نظرية التطور 

السلسلة الأولى: الأدلة والمؤيدات

الحلقة السابعة والعشرون

أعضاء أثرية وتأسلات – الجزء الأول

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، اللهم علِّمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علَّمتنا وزدنا علماً.

أحبتي في الله، إخواني وأخواتي: السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته،أستكمل معكم في هذه الحلقة الحديث عن دلائل أخرى لنظرية التطور مما يذكره العلماء عادةً في كتبهم المُختَصة بهذا الشأن، وطبعاً نظرية التطور كسائر النظريات العلمية الناجحة لابد دائماً أن تُطلِق تنبؤات – Predictions – ثم تخضع هذه التنبؤات لماذا؟ للاختبار، وكلما نجحت أكثر كلما تأكدت النظرية، وهذا ما يُعرَف بالقدرة التنبؤية للنظرية، فمن ضمن تنبؤات النظرية القديمة إلى حد بعيد تنبؤها بأن الثعابين قد تطورت عن زواحف وبالأحرى عن سحالي – Lizards – ذات أطراف أمامية وخلفية، وهذه السحالي حين تطورت فقدت أطرافها، وبقيَ طبعاً هناك ما يُعرَف بالأدلة الأثرية أو الآثار الباقية لها Vestiges كما شرحناها في حلقةٍ سابقة، فهل هذا صحيح؟ طبعاً جاءت الأحافير لتُصدِّق هذا التنبؤ التطوري، في عام ألفين وستة في بتاجونيا Patagonia – علماً بأننا ذكرنا إقليم بتاجونيا Patagonia في تاريخ النظرية في الأرجنتين – عثر العلماء على مُتحجِّرة لثعبان تعود أو ترقى قِدماً إلى تسعين مليون سنة، وبالفعل هذه المُتحجِّرة أظهرت صحة التنبؤ التطوري، حيث يُوجَد حزام حوضي رفيع أو ضئيل، ورجلان أو طرفان خلفاان مُتحجِّران ضامران، فهذا موجود في هذه الحفريات، وهذا يُؤكِّد إذن أن الثعابين لها أسلاف من السحالي تطورت وفقدت هذه الأعضاء، فهذا واضح، والعلماء كانوا يتحدثون قبل هذا على أنها نبؤة، والمفروض أن يكون الأمر كذلك، ولأنه في السجل الأحفوري السحالي كانت موجودة قبل الثعابين رجَّحوا أن تكون الثعابين هى نوع من الأخلاف أو المُتحدِّرات تطورت عن السحالي، وجاءت هذه الأحفورة في ألفين وستة في إقليم بتاجونيا Patagonia لتُؤكِّد صحة هذا التنبؤ، وهناك أيضاً أحفورة عجيبة من الأحفورات المُثيرة جداً إسمها Haikouella lanceolata، وهذه وجدوها في الصين، وهى ترقى إلى خمسمائة وثلاثين مليون عام، وهذا شيئ عجيب، أي أكثر من نصف مليار – أكثر مكن نصف بليون – سنة، وهى تُشبِه السمك الرعّاد المُسمى بالأنقليس الذي يضرب بالكهرباء، فهى تُشبِهه تماماً، وهى صغيرة طبعاً، ولا تتجاوز البوصة، أي لا تتجاوز اثنين ونصف سنتيمتراً، علماً بأن البوصة هى الإنش Inch، وهى صغيرة جداً، ولها زعنفة ظهرية مُشرشَبة، وطبعاً إذا كتبت إسمها سوف تستطيع أن تراها في مواقع كثيرة جداً، فهى لها رأس ولها مخ ولها قلب ولها أيضاً عمود غضروفي على طول الظهر ولها حبل شوكي Spinal cord، إذن يقترح العلماء – علماء التطور والتاريخ الطبيعي – أنها قد تكون أول الحبليات، أي السلف الأقدم المُشترَك لكل الحبليات، لأنه فيها حبل شوكي في هذا الجسم الصغير، ولذلك أيضاً هم يقترحون أن هذا الحيوان الدقيق البسيط الذي لا يتعدى إنشاً واحداً قد يكون الجذر التطوري الأبعد لنا بهذا الاعتبار لكل الفقاريات وكل الحبليات.

عوداً إلى الأعضاء الأثرية التي ذكرناها الآن – Vestiges تعني أعضاء أثرية – نُحِب أن نقول يُوجَد فرق طبعاً بين العضو الأثري وبين أشياء ألأخرى سأذكرها ربما بُعيد قليل في الحلقة، فالعضو الأثري هو أثر من عضو فقد وظيفته، أي لم يعد يُمارِس وظيفته، وهذا لا يعني أنه غير موجود، بل هو موجود ولكنه لا يُمارِس وظيفته التي تطور لأجلها في الأصل، فلماذا تطور هذا العضو وظهر؟ من أجل أن يُؤدي هذه الوظيفة المُحدَّدة، لكنه الآن لا يُؤديها، فلماذا هو موجود الآن إذن؟ دليل صامت على التطور، وكما قلنا في حلقة سابقة الخلقوي هنا يجد نفسه في مأزق حقيقي، فلو كان كل شيئ بخلق إلهي مُباشِر وبتصميم ذكي لماذا يُصمِّم الله أعضاء لا وظائف لها؟ لماذا إذن؟ المفروض ألا تكون موجودة، المفروض ألا يحمل الكائن أمتعة زائدة، فأنت حين تمشي وتُسافِر – مثلاً – لا تُريد متاعاً زائداً، فلماذا هذا المتاع الزائد؟ هذه أشياء موجودة وليس لها وظيفة، لكن في الحقيقة التطور هو الذي يُفسِّر هذا، وذلك لأنها بقايا أعضاء كانت موجودة في أسلافنا وكان لها وظائف – أي كانت تُؤدي وظائف لها – لكن بعد ذلك كفت عن أداء الوظيفة لسبب أو لآخر وبقيت كآثار لتدل على ماذا؟ على ما كان في الماضي، تماماً مثل دلالة الأحفورة، فالأحفورة – Fossil – تدل على حكاية في الماضي، والأعضاء الأثرية هذه تدل على حكاية في الماضي، ونحن ضربنا أكثر من مثال للأعضاء الأثرية، واليوم سنُذكِّر بالأشياء المشهورة جداً في الإنسان بالذات، فمن الأعضاء الأثرية الزائدة الدودية، والزائدة الدودية عضو أثري وواضح أنه يُؤشِّر إلى أصولنا البعيدة التي كانت نباتية، لأن الحيوانات التي تغتذي بالنبات تحتاج إلى الزائدة الدودية، وتكون طويلة وعريضة ومُعقَّدة وفيها كما قلنا غُرف بصمّمات حين ذكرنا سحالي – Lizards – كرواتيا.

على كل حال هذه الزائدة موجودة، لكن قد يقول بعض الناس هذا غير صحيح فالأطباء والعلماء اكتشفوا فوائد لهذه الزائدة، وهذا صحيح، ففيها بعض نسيج يُساهِم بمعنى ما في جهازنا المناعي، وهذه وظيفة بسيطة وثانوية، أي أنها ليست قوية جداً، لأن مُعظم الناس الذين يتعرضون لالتهاب الزائدة يتأذون بسببها، وطبعاً الأطباء الجرّاحون الآن عموماً إذا فتحوا هذا المكان مُباشَرةً يستأصلون الزائدة، وهم يستأصلونها لك إذا حتى كنت لا تُعاني منها لأن هذا هو الأفضل لك، فأنت مُعرَّض للإصابة بالتهاب الزائدة وهو التهاب خطير إذا لم تُعالَج بالسرعة المُلائمة، وإذا تُرِك قد تنفجر الزائدة فتقتل صاحبها، فهى تُسمِّم كل البدن ويموت الإنسان، وهذا شيئ خطير جداً، فأنت مُعرَّض بنسبة واحدة على خمسة عشر أن تُصاب بالتهاب الزائدة، وهذه النسبة ليست كبيرة جداً ولكنها ليست ضئيلة أيضاً، فهى ليست واحد في المائة، وإنما واحد على خمسة عشر في المائة، وهى النسبة التي من المُمكِن أن تًصاب من خلالها بالتهاب الزائدة، فعلى كل حال قال لك هذه وظيفة، وهناك وظيفة أخرى وهى أنها قد تُشكِّل ملجأً للبكتيريا التي تُزال من الأمعاء في ظرفٍ أو في آخر، ففي ظرف ٍ أو آخر تُشكِّل ملجألاً إليها، لذا هى مفيدة أيضاً، فهى مقبرة لهذه البكتيريا، لكن مثل هذه الفوائد الثانوية البسيطة مرجوحة – أي يرجح بها – بماذا؟ بمخاطر الزائدة على الإنسان كما كما قلت لكم، لكن الآن طبعاً خطر أن يموت الناس بسبب التهاب الزائدة لا يزيد على واحد في المائة، أي بسبب التهاب الزائدة الذين يموتون ليسوا أكثر من واحد في المائة، وذلك بفضل ماذا؟ التطور والتدخل الجراحي، حيث يتدخل الجراحون، والعملية آمنة،ومن ثم نسبة الموت فيها هى واحد في المائة فقط، أي من كل مائة عملية من المُمكِن أن يموت واحد فقط، ولك أن تتخيَّل هذا، لكن طبعاً متى تدخل الأطباء جراحياً لإزالة الزائدة؟ في القرن التاسع عشر، وهذا وقت مُتأخِر، لكن قبل ذلك كانت نسبة الموت أعلى من هذا بكثير، فكانت تصل إلى عشرين في المائة، إذن عبر حياة الإنسان كلها في ألوف السنين وعشرات ألوف السنين كان الإنسان يحمل في باطنه قنبلة موقوتة تُهدِّد بقتله في كل لحظة، وهذا الذي يجعل المزيتين اللاتين ذكرتهما قُبيل قليل مرجوحتين بإزاء ماذا؟ مخاطر التهاب الزائدة الدودية، فإذن لماذا؟ يقول التطوريون من المُستحيل أن تكون هذه الزائدة من عمل تصميم ذكي أو من عمل وتصميم إله خالق مُريد مُدبِّر حكيم يُقدِّر كل شئٍ تقديراً ويضعه في موضعه، فهى غير مُناسِبة، وأضرارها أكثر بكثير من منافعها، إذن لماذا هى موجودة؟ يقولون لك هذه آثار باقية Vestiges، فهذا عضو أثري كان مُفيداً قبل مئات ألوف أو ملايين السنين في أسلافنا البعيدين الماضين، أما الآن فليس مُفيداً، والسؤال الآن هو لماذا لم يعمل التطور على إزالة الزائدة بالكامل؟ بما أنها خطيرة الآن وتُعرِّض الإنسان للالتهاب – أي لالتهابها – فلماذا لم يُزلها؟ يُمكِن أن يُجيب بعضهم قائلاً أنه في سبيله إلى ذلك، فالإنسان لم يقف ولا الكائنات ولا أي شيئ عن التطور، إنه لايزال يتطور، فهذه عملية مُمتدة Extended، وربما بعد عشرات ألوف أو مئات ألوف أو ملايين السنين تزول بالكامل ويزول معها خطر التهابها، وربما التطور وقف عند هذا الحد لأن هذا الحد هو المُلائم، بحيث أنه إذا تعداه يتعرض الإنسان لخطر أكثر، لكن كيف هذا؟بمعنى لو أن التطور عمل على تقليص الزائدة بحيث تكون أصغر وتكون أقل سمكاً أو أقل عرضاً أو أقل عُمقاً فإن هذا قد يُؤثِر على مُباشَرةً احتقانها السريع وانفجارها، لذا هذا الحجم هو المُناسِب الآن، وطبعاً قد يقول لي أحدكم أنت عجيب لأنك تتحدَّث وكأن التطور هو عقل كبير، فكأنه هو الرب والإله، وكأنه لدينا منطق هنا ولدينا دراية وما إلى ذلك، لكن هذا غير صحيح، وطبعاً أي تطوري وخاصة المُلحِد يقول لك هذا عمل الانتخاب الطبيعي الذي لا يعمل عشوائياً على أي تغير عشوائي، أي تغيرات عشوائية بطريقة البقاء للأصلح، فعملياً بحكم طبيعة الأمور وجري الأمور الذي يُثبِت أنه أصلح يبقى، وغير ذلك يهلك، لكنه عبر عنه بطريقة تُوحي بالحكمة والتصميم والغاية، ولا تُوجَد حكمة ولا تصميم ولا غاية طبعاً، وهذا جواب مُقنِع بالنسبة لهم، وهنا يُوجَد منطق في كلامهم، فإذا تأملتوه بعمق سوف ترون هذا المنطق بالنسبة إليهم، لكن ما مدى منطقية هذا المنطق؟ هذا كلام السلسلة الثانية إن شاء الله، فسوف نرى هذا، لوجود أدلة مُعارِضة كثيرة لهذا الشيئ.

طيب !
العصعص Coccyx أو كما يقولون عجب الذنب هو شيئ عجيب، وعجيب أن حتى في الأحاديث النبوية وفي اللغة الفقهية والدينية مُرتبِط هذا بالذنب Tail، فهم يقولون عجب الذنب، لكن ما هو العصعص؟ العمود الفقري فيه الفقرات العجوزية، وآخر شيئ بعد الفقرات العجوزية عندك أربع فقرات مُندمِجة ومُنصهِرة Fused، علماً بأن كلمة Fused أتت من كلمة Fusion، وعلى كل حال تُوجَد أربع فقرات صغيرة، وأصغر طبعاً من الفقرات العجوزية، وهى مُندمِجة بطبيعتها، وتعطيك هذه البنية وهذا الشكل الذنبي المُصغَّر، فهى موجودة في النهاية، ومُرتبِط بها – بلا شك – عضلات مُعينة، فهناك العضلة الباسطة العصعصية المُرتبِطة بالعصعص، لكن ما هو هذا العصعص؟ وما فائدته؟ وما هو أصله؟ أي ما هو أصل هذا العصعص؟ ولماذا هو كذلك؟ لأن تُوجَد مُشكِلة كبيرة لدينا، فهناك نسبة مُعينة لأطفال مواليد يلدون ولهم ذنب، واكتب في النت Net هذا وسوف ترى شيئاً يقشعر له البدن، سوف ترى صورة طفل صغير رضيع – Infant – إسرائيلي – أي في إسرائيل – وكان عمره ثلاثة أشهر وله ذنب، وسوف ترى الصورة من الخلف – صورة مُصوَّرة – حيث يُوجَد هذا الذنب، وهذا الذنب قد يصل طوله إلى ثلاثين سنتيمتراً، فهو ذنب حقيقي، علماً بأننا سنتحدَّث بعد قليل عن هذه الأشكال أو الأنماط من الذنب البشري، وهذا امتداد للعصعص بل هو العصعص نفسه لكن تكون الفقرات غير مُندمِجة وغير مُنصهِرة Fused، بل بالعكس وتكون كبيرة، أكبر مما هى عليه في العادة، وتكون من حيث الحجم – Size – قريبة للفقرات العجوزية، وتكون مُستطيلة ومُتباعِدة، لكن هل لها علاقة بالذيل؟ هل نحن كائنات بذيل؟ الآن نحن لسنا كائنات بذيل، لكن هذا معناه أن أسلافنا كانوا بذيل، فنحن كائنات مُتطوِّرة وهذا بقايا الذيل الذي كان لنا طبعاً، وكما قلت لكم حتى في الأحاديث النبوية النبي يقول كل عظم في الإنسان يفنى ويتلاشى ويذهب ويذوب في الأرض إلا عجب الذنب، فحتى في الحديث الصحيح النبي يُسميه عجب الذنب، فهو قال لك أن هذا هو الذنب، ومن ثم نحن كنا كائنات مُذنَّبة، وهذه بقايا الذنب فينا، وهذا شيئ غريب ومُزعِج.

هذه العضلة الباسطة العصعصية موجودة في كل المُذيَّلات، أي كل الحيوانات التي لها ذيول، والثدييات فيها هذه العضلة، وهذه العضلة تُحرِّك الذنب، لكن لدينا لا تُحرِّك هذه البنية العظمية المُندمِجة، فلماذا تُوجَد هذه العضلة إذن؟ هذا عضو أثري، فحتى العضلة نفسها عضو أثري، وهى موجودة ومُرتبِطة بعضو آخر أثري، أي ما هذه العضلة التي ليس لها قيمة؟ فائدة في العضلات هى أنها تُحرِّك العضو، لكن هذه لا تُحرِّك شيئاً، هى بنية عظمية مُندمِجة لا تتحرَّك، لكن الذين يُولَدون ولهم ذيل أحياناً بعضهم يتلوى الذيل عندهم – ليس يتحرك وإنما يتلوى – أيضاً، فيُوجَد لدينا إنسان بذيل وهذا الذيل يتلوى أيضاً، فإذن العضلة الباسطة العصعصية تشتغل، وهذا شيئ خطير وشيئ مُثير – كما قلت لكم – ومُزعِج، فواضح أن العصعص هو فعلاً بقايا الذنب الذي كان لأجدادنا الأبعدين ولأسلافنا المعرقين في القِدم، وهذا بقاياه، فهو من الأعضاء الأثرية Vestiges، ومُباشَرةَ هذا يُذكِّرنا وينقلنا إلى عضلات صيوان الأذن، حيث تَوجَد ثلاث عضلات، وطبعاً أكيد كلٌ منا اتفق أن رأى بين أصدقائه أو أقاربه أو معارفه مَن يُحِّك أذنيه، وطبعاً الحمد لله نحن لا نستطيع أن نفعل هذا، وكان من المُمكِن أن يكون مُسلياً ولا ندري حجم التسلية، لكن بعض الناس يفعل هذا، ومن اللطيف أن العالم جيري كوين Jerry A. Coyne صاحب كتاب Why Evolution Is True قال “أنا عندي هذه القدرة، وأنا أستطيع أن أحرِّكها، وحين أُحاضِر في تلاميذي أُحرِّك لهم أذني وتحدث تسلية عظيمة طبعاً”، فإذن ثلاث عضلات هى عضلات صوان الأذن، وكما قلنا قُبيل قليل هذه العضلات وظيفتها أن تُحرِّك العضو ، لكن هى لا تُحرِّك العضو في مُعظم الناس، فإذن لماذا هى موجودة؟ هذه مُتليِّفة، هذه أعضاء أثرية وعضلات أثرية موروثة من أسلافنا الذين كانوا يُحرِّكون آذانهم، وطبعاً هؤلاء الأسلاف تحدّر منهم أخلافٌ كثيرون ونحن منهم فتوقفت هذه عن الشغل، وهناك مُتحدِّرات أو أخلاف أخرى من الثدييات لاتزال تُحرِّك آذانها، وأشهرها على الإطلاق القطط، فالبسس في بيوتنا نراها وهى تفعل ذلك، أي أن هذا الحيوان المُدجَّن يُحرِّك أذنيه، فلماذا إذن؟ لكي يُحدِّد مصدر الصوت، كصوت الفرائس وصوت الطرائد وصوت الشريك وصوت الأبناء، ولذلك هذا مُفيد جداً، ومن ثم هذا الحيوان يُحرِّك إذنه، لكن الإنسان لا يحتاج إلى هذا، الإنسان يبدو أنه كف عن استعمال أذنيه لأسباب، لكن ربما – وهذا المُرجَّح – تُوجَد طفرات مُعينة أصابت بعض جينات – Genes – الإنسان فكفت أذناه عن الحركة مُستعيضاً – أي الإنسان طبعاً هو الذي استعاض – بقدرات أخرى ولياقات أخرى جعلته لا يحتاج إلى تحريك الأذنين، تماماً كمُقارَنة حاسة الشم أيضاً بحاسة الرؤية عند الإنسان، وسوف نأتي إلى الكلام حول هذه القضية بُعيد قليل إن شاء الله تعالى.

إذن كل هذه الأثريات التي تحدَّثنا عنها اليوم والمرات السابقة لا تجد منطقها ولا تجد معناها خارج فرضية التطور، فمن الصعب أن تُفسِّرها خلقوياً تكوينياً وأن تقول لي أن الله – تبارك وتعالى – يضع كل شيئ في موضعه ولا يخلق شيئاً زائداً عبئاً عليك وأنت لا تستعمله ولا تحتاج أن تستعمله، فإذن لماذا هو موجود؟ هو موجود كأثر من المسار التطوري الطويل لكي يدلك على الحكاية، فكما يُقال هو شاهد صامت، أي أنه شاهد صامت ليدلك على أصل الحكاية، والأعجب من هذا وجود الحلمات – Nipples – والأثداء عند الرجل، فلماذا الرجل له ثديان؟ ولماذا في الثديين تُوجَد حلمتان كالمرأة؟ بعض الرجال بسبب وجود اختلال هرموني يعظم عنده الثديان، ويُوشِكَان أن يصيرا كثديي امرأة، فهذا الشيئ موجود إذن، والعجيب أن البنية العامة للثديين عند الرجل هى نفسها بنية الثديين عند المرأة لكن باختلاف النمو، فيُوجَد نفس النسيح ونفس البنية، وليس هذا فحسب، فثديا الرجل يُنتِجان الحليب بكميات ضئيلة جداً، وهذه الكميات لا تصلح طبعاً لإرضاع الصغار، فهى كميات ضئيلة جداً ولكنها موجودة، ويتعرضان لسرطان الثدي كما يحدث لثديي المرأة، وهذا طبعاً بنسبه أقل بكثير لكنه موجود، حيث يُصاب بعض الرجل بسرطان الثدي مثلما تُصاب النساء، لكن النسبة هناك أكثر بكثير كما هو معلوم، فمن أين أتى هذا؟ ولماذا؟ فالرجل لا يُرضِع صغاراً ولا يحتاج هذين الثديين للإرضاع، لكنهم قالوا لك هذه أعضاء أثرية، والأكثر إثارة من هذا ما يُعرَف بخط الحليب Milk Line، وفي الحقيقة هو ليس خطاً – Line – واحداً، وإنما هو خطان Two Lines ، لذلك يُسمى بخطا الحليب Milk Lines، وخطا الحليب موجودان في الثدييات وفي الذكور والإناث على سواء، وطبعاً بما في ذلك الإنسان، فهذا موجود في الرجل وفي المرأة، وخط الحليب يبدأ من الذراع وينزل إلى تحت العانة في الفخذ، ويُوجَد خط في الجهة اليمنى وخط آخر في الجهة اليسرى، وهذا موجود في الذكور وفي الإناث، وفي بعض المراجع الطبية المدرسية –   الـ TextBox كما يُقال – تستطيع أن ترى صوراً فوتوغرافية مُصوَّرة لرجل وله حلمة أسفل الحلمة اليمنى وله أيضاً حلمة أسفل الحلمة اليسرى، أي أنه رجل بأربع حلمات، وأحياناً يُوجَد أكثر من أربع حلمات، وهذه الحلمات الزائدة – Nipples – تكون دائماً على خط الحليب، والأعجب من هذا أن بعض النساء قد يبرز لها ثدي – وطبعاً صغير وغير مًتخصِص – صغير على خط الحليب، وأحيانا ً يكون هذا في الفخذ، تحديداً في أعلى الفخذ، أي يُوجَد ثدي على آخر خط الحليب هنا، أو ثدي أسفل الحلمة اليمنى أو أسفل الحلمة اليسرى، وذلك غير الثديين، فما هذا؟ هذا يُذكِّرك بسلفك الأبعد الغابر، هذا السلف الذي تحدَّر منه أخلافٌ أخرى غيرك لاتزال تعيش إلى اليوم ولديها أكثر من ثدي، وأكيد رأيتم حيوانات داجنة لها أكثر من ثدي، أوطاب تُرضِع منها أولادها، والكلاب والقطط – مرة أخرى – لها أكثر من ثدي على خط الحليب، فتُرضِع صغارها من خلالها خاصة وهى نائمة، وهذه النقاط طبعاً توزعها يختلف من حيوان إلى حيوان، وهذه قضية ثانية يُمكِن أن تعودوا إلى الكتب المُتخصِصة، لكن موضوع خط الحليب هذا أيضاً موضوع مُثير وغريب جداً، فنحن لا نمتلك فقط ثديين وحلمتين، بل قد تبرز لبعض الرجال حلمات أخرى على خط الحليب، وهذا معناه أننا تطورنا من كائنات فعلاً كانت تمتلك أكثر من ثدي، أي من ثدييات تمتلك أكثر من ثدي، والآثار باقية إلى اليوم، وبالتالي شيئ عجيب – كما قلت لكم – أن يُستأصَل لامرأة ثدي في فخذها، فمن أين أتى هذا الثدي؟ هذا الثدي أيضاً دليل صامت على وقوع التطور واشتغاله، وهناك شيئ أعجب حقيقةً من الأعضاء الأثرية، لكن ما هو؟

التأسل Atavism، والتأسل Atavism في اللغة العربية هو أن ينزع الولد إلى مُشابَهة أبيه، لكن ما المقصود بالـ Atavism في علم الأحياء؟ وما هى علاقة الـ Atavism بالأعضاء الأثرية Vestiges؟ هذا شيئ وهذا شيئ لكن سوف نرى الجواب الآن، فالتأسل Atavism يُجمَع على تأسلات – أي مظاهر تأسلية مُختلِفة – ويعني عودة عضو مُعين مُندَثِر غير موجود إلى الظهور، وفي العادة هو لا يظهر، فهو مُندَثِر وقد يكون – كما قلنا – تحول إلى عضو أثري بقيت منه آثار تدل عليه، فإن عاد حقيقةً إلى الظهور يُعتبَر هذا تأسلاً Atavism، والآن تحدثنا قُبيل قليل عن العصعص، فالعصعص هو عضو أثري، لكن إن وُلِدَ طفلٌ بذيل – أي له ذيل – فهذا لا يُقال عنه أنه عضو أثري – هذا ليس عضواً أثرياً – لأن هذه ظاهرة تأسل، فهذا هو التأسل Atavism إذن، لكن لماذا يحدث هذا؟ لأن في الأجداد الأبعدين كانت تنمو لهم الذيول وهذا شيئ طبيعي، لكن كيف ينمو لنا ذيل الآن؟ هذه ليست قضية أثر وليست قضية عضو أثري، إنما هى قضية تأسل، لأن العضو عاد وعبَّر – أيعمل تعبيراً Expression – عن نفسه، وفي الحقيقة الذي عبَّر عن نفسه ليس العضو وإنما الجين Gene، إذن دخلنا في المسألة الوراثية، فما الذي يحدث الآن؟ كيف يُمكِن لعضو مُندَثِر ولا يظهر في العادة أن يعود ويُعبِّر عن نفسه؟ فمثلاً نرى فرساً صغيراً يُولَد من رحم أمه بثلاثة أصابع، والفرس عنده فقط الحافر، والحافر الحقيقي هو الأصبع الوسطى، فالفرس في الأصل كان عنده الأصابع كلها وهى خمسة، ثم حتى بعد ذلك التطور، وحتى الجنين – جنين الفرس – يكون كذلك، فالعلماء يُصوِّرون هذا ويرون أن له ثلاثة أصابع تنمو بتساوق في وقت واحد بنفس النسبة، وفي مرحلة مُعينة من تطور الفرس جنيناً يبدأ الأصبع الأوسط ينمو بسرعة أكثر، فيظهر الآخران كأنهما انكمشا، فيستحيل هذا إلى حافر ويظل هذان مُنكمِشان في الداخل، هذا هو فقط،
لكن يُوجَد ثلاثة أصابع، فإذا وُلِدَ الفرس بثلاثة أصابع – ولا تطأ الأرض إلا حين يعدو الفرس – فهذه ظاهرة تأسل Atavism، لأن هذا العضو يُعبِّر عن نفسه الآن، والذيل في الإنسان – كما قلنا – ظاهرة تأسل Atavism، سواء كان الذيل يتحرَّك أو لا يتحرَّك فإن المُهِم هو أنه ذيل بارز، وهذا هو التأسل Atavism، لكن كيف هذا؟ كيف يُمكِن لهذا العضو القديم المُندَثِر الذي كان في الأسلاف أن يعود ويظهر من جديد؟ هذا ليس له تفسير إلا كالتالي: الجينات Genes التي كانت تخلق أو تُبدِع أو تُنتِج هذا العضو وتُشغِّله لاتزال موجودة، لكن بما أنها لاتزال موجودة لماذا لا تُعبِّر عن نفسها في كل حامليها؟ لأنها أُصمِتَت وأُسكِتَت، أي أنها أصبحت Silenced، وهى موجودة لكنها لا تعمل ولا تُعبِّر عن نفسها، وهذه تُسمى الجينات الميتة Dead Genes أو الجينات الزائفة Pseudogenes – علماً بأنها تُكتَب بسودو Pseud لكنها تُلفَظ سودو – طبعاً، وهى جينات مُصمَتة وساكتة وميتة وزائفة،وأحياناً – سبحان الله – هذه الساكتة تكون ضارة مثل بعض الخلايا النائمة، وأحياناً تستيقظ – والعياذ بالله – من يقظتها، وهى يقظة الموت والدمار والدم، وعلى كل حال هذه الجينات Genes النائمة أو المُصمَتة أو الزائفة أحياناً – سبحان الله – تعود إلى التعبير عن نفسها، فإذا عبَّرت عن نفسها أنتجت العضو الذي كان ينتج بها وبتعبيرها ومن ثم تُشغِّله، فنرى – مثلاً – إنساناً بذيل، وهذا شيئ غريب جداً، ونرى أيضاً فرساً بثلاثة أصابع، ونرى أشياء أعجب من هذا، فقد نرى حيتاناً بطرفين خلفيين، أي نرى حيتاناً برجلين، وهذا شيئ عجيب، علماً بأن هناك نسبة لظهور هذه الحيتان، والآن سنأتي إليها إن شاء الله تعالى.
إذن فهمنا ما الفرق بين ظزاهرة الأعضاء الأثرية وبين ظاهرة التأسل، فهو هذا الفرق، والتأسل يختلف عن موضوع العضو الأثري، فمع التأسل لا يغدو العضو أثرياً، وإنما يعود عضواً ناشطاً حياً، كأنه شيئ من الماضي وتم إحياؤه بتمامه وكماله أو إلا قليلاً، وهذه ظاهرة غريبة وقد ذكرت لكم تفسيرها، لكن قد يقول لي أحدكم هل ظاهرة التأسل Atavism مثل ظاهرة التشوهات الخِلقية؟ لأ طبعاً، يُوجَد فرق كبير، وواضح الفرق طبعاً، فإذا وُلِد طفل – مثلاً -بخمسة أطراف – أي بثلاثة أيادي ورجلين مثلاً أو يدين وثلاثة أرجل – فهذه ظاهرة تشوه خِلقي أو خَلقي، وهذه تختلف عن التأسل، لماذا؟ لأن لم يكن بين أسلافنا مَن كان له خمسة أطراف، كان يُوجَد Tetrapods لديها أربعة أطراف، فنحن كنا كائنات رباعية الأطراف، لكن لم يكن لدينا أي كائنات خماسية الأطراف، فإذن هذا ليس تأسلاً، فلم يكن هناك أي كائنات عندها خمسة أطراف قديماً ثم تم إسكاتها – أي إسكات جيناتها Genes – والآن عادت تأسلت، هذا غير صحيح، لكن كيف يحدث؟ هذا تشوه خِلقي، هذا خطأ في عمل الجينات Genes ما إدى إلى وجود خربطة في البرمجة الجينية كلها، فتحدث خربطة هنا وطفرة سيئة هناك، أو طفرة مُميتة – Fatal – أو مُضِّرة جداً، فهو هذا إذن، أي أنه شيئ آخر، فالتشوهات الخِلقية غير موضوع التأسل، والتأسل غير موضوع الأعضاء الأثرية، لذا لابد أن أُميّز بين هذه الأشياء الثلاثة.

كما قلت لكم من ظواهر التأسل اللطيفة والعجيبة والمُثيرة وجود حوت بخلفيتين، فمن بين كل خمسمائة ولادة في الحيتان تأتي ولادة على هذا النحو، فيُولَد حوت بهذا الشكل ، أي أنه موجود، وهذا لا يأتي كل خمسمائة ألف وإنما كل خمسمائة، وهذه نسبة لا يُستهان بها، حيث يُولَد لك حوت وله قدمان خلفيتان، نعم ليستا كاملتين بالكامل ولكنهما قدمان، وفيهما مُعظم العظام، وهى عظام صغيرة ومُختزَلة، لكن القدمان ظاهرتان خارج البدن وخارج الجسم، وهذا شيئ عجيب، أف، ما هذا؟ هذا ليس تشوهاً خِلقياً وليس طفرة جديدة وإنما هو تأسل، ونحن درسنا في الحلقات الماضية أن الحيتان – مثل الدلافين Dolphins ومثل الأُطُم وعجول البحر وخنازير البحر وما إلى ذلك – كلها مُتطوِّرة من كائنات ثديية برية رباعية الأطراف، فكان عندها أربعة أطراف، طرفان أماميان وطرفان خلفيان، وقلنا حتى في مُؤخَرة الحوت في النهاية يُوجَد هذا الحزام الحوضي الصغير، فهذا موجود وهو عضو أثري، وأحياناً يخرج هذا تأسلاً، وهذا شيئ عجيب ولطيف، وأعتقد أن بعضاً أو كثيراً منا شاهد على اليوتيوب YouTube المُعمَّر اليمني المُقرَّن، أي صاحب القرن وهو أعجوبة، فالذي لم ير هذا الرجل لابد أن يراه، هو رجل يمني عمره الآن على ما أعتقد وصل إلى مائة وأربعين سنة وله قرن، وهو مُصوَّر طبعاً بالفيديو Video بين أحفاده وأولاده بل وربما بين أحفاد أحفاده، ويخرج له قرن في مُقدَمة رأسه، وهذا قرن حقيقي، أي ببنية قرن حقيقية، وهذا القرن يستطيل أحياناً إلى من أكثر خمسة عشر سنتيمتراً،ثم يستأصلونه، لكن لا يلبث أن يعود فينمو، فقد يكون هذا من ظواهر التأسل، لكن هذا يحتاج إلى تحقيق.
الأحصنة أيضاً – كما قلت لكم – قد يُولَد بعضها بثلاثة أصابع، وثلاثة أصابع تطأ الأرض طبعاً، فحين يعدو الفرس تطأ الأرض ما يُسبِب له التهابات، وهذا أيضاً من ظواهر التأسل، وطبعاً قُبيل قليل تحدثنا في الموضوع السابق عن ظاهرة تأسل مُزعِجة جداً لنا كبني الإنسان والبشر وهى ظاهرة الذيل، أي الذيل الإنساني أو المعروف بالبروز – Projection إسقاط أو بروز – العصعصي، وهذا يُسمى عموماً بالذيل البشري، فهم يُسمونه :البروز العصعصي أو الذيل البشري Human Tail‏، وهذا الذيل – كما قلت لكم – ليس مُجرَّد سدلة من جلد، بل فيه فقرات وفيه أوعية دموية وفيه أعصاب، فإذن يحس ويشعر مثل ذيول الحيوانات العادية، فهو ذيل حقيقي، وأحياناً يكون بوصة – أي يصل إلى حوالي اثنين ونصف سنتيمتر – وأحياناً يصل إلى ثلاثين سنتيمتراً، أي قدم كاملة، وبعض هذه الذيول – كما قلت لكم – تتلوى، فإذن هو ذيل حقيقي، وطبعاً من حُسن الحظ أن الجراحة تُمكِّن العلماء أو الجراحين من استئصال هذه الذيول مُبكِّراً، لأنها تُسبِّب حرجاً عظيماً للطفل ولأهله ولذويه، والعجيب أن في الجنين البشري في رحم أمه يظهر هذا الذيل ثم يبدأ يختفي، لكنه يظهر بشكل واضح كالذيل، وهو يُسمونه بالذيل السمكي، فهو يكون على شكل سمكة ويظهر بشكل واضح في الجنين، لكن بدءاً من الأسبوع السابع يبدأ في الاختفاء، وكأن الجسد يمتصه، فلا يبقى منه – كما قلت لكم – إلا أربع فقرات وهى الفقرات العصعصية المُندمِجة مع بعضها، وهى لا تتحرَّك ومن ثم تنتهي المأساة، فإذن هذا الذيل هو ذيل تأسلي وليس ذيلاً أثرياً، ومن هنا هم يُسمونه بالذيل التأسلي   Atavistic Tail، لأنه ليس ذيلاً أثرياً.

الحديث لا يزال عن ظاهرة التأسل، لأن أيضاً من الجميل أن نعلم أن العلماء تمكنوا من إحداث تأسلات معملياً، فهم تدخلوا واستطاعوا ونجحوا في أن يفعلوا هذا، وهناك عالمان مشهوران هما كولار Kollar وفيشر Fisher قاما قبل زُهاء خمس وثلاثين سنة في سنة ألف وتسعمائة وثمانين في أمريكا بإحداث تأسل معملي، لكن كيف هذا؟ أنتم تعرفون أن منقار الدجاج ليس فيه أسنان طبعاً، لكن هم استطاعوا أن يأتوا بجينات Genes من نسيج فم كائن آخر مُسنَّن مُتطوِّر طبعاً بشكل أكثر من هذا المنقار، واستطاعوا أن يضموا هذا النسيج – أي جينات Genes النسيج طبعاً – إلى نسيج منقار الدجاجة، وجاءت النتيجة مُخيفة، وهى منقار بأسنان، فأدرك العالمان كولار Kollar وفيشر Fisher أن هذا لم يُمكِن ولا يُمكِن أن يتحقق إلا في حال كان جينوم Genome الدجاجة يحتوي على الجينات Genes التي تصنع وتخلق الأسنان، لكن لكي تشتغل هذه الجينات Genes كان لابد من عامل مُنشِّط، وهذا العامل المُنشِّط جاء من لحم أو زراعة أو ضم النسيج الآخر كما قلنا، وفي الحقيقة هو نسيج، وبعد ذلك بحوالي عشرين سنة أو أكثر – لا أدري تحديداً – من ذلك – من المُمكن أن يكون هذا في أول الألفية هذه الثالثة – جاءت التجارب العلمية من حقل البيولوجيا الجزيئية – Molecular Biology – لتُؤكِّد صحة اقتراح كولار Kollar وفيشر Fisher، فقالوا هذا هو بالضبط الذي حصل وهذا كلام صحيح، فالطيور عموماً لها السبل أو الطرائق الجينية لإنتاج الأسنان، فهذا أمر مُكتشَف إذن، لأنهم اكتشفوا في الجينوم Genome الخاص بها أو في المَجِين كما يُقال وجود هذه الجينات التي تصنع الأسنان، لكن لماذا لا تصنع الأسنان؟ لأنها مُعطَّلة، تُوجَد طفرات مُعيَّنة في المسار التطوري أسكتتها وأصمتتها، لكنها موجودة، ولو أمكن تشغيلها وتفعيلها ستُنتِج أسناناً، فقط هذه هى القضية، وهذا دليل جديد ومعملي على صحة التفسير المُقترَّح لطريقة التأسل، وطبعاً يقول العلماء أن الطيور تطورت من زواحف، والزواحف من ذوات الأسنان، فهذه هى القضية إذن، ونحن عندنا ثدييات عندها أسنان لأننا مُتطوِّرين أيضاً من الزواحف، وبعد ذلك بخمسين مليون سنة تطورت الطيورأيضاً من الزواحف، فهى لم تتطور منا طبعاً، أي أن هذه الزواحف خرج منها فرع – Branch – جاءت منه الثدييات قبل مائتين وخمسين مليون سنة، وقبل مائتين مليون سنة خرج فرع – Branch – آخر جاءت منه الطيور التي انتهت بالطيور الحديثة، ويقول العلماء “قبل ستين مليون سنة فقدت كل الطيور أسنانها”، فإذن بداية التطور كانت قبل مائتين مليون سنة، فهناك زواحف تطورت إلى طيور، وقبل ستين مليون سنة من الآن فقدت كل الطيور وآخر الطيور أسنانها، لكن هل هذه الجينات Genes لاتزال موجودة؟ لاتزال موجودة في جينوماتها Genomes أو مَجِينها أو في الحقيبة الوراثية كما يُقال، فهى لاتزال موجودة ويُمكِن بتشغيلها أو تحريكها أو تنشيطها أن تعود فتظهر الأسنان، وهذا شيئ جميل وبديع، لكن هذا هو العلم، وهو علم خطير وجميل وجرئ – Brave – جداً ومُلهِم حقيقةً، ولذلك الآن بعض الناس المفتونين بالعلم وخاصة من العلماء أنفسهم والمُقلِّلين لدور الفكر المحض أو التأملي والتهويمي والفلسفة عندهم ليس عذراً واحداً فقط أو بعض العذر وإنما عندهم أعذار كثيرة، فرجل مثل ستيفن هوكينج Stephen Hawking لما يطرح أسئلة ويقول خاصة في كتابه الأخير The Grand Design هذا سؤال لا تُجيب عنه الفلسفة وينبغي أن يُجيب عنه العلم يكون السبب في هذا أنه يرى أن الفلسفة ميتة – Is Dead – كما قال، ومن ثم هو يقول لك لا تُحدِّثني عن الفلسفة لأنها ماتت ولكن حدِّثني عن العلم الآن، فالعلم عنده قدرات غير طبيعية على التحقق من أشياء كثيرة وافتراضات كثيرة جريئة جداً لم تكن حتى تخطر على بال الفلاسفة أو حتى رجال اللاهوت، إذن هو العلم، فالعلم شيئ فظيع كما قلنا.

أعتقد بدأ الوقت يقترب للأسف، فإلى أن ألقاكم أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

(تمت المُحاضَرة بحمد الله)

 

تعاليق

تعاليق الفايسبوك

عدنان إبراهيم

رؤية كل المقالات

أضف تعليق

اترك رد

%d مدونون معجبون بهذه: