.

إذن هذا من باب التعبير عن الجنس، وهذا قول قوي في الحقيقة، أي لا بأس به، فهذا من أقوى الأقوال أيضاً، من أقوى الأقوال! ولولا الآثار التي ألمعت إليها الآن وقلت بعضها في الصحاح، لما استروحنا إلى القول الذي يقول فعلاً إن عمر الإنسان يُمكِن أن يُزاد فيه ويُمكِن أن يُنقَص منه بالبغي والظُلم والفساد في الأرض – والعياذ بالله تبارك وتعالى -.

المُهِم هذه مسألة طويلة، وفيها مُؤلَّف رسائل، الإمام الشوكاني (محمد بن عليّ الشوكاني) عنده رسالة لطيفة، اسمها على ما أذكر تنبيه الأفاضل على ما ورد في زيادة العمر ونقصانه من الدلائل. رسالة! وهناك رسالة للسيوطي، قرأتها ولم أستفد منها شيئاً، مُجرَّد إتيان بالآثار، فقط جمَّع الآثار وكذا، وهي رسالة صغيرة جداً، حوالي خمس عشرة صفحة من الآثار، وهذه الآثار موجودة كلها في تفسيره الدُر المنثور، بغير نقص! فلا نحتاجها، وهناك رسالة أحسن منها، مثل رسالة الشوكاني، لمرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي المقدسي الفلسطيني، وهي جميلة، في المحو والإثبات.

إذن وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ۩، هذا لا يتعاصى ولا يتعاجز ولا يتكاءد ولا يعسر على رب العزة – لا إله إلا هو -، مسألة سهلة، يزيد وينقص وكذا، كله سهل. أو يعلم الأعمار كما هي على التفسيرات الأول، فأيضاً هذا داخل في دائرة علمه المُحيط – لا إله إلا هو -.

 

۞ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۞

 

وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا ۩، دخلنا في الأمثال الآن طبعاً، دخلنا في الأمثال! وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۩، ضرب مثل هذا، والناس تعرف طبعاً أن لا: يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ ۩، أي البحر المِلح الأُجاج، والبحر العذب الفرات، مثل البُحيرات والبرك والأنهار طبعاً، فهذه كلها تُسمى بحاراً. يقولون لك البحرة. حتى السوريون إلى الآن يقولون لك البحرة. وهي ماذا؟ النافورة الصغيرة في وسط الدار. يقولون لك البحرة. قد يقول لك أحدهم كيف قال القرآن الْبَحْرَانِ ۩ والماء كذا وكذا؟ يتفلسفون! لا يفهمون اللُغة العربية، هذه اللُغة تُسمي النهر بحراً. وكل مُسطَّح مائي يُسميه العرب بحراً. وهم ظنوا أن البحر بمعنى الــ Sea، وهذه المُشكِلة، هذه هي المُشكِلة! الواحد منهم يُحاكِم اللُغة الأفصح أو اللُغة الأفصحية إلى ماذا؟ إلى لُغة عوام في القرن العشرين. أنت تُحاكِمها إلى قاموس؟ لا. إلى عاميتك وعامية أهل قريتك. ثم تأتي وتنتقد كتاب الله، اذهب وانظر واقرأ المُعجَم العربي. وعلى كل حال هذا كله يُسمى بحاراً، كله يُسمى بحاراً، أي الأنهار والبُحيرات والبرك الكبيرة وكذا.

الله يقول هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ ۩، فَرُتَ الماء، يُقال فَرُتَ الماء إذا عَذُبَ، من باب كَرُمَ، يُقال فَرُتَ الماء، فهو ماء فُرَاتٌ ۩، أي شديد العذوبة. وعكسه ماذا؟ المِلح الأُجاج. ولذلك قال سَائِغٌ شَرَابُهُ ۩، يسيغه الإنسان بغير استكراه، ما أحلاه على المعدة! يقول لك هَنِيئًا مَّرِيئًا ۩، لأنه سائغ.

وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ ۩، أجَّ الماء، يَأْجِجُ، يَأْجَجُ، يَأْجُجُ، من باب سَمِعَ، ضَرَبَ، نَصَرَ. سَمِعَ وضَرَبَ ونَصَرَ! أي سَمِعَ يَسمَعُ، يَأجَجُ! ضَرَبَ يَضرِبُ، يَأْجِجُ! نَصَرَ يَنصُرُ، يَأْجُجُ! فهذا مُهِم لك حين تقرأ في المُعجمات – والجمع الصحيح ليس المعاجم، وإنما المُعجمات -، لكي تفهم الأشياء هذه. يقولون لك – مثلاً – يَأْجُجُ. ولم يكن قديماً هناك إشارات التشكيل هذه، أليس كذلك؟ يكتبون لك فقط يأجج. وأنت لا تعرف هذه يَأْجِجُ أم يَأْجَجُ أم يَأْجُجُ. فيقولون لك يأجج من باب نصر، إذن هي يَأْجُجُ. ومن ثم تفهمها أنت، لأنها نَصَرَ يَنصُرُ، أنت تعرفها هذه من غير تشكيل، يَنصُرُ! ضَرَبَ يَضرِبُ، أي واحد يقول لك يَضرِبُ. وهم يقولون لك هذا من باب ضرب. إذن يَضرِبُ، يَأْجِجُ! وكذلك من باب سمع. يَسمَعُ، مفتوحة ماذا؟ الوسط، يَسمَعُ، يَأجَجُ!

إذن أجَّ الماء، يَأْجِجُ، يَأْجَجُ، يَأْجُجُ. على الثلاثة! فهو أُجَاجٌ ۩، أُجوجاً، والأُجوج هو المصدر، والأُجاج هو ماذا؟ الاسم. مِلْحٌ أُجَاجٌ ۩، أي شديد الملوحة. شديد الملوحة! وهذا معنى الأُجاج، مِلْحٌ أُجَاجٌ ۩.

قال – عز من قائل – وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا ۩، الأسماك، الأسماك الخاصة بالــ Fresh water أو الماء العذب، والأسماك الخاصة بالمياة المِلحة. جميل! وهناك مُشكِلة الآن، وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۩، هنا المُشكِلة، وهذه المُشكِلة استشكلها المُفسِّرون القدماء وخرجوا منها بالتأويل، وخرجوا منها بالتأويل! كيف؟ قالوا من المعروف أن هناك المرجان – وتعرفون المرجان، والشعاب المرجانية، أي الــ Coral reefs -، وهذا لا يكون إلا في المياه ماذا؟ المِلحة. واللؤلؤ أيضاً لا يكون إلا في ماذا؟ إلا في المياة المِلحة. وليس في المياه العذبة! فهذا ما فهمه المُفسِّر القديم، قال لك ولكن الله يقول وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ۩، وهذا كيف؟ وَمِن كُلٍّ ۩! قال لك لا، تُؤوَّل هذه. ما المقصود بالآية؟ وَمِن كُلٍّ ۩ فعلاً يُستخرَج اللحم الطري وهي الأسماك، تُستخرَج من كلا البحرين: المِلح، والعذب. وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً ۩ من المِلح، دون ماذا؟ دون الفرات العذب. كقوله تعالى وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ۩. فالأول للأول، والثاني للثاني. الأول للأول، والثاني للثاني! وهذا من نمط قولهم لو رأيت الحسن – أي البِصري – والحجاج، لرأيت خيراً وشراً. مَن الخير؟ الحسن. ومَن الشر؟ الحجّاج. فهذا هو، هذه اللُغة العربية! لو رأيت الحسن والحجّاج، لرأيت خيراً وشراً. فالأول للأول، والثاني للثاني. ولو رأيت الأصمعي وسيبويه، لملأت يديك – أو يدك – لُغةً ونحواً. هكذا هم يقولون! لو رأيت الأصمعي وسيبويه، لملأت يديك لُغة ونحواً. اللُغة مِن مَن؟ مِن عبد الملك بن قريب (الأصمعي). والنحو مِن مَن؟ مِن عمرو بن عثمان بن قنبر (سيبويه). هذا النحو! وهذا المقصود، قالوا هذا الشيئ نفسه. قالوا ولكن هنا اللحم الطري من الاثنين، لا بأس! والحلية من ماذا؟ من المِلح، دون العذب الفرات. لأن اللحم الطري – كما قلنا – من العذب والمِلح. وبعد ذلك يأتي المِلح، ومنه الحلية.

ولكن هذا التأويل فيه كلام وإن كان سائغاً لُغةً، لأن العلم الحديث الآن – بفضل الله – والكشوف الجديدة كشف عن الآتي، وبعض هذه الكشوف عمره يصل إلى زُهاء سنتين. قالت لك لا، خُذ بظاهر الآية، وهذه الحلية التي نلبسها موجودة في المائين: العذب، والمِلح. أما اللؤلؤ، فالقضية فيه محسومة، وهذا من عقود طويلة، ويُسمى لؤلؤ المياه العذبة، موجود! اللؤلؤ موجود في المياه العذبة، وأكثر دولة الآن تُربي هذا اللؤلؤ في المياه العذبة وتُصدِّره إلى العالم الصين، واسمه لؤلؤ المياه العذبة. فهذه ليست مُشكِلة، ولكن بقيت المُشكِلة في ماذا؟ المرجان.

المرجان بالذات فعلاً حياته مشروطة بوسط مُعيَّن، هذا الوسط تُوفِّره المياة المِلحة، لكن – بفضل الله – قبل ثلاث سنوات حصل الآتي، تقريباً في أبريل أو في شهر أربعة من عام ألفين وستة عشر – أي هذا من ثلاث سنوات – نشرت الجارديان The Guardian الإنجليزية دراسة، ويُمكِن أن تدخل لكي تراها عبر النت Net، وقد راجعتها، وهي موجود إلى الآن – بفضل الله -، ونشرتها بعد ذلك مجلات علمية مُتخصِّصة، مجلات علمية مُحكَّمة. قالوا لك: Huge coral reef discovered at Amazon river mouth. هذه اكتُشفت أين؟ في الــ Mouth الخاص بالأمازون Amazon. قالوا at Amazon river mouth. أي هذا في المصب الخاص بالأمازون Amazon، في مصب الأمازون Amazon!

(ملحوظة هامة) هنا رابط الجارديان The Guardian، التي نشرت ما ذكره فضيلة الدكتور تحت عنوان  Huge coral reef discovered at Amazon river mouth، وذلك بتاريخ Fri 22 Apr 2016. لأن من المُهِم الاطلاع على هذه المعلومات بلُغتها الأصلية وهي الإنجليزية، للتأكد من صحتها.

المصب هذا بالذات يا إخواني أين يصب؟ في المياة المِلحة. وقد حددوه، وهذا يُؤكِّد ما ورد في سورة الرحمن، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ۩ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لّا يَبْغِيَانِ ۩ فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ۩ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ ۩، الله أكبر! قال لك مِنْهُمَا ۩، من الالتقاء. العنوان الخاص بالجارديان The Guardian يقولون لك فيه at Amazon river mouth. وهنا الــ Mouth ليس معناها الفم طبعاً، وإنما معناها المصب، أي هذا في مصب الأمازون Amazon، في المياه المِلحة، المُحيطية. شيئ غريب! وهي دراسة واسعة، وقالوا لك هذا على مساحة تصل إلى كذا ألف ميل مُربَّع – لا أستحضر بالضبط الرقم الآن -. أي على مساحة هائلة من المرجان. صدمة! عملت Shock للعلماء، لأول مرة يكتشف العلماء وروّاد البحار مرجاناً في مياه عذبة، ولكن هذه المياة العذبة عند المياه المِلحة، عند المصب! ولكن هي في الأخير محسوبة على المياه ماذا؟ العذبة. في الأمازون Amazon! هي في الأمازون Amazon، تخيَّل! فالحمد لله.

ولذلك بصراحة هذه رسالة، رسالة لكل مَن يسمع هذا الكلام، بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۩، لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ۩، كأن الله يقول لك لا تُكذِّب بشيئ أخبرك الوحي به. فالوحي أخبرنا عن ألوف الحقائق، وهي – بفضل الله – حقائق كونية، وحقائق في الآفاق الأنفسية وفي الآفاق العُلوية، وحقائق… أي ماذا أقول لك؟ حتى على مُستوى الوعي الإنساني، والذهن الإنساني، والشؤون الروحية الإنسانية الدقيقة. ودائماً ما تكون صحيحة صحيحة صحيحة. جيد! الآن هناك بضع حقائق – فقط بضع حقائق، حقائق معدودة على أصابع اليدين الثنتين، تزيد أو تنقص – ليس عندنا نبأ منها، أليس كذلك؟ أنأتي ونقول القرآن غالط، القرآن يتكلَّم بغير الحقائق؟ مَن قال لك هذا؟ أنت علمك لا يزال قاصراً، والقرآن قال لك بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا ۩، أنت حين تسمع كلمة  لَمَّا ۩، تفهم ماذا؟ أن قريباً سوف يأتيك الخبر. أليس كذلك؟ فلان لم يأت. فلان لم يأت! متى سوف يأتي؟ والله لا نعرف، ربما لن يأتي حتى بالمرة، ونحن لا نعرف. لكن لم يأت تختلف عن لما يأتي. حين يقول لك أحدهم فلان لما يأتي، تفهم أنه ماذا؟ أنه تقريباً يُتوقَّع مجيئه قريباً. لما يأتي، أي عنده إمكانية لأن يأتي، يُمكِن أن يأتي. إذن وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ۩، الله أو القرآن ماذا يقول؟ قريباً سوف يأتيكم تأويله، لا تستعجلوا.

فقبل عام ألفين وستة عشر كانت هذه مُشكِلة، أليس كذلك؟ وطبعاً كنا نلجأ إلى التأويل، والحمد لله يُوجَد عندنا هذا في اللُغة العربية، وهذا إعجاز القرآن أيضاً، فالقرآن حمّال أوجه يا أخي، والذي أنزله – لا إله إلا هو – أنزله بصيغات تحتمل أكثر من معنى. عجيب! شيئ عجيب، تحتمل هذا المعنى، وتحتمل التأويل. إذا كان الظاهر يصطدم بالبداهة، بالحس، بحقائق العلم المُقرَّرة، وإلى آخره! فإنك تلجأ إلى التأويل، وظاهرها أيضاً يسمح لك أن تُؤوِّل، اترك الظاهر وخُذ بالتأويل، وهكذا!

إذن وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ ۩، أي شواق، شواق! تشق، هي ماخرة، أي سفينة واحدة ماخرة، والفلك أو السُفن مواخر، شواق! تشق. مخرت الماء، أي شقته. والعرب تُسمي السحاب بنات ماخر. يُمكِن أن تسمع في اللُغة العربية مَن يقول لك بنات ماخر. ويُمكِن أن تسمع هذا بالتحديد في الشعر، ما المقصود ببنات ماخر؟ السحاب. لماذا؟ لأنه يشق الهواء، يشق الهواء! فسموه بنات ماخر. إذن المواخر هي السُفن.

وبالمُناسَبة من اللطيف أيضاً أن السُفن لها علاقة بكلمة مَوَاخِرَ ۩، لماذا؟ فكلمة سفينة من ماذا مُشتقة؟ من سفن. وسفن بمعنى قشر، سفن الشيئ قشره. فكأن السفينة وهي تمخر عُباب الماء تقشر الماء، كأن هناك جلدة هكذا وهي تقشرها، تقشرها من هنا وتقشرها من هنا وتمشي، فإذا فكَّرت في كلمة سفينة، وجدت أنها من ماذا؟ من السفن. والسفن هو القشر أو التقشير، فكأنها تقشر الماء. وإذا قلت ماخرة، فهذا لأنها تشق الماء وتمخر عُبابه.

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سُبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: